عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .
الحوار المتمدن-العدد: 4072 - 2013 / 4 / 24 - 08:40
المحور:
الادب والفن
في منزلنا الريفي ؛ أتذكر صبيا صغيرا ؛ أتذكر ملامحه التي مازالت عالقة بذهني ؛ أنظر إلى يديه الغضتين ؛ أنظر إلى رأسه الذي يفيض شعرا، وماذا عن حاجبيه الكثين ؟ وعينيه البراقتين ؟ ومنخريه المفتوحين ؟ وخديه المحمرين ؟ أجل يا هذا، لكن عليك أن لا تنس جبهته الصافية ؛ أجل، ففي تلك اللحظة لم يكن قد تعرض للجرح الذي مازال يرتسم على جبهته، أجل يا صديقي ؛ لقد جرح أسفل تلك العربة الخشبية .
أتذكر ذلك الصبي الذي لم تكن قامته قد وصلت إلى المتر، فمازلت من حين لآخر أعاين حركاته المتواترة بين السقوط والوقوف ؛ ما كان يهمه في ذلك الوقت سوى أن يلعب ؛ أن يفهم عالمه الضيق ؛ لقد كان يبدو له الصبار كجهنم، بينما كان يظهر له الحمام القابع فوق " النادر " بمثابة كائنات وديعة ؛ لقد كان يحب أن ينظر إليه، وهو يغادر عشه صوب المرعى سواء فرادى، أو جماعات، أيضا كان يطيب له أن ينظر إليه، وهو يتزاوج ؛ لم يكن يعجبه الحال أن يرى حمامة ترفض أن تقبل حبيبها، في حين كانت تسكنه الغبطة لما يرى زوجين يتباوسان بمنقاريهما .
كان الصباح مشرقا، ومن حين لآخر كنت أسمع همسات العمال ؛ خرجت من منزلنا، فتراءى لي صبي صغير كا يقود دراجة أكبر منه بكثير، ورغم ذلك لا يبارحها ؛ يبكي بكاءا مفجعا إن انتزعت منه، أجل لقد كان يريد أن تبقى معه إلى الأبد...نظرت إليها، فبدت مكسورة منهدمة .
يترك الدراجة، بعدها يختفي، فيداهمني نوم، سرعان ما يجتاحني نسيان ؛ تتعطل جميع الحركات ؛ يستولي علي سهاد يطفح بالانسدام، فأتساءل : أين هو مني أنا ؟ وأين أنا منه هو ؟ حاولت أن أتذكر، لكنني لم أتذكر شيئا يهمنا، بل فقط تذكرت غماما، وشظايا، وآلاما .
ها هو الصيف يستحوذ على كل شيء، إنه لا يخجل من صفع تلك الوريقات التي يستظل بها صاحبنا، هذا الأخير في ذلك الوقت لم يكن يفكر في الشجرة ؛ بل فقط ارتسم في ذهنه الجذع الضخم المنبطح على الأرض ؛ هناك كانت تجلس أمه، بينما هو كان يجلس جوار خالته ؛ كان ذلك اليوم مشهودا، سيغادر خالته إلى الأبد، لكنه سيبكي بكاءا مفجعا على فراقها ؛ كانت تطمئنه في الطريق قائلة : " لا تخف يا حبيبي، سأذهب معكما، لهذا ستعدني بأنك لن تجهش بالبكاء ! "، بينما هو كان يقول في سريرته : " ماذا تقول خالتي ؟ وإذا كانت ستذهب معنا ؛ لماذا لم تلبس جلبابها البني ؟ أ تكذب علي خالتي ؟ ولماذا تكذب علي ؟ " ؛ كان يعرف في دواخله أن هذه مجرد لعبة، وحتى إذا لم يجهش بالبكاء خارجيا، فإنه يبكي داخليا، أجل سيبكي على خالته التي لطالما مدته بالحنان، وزودته بالراحة والوداد، مازلت أتذكر أنها كانت تأخذه إلى مستشفى الرباط ليخضع للمراقبة الطبية بعد العملية الجراحية التي قام بها في ذلك الوقت .
كانت خالته تقول له شيئا، بينما تهمس لأمه بشيء آخر ؛ كانت تحدثها عن كيفية التعاطي معه في تلك البقاع المقفرة حيث هناك الأحجار الصلبة، والصخور الناتئة، ناهيك عن التربة المتجهمة، كما حثتها أيضا على أخذ حذرها من لعبه مع الأطفال، فجسده مازال غضا، والعملية مازالت طرية، كما أوصتها بألا تنرفزه وتغضبه .
نزلت هذه النصائح كقطعة ثلج باردة على جسمه، فقد تأكد أن خالته لن ترافقهما، وعرف أن ما تظهره ليس هو ما تخفيه ؛ انسكبت دموعه بلا هوادة، وها هو نبات الطلح يبتعد شيئا فشيئا، بينما هناك من وراء نافذة الحافلة تتراءى خالته تلوح بيدين أثقلتهما حسرة الوداع ؛ تخطو الحافلة، فيعاود الكرة من جديد، فيظهر له الجذع دامعا سيولا من العبرات .
تختفي الحوانيت، والنباتات، والناس، والأشجار التي لطالما ألفها، فيتخيل دخوله إلى الحافلة مثل من ابتلعته أفعى، ولكي يزيل من همومه ؛ نام على صدر أمه، فرأى في منامه أن خالته عدلت عن قرارها، وبأنها سترافقهما، ولما استيقظ سأل أمه، فقالت له : " لا تقلق سنجدها في منزلنا الريفي " .
أتذكر فتى صغيرا كان يرتدي سروالا أخضرا فاتحا، وكان يقبع في مؤخرة السروال مربعان، إنه سروال يشبه سروال أحد القباضين الذي لطالما صادفه في رحلته صوب الرباط ؛ كان لون الفتى أبيضا ناصعا ؛ أجل لقد كان يطفح بالملائكية، والنورانية .
انسكبت دموعه بغزارة، ففكرة خالته عاودت ظهورها من جديد، فقال لأمه :
- أين هي خالتي ؟
- خالتك أتت
- كيف هي أتت ونحن تركناها هناك ؟
- إذا لم نجدها ستأتي فيما بعد
- ولكن لماذا لم تأت معنا ؟
- ( اقتربت منه وقبلته ) يا ولدي العزيز خالتك ذهبت لكي تقضي أحد أغراضها، غير أنها وعدتني أنها ستستقل سيارة أجرة، وليس لدي شك في أنها قد وصلت إلى المنزل .
- أنت تكذبين علي، أنا سأعود إليها لأحثها على المجيء .
رغدت الأم، وأزبدت، لكنها تذكرت ما قالته لها أختها، غير أنه لم يلبث أن حرن كما يحرن الحمار، إنه يريد العودة، أجل إنه يريد خالته ؛ يتوجه نحو الطريق ، تظهر للأم جموع من السيارات، تخشى عليه، يجري، تطارده، تنادي عليه، لكنه لا يبال، وهو ينزف دموعا ؛ يخف بريقه مثلما تحمر وجنتاه ؛ يفكر في أن يتمرغ في التراب، لكن بينما هو يواصل جريه حتى تقبض عليه أخته، فتقبله، وتعانقه عناقا حارا، لقد اشتاقت إليه مثلما هو اشتاق إليها ؛ تعاود النظر فيه، فتقبله من جديد، وتعانقه، وترفعه عاليا كطير يخفق في السماء ؛ تهدىء من روعه، وتلامس شعره الفضي ؛ يطمئن إليها، ويبتسم نحوها ؛ غير أنها تستهله بالحديث قائلة : " لقد تبدلت علينا أيها الشيطان الصغير إلى حد أنك نسيتنا " ؛ يبتسم نحوها، ويغمض عينيه، ثم يفتحهما، فيتراءى له جمع من الناس، بعض يعانقه، والبعض الآخر يداعبه، ويقبله.... أجل يا هذا إنك في منزلك الريفي ....
#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟