أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مختار عبد العليم - رباعي الحكم















المزيد.....



رباعي الحكم


مختار عبد العليم

الحوار المتمدن-العدد: 4091 - 2013 / 5 / 13 - 14:10
المحور: الادب والفن
    


رباعي الحكم...
قصة قصيرة
بقلم مختار عبد العليم.
[1].
اهتز عقلي واحمرت أذناي حينما رقّت عيناها لحال عيني المرتجفتين وهما تتسحبان نحوها بسؤال صمت يبوح:
هل تجسدتينني؟
بقبلة مديدة ثبت عقلي وعاد لون أذناي وسكتت عيناي.
هكذا؛ امتد عنقود الابتهالات بين قلبينا، وحول أيدينا التفت مسبحات البعث الإرادي، ومن محاجر الكفر المنصهرة انتزعنا أقدامنا وألقينا بها إلى طريق التيمم.
تقودنا رغبتنا المتمردة نحو الاغتسال في دماء حضنينا الطاهرة.
تلبست روحي فستان سهرتها المبهر ؛ فتدثرتها، وتلبست روحها قميصي المقدود دبره؛ فاستحال عليها رائع المشهد معافى الدبر مطّرز بعروق استنفرتها سخونة الدم الدافئ لتنبض بصخب يصرخ باسم الحياة الجديدة..
[2]
أراح ذراعه حول كتفيها وأحاطت ظهره ذراعها، واجترأا على طريق كانا يخشيان سلوكه، ووقت كانا يخافان اقترابه؛ فيلوذان منه بالفرار مكتفيين ببعض من أول النهار أو منتصفه.
سارا هادئين يلفهما سكون مبطن لجنبات الليل لا يحس إلا إغراء صوتها الممتد حبله السري إلى بطن سمعه، واحتضان نهدها الأيمن لضلوعه اليسرى يمحو عن جلده قشعريرة البرودة.
لم تمر عليه لحظة أسعد من تلك التي يغرق فيها عينيه في عينيها المنتشيتين، وتأمل ذراعه لكتفيها وظهرها، ومزاحمة شعرها الرفراف بعضه بعضاً مراقصاً هزهزات الهواء وعلى استحياء قاطع لحظتهما هامساً:
لا أحب أن تكون للطريق نهاية إلا الجنة وهناك سأقدم طلباً عاجلاً ومُلحاً بأنني أكتفي بحورية واحدة ولا أبتغي غيرها أبداً.
ترقرقت كفها بحنان تسربل من بين أصابع يمناها إلى ضلوعه اليمنى وردت بهمس متنوع:
وهل ستكتب أوصافي في الطلب؟!
ذرف دمعة على مهل خاشع وهو يشدد ضمته على جسمها ويبسمل:
" إنه يعلم الجهر وما يخفى"
التقطت دمعته المتسحبة على خده ومسحت بها وجهها وهي تصدق على كلام الله العظيم. ثم أتبعت وآثار شدة ضغطته تبدو على صوتها المتدلل:
ولكن خّفف ضمتك قليلاً وإلا سنتعثر في بعضنا ونحن نسير.
مال إلى شفتيها وارتوى برحيق ريقها ثم مسح على خدها الأيسر هامساً رقيقاً:
لا تخشي شيءاً فلا أحد يسير حولنا حتى تخجلين إذا وقعتي! إلا إذا كنت لا تشتهين أن نقع سوياً؟
في خجل يناديه للاستجمام في أركان بضاضتها قالت:
إن اشتهائي لك أشد من اشتهائك لي.
وكل نقطة في جلدي تتوق إلى بصماتك.
تنهد بصحبة ابتسامة غير راضية:
ربما خلق الله الاشتهاء والصوم في الدنيا والجنة والنار في الآخرة ولا أحد يعرف الكافر من المؤمن!!!
أرخت رأسها على كتفه متوددة:
أنا أقصد أن نقع ملتحمين دون تعثر ولكن إذا كان لا بد منه؟ فليكن بأقل خسائر.
تلون وجهه باكفهرار الحسرة المتفجرة تواً في عينيه؛ فحاول مد يده نحو جيب سجائره وهو يؤكد لها:
حبيبتي لقد أصبح التعثر والخسارة نشيداً قومياً.
لحقت بيده عند جيبه وقبلتها راجية:
لا، أرجوك من أجل خاطري؛ فأنا لا أحب تخففك من حضني بانشغالك بها عني.
أفلت يده منها -- وطبيعة وجهه في طريقها إلى العودة-- مخرجاً العلبة ومطوحها.
فاستدركت بهدوؤ:
أنا أرجو الحفاظ على الجزء المنير الباقي من وجداننا.
يضمها بقوة المتمسك بهدفه:
وأنا أرجو إضاءة الأجزاء المعتمة منه.
أشارت إلى جسديهما وهمست:
خلينا نكمل المسير ونمسك لسانينا؛ حتى لا يقطعا حوار هذين المخلوقين المظلومين.
بدفئ اللذة سألها وطرف عينه يشير إلى السماء:
وإن خافا هذا الضوء السماوي الضعيف؟
أخرجت لسانها تغيظه:
اعلم إنه الراعي الرسمي، بل الوحيد لهذا الحوار بل هو مقترحه.
في إصرار أعاد:
وإن خافاه؟
بنفخة ضجر حارة قالت:
نتركهما ينفلقان ونذهب إلى حيث احترام الرغبات داخل النفوس.
واستطردت بجزة على أسنانها وقرصة بأظافرها لجلد ضلوعه:
اسكت بقى اسكت اسكت اسكت.
بقهقهة واهنة مصطنعة ولهجة يبدو عليها التوسل والاستعطاف ردها:
أدفع لك آخرتي كلها لو تطلعينني على هذا المكان الذي تتوهمينه!.
بتبرم زائف وشفتين مذمومتين على صوت غيظ عسلي المذاق مصحوباً بنقرات غضب مستهلك على جسمه:
أووووه! قلت لك اسكت وخلي آخرتك لنفسك أو اعطها لأي غلبان.
بابتسامة امتزجت بها السخرية والدعابة:
تقصدين لأي حمار!
دثرت خده الأيسر بأنفاس ابتسامتها على تعليقه. ثم أحكما تزملهما بذراعيهما مستجيبين للضوء السماوي..
[3]
لم يعطهما اجتياح الحوار لثوابت النهى العتيقة داخلهما فرصة للخوف أو الاندهاش ممن انشقت عنه الأرض من ورائهما أو دار حولهما في الفراغ أو حتى سماع دقات خطوات أقدامهم.
أصوات تحف بهما دوت كانفجار قنابل تعلم وقتها، أصوات آدمية اختلطت أنواعها ولا يحصى عددها ولا يقاس ارتفاعها، أصوات بعضها آتٍ من ظلام مخيف وبعضها من نور كاسح وبعضها آتٍ من بين بين، أصوات منها ما يئن أو يستغيث ومنها ما يصرخ مخبولا او يضحك مسروراً أو يقهقه ببلاهة شرهة، أصوات كلها تحاول الفرار من سجن أحكمت مغاليقه.
ومن خلفهما ظهر رباعي مهيب يتبعهما خطوة خطوة يقوده شيخ عظيم الطلعة، مترامي البنيان في غير ترهل، واثق الخطوة في غير تثاقل، أخضر الرداء، أبيض الوجه مستديره، متعادل القسمات، لحيته متدرجة بين الأبيض والرمادي، نازلة على صدره في تنسيق بديع، رأسه مفلطح متوسط الحجم، يغطي الشعر الرمادي الناعم استدارته متدلياً على جبهته العريضة الملساء ناصعة البياض، حاد العينين واسعهما، رخيم الصوت، جلي اللفظ. صولجانه هو منشته طويلة الشعر كثيفته تستمد بأسها من يده.
يشير هذا القائد نحوهما إلى عنتيل غارق في السواد يبسمل ويحوقل بلا كلل ينتظر الأمر بالقبض على رقبتيهما.
وعجوز لا ينفض بكاؤها، تغبر السماء برجليها، تبدو منشغلة بترتيق الأساطير القديمة بمزمارين تمسك بهما أحدهما أبيض والآخر أسود يزدحم هيكلاهما بكتابات بلغة لم نألفها ولا على جدران التاريخ. ولم تمنعها إنحناءة قتبها ولا قصر قامتها ولا نحافتها من إظهار عافية تستمدها من أمر القائد؛ فتساعدها على القيام بما يكلفها به بهمة بالغة؛ لذا فعيناها لا تطرفان عن شيخها قط لتلبي أمره في اللحظة الحاسمة.
وفتاة تسير في انسيابية مهرة عربية أصيلة طائعة، تختال على الموكب إعجاباً بنفسها؛ لكنها تتقيء الجمال تحت أقدام الماشين. لا تحيد بناظريها قط عن الشيخ متحفزة لتنفيذ أوامره في أية لحظة.
استمر الموكب سائراً ولم يتوقف إلا بضع مرات وهي التي توقف فيها المتحاوران الصامتان عندما كان يتصاعد حوارهما حتى يصل إلى ثورة لا تهدأ إلا باتمام التحام شامل. وفي آخر تلك الالتحامات استطاعت أصوات أنفاسهما المنتحبة والمتحدة مع صليل دقات قلبيهما اقتحام عدم انتباههما العنيد؛ فطارت أشلاؤه محمولة على صرخات الفتاة وهي تحاول التشبث بصاحبها بأعصاب مزق الرعب أوصالها وقلب يصارع شرايينه، وهي تكرر بصوت استباح الفزع عذوبته:
أترى ما أرى؟! أتسمع ما أسمع؟!
كبلت الأرض أقدامهما وتخثر الحوار على مسام جسميهما وبقوة لا إرادية أطبق ذراعه على فتاته؛ فامتزج العرقان اللذان تلونا باصفرار أزمتهما.
جاهد نفسه قدر الاستطاعة في لحظته تلك والتي تنتحر فيها كل الاستطاعات محاولاً أن يصم أذنيها عن تلك الأصوات النافضة للأحشاء ويغمي عينيها لمنع مشاهدتها لهذا الموكب المريب. وهرول بصره وتبعثر سمعه حوله؛ فلم يعد يرى شيءاً أو يسمع؛ فذهل عقله وارتجت أعماقه المهترأة من قبل، وانكمش جلده على صاحبته وتلعثم صدره:
ماذا حدث؟! أين مَن كانوا يتبعوننا؟! أين الأصوات؟! هل تتغير الدنيا بين لحظة وأختها؟!
لكنه استعصم بهدفه المنشود؛ فخبأ اضطرابه خلف تلعثمه وبدى غير مكترث وهو يقول:
لا بد أن قلقنا من عجزنا عن إقناع الأهل بزواجنا، ومقابلتنا ولأول مرة في مثل تلك الساعة من الليل، وغضب الناس على هذا الطريق الخالي قد تجمع كله وتجسد حتى ظنناه ما رأينا وسمعنا.
بارتعادتها التي لم تنضب بعد:
ماذا تقول؟.
ثم أتبعت حانقة مرعوبة:
واللهِ لو أنني مجنونة حقاً؟ ما إقتنعت بما تزعم!!!
عاودته نوبة التلعثم مردداً في نفسه:
إن معها كل الحق. فالذي أعلمه هو وجود ما يسمى بالعمى المؤقت! فهل يوجد جنون مؤقت؟! لا ريب أنني مخبول أو ضعيف الحيلة أو ربما تكون هزة عصبية؛ لكنها ليست كذلك. فهل من الممكن أصابتنا معاً بهزة واحدة في آن واحد؟!!!
سخر من تعجبه في نفسه وأزاد:
نعم ممكن بشرط أن تكونان هزتان توأمتان لا هزة واحدة خائبة!؛ فالمنطق يقول أن كل شيئ ممكن إلا المستحيل فهو الوحيد فقط غير الممكن.
فاجأته الفتاة بصرخة مدوية قطعت بها سخريته من نفسه ودعاءه إلى الله أن يلهمه القدرة على امتصاص خوفها وقالت:
ليس هذا وقت التوهان؛ فأنا أريد العودة إلى منزلي فوراً؛ فلقد تعبت ونحن واقفان هكذا كالبلهاء المعتوهين.
فك وثاق وجهها من صدره وأشار إليها إشارة تهدئة هامساً:
انظري! اسمعي! لا يوجد شيء.
أرجحت يدها أمام وجهه بعشوائية الكمد والجأش الانفلات:
أتكذبني؟! أم تكذب نفسك؟! إن ما رأيناه وسمعناه صحيح صحيح، أتفهم؟ صحيح؛ فإذا كان ما تدعيه هو الصواب؟ فإلى متى سنظل رهن الجهل والفقر والجبن والرفض؟!!!
امتقع وجهه وغُص حلقه واستشاط رأسه:
لعن الله المال وأصحابه والفقر وأصحابه والجهل وأصحابه والأهل وأصحابهم والحب والكره والعبودية والحرية وكل شيئ.
أنزلت يدها جانباً وتوسلت إليه بالإياب ليعود كل منهما إلى منزله.
انزوى الكرب في ركن قصي من عينيه مفسحاً بعض المجال لآرائه:
أتمنى أن نكمل هذا الطريق إلى آخره ولا ندع الأوهام تمنعنا عما نستطيع فعله بأيدينا.
حنت رأسها له وما زالت على توجسها:
اعلم أنني أريد أن أمشي معك إلى نهاية العالم؛ لكنني تأخرت ولا أحب أن تنتهي متعتي بغضب وأسئلة ممجوجة، وأنا أعدك بأن أصنع المستحيل لنكون معاً في مثل تلك الليلة.
وضع كفها بين كفيه وضغط برفق المتضرع:
حبيبتي إن خطواتنا الصغيرة هذه في هذا الطريق البسيط في هذا الوقت الرائع والمغتنم من هذا الزمن القاسي المتسلط والذي لا قلب له؛ هدفاً قدرناه بمحض أرادتنا؛ فدعينا نكمل ما قررناه حتى لا ننكسر أمام ما ليس بأيدينا؛ حتى ولو كان مختلساً طفيفاً، وأنا أعدك بالعودة أسرع مما سنذهب بمائة ألف مرة.
رفعت يده إلى جبينها تمسحه بها ثم قبلتها في رضا.
ووضعت ذراعها في ذراعه واستأنفا السير..
[4]
عاد الرباعي يتبعهما من جديد في خفة وخفية، ولم تعد الأصوات تدوي ثانية بأمر من الشيخ القائد. بضعة أمتار آمنة لم تكف لاستكمال حديث بدأ العاشقان في تبادله.
حديث ينم عن إيمان كل منهما بالآخر وأنهما سيبذلان الحياة فداءً لهذا الإيمان وما إن ألقيا البصر إلى الأمام؛ حتى وقعت الفتاة مرة أخرى في لُجَج هيستيريا الصراخ.
ألسنة من لهب تطاول عنان السماء استحال بها الليل نهاراً مرعباً، جحيم استعر به الطريق الذي تشابكت فيه رائحة الحريق وأريج زهور طازجة نّفاذة مفعم بنسيم الرياض، يصعب على أي عقل تفسير محاولة طغيانه على قيظ النيران المتأججة.
وقبل أن تسقط الفتاة أرضاً تلقفها صاحبها وأسندها إلى كتفه مغشياً عليها وهو يقاوم جحافل الذعر التي هاجمته بلا رحمة.
كشف الرباعي عن وجوده؛ فتقدم الشيخ نحوهما وأتباعه في إثره.
وهش بصولجانه على وجه الفتى وبادأه بثبات الوقار والزعامة:
لماذا توقفتما؟
بصوت لا يكاد يخرج:
من أنتم؟ وماذا تريدون؟!
بهدوء حاسم صارم:
أما مَن نحن؟ فهذا ليس شأنك.
وأما ما نريده؟ فعلمه عند نقطة الحكم المحددة بالضبط لذلك.
بآلام وخز مسامير القشعريرة في جلده:
أي حكم؟! وأية نقطة؟! وهل نحن متهمان؟! وما تهمتنا؟؟؟
لم يعر الزعيم اهتماماً بأسئلته وقال جازماً:
امضِ في طريقك وفي الوقط المحدد ستقف مأموراً؛ ساعتها فقط ستتضح لك النقطة بالضبط.
أشاح بوجهه عنه وأومأ لتابعته متقيءة الجمال؛ فاتجهت نحو المستندة إلى صاحبها ونفخت في وجهها؛ فأفاقت على شذا أنفاس المهرة وطلاوة رذاذها.
ترنحت الفتاة يغلفها الإعياء وبعينين أرخاهما الإجهاد تفوهت بصوت منشطر:
أتوسل إليكم وأقبل الأرض تحت قدميك أيها الشيخ الطيب بأن لا تفعلوا بنا شيءاً وأقسم لكم بأننا سنعود من حيث أتينا؛ فنحن لا نملك سوى ملابسنا ومع ذلك؛ فإن أردتموها فخذوها ولكن لا تقتلونا؛ أناشدك أيها العم الجليل أن تعتبرني مثل ابنتك؛ فأنا أحب الحياة ولا أريد الموت.
تزحزح صاحب الصولجان يميناً قليلاً ليصير في مواجهتها تماماً، وبتؤدة دنى منها متفرساً حتى كاد أن يفتتها وهو يقول بصوت يزلزل ما يصطدم به:
لسنا قتلة، ولا ممن تظنين؛ وإنما نحن حّكام هذا الطريق.
وقبل أن يكمل غمرهما بنظرة إصرار وأتبع:
ولا فرار لمن يبدأه وخضوعه لحكمي أمر حتمي.
أفسح لهما الطريق وأشار بإصبعه إلى الأمام آمراً:
واصلا رحلتكما إلى ساحت الحكم المعتادة والتي ستتعرفان عليها في الوقت المقرر؛ أما نحن فسنتبعكما إلى هناك.
تحرك المذعوران في خطى متهالكة نحو تحديد المصير وظلمة نفسيهما تطغى على رهبة النيران والفتى يكابد مشقة لم يذق مثلها أبداً وهو يحاول التغلب على تلك الظلمة بشتات قواه التي يصارع من أجل جمعها حتى نجح في لملمة ما تيسر له.
فلمع في عينيه --وهو ينظر إلى رفيقته-- بريق التشبث بالدفاع عن شرعية الهدف الذي يعطيهما فرصة التحدي لِما هو أعظم؛ فضغط على فتاته بذراعه وكأنه يمرر إلى دمائها ثقة بالرغم من خضم الهلع الذي ولجاه هامساً بأذنها:
إنها محنة وسوف نعبرها بسفينة الحب ذات الأشرعة التي لا تنكسر.
كان جسدها ينتفض انتفاضات تجعل ارتكاز ذراعه على كتفيها أمراً يحتاج إلى جهد مضاعف وبصوت تعتريه إنحناءات اللوم المرتعش:
قلت لك نعود نعود نعود؛ لكنك مصر على أن تودي بنا إلى الانتحار.
بلهجة ود مخذول:
بل أنني مصر على الدفاع عن وعودنا بأننا سنكون معاً ضد أي قهر أو قاهر بأننا سنكون معاً حياة أو موتاً.
اقترب الاثنان كثيراً من مصدر الجحيم ومقر الأريج؛ فتوقفا وقد هالهما ما يريانه.
شبحان صغيران يبدوان من بعيد في حجم علب الكبريت غير أنهما لم يتبيناهما بوضوح إلا عندما دفعهما العمتيل بأمر الشيخ دفعة طيرتهما ثم أسقطتهما بعد بداية الحد الفاصل بقليل.
طفلان في الثانية عشرة خلقهما الله من نطفة السحر وعلقة الجمال ومضغة الكمال وعظام القوة.
يتحركان دون كلام في مسعى منتظم ومتناغم وكأن قائداً يحركهما بعصاه من بعيد.
بنتٌ ترتب روضاً عظيم الاتساع على يسار الطريق تروي كروماً وتضع زهوراً في أماكنها لا يعرف مصدرها سوى أنها تجيؤها طائرة كأسرابٍ تحجب السماء ثم تحط عليها؛ فتنسقها زهرة زهرة، وتنظم جلوساً وضائين على أرائك وثيرة يرهق إبداعها الأبصار، وتأمر روائع الفتيان والفتايات ليسقوهم من نهر متدفق جارٍ في الوسط يتوق إليه ريق القاصي والداني ولا شبع مما تحتضنه ضفتاه.
وولدٌ على الجانب الأيمن من نفس الطريق يلقم محرقةً شاسعةً ضاربةً في العمق حطباً وخشباً يأتيه زاحفاً بلا انقطاع من جبال في الخلف مجهزة لذلك الخصوص؛ فتتلظى وتخور خواراً يغلق الآذان، وتتناثر على حوافها عيون متجبرة تتفجر بسائل من حميم يفوح برائحة الأجساد الذائبة.
نادى الشيخ من الخلف نداءً استرعى انتباه الأرض؛ فأعطت للتزلق القدرة على تحرير أقدام الحبيبين من أثر شتات العقلين وقيود مرارة الأحاسيس؛ فظلا ينزلقان حتى البقعة الفاصلة بين المحرقة والروض.
دائرة كبيرة حمراء قانية، تتوسطها طاولة متسعة مرسومة بالأسود المنطفئ، يشطرها خط أخضر زرعي تقطعه نقطة لامعة السواد.
وفوق تلك النقطة بالضبط جثمت يد العنتيل على قفا الفتى وصوت الشيخ يكرر مرتين:
هنا موعدنا.
لم يتبق في دم الحبيبين أو أعصابهما أو بقايا خلاياهما الحسية إلا القليل جداً من الارتجافات التي تسمح بإظهار التفاعل مع الموقف الحالي.
وعندما خفف العنتيل من وطأة يده على رقبة الفتى بإشارة من القاضي ظن الشاب أن قوته الخائرة قد استمدت عنفوانها من حيث لا يدري؛ فاستدار مرتجف العروق وهمَّ بالقفز في صدر العنتيل الفسيح؛ لكن رقبته ورأسه اصطدمتا بالكف الثابتة؛ فارتد مكانه مفكك الأوصال يلعق آلامه وتوجعاته.
ارتج المكان بصوت العنتيل:
ماذا تريد أن تفعل؟! واللهِ لو تركني شيخي؟ لتركت يدي تسقط فوقك أيها الغبي المتهور.
التفت الشيخ بطرف عينه نحو الفتاة المهرة؛ فهرولت إلى الفتاة المتصلبة كعود حطب امتصت الشمس اخضراره؛ فمسحت على كتفها وحولتها بهدوء لتكون مع حبيبها في مواجهة الجمع.
بإيماءات سريعة ومتلاحقة وعينين قاطعتين من القائد.
رفع العنتيل يده عن الفتى واتجه يأخذ مكاناً محاذياً للمحرقة.
وأسرعت متقيأة الجمال إلى مكانها المحاذي للروض.
ورفعت صاحبة المزمارين مزماريها إلى فمها. راشقة الأسود في ركنه الأيمن والأبيض في الأيسر، وشدت جسدها في انتباه في مكانها المخصص بجزء الدائرة المقابل للخاضعين لحكم المحكمة.
أما القاضي فقد تبوأ مكانه المألوف في مثل هذا الحال في مقدمة الطاولة.
ضرب الوقور الأرض بصولجانه ضربات تشبه خبطات المسرح التقليدية.
بعدها نفخت العجوز بركني فمها نفخة مديدة فدوت زمرة.
زعق على إثرها العنتيل زعقة رهيبة:
محكمة..
[5]
صمتت الرياح، واستسلم الحبيبان، وانتظر أعضاء المحكمة أوامر القاضي.
بدأ الشيخ بالقول للفتايين:
قبل أي شيء، حري بي أن أوجه نظركما إلى أن تلك المحكمة ليست كسواها مما تعرفانه؛ فالناس في هذه المحكمة هم خصوم أنفسهم، كما أنهم قضاتها.
ثم نظر إليهما نظرة تأمل واستدرك بعد برهة صمت مشيراً نحوهما بمنشته:
بمعنى آخر وفي هذه اللحظة الزمنية الفارقة بين الروض والمحرقة هو أن يكون الإنسان هو هو وغيره في آن واحد؛ فيأتي الاختبار الجبري فتكون ضرورة الفصل واجبة.
فأنت الآن، أنت وغيرك في نفس الوقت؛ كذلك هي أيضاً، فهي الآن هي وغيرها في نفس الوقت.
فمن كان هو؟ دخل الروض أو ربما المحرقة ولكل شيئ دوافعه المنطقية المقبولة عندنا.
ومن كان غيره؟ دخل المحرقة أو ربما الروض، ولكل شيئ دوافعه المنطقية المقبولة عندنا. والآن جاء دوركما في الكلام.
أشار الفتى بأصبعه إلى صدره.
فأمره الوقور بالكلام.
لقد كررت منطقياً ومقبولاً عندكم دخول المحرقة أو الروض. سيان يكون الإنسان نفسه أو غيره؛ فما معنى هذا؟! أنا لم أفهم!!!! ثم أنك بذلك لم تكن عادلاً.
اقترب القاضي منهما قليلاً، وأسكت الفتى بإشارة من إصبعه فوق الفم.
ثم دار بإصباعه على تابعيه يشرحهم ويشرح أدوارهم موضحاً مفهوم كلمة عندنا:
هذا هو قابض الرقاب فوق نقطة الحكم، كما أنه القاذف داخل المحرقة.
وهذه مختصة ببنات جنسها على الطريق، كما إنها المصاحبة كذلك لكل من كان مصيره الروض.
وأما هذه العجوز؛ فما أثقل أحمالها؛ فهي معروفة بزاعقة المزامير.
الأسود صوت المحرقة، والأبيض صوت الروض؛ كما أنها مدونة الأسماء عليها كل حسب مأواه؛ وكلما اكتظ مزماران استبدلت بهما آخرين؛ هذا كله غير أنها حاملة الأرواح المزهوقة سواءاً من المحرقة أو الروض؛ لتلقي بها في مجمع الأرواح الذي مررتما على أصواته منذ قليل.
وكل هذا وغيره مما لا تعلمان يسير بأمري مني أنا فقط.
ثم وجه الزعيم إليهما نظرة تحذير؛ راسماً علامة الوعيد والتهديد وهو يخاطبهم في حسم حازم:
حينما يتحدث أحدكما إلى شخصي؟ فليوجه لي الحديث بصيغة الجمع؛ فأنا فقط وهذا في القليل النادر الذي أتحدث عن نفسي بصيغة المفرد وهذا على مر التاريخ.
صمت برهة وهدأت نظرته وأراح ذراعه إلى جانبه وأمر الشاب ليكمل حديثه؛ فانصاع الفتى مواصلاً الاستفسار:
- لعلكم يا سيدي لم تجيبوني عما كنت أريد الاستخبار عنه.
- آه، نعم، أقول لك: مما لا شك فيه أن كل منطقي مقبول. أليس كذلك؟
- بكل تأكيد يا سيدي.
- أما عن عندنا تلك، فلعلك تتفق معي أن هناك أشياء لها منطقها الخاص بها، ولكن ما لا تعلمه هو أن هذا المنطق لا يكون في تلك الأشياء نفسها.
بل يكون في مَن يستخدمها أو يستقبلها؛ فيعكس رغبته على الشيء المراد استخدامه للوصول إلى هدفه؛ حتى ما إذا كانت رغبته فاسدة وهو يعلم ذلك تمام العلم ويفتضح أمره؛ أرجع الناس هذا لعدم درايته بمنطق الشيء.
ويلتمسون له سبعين عذراً لأنه جاهل بمنطق هذا الشيئ، والكل يعلم عن الكل أنه كذلك ولا أحد ينطق؛ لأنه من المنطق أن كل فرد له عند الآخر نفس المصلحة التي سكت هو عنها، واعلم أن الإنسان يتصور أنه تحت غطاء محكم؛ لكن الحقيقة أنه عاري كل العري.
لم تطرف عيون تابعي القاضي عنه؛ فهم في انتظار اللحظة المرتقبة، أو أي أمر يأمر به، والقائد يقول أثناء توجيه صولجانه نحو الفتاة:
أظن هذا يكفي؛ فلقد تحول الموقف إلى درس في المنطق.
لم تبق في الفتاة نقطة دم واحدة وهي ترى منشته تنحرف نحوها ليوجه إليها الخطاب:
برغم علمي الكامل بسلبيتك إلا أنني أسألك: ألا يوجد عندك ما تقولينه؟
ضم الحبيب حبيبته بقوة رعشته التي لم تنقطع وقال:
ما لك وإياها؟ إن كل ما فيها شأني أنا الخاص.
بنظرة توعد رمق بها القائد الشاب:
احذر! فلقد أخطأت بقربك ما نهيناك عنه.
وبتحدٍ أعرج ارتفع صوت الفتى:
ليس لك عندنا إلا ما ستخيرنا فيه والذي نجهله حتى لحظتنا تلك، وأما درس المنطق الذي تزعمه ساخراً؟ فما هو إلا كلاماً فارغاً وما أنزل الله به من سلطان، وأحب أن أعلمك ما لم تتعلمه أنت.
إن المنطق منظومة مختلفة تماماً عما هزيت به وتريدنا أن نسلم لك به؛ ثم إنك أنت نفسك تستخدم ما تسميه بمنطق الأشياء لإرضاء مزاجك وإملاء أرادتك على الناس الذين تقهرهم بمساعدة عصابتك بإدخالهم المحرقة أو الروض؛ لمجرد استمتاعك بقدرتك على التحكم في المصائر؛ إذن فهدفك فاسد. أتفهم؟ هدفك فاسد.
بل والأكثر أحب أن أأكد لك بكل إيمان واقتناع أنه ما أنت إلا واحد ضعيف، لا يساوي حتى مقدار منشته التي هي بمثابة اللعبة في يد طفل؛ كما أأكد لك أنه لولا زبانيتك هؤلاء واحتماؤك فيهم لما استطعت فعل شيء؛ فأنت عارٍ مهما تغطيت؛ لأن عصابتك تلك لا قيمة لها؛ فما هم إلا مجموعة من الدواب التي يسوقها راعٍ لا يهمه سوى امتطاء ظهورهم؛ فهم عراة مثلك، وأنا لن أغطي عريكم.
أتفهم؟ مرة أخرى وأخرى أتفهم؟؟؟؟ فأنا لن أغطي عريكم.
زمجر ثلاثي تنفيذ الأحكام زمجرات مروعة، وهم العنتيل باستئذان قاضيه كي يقطع لسانه في الحال؛ بينما راحت الحبيبة في خبر كان ليقينها أنهما مقتولان لا محالة، واسودت الدنيا حواليها أكثر وأكثر وهي تتوسل بصوت منهزم:
صدقني أيها العم الطيب أنا ليس لي ذنب، ولا تأخذني بجريرة هذا الأحمق.
لم يعرها الزعيم أية لحظة اهتمام، وتوجه بنظرة آمرة للتابعيه بالعودة لاستقرار النفس فوراً، وبهدوء المتكبر قال الشيخ للفتى وهو يرمقه بعين المعلم المربي المؤدِب:
إنك غبي وخطاء وقليل الأدب، ولا توبة لك.
ثم عاد ناظريه وأومأ للعنتيل القابع متحفزاً في مكانه البعيد عن موقع الحبيبين بنحو خمسين متراً.
فمد بعض ذراعه اليسرى وهمس بها إلى كتف الفتى فأسقطه من مكمنه إلى الأرض؛ فانحرف قلب الفتاة بصرخة فتاها المتلوية، قائلة في وهن وقد احمرت دموعها المنهمرة:
ما كل تلك القسوة؟ لماذا تفعلون بنا كل هذا؟! إننا لسنا مجرمين.
أشار القائد بمنشته إلى العجوز البعيد موقعها عن نقطة الحكم بنحو خمسين متراً وهو ينظر إلى الفتاة ويقول:
لقد اجترأ على مراجعتنا واقترف ما نهينا عنه؛ بل وتعدى ما هو أكثر من حدوده وفلت زمامه وراكم أخطاءه؛ وأما عن كونكما مجرمين أم لا؟
فهذا ما سوف يبينه واقع اختياركما؛ فهناك جرائم يرتكبها بشر ولا يحاسبون عليها حتى أنها صارت جزءاً من تكوينهم.
وطاعة للأمر أرسلت العجوز قليلاً من غبار رجليها إلى مكان الدم المنسكب من المقر القديم لكتف الفتى؛ فتجلط في التو واللحظة.
حاولت الفتاة دعك عينيها المحترقتين من اختلاط الدموع بذرات الغبار المدمى وتجفيف أنفها بياقة فستانها وهي تقول بارتجاف وحنجرة مغرغرة:
لكننا كنا نسير في طريقنا في أمان الله.
ضرب الزعيم على فخذه بصولجانه ضربات خفيفة متتابعة هادئة يردها:
لستما المقرران لأمان الله ؛ بل واقع اختياركما كما أسلفت.
بجفاف دمه نطق الفتى متحاملاً على آلامه:
ولماذا نصّبتم أنفسكم حكاماً؟! ومن الذي فوّضكم؟!
بنظرة إشفاق أجابه الشيخ:
يحسن لك أن لا تشغل نفسك بهذه الأمور؛ لأنها لو بدت لك لساءتك.
رفع القاضي صولجانه بقوة مشيراً به إلى المحرقة مرة وإلى الروض أخرى. ثم ثالثة إلى الفتايين ووجه لهما الكلام بحسم متناهي:
انسطا تماماً لآخر نصيحة؛ عليكما بتحكيم الروح والإرادة والعقل والعهد، وأكررها والعهد وثالثة العهد؛ فأنتما القاضيان والخصمان كما أوضحت لكما فيما مضى؛ فتلك هي قاعدة محكمتنا.
انصرف ببصره وجال به في المكان كله، وكأنه يصدر أمراً للمكان لكي يتهيأ لما هو قادم.
وبإيحاءة خاطفة تأهب تابعوه ليكونوا رهن أوامره تنفيذاً لما سيحكم به.
ثم عاد وسدّد نظرة حاسمة إلى الحبيبين وقرر:
والآن لا دور إلا للاختيار.
انتَبِها جيداً.
عليكما الفصل فوراً في أمر من اثنين وهما:
إما اتمام هذا الطريق إلى نهايته؟ أو العودة من حيث أتيتما؟
على أن تكون المغادرة بلا رجعة أخرى في مثل هذا الليل إلى هذا الطريق. مهما كان الأمر.
حاول كل منهما التعبير عن دهشته لما طرحه عليهما؛ غير أن القاضي لم يعطهما الفرصة مقاطعاً:
على أن تعلما أن نهاية الطريق تعني القذف بكما داخل المحرقة؛ بينما تعني العودة دخول الروض والتمتع معاً بحياة آمنة.
ارتسمت علامات الفرج على وجه الفتاة وقالت متلهفة:
أما أنا فسأعود يا سيدي؛ فقد كانت تلك رغبتي من قبل، وأهم من هذا رضاؤكم عني.
كان هذا الخيار المتسرع الفردي زلزالا رهيباً ضرب صدر الحبيب؛ فانطبق على قلبه يدمره، وحاول مراجعتها بوجه بدل الحزن ملامحه وصوت متحسر:
ماذا تقولين؟! لم يكن هذا اختيارك قبل وقوعنا فريسة لهذا الرجل وحاشيته؟؟؟!
بل كان وعدك لي بالمكابدة والمقاومة ووعيدك لمن يعترضون مسيرة حياتنا هو الاختيار الوحيد؟!!!
لم تأبه بغرغرة صدره وعتاب مشاعره ولوم جوارحه، وانصرفت ببصرها عنه غير آسفة ولم تنطق بكلمة واحدة، ووجهت إلى القاضي نظرات متتابعة ملؤها الإصرار والحسم بأن خيارها هو الأكيد وبأنها ليست مسؤولة إلا عن نفسها.
وضع القاضي ذراعيه فوق بعضهما على صدره وقد وضع صولجانه بين إصبعيه، وأخذ يهزه هزات خفيفة تنم عن ثقته في نفسه، وأطرق قليلا ثم توجه إليها بكلام تغلفه نظرة تعجب:
أواثقة من هذا الاختيار ؟! ألست متسرعة؟
بلهفة متوسلة قالت~:
لا لا لا لا لا؛ بل إنني طلبت منه العودة أكثر من مرة ولم يقبل؛ إنه مُصِر على التهلكة!!!!!!!!!! فليختارها لنفسه.
بصرخة توجع ونزيف ألم تردد صوت الفتى في الفضاء:
إنك لست نفسك إنك جبانة مخادعة؛ فليس الخلاص في الهروب.
لم تعِر اهتماماً إلا أنها تلفظت بصوت هادئ لم يصل إلى أذني الفتى لتعثره في زحام صراخه:
مشكلتك الوهم. تظن أن الخلاص يأتي من العدم! ربما يكون اتهامك لي بالخديعة صحيح؛ لكن عليك أن تعلم أنني إذا خدعتك يكون هذا أرحم من أن تخدع نفسك.
تحرقت أحباله الصوتية، واستحال وجهه مغطصاً للمراكب الخاوية، وتبعثر نظره في اللامحدود، وبكلام يكاد يكون مفهوماً وهو يشير بعبثية إلى كل جزء يطاله في جسمه:
لن أعود. لن أعود. وسأكمل وحدي. ولتكن المحرقة مأوى هذا الجسد الحقير بحسه، وهذا القلب القذر الأبله بنبضه، وهذا الرأس المتعفن بفكره، وتلك المشاعر اللعينة بصدقها واندفاعها.
رمى القاضي نظرة إلى العجوز، وأشار بإصبعه نحو الفتى، ولوح بمنشته إلى العنتيل.
فأطلقت العجوز زمرة سوداء. توجه بعدها العنتيل نحو الفتى ليقذفه داخل المحرقة؛ فرفعه وأداره في الهواء دورات سريعة ثم رمى به.
فهوى غير معبّر عن شيئ؛ فربما يكون قد فقد نطقه أو صوته أو روحه قبل أن يدفع إلى الحريق؟
أصاب هذا الحدث الفتاة بحالة من الهيستيريا المروعة وظلت تلطم خديها حتى سقطت مغشي عليها.
أومأ القاضي مرة أخرى إلى العجوز فأطلقت زمرة بيضاء.
ثم أشار إلى مهرته بمنشته نحو الفتاة.
فهرولت إليها وأفاقتها ثم أوقفتها.
وعند إذن قال لها الشيخ القاضي:
لقد انتهى الأمر، وكل منكما وضع نفسه فيما اختار؛ ولكن قبل أن تتوجه بك إلى الروض سأقول لك ما لم يدر بخاطرك ولا بقلبك ولا بعقلك وأنا أعلم بوقع المفاجأة قبل أن أزفها إليك.
ها هي ذي المفاجأة فاسمعيها جيداً:
لو أنك كنت اخترت معه نهاية الطريق! لأدخلتكما الروض.
ولو كان قد اختار معكِ العودة! لقذفت بكما داخل المحرقة ولكن هيهات.
وضعت الفتاة كفيها على وجهها وصرخت فيهما منحنية على مرارة صدرها:
لماذا إذن قذفت به إلى المحرقة؟!وأدخلتني أنا الروض؟! ولماذا وعدتنا بالروض إذا عدنا؟! وبالمحرقة إذا أكملنا؟!!!
ضحك الحكم ضحكة عالية اهتزت لها الأرجاء وقال:
ألم أقل من قبل أن لكل شيء منطقه المقبول عندنا؟
وأما عن الفتى؟
فلقد قذف به داخل المحرقة؛ لأنه اختارك.
وأما أنت؟
فستدخلين الروض؛ لأنكِ اخترته.
واعلمي أيضاً أنه ستتيسر لك رؤيته رغم أنفك من داخل الروض وهو يتقلب في الجحيم طالما بقيتي على قيد الحياة. وبعد ذلك ستحمل صاحبة المزامير روحيكما إلى مجمع الأرواح.
وهناك سوف يحدث ما لا تتوقعين.
حملت متقيأة الجمال الفتاة على كتفها واتجهت بها نحو الروض؛ لكن الفتاة المحمولة فقدت قدرتها على تمييز الأشياء؛ فصارت لا تدري إلى أين تتجه.
وقف كل من العنتيل والعجوز والمهرة يتوسطهم الشيخ القاضي الحكم الوقور القائد العظيم واضعاً منشته فوق كتفه وهو ينفُض يده ثم استرد صولجانه وأشار به ليعودوا من حيث أتوا...



#مختار_عبد_العليم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خدم الصهيونية
- أخونة حتى النخاع
- مشروع حرب أهلية
- من تونس إلى مصر يا قلبي احزن.
- مرسي وصندوق الدم.
- دولة القانون المصرية في مهب الريح
- القطيع قصة قصيرة
- تجليات ديمقراطية إخوانية الجزء الثاني
- تجليات ديمقراطية إخوانية
- تحقيق.
- إخوان متلوّنون كاذبون .


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مختار عبد العليم - رباعي الحكم