أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - لطفي حداد - عيسى التائه















المزيد.....

عيسى التائه


لطفي حداد

الحوار المتمدن-العدد: 1182 - 2005 / 4 / 29 - 10:06
المحور: الادب والفن
    


عيسى التائه
مقطع من قصة قرية الغرباء

بُهت قيس وصادق حين دخلا الغرفة فرأيا شاباً جديداً جالساً على السرير الرابع. كان أسمر اللون، أسود الشعر، أسود العينين مع شارب عريض ولحية كثيفة ممشطة باتقان.
كان يأكل بعض الحلوى من طبق صغير أمامه.. فاقترب منه صادق وصافحه، كذلك حيّاه قيس ورحّب به.. وقال صادق بحرارة:
- أنا صادق وهذا صديقي قيس. قد وصلنا اليوم إلى هنا وتعارفنا. كنا نتمشى في الخارج ونتكلم ثم شعرنا ببرودة فأتينا لنأخذ قميصاً أو معطفاً رقيقاً ثم نذهب لتناول العشاء. أهلاً بك إذا أحببت مشاركتنا.
ردّ الشاب الجديد متهلل الوجه:
- أهلاً بكما.. اسمي عيسى.. وقد وصلت لتوّي، وإن الآنسة «دانا» قد وضعتني في هذه الغرفة وأخبرتني أنكما من الشرق أيضاً.
ضحك قيس بصوت عالٍ وقال ممازحاً:
- ألا تعرف أن هذه القرية هي لأبناء الشرق في معظمها! أهلاً بك في قرية الغرباء. عما قريب ستشعر أنك لست بالغريب. عما قريب ستنسى الماضي وتعيش بسلام.
واعترض صادق الكلام قائلاً:
- ما رأيك أن نتعشى معاً. ضع عليك معطفاً رقيقاً لأن النسيم قرب البحيرة بارد يثير القشعريرة.
رفع صادق طبق الحلوى وقدمه لقيس وصادق قائلاً:
- اعذراني.. نسيت أن أقدمه حتى الآن. تفضلا.. إنه من صنع أمي.
سأكون جاهزاً للخروج خلال دقائق.

2

خرج الشبان الثلاثة من الغرفة ولم يكن عمر قد عاد بعد، وساروا إلى مركز الضيعة وهناك وجدوا مطعماً صغيراً فيه بعض الزبائن، فجلسوا إلى طاولة على الرصيف واقترب صبي المقهى منهم مرحّباً بهم مبتسماً.. ثم قال بلغة مكسّرة تعلم كلماتها من زبائنه:
- أهلاً بكم شباب.
هزّ الثلاثة رؤوسهم ورفع صادق يده وصافحه قائلاً:
- أهلاً يا أخا العرب.
ضحك الثلاثة ومعهم النادل.. ثم قال لهم:
- اسمي ستيف.. أهلاً بكم. ماذا تحبون أن نقدم لكم اليوم؟
قال قيس ساخراً:
- ماذا لديكم هنا يا عزيزنا اصطيف؟
وعلا الضحك ثانية.. لكن استيف ردّ بأدب ولباقة:
- لدينا كل الأكلات الشرقية والغربية.. من أي بلد أنتم يا شباب؟
أجاب عيسى بسخرية:
- نحن من بلاد الشرق.. حيث تشرق الشمس. ألا ترى وجوهنا مشرقة!
ضحك النادل ثم قال بجدية:
- يقولون إنها بلاد جميلة.. أتمنى أن أزورها يوماً.
استند عيسى على ظهر الكرسي وطفق يقول:
- إنها أجمل البلاد.. ومن يزورها لا يريد أن يتركها، فنحن مهد الحضارات وإن كنا الآن أكثر الشعوب تخلفاً ورجعية. ونحن مهد الديانات. عندنا كلّم الله موسى.. وتدفقت محبة المسيح، وفاض إيمان محمد.. رغم أننا قد شوهنا الحقائق ولوثنا الينابيع. ونحن مهد التاريخ، فمن عبقرية الأهرامات.. إلى عراقة القلاع إلى أقدم أبجدية.. رغم أننا الآن ليس لنا حاضر أو مستقبل.
نحن مهد كل شيء.. لكننا بقينا في المهد.
هزّ النادل رأسه بإعجاب وقال:
- إنني أتشوق لأن أرى تلك البلاد.
ابتسم عيسى ساخراً ثم أردف قائلاً:
- لك ما تريد.. لكنني أحب أن أنصحك بعض النصائح. أنصحك بأن تتجنب المقاهي، فقد يظنك أحد المخبرين الجالسين هناك جاسوساً للأعداء، وفي هذه الحالة ستذهب إلى حيث ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر. ستكون رحلة العمر، فمن «بساط الريح».. إلى «الدولاب الأحمر».. إلى «الكرسي الهزاز» إلى «الغرف الخاصة».
أيضاً أنصحك بتجنب الحدائق.. فقد تصادف كلب إحدى بنات الرجال الكبار في ذلك البلد، وقد لا يحبّك ذلك الكلب وإذا نبح عليك أو هجم، فقد تختفي أنت ومن حولك في تلك الحديقة لأجل غير معلوم حتى تهدأ عاطفة الكلب وتستقر نفسيته.. فيسمح لك بالخروج إلى مكان لا يحتمل أن يمر فيه هذا الكلب أو أحد معارفه وأقاربه.
والنصيحة الثالثة هي أن لا تقول شيئاً جميلاً أو بذيئاً، نافعاً أو ضاراً، بسيطاً أو معقداً، محافظاً أو حرّاً، دينياً أو سياسياً أو روحياً أو اجتماعياً أو أخلاقياً أو فلسفياً أو علمياً، بمدلول أو بغير مدلول، بمعنى أو بغير معنى.. فكل شيء قد يفسّر حسب إمكانية تهديد الأمن العام للبلاد، وإثارة الفوضى والضلال. والويل للمضللين في بلد الحق، والويل للفوضويين في بلد النظام والقوانين. هذا عاقبته شديدة.. ربما أشد من عاقبة تحرش الكلب أو تهمة الجاسوسية.
أما النصيحة الرابعة فعليك أن لا تصادق امرأة كيلا تُتّهما بالفجور، وأن لا تصادق رجلاً فقد يكون من الأصوليين أو الليبراليين المطلوبين، وأن لا تلعب مع طفل فقد تلاحق لاستغلال البراءة.. وأن لا تساعد عجوزاً فقد يقبض عليك بتهمة السرقة. إن هذا قد يحدث في أي بلد.. لكن القانون يفصل في الحق والعدل، إلا هناك فالأمور تجري وفق مزاج الجالس على الكرسي المذهّب ووفق الاتصالات التي يتلقاها.
قطّب النادل حاجبيه قليلاً، ثم أراد أن يرسم ابتسامة لكنّ تكلّفه كان واضحاً.. وقال بجدية:
- أشكر لك نصائحك.. رغم أن الأمور تبدو نوعاً ما مخيفة.
ضحك عيسى قليلاً ثم أردف قائلاً:
- بالعكس.. الأمور في غاية البساطة. كل ما يلزمك هو أن تتبع النصائح.. لكنني لم أنتهِ بعد.
وتدخّل صادق ممازحاً:
-كفاك نصائح.. دعنا نأكل أولاً.
ردّ عيسى ضاحكاً:
- هل تريده أن يذهب في رحلة العمر دون نصائح!
واعترض صادق ثانية وقال بحزم:
- عيسى.. كفاك الآن.. دعنا نأكل.
هزّ عيسى رأسه موافقاً.. وتدخل قيس قائلاً:
- عندما يعود بالطعام تستطيع أن تكمل له نصائحك.

3

اختفى النادل بعد أن أخذ الطلبات، وعاد بعد قليل حاملاً صحوناً متعددة فأنزلها على الطاولة ورتّبها.. ولم يتركه عيسى يذهب قبل أن يضيف قائلاً:
- النصيحة الخامسة هي الأهم على الإطلاق.. وهي أن لا تفكر كثيراً هناك. لا تفكر بالمجتمع والناس والطبقات والفقراء والأغنياء.
لا تفكر لماذا يغنى أحد الأشخاص بسرعة وتفقر مئتا عائلة في الوقت نفسه.. ولماذا تختفي الطبقة الوسطى تدريجياً. لا تفكّر لماذا يعمل المهندس سائق تكسي.. والأمّي مدير مؤسسة.
لا تفكر بالدين.. فهناك أصول وقواعد وتفسيرات وتفنيدات وفتاوى وإرشادات فوق مستوانا نحن الأناس العاديين. لا تقرأ أي كتاب خارج لائحة رجال الدين.. ولا يخطر على بالك أي سؤال لم تجد جوابه في كتاب صف السادس الابتدائي.
لا تفكّر بالله.. فالله فوق، فوق، فوق.. عالٍ جداً جداً، ورؤساء البلاد هناك قربه.. فهل يمكن أن تصل إلى مرتبة الرؤساء!
لا تفكر بالله أبداً لأنه أعطى سلطته ورحمته للمدراء والرؤساء والمسؤولين والفقهاء.. وكل الخير سيأتي من خلالهم فقط. لا تفكر بالسياسة.. هذه هي النصيحة الأولى والأخيرة والأهم والأعمق والأفضل والأبقى لحياتك، فقد يسمح لك أحياناً قليلة أن تفكر بالله إذا كنت من المفكرين الموافق عليهم. وإن غضبت يوماً غضباً عظيماً كشخص بسيط فقد يغفر لك إذا لعنت السماء أو أحد الأولياء، أما إذا أردت الكلام أو المزاح البريء أو مجرّد ذكر الاسم لكل من الكبار أو أقاربهم أو سائقيهم أو محظياتهم أو كلابهم أو حرّاس كلابهم.. فعندها ستغني «أنا حكيت وانتهيت» ولن يكون لديك الوقت لتودع أمك أو أخوتك أو حبيبتك لأن «خالتك» ستتكفل بكل شيء.

4

انتهى الثلاثة من العشاء.. وكان الوقت قد تأخر، والليل قد تقدم، والهواء البارد يملأ الصدور بانتعاش وتجدّد لذيذين، وخرق صمت الليل صوت صادق يتمتم أغنية:
رجعوني عينيك لأيام اللي راحوا
علموني أندم على الماضي وجراحو
اللي شفتو
قبل ما تشوفك عينيّ
عمر ضايع يحسبوه إزاي عليّ
أنت عمري..
وانضم قيس وعيسى إلى الغناء وعلت أصواتهم، وراح قيس ينقر على الطاولة الخشبية موسيقا الأغنية، بينما كان عيسى يبتسم منبسط الأسارير منشرح الصدر.. ثم انتقلوا بأصواتهم غير المتناسقة إلى أغنية أخرى فثالثة ورابعة حتى مضى وقت طويل لم يشعروا به. وجاء أخيراً صبي المقهى يخبرهم بأن الوقت قد حان للإغلاق فتثاءب قيس ثم قال ممازحاً:
- ما نزال جائعين.. نريد أن نطلب عشاء آخر!!
واستدرك عيسى ساخراً:
- ما يزال لديّ بعض النصائح لك!!
أجاب صبي القهوة منكسر الأجفان محبط النفس:
- المقهى وأصحابه تحت أمركم شباب.. لكن هنا الناس ينامون باكراً ويستيقظون باكراً، وقد تأخرنا عن الإغلاق ساعتين. أرجو المعذرة.. إن شاء الله نراكم غداً.

5

قام الشبان الثلاثة متثاقلين، واقترح صادق أن يمضوا باتجاه البحيرة ثم يعودوا إلى غرفتهم.. فوافق قيس وعيسى، وساروا جميعاً إلى هناك وجلسوا على الصخور الكبيرة.. وبادر عيسى بالسؤال بجدية:
إذن أنتما جديدان مثلي.. ما الذي أتى بكما إلى هنا؟
نظر قيس في وجه صادق وقال بهدوء:
- لكل قلب قصته وآلامه.. المهم أننا هنا الآن. المهم هو الآن.
هزّ عيسى رأسه وقال:
- معك حق.. أنا أيضاً لا أحبّ أن أتكلم عن الماضي، المهم هو ما نعيشه الآن. لا أحد يترك بلده من دون سبب.. ومن دون ألم.
تنهّد قيس وزفر زفيراً طويلاً ثم قال بحدة:
- أنا لا أعتقد أنني سأستطيع العيش هنا. منذ أن تركت أرضي شعرت أنني قد متّ.. متّ اختناقاً وفشلاً واحتراقاً مأسوياً.. لم أعد أعرف لماذا أعيش!! أمن أجل حفنة من الدولارات كما يقولون أم من أجل «هدوء الأعصاب» بعيداً عن الإحباط اليومي، والنزق المقرف، في بلد يغتصبه كل يوم مليونا صعلوك، ويتفرج مئتا مليون عربي عليهم باكين أو ضاحكين أو صامتين لأنهم قد قبضوا الثمن.. لماذا أعيش؟! هل لأنتظر اجتماعاً طارئاً، أو مؤتمراً شاملاً، أو مجلساً قومياً، أو قمة جديدة.. آهٍ يا صديقي تفلقني هذه الكلمة.. قمة عربية جديدة.. لأنه كلما اجتمع العرب في قمة جديدة نزلنا إلى الحضيض أكثر، وتعفر وجهنا في التراب أكثر. لن يتغيّر شيء.. لن يتغير شيء. وقد وصلت كراهيتي للسخرية العربية إلى حد الإقياء فقرّرت أن أخرج.. أنا الذي كنت أثير الحماسة والثورة بين رفاقي في المدرسة بالقصائد الملتهبة والشعارات والمظاهرات.. أنا الذي دفعت سنين من عمري ثمناً لأفكاري، وأطعمت سياط الأعداء لحمي وألقيت أحلامي في زنزانة، وقررت أن أموت بين أشجار البرتقال وتدفن عظامي في شوارع القدس.. أخرج هارباً كالفأر.. كالمجرم، وألتجئ إلى أناس لا يعرفون شيئاً عن الحقيقة، فهم بعيدون جداً عما يجري في بلد بعيد صغير في شرق المتوسط.
وماذا بعد.. فمن اللحظة الأولى شعرت بأنني ارتكبت الخطيئة الأعظم والجرم الأفدح.. عرفت أنني حين خطوت خارج بيتي.. إنما دخلت في عالم التفاهة والسخافة والزوال.
آهٍ يا صديقي.. كم أنا نادم على ما فعلت. فليجُعْ أهلي ولا أترك بيتي. هل سيشبعون الآن بخبز يرسله قلبٌ فارغ! هل سيملأ البيت من جديد فرحٌ يأتي من لاجئ حزين!
كل ما أرجوه هو أن أعود.. أحب أن أموت في القدس، أجمل مدينة في التاريخ، وأحلى عروس يخطبها الله، وأروع ما في الأرض وما في السماء.
ساد صمت عميق حين انتهى قيس من كلامه، ولم يشأ أحد أن يعقّب أو يزيد شيئاً للحظات.. وكان الهواء البارد يمرّ بالوجوه مداعباً ومثيراً ومنعشاً.. ثم خرق جدار الصمت صوت حصى ترتطم بمياه البحيرة يرميها قيس متجهم الوجه مقطب الحاجبين.. وأردف قيس قائلاً:
- سأربح بعض المال وأعود.. سأعود يوماً ما.
وقف عيسى شامخ الرأس شارد النظرات وتنفّس بعمق، ثم اقترب من قيس وطفق يقول بصوت متقطع لاهث:
- أحسدك يا صديقي على تمسكك بالماضي، بالأرض، بالمعنى.. فهذا يعطيك سلاماً داخلياً قد فقدتُه تدريجياً حتى أصبح داخلي فارغاً من كل قيمة أو فضيلة.. لم أعد أشعر بشيء إذا كلمتني عن الأرض والتراب والأحباب والتاريخ والطعام الممزوج بعرق أبي وحنان أمّي. لم أعد أنتمي إلى الشرق لأنني غريب هناك لأسباب كثيرة.. أسباب خارجة عني، خارجة عن الزمن، بعيدة في قلوب الناس، لا يفهمها إلا البعض القليل، أما الكثيرون الآخرون فيفضلون السهولة الصامتة والصمت الذي يجلب سلاماً كاذباً.
لم أعد أنتمي إلى الشرق لأن الذين يملكونه الآن لا يستحقون الانتماء إليهم أو حتى أن يدخلوا في تاريخه.
وأيضاً لا أعتقد أنني سأنتمي إلى الغرب.. الغرب بجماله وحضارته وانفتاحه وازدهاره.. بموسيقاه الخالدة وفنه المتعالي على الزمن وحريته المالئة رئتي تاريخه.
لا أستطيع أن أنتمي إلى بتهوفن حتى لو أصعدني إلى السماء بروعة أنغامه وخلود سمفونياته.. ولا أستطيع أن أنتمي إلى وطن المليون مطرباً والمليون فناناً والمليون أغنية في مديح الباب العالي. لا أستطيع أن أنتمي إلى ميكالانجلو وتمثال الشفقة لأنني أؤمن بالواقع غير المشفق.. وفي الوقت نفسه لم أعد أطيق خوفو ومن تلاه منذ آلاف السنين من الرؤساء والطغاة.
لا أستطيع أن أنتمي إلى غوركي ودستويفسكي ونيتشه وتولستوي وكافكا وإيلوار وريلكه ورامبو وغارسيا ماركيز وشتاينبك وألكسندر دوماس وهنري ثورو وكيركغارد وكامو وبيكيت... ولا أستطيع أن أنتمي إلى جبران ونعيمة ومحفوظ والحكيم وكنفاني والمنفلوطي والشابي والأخطل الصغير والشاعر القروي والسياب.
لا أستطيع أن أنتمي إلى أي عالمٍ.. لأن كل هؤلاء الجبابرة قد رحلوا وصار عالمنا فارغاً كالموت من أي شيء غير المال والشهرة والجنس والفناء.. وصرت أنا في هذا الفراغ المظلم مصلوباً بين الشرق والغرب، ليس لديّ وطن وليس لي انتماء.
كيف لي أن أغنّي في الشرق: موطني.. موطني.. وأنا لم أعد أؤمن بشيء مما في كلمات الأغنية، أو أنشد النشيد الوطني لبلد في الغرب لا أعرف شيئاً عن تاريخه ولا يهمني منه سوى أن أعيش بسلام.
كان عيسى يتكلم بصدق وجدية بصوته المتقطع اللاهث لشدة وطأة الذكريات المؤلمة على قلبه الشاب،
وكان صادق يصغي هناك بصمت وتفهم، وأراد أن يشارك صديقيه بما لديه فقال بهدوء وتواضع:
يا عزيزي قيس.. إنني أفهمك جيداً وأفهم شوقك الدامي لتعود إلى بلدك.. فكثيرون من الناس يحبون الارتباط والالتزام بأرض الأجداد وتاريخ أهلهم، وتزول أجمل معاني الحياة لديهم إذا هم خسروا ذلك.. لكن ألا تظن وهذا سؤال تتركه لنفسك ولا أطلب منك الإجابة عليه أن علاقتنا بأهلنا وأرضنا نحن الشرقيين علاقة طفولية وعاطفية واحتياجية أكثر مما هي علاقة حب وانتماء... فأنا لا أموت إذا غابت عني عينا أمي أو حبيبتي أو أرضي أو ذكرياتي.. وأنا لا أموت إذا انطفأت أحلامي كشمعة بنفحة آتية من قدر غبي أو شر عابث..وأنا لا أموت إذا انتهى الماضي بنار تشبّ في بيتي وجراد يغتصب أرضي، والحاضرُ بجوع يأكل من لحمي وضياع يفتك في عظامي، والمستقبل بألم يتهددني أو موت يفتح في الزوايا فاه.
أنا لا أموت حين أكفّ عن الوجود أمام عينيك.. والحياة لا تنتهي في حفرة المترين والرماد والطين فوق الجسد البارد.
لا تفهم من كلامي أنني أشجعك أن تبقى هنا وتنسى أرضك، بل بالعكس فما تشعر به نبيل للغاية ومقدس حقاً.. لكن عليك أن تتحرر أولاً من حاجتك الطفولية لوطن.. لتنتقل إلى رغبة ناضجة في محبة وطن.
والتفت صادق - وقد شع وجهه بضوء القمر المنسكب - إلى عيسى وقال بنبرته الهادئة الواثقة:
- أما أنت يا عيسى فإنني أشعر بما تمرّ به الآن.. لكنني أحب أن أنظر في الأفق الرحب، أن أتجاوز الشرق والغرب وكل التضاريس والجغرافيا واللغات وألوان البشرات وأشكال الوجوه وأنواع الشخصيات، أتجاوز كل ذلك إلى قلب البشرية الذي ينبض بالحب والأمل.
أشعر حياناً أن البشرية ما تزال همجية ووحشية كما كانت منذ آلاف السنين، وأن التحضّر الحالي ليس إلا تغيير الواجهة والشكل أما المضمون فهو كما كان وربما أسوأ.. فالخنجر قد تحول إلى قنبلة ذرية، ورمي المؤمنين أو المفكرين للأسود أو النار قد تحول إلى الإبادة المبطنة والاستبعاد والعزل والحرق النفسي البطيء.. ورغم هذا الشعور بهمجية البشرية وتسلّط الأقوياء، إلا أنني حين أصغي إلى قلبي أفهم أن الحياة أقوى من كل شرورنا، وأن قلب البشرية النابض هو بداية كل جمال ونهاية كل فناء.. هو نبع كل خير ولحد كل موت، هو فجر كل رجاء وانطفاء كل لؤم. هذا ما يقوله قلبي حين أصغي إليه.. هذا ما يحسّه حين يتحد بقلب البشرية الحي.. فرغم أنني أحن إلى وطني، وأنني مصلوب بين الشرق والغرب، إلا أن الحقيقة التي تملأ روحي هي أن قلبي هو واحد مع قلب البشرية الواحد.



#لطفي_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جماعة كركوك.. الأدب العلماني
- البابا يوحنا الثاني والإسلام
- هاننتون وحدود الإسلام الدموية
- الكتاب المقدس والعنف
- هنري كوربان والإسلام الشيعي
- لويس ماسينيون، مسلم على مذهب عيسى
- جاك بيرك والعروبة
- ديزموند توتو وسجناء ربيع دمشق
- مانديلا .. سيد قدره
- -ساتياغراها- غاندي
- الطوفان- إلى عارف دليلة
- رياض الترك
- ملف الأدب العربي الأميركي المعاصر -حسن نعواش
- بحث في الأصولية الدينية
- ملف الأدب العربي المهجري المعاصر - جون عصفور
- ملف الأدب العربي الأميركي المعاصر
- ليلة عشق


المزيد.....




- في وداعها الأخير
- ماريو فارغاس يوسا وفردوسهُ الإيروسيُّ المفقود
- عوالم -جامع الفنا- في -إحدى عشرة حكاية من مراكش- للمغربي أني ...
- شعراء أرادوا أن يغيروا العالم
- صحوة أم صدمة ثقافية؟.. -طوفان الأقصى- وتحولات الفكر الغربي
- غَيْرُ المَأسُوْفِ عَلَيْهِم -
- وفاة الفنان العراقي عامر جهاد
- غَيْرُ المَأسُوْفِ عَلَيْهِم
- غَيْرُ المَأسُوْفِ عَلَيْهِم .
- الفنان السوداني أبو عركي البخيت فنار في زمن الحرب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - لطفي حداد - عيسى التائه