أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خلدون جاويد - تذكّر الأشجان في حضرة غانم بابان















المزيد.....


تذكّر الأشجان في حضرة غانم بابان


خلدون جاويد

الحوار المتمدن-العدد: 1165 - 2005 / 4 / 12 - 10:56
المحور: الادب والفن
    


في مطعم المفتاح ، منتصف شارع السعدون ، تماما قبالة سينما النصر والشارع المؤدي الى فرقة المسرح الفني الحديث ، كنا نقتعد الكراسي ونتحلق حول طاولة بشرشف أبيض ووردة حمراء تتوسطه . ومن حول تلك المزهرية تقف ابنة الشعير القهوائية اللون ، باردة كانت ، يُكسر فيها حرّ الظهيرة . وللمزيد من التغزل كانت من النوع الحبيب الى النفس : شهرزاد وفريدة ولاكر . كان النادل كثير الحركة حول طاولتنا ، وكنت أُلبي نهمي الأزلي ونهم صديقي الذي يجلس قبالتي ، بينما تجلس زوجتي الى جانبي كصمام أمان لأحتمال افراطي أو تفريطي بالصحة والمال . قال لي بعد أن دب دبيبها :
- ستغادرون جميعا وأظل وحدي ....
دمعت عيناه بل كادت تفيض ...تطلعتُ في وجهها ، كانت هي الاخرى متجهمة السحنة والروح . عاد النادل مرة اخرى ليحمل القناني الفارغة ، ووسط نقنقاتها طلبنا قنينتين . كنا نكف عن الحديث لمجرد مرور أي شخص أو لحضور ذلك النادل المصري ذي البذلة السوداء والثوب الأبيض . كان الحال غائما مدغما مدلهما وكما يقول الشاعر كاظم الحجاج في احدى قصائده القديمة : " كل الناس شرطة " .
كانت الواجهة تطل على ذلك الشارع المنتهي الى أبعد من بناء المسرح ، ومنها نحدق باطلالة سينما النصر الجميلة . في تلك الظهيرة كان المارة قليلي العدد ، والأكثر وحشة من ذلك أننا سوف لن نرى أحداً ممن نحب ، بل ان الجميع غادروا .... والآخرون كأنما ارتدوا طاقية الاخفاء ... لا أدري لماذا اتخيلهم يسيرون بقبعات سوداء منتكسي الرأس ، بقصد ان لايراهم أحد ، حقا فالحركة قليلة ، والنسمة موحشة تحرك أعطاف الشجيرات على رصيف الشارع من كلا الجهتين ... لون الاسفلت من وراء الزجاج جميل . الزجاج يعطي بهجة للرؤية ، خصوصا من وراء عدسة كاميرا ... قال لي : - كلهم راحوا ...وانتم راح ( تملصون ) ...
تطلعت مرة اخرى الى وجهها .... والى الطائر الجريح المرفرف أمامي . سكتنا ونحن نحدق به مرة ، وبوجهينا مرةً اخرى .... بسينما النصر ، بمطعم النصر وبائع الكص والخياط المجاور وبائع ( الشامية ) و ( الجايجي ) .....الشجر يهفهف قليلا .... يضع هو سيجارة اخرى في فمه يشعلها بعقب سيجارته الاولى ... تمنيته لو يمضي لقضاء حاجة ما ولو لبضع دقائق ... اريد أن احدثها بصدده ... بعد حين فعل خيرا ونهض ..... كان حزينا للغاية ... قال :
- راح أبقى وحدي يقبل ضميركم ... ؟
- بعد أن اختفى مؤقتا ....(دانشتها) ناقشتها بالأمر باعتبارها وزيرة المال ... أجابت موافقة ....
قلت : - يؤلمني أن يبقى وحيدا .
قالت : اتفقنا ... لايهمك .... سنقتسم زاد الطريق معا ....
عاد وجلس ليرفع كأسه مباشرة ويعب بقوة وحماس أكبر ....
قلت : - شنو قاطع جزيرة ؟ .... ابتسم حائرا ... شعرت بأن الشارع يداهمني بليل مفاجئ . ليل في الظهيرة ... شئ مخيف يدب دبيبا لايحس كأنه أفعى ، او كأنه الصمت الذي هو العاصفة بذاته ... قلت :
- غانم لتدير بال ... تعال ويانه اذا تحب .
- صحيح؟
- مثل ما أقول لك !
عبر عن دهشته ....رفرف بمقعده ... دبت في جسده الصغير حركة فرح ، تحفز وجهه لما أقول ولما أكدته هي له :
- ألعن أبو الفلوس بكره نحصلّك على سلفة 100 دينار . دينار ينطح دينار ( ضحكنا ضحكة مختنقة ) .
- تأملنا الشارع معا . .. كان ملعب صبانا ، بل هو فردوس لقاءاتنا عند توفيق ناجي " تو تو " الخياط ... رصيفنا الذي سرنا عليه آلاف المرات لنرى الوجوه الحبيبة ...مواعيدنا لقضاء الظهيرة في الصالات ، وايضا مشرب النصر ، المزمار ، سينما سميراميس ، بابل ، التجمعات في مدخل المسرح الحديث . التجوال طيلة الشارع ، الانتهاء الى مطعم المرايا . الانعطاف من جهة الأربعين حرامي الى الكرادة .... أحبابنا الذين يأخذون أوراقنا ، قصصنا القصيرة وقصائدنا الى مبنى الجريدة " طريق الشعب " .
- لن ادعك وحدك ...اطمئن ... صباحا سنلتقي في موقعنا العتيد .
- رحنا نسير على الرصيف . احساس مخنوق ووامض باللوعة ، لوعة الفراق المرتب له . اذ لابد من فراق يوفر علينا حياتنا . لابد من انسلاخ من هذا الرحم القاسي .... لابد من سفر ! كل كان يخاوص عينيه باتجاه لقطة ما ، ذكرى ما ، عشق ما ... كانت ظلالنا حتى ظلالنا هاربة . ورؤوسنا المرتفعة خداعاً هي منتكسة حتى الأقدام ! .. كنا نصرخ من أجل ذلك ، من أجل دمغة شرطي دائرة السفر على الجواز . من أجل حفنة من دولارات هي زاد الطريق . من أجل متر من التراب نضع أقدامنا عليه ... موضع قدم على طابوقة في الجحيم ولا العراق !!!!! ....
سرنا نضع يدا بيد وبعد أن غادرنا ( غنومي – حبيبي ) الى المسرح كي يقوم بدوره المسرحي في رقصة الأقنعة ... المسرحية التي ظل فيها غانم صامدا ولم يسافر حتى ينجزها . ولا أدري لو توفر لديه المال هل كان قد هاجر كالآخرين ومن أول ( طكه ) .... على أية حال لقد صمد وحافظ على العهد الذي قطعه للاستاذ الفنان جعفر السعدي .
رحنا هي وأنا نسير يدا بيد بل قلبا بقلب ... خطوة بخطوة أصابعنا تلم بعضها كأنها تنقذ آخر ما تبقى من حريق ... هي تضع جواز سفرها في حقيبتها وقد أنجزت المعاملة بادعاء انها ربة بيت ... وليست استاذة ... أما أنا فقد رافقني ( توفيق ناجي ) الى دائرة الجوازات لكيما يعلم بمصيري على الأقل ....كنت خائفا من قضية سرية ومن احتمال ان يكون ( منع ) ضدي .... ( غانم ) لاماض له في الحركة السياسية أي انه يستطيع الحصول على تأشيرة الخروج .... أيضا تبين لي فيما بعد أنه محض صديق للمعارضة أو أنه ( عِرِف ) كما أكد هو ذلك باسلوبه الكوميدي ... كنا هو – الذي لايستطيع أن يتنفس الاّ من خلالنا - وأنا ، نحصي الذين يغادرون تباعا ( ... ي ع ... شمّع الخيط في 1/1/79 . ج أ + ف س قبل هذه الفترة . ع و في نهاية الشهر الماضي . خمسة آخرون في بداية الشهر الثاني . ( ل ) اختفى ( ج ) ذهب الى كردستان نصيرا ... ( ع- ع ) وقع على استمارة التبعيث القسري . كنا نسخر منه ولكنا نقول أحيانا لاترموه بحجر . وغانم محق اذ لايطيق أن يعيش وحده . الفنانة الكبيرة ( ز ) سافرت مثل غيرها ، على كراهة ومضض . ( العمة ( ز – خليفة ) دخلت السجن وهي احدى بطلات العراق وامهاته . ( م- ش ) انزوت في دارها .... ( ط -ع- ر ) أخذ يقرأ القرآن ويعيش امتزاجا ماديا ديالكتيكيا لاهوتيا ساخرا . (م ) ادعى الجنون .... ولم ينتبه الى انهم ربما يعدمونه بمكان مجرم ما مستلمين صفقة مالية من الأخير . ... أبو شاكر لم يعد له وجود ... آه ... " العالم سجن والدنيمارك زنزانته " بل استطيع أن اضيف مع الاستئذان من هاملت بأن العراق مقصلته . الخوف يطرق كل الأبواب . رجال الأمن يسطون على البيوت من سطوحها . سلّم خشبي طويل على جدار واذا بالرشاشات والمسدسات على رؤوس النائمين والنائمات . وكذلك الحال بالنسبة الى الموظفين وهم في حجرات عملهم تماما كما حدث للصديق ( ح – ذ ) الذي اعتقلوه وساروا به في سيارة لاند روفر لكنهم أطلقوا سراحه بعد ساعة وبعدما ادعى قائلا ( لنا ) والعهدة على الراوي ، بأنه وعدهم بالتوقيع على الاستمارة حال عودته الى دائرته بينما كان هو الآخر مهيئا اوراقه للمغادرة ... آه ... كان عدد الداخلين الى العراق من المصريين بالآلاف وأيضا من جنسيات اخرى ، ويعني ذلك تبديل دم بدم . طبقة عاملة ومثقفيها الرافضين بطبقة عاملة منسجمة همها الحصول على المناصب في بلدنا ... و ( المناصب) ! ... انها تدوس بآلاف الأحذية على شعار ياعمال العالم اتحدوا .
في الكابينة المخصصة لستة أشخاص ، جلسنا ومعنا حقائب قليلة . كانت اخت زوجتي قد غادرت قبلنا بأيام واخت زوجها أيضا . ح مع خطيبته ... والفنان ( ح ) أيضا ....كنا لانرى بعضنا لكن " الريل وحمد " الذاهب الى تركيا كان محملا بنا والعنوان سفرة سياحية أو لغرض العلاج والاستجمام والعودة بعد ( 15) يوما . كان المدراء العامّون في الدولة أدرى بهروبنا وكانوا يقدمون التسهيلات لذلك .... يعني ( خفة وراحة ) وبلغة السياسيين يعني افراغ الساحة السياسية من وجود الخصم وباللغة الدارجة غاب القط العب يافار وبلغة الشاعر الجاهلي " خلا لك الجو فبيضي واصفري " .
كان غانم يجلس قبالتي في الكابينة ....يفرك أصابعه دون شعور ويرفع بعد حين السيجارة ليدس عقبها في فمه ويطلق نفسا دخانيا حادا .....دخان دخان دخان ...كأنه قطار من القرن التاسع عشر ! ...كانت في عيون كل منا اختناقة دامعة للوداع .....الخوف لايجعلنا نبكي .... اذ لم نبكِ لمشهد اهلنا وأصدقائنا الذين ودّعونا في المحطة .... أنا لم أشعر بأهمية الكلمات الحبيبة التي قالتها نوروز وأكدها سامان حيث أهدياني قنينة عطر . وهو لم يكترث كثيرا لوداع اخوته في أجواء الرعب تلك .
تحركت عجلات القطار سنتمترا واحدا في اهتزازةٍ اولى . وبدأنا نلوح تلويحة الوداع المذعور واذ بغانم يتطلع لي بعينين أسيفتين ساخرتين وهو يقول :
- أبو حسن ....تدري ؟
- ماذا ؟
- -صار عندي " هوم سِك " .
- كنا تماثيل هاربة في ظلام الساعة السادسة مساء ،حيث عوى القطار وسار بنا وظلت ترفرف أمامنا المشاهد الخضراء واليابسة لمدة ستة أيام عجاف .
حذرونا من تركيا .... اياكم من فتح الأبواب فهناك لصوص ومافيات ...الخ ... وهذا ماحدث فعلا . فقد أغلقناها ايما اغلاق ... تُخلع الباب ولا نفتح القفل بل لو يُخلع القطار كله !....ولقد طرقوها عدة مرات ولم نفتح ، لكن هاجسا ما دعانا الى فتحها والسبب ان طرقات الشرطة معروفة ومحسوبة حتى في اللآوعي والماوراء ! ...أي تلك هي المرة الوحيدة التي فتحناها فيها ، عدا فتحها لبعضنا البعض عند الذهاب الى بيت الماء .
قال لي رفيق ما بعد أشهر بأنه رآنا بذات القطار وقد كان في الكابينة المجاورة . أيضا هذه حال أحد الفنانين الذي سلك ذات الرحلة . كما اخبرتني امرأة بعد سنوات وهي تقيم الآن في فرموزا ! بانها كانت في تلك الفترة تعمل في المحطة العالمية كقاطعة للتذاكر ...حقا لقد كان قطاع واسع من الشعب راحلا بجلده .
كان غانم منزعجا ... ففي اجتياز الحدود العراقية بدا متخوفا من أن يجدوا معه ديوانا مخطوطا لشاعر عراقي مايزال يعيش في العراق . كان الوقت ثقيلا يحكي ملالته وجه غنّومي المضطرب .... ولا أدري فأنا الآخر مثله وبعهدتي امرأة في مقتبل العمر وقد أقلقتني حكاية اللصوص والمافيات ... قال لي ونحن نجلس قبالة البعض ، والمرأة نائمة فوق .
- أبو حسن آني خايف
- من شنو ؟ أبو الويو !
- ماأدري ...
- هسه الباب مضروبة سركي .....واحنه كاعدين وكل الليل عشه ....تريد اتنام نام ...آني ناطور .... امعوّد أبو الغُنم ...
خرجنا من تركيا سالمين ....دخلنا القامشلي . وكان الصباح زاهيا ....هادئا .... وها نحن نستيقظ لتونا ...فهمنا من اضطراب الممر داخل القطار بأن الناس تنزل لتتبضع من دكان قريب ...قفز غانم ليرتدي ملابسه ويذهب الى المغاسل ويسوي شعره ويعد نفسه للنزول .
- راح اروح أجيب جكاير .
عاد بعد حين ومعه عدد كبيرمن القناني ! ومجموعة من سجائر الحمراء ...أغلقنا الباب ....جلس هو قبالتي .... حدجتني المرأة ممتعضة وهي ترفع رأسها من تحت الغطاء .....كانت عيناها تقول لي : انظر كيف نقض صاحبك العهد ....
- غانم احن اشكلنه ؟ مو كلنه بدون سم اسقطلي ....
- أبو حسن ...أرجوك رجاء أخوي آني خايف .....تجهمت أنا ....غطت المرأة رأسها ..... دخّنا بعد الفطور .... تحرك القطار بعد مكوث طويل . جلست المرأة وكانت منزعجة أيضا . خبأ هو القناني في حقيبة حتى اشعار آخر ....أخذنا نتحدث أحاديث عابرة .
- طيح الله حظ هيج قطار
- 4 أيام وبعد حكه مشي .
لا اتذكر كيف انقضى النهار . مرضت المرأة وانتابتها آلام شديدة ....انزوت في فراشها العالي ....نامت
- شلون هسه؟
- شنو شلون ؟
- يعني مانتسمم
- يالله اشرب خلص ....جاسمية ماتنام وجوّه راسهه حلاوة .
- تشرب ويايه ؟
- أشرب ....جيب .
فتحنا القناني ....رحنا ندق قنينة باخرى
- - يالله "جقه مصطفى " ...
- صحه ...صحه .
أفرطنا في الدخان والشرب وكنا قد فتحنا حاشية النافذة كي يتسرب الدخان خارجا .
- أبو حسن أريد أغني !
- أي تفضل
أخذ غانم يقرأ المقام العراقي بصوت ناعم وهادئ ...
لي في العراق عصابة
لولاهمُ ......
ماكان محبوبا اليّ
عراقُ
لادجلة لولاهمُ وهي التي .....
عذبت تروقُ
ولا الفراق يُذاقُ
شمران تعجبني وزهرة روضها
وهواؤها
ونميرها الرقراق ُ .

قلتُ مقاطعا ومنتشياً :
- شلون خطأ ايديولوجي يقع فيه الجواهري ....ياربي !!!!!
- شلون ؟
- العراق هنا محبوب من خلال العصابة- الأصدقاء ، لا لأنه الوطن بكل تفصيلاته الحلوة والمرة .
- ارجوك خلي انغني الاغاني (على ازكاطهه ) على ماهي عليه ....يكفي ....دمرتونه بالأيديولوجيا والتحليلات ...
ابتلعت الرجاء المر ، ورحت اغني معه متنقلا حسب مزاجه من خدري الجاي خدري وسمره ووسيعة عين عيني سمر الى يانجمة واخيرا ياصبحه هاتي الصينية .
- هسه شلونك أحسن ؟
- أي أحسن راحت الخوفه ....كانت أصابعي ترتعش .
- غنومي عيني ... آني شعليه تشرب ماتشرب هذا شي عائد الَك ...لكن أكول هسّه كدامنه طريق ، ودنيه ميندره ....
وضع غنومي الغطاء على رأسه بعد أن بدأ الارهاق عليه :
- لا ... لا ماكو شي انشاء الله ....لتخاف !
في ظلام الكابينة ومن وراء زجاجة نافذة ظلماء كالقير رحت امتص سيجارتي بشراهة ....لاتلفت نظري سوى خطفات سريعة لأضواء الطريق ...أتطلع الى زوجتي أمانة الدنيا الجميلة في عنقي وضميري . هي الاخرى التي ورطتها معي بالأفكار والرفض والمبادئ والمجتمع السعيد ، وجعلتها تنخرط معي في العمل السياسي . هذه الارجوانة سلختها من أعشاش الحمام لأزج بها في معترك قد لاتكون قادرة عليه . حنان غامر كأنه أبوي كان يجتاحني تجاهها وهي متكوّمة تحت الغطاء الأزرق الكريه المنظر والرائحة ...كانت العتمة قد ساوت بين الألوان . المرأة بالنسبة لي معبد وها هو المعبد يذهب مع رياح طوروس .
حل الصباح
- ها؟ هم راح تشرب ؟
- كسر اخمارية أبو حسن !ّ اشبيك انت مو شراب وتعرف الأصول !
سكتُ منزعجا جدا .
- تفضل اشرب ويايه
- ميعجبني
ظل غنومي يشرب لوحده . أخذ يتمرد باجابات متبرمة هو الآخر ...فتح حقيبته ليرتبها ... كان ( يتمروج ) يسرة ويمنة ( حايط ايجيبه وحايط ايوديه ) ...رتب كل شئ ...السكر بادٍ عليه .... بعد حين عاد ووضع الحقيبة في مكانها العالي ...اخذ معه ادوات الحلاقة ! ذهب الى المغاسل ليحلق ذقنه . كنت أخشى أن يجرح وجهه ... عاد بعد حين وقد حلق بشكل رائع ( مثل الورد ) ! القطار يتهزهز مثل ( كاروك ! ) فكيف سيطر غنومي – حبيبي على شفرة الحلاقة ؟ لابد أن يكون ( الكزيز) باتجاه الهزيز ! ...
هذه المرة تركنا بدون أن يخبرنا أين هو .... عاد بعد ساعتين ... أغلق الباب وجلس قائلا وهو مخمور للغاية .....
- تعرفت على جماعة وصرّفت عندهم ....
- منو هذوله الجماعة ؟
- اتراك
- وشلون اتفاهمت وياهم ؟
- بالانجليزي
- بيش صرفت الدولار؟
- الدولار الواحد يعادل .....
- غلبوك
- ها؟ !
اخذ غنومي يثني الأمر :
- والله يمكن صدك غلبوني . خرج بعد حين تاركا الباب مفتوحا كما لو يكون قد خرج من باب ( حوشهم ) في " أبو سيفين او الكريمات او البتاوين " ....اوصدت الباب خلفه ....رفعت هي رأسها وبدأت تنقنق بدون سابق انذار
- موكتلك هذا مومال واحد ايسافر وياه ...
- منو وافق ينطيه السلفة .... مو انتِ !
.......وصلنا المحطة الأخيرة .....
- وأخيرا وصلنا .
- غانم وينه ياربي؟ !
- أكيد عند أصدقائه الأتراك – الانجليز . ساعة السوده مو وصلنا اسطنبول .
على الرصيف رأيناه وهو يتشاجر مع أصدقائه الجدد! رافعا سبابته الصغيرة باتجاه شخصين ، الواحد منهما كأنه عوج بن عنق ...اذا ضرب غنومي ركلة يرجعه الى المحطة العالمية !.لاينفك رفيق السفر يطلق الكلمات الانجليزية الركيكة .
- شوف هذا صاحبك غادي خردة ...يالله صيحه خلي انولي ...كله خلي يجي ايشيل جنطته خوما آني المريضة اتحندل بيهه ؟
في باب المحطة الواسع ...اطل علينا شخص كبير السن بقبعة ( كاسكيت ) موسكوفية يعرض علينا النقل بالتاكسي ...أخبرناه بحاجتنا الى فندق مناسب ، المهم ( نوت اكسبنسف ) ...
حمل الرجل حقائبنا . وضعها في الصندوق الخلفي ...جلس غنومي الى جانبه ( بالسَدُر ) .
سارت بنا السيارة وسط أضواء الليل ...رأينا البحر الكئيب والسفن الواقفة كأنها مرثية حزن أبدية . أشرعتها الساكنة توحي بانتكاسة البسفور والهادئ والهندي والاطلسي ! الجو حزين للغاية يذكرني بأشواق منوّر أُم محمد الصابرة على فراق زوجها المنفي من تركيا وهو من أعظم شعراء الكرة الأرضية ناظم حكمت الفخم بانسانيته ووطنيته وشعره ...
لماذا تغدو السفن كئيبة عندما ترسو ؟ ....
لم ندرِ الى أين يأخذنا السائق ....هل سيغدر بنا ؟ لاندري ...." سوّدتُ صحيفة أعمالي ....ووكلت الأمر الى حيدر " ....
دخل غانم معه بأحاديث حول بغداد ... يبدو ان السائق كان قد عاش فيها ردحا من الزمن وهو يعرف حاجي ( قنبر ) أما غانم فقد ادعى انه يعرف ( الرفيق ) هذا ... فأخذ اسم السائق ...بعد حين تمرد عليه قائلا اذا كنت تعرف حاجي قنبر فلماذا تأخذ منا اجرة عالية جدا ؟ ... هل يعقل أن تسير بنا لمدة ربع ساعة ( بوقتها وصلنا الى باب الفندق ) وتأخذ منا هشله فلوس ؟ ...
انزلنا حقائبنا على الرصيف قبالة الباب ....بينما انفعل ( اتسبّع ) غانم وهو يرفع اصبعه الصغير كأنه قطعة ( ملبّس ) ، وقد أطلق صوته ضد السائق الذي راح يتبسم لنا بوقار وهو يدخل جوف السيارة .... غانم يتنمرد بلا طائل .
- شوف اسمعني عباس ... سوف أعود الى بغداد ...الى حاجي قنبر واخبره بأنك واحد لص وسوف احقرك أمامه .... يو ... آر ( ..... ) ابن (...... ) ابن ( .......) .
مضت السيارة ودخلنا الفندق ....حجزنا حجرة لنا الثلاثة ( كأنها قاعة ) ظللت مسهداً الى حين ...اراقب انفعالاته ....حتى نام ... بل ظللت مسهدا الى اليوم اتسمع أخباره وأخبار بغداد وأخي ستار وعائلتي ، وتوفيق ناجي وأبي شاكر وآخر حكايات ممثلي فرقة المسرح الفني الحديث وما يحيط مطعم المفتاح من نسائم وسينما النصر من أصدقاء وباعة وحرفيين . بل والأكثر ايلاما لي ان غانم لم يستطع ولا أنا استطعت ولا الألوف من العراقيين أو الملايين الذين تشبثوا بالطائرات او القطارات بان يعودوا ليحقروا السائق أمام الحاج قنبر ، علما بأن الأخير ومعه معظم أبناء جيله قد ماتوا رحمهم الله وزالت حتى أسباب العودة لغرض التحقير أو بدافع الزيارة أو
( التسيارة ) .. ولا يمكن أن نعود وهذه السنوات كالغيم الأسود تزداد حدادا على الشهداء والناس الأبرياء ...وانه لن يرجعنا الى وطننا الاّ مرسوم الهي أو قوة فضائية قادمة من المريخ !.

* حدث ذلك في شباط 1979.
* كتبت هذه الذكريات في كوبنهاغن عام 1992.



#خلدون_جاويد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ادعاء دين واداء مُشين
- النظرية السامية والواقعية الدامية
- كونانبايف شاعر التراث الطليعي
- الحب وفقا لماركس
- العراقيون وأدب الرسائل العاشقة - عبد الغني الخليلي نموذجا
- هل ستبقى ليلى بلا ذئب ؟
- اللآقاعدة الفكرية في العراق ستكون هي القاعدة الذهبية
- الشاعربدر شاكر السياب .... هل هو من جماعة القاعدة ؟!
- الجواهري روح العراق وعنفوانه الفكري والعاطفي ...هل سيعمم شعر ...
- الموسيقى باعتبارها نوعا من السجن
- كتابات في الحرية ألمعية الأديب في كسر القاعدة والمسلّمات
- اوروك والتاو الصيني والآخرون
- قوس الفلسفة في قزح الشعر
- أُمهات البلاد الحبيبة
- الذباب بين الفكر الفلسفي والواقع المحسوس
- على هامش الفلسفة الوجودية


المزيد.....




- -ربيعيات أصيلة-في دورة سادسة بمشاركة فنانين من المغرب والبحر ...
- -بث حي-.. لوحات فنية تجسد أهوال الحرب في قطاع غزة
- فيلم سعودي يحصد جائزة -هرمس- الدولية البلاتينية
- “مين بيقول الطبخ للجميع” أحدث تردد قناة بطوط الجديد للأطفال ...
- اللبنانية نادين لبكي والفرنسي عمر سي ضمن لجنة تحكيم مهرجان ك ...
- أفلام كرتون طول اليوم مش هتقدر تغمض عنيك..  تردد قناة توم وج ...
- بدور القاسمي توقع اتفاقية لدعم المرأة في قطاع النشر وريادة ا ...
- الممثل الفرنسي دوبارديو رهن التحقيق في مقر الشرطة القضائية ب ...
- تابع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 22 .. الحلقة الثانية وا ...
- بمشاركة 515 دار نشر.. انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في 9 ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خلدون جاويد - تذكّر الأشجان في حضرة غانم بابان