أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خلود العدولي - من النسيان تولد الذاكرة















المزيد.....

من النسيان تولد الذاكرة


خلود العدولي

الحوار المتمدن-العدد: 4029 - 2013 / 3 / 12 - 00:04
المحور: الادب والفن
    


جلس على مقعد في المحطة منتظرا قدوم الحافلة .كان يعرف بأنها ستتأخر ربع ساعة أو أكثر و سيضطر للاعتذار مجددا للأستاذ بالإضافة إلى فقدان مقدمة المحاضرة. فتح محفظته ليختار كتابا فوجد بحوزته عدة عناوين لفرجينيا وولف كان قد اقترضها من مكتبة الجامعة.تصفح رواية " الأمواج" لفترة قصيرة إلى أن سمع صوت الحافلة القادمة و هي تصدر أصواتها الاعتيادية المزعجة.لم يجد مقعدا شاغرا و تكرر يومه في إعادة ساخرة للأحداث.فكر في الامتحانات التي عليه أن يجتازها الأسبوع القادم و قرر تكريس نهاية الأسبوع للمراجعة في المكتبة. بعد دقائق, صعدت مجموعة من الفتيات إلى الحافلة.كن في حوار شيق, يتضاحكن بصوت عال مما جعل الجميع يلتفت إليهن.وقفت الفتيات في صمت مفاجئ أماما عمر مباشرة.ظل يحدق فيهن بنظرته الفارغة.
ما جدوى هذه الامتحانات التي لا تكف عن التكرار ؟ ما الجديد في المنلوغ المسرحي الذي بهت يوما بعد آخر؟
اللعنة ! الشامة السوداء ! هناك على العنق الأبيض...نعم تلك صاحبة الشعر الكستنائي القصير...ذات الأقراط البيضاء المتدلية..لديها شامة سوداء ؟؟ الشامة القديمة الي تساقطت فوقها قطرات الماء و طاف حولها البخار.
اتقدت نظرته,صارت في شكل فك جائع.حاول تخبئة فضوله قليلا.فتح كتابه من جديد و هو واقف . سعل ثلاث مرات و أعاد الكتاب إلى المحفظة..إني أجن , سأجن! إنها هي "سارة الغريبي " ذات الخمس سنوات..إنها هي و لا احد غيرها:آه!صاحبة الجسد الصغير الأبيض.مازلت أتذكر..كيف يمكن أن أنسى .كنا نلهو معا كل جمعة بسطول الحمام العمومي.نعبأها بالماء طيلة ساعات و نتراشق بالقطرات المدغدغة حتى نتعب.سارةالغريبي..صديقة الطفولة الأولى و صاحبة النظرات الشقية . لقد اشتكت لي ذات مرة من شامتها السوداء و قالت :"أنظر إنها تبدو بشعة ,خاصة في الضوء.حاولت إزالتها بكل ما استطيع"
قلت "لكنها تبدو جميلة و تقول امي بأن هذه الشامات سر من أسرار الجمال القديمة .بالإضافة إلى أنها لا تؤذي "
وجد مقعدا شاغر أخيرا في الجزء الأخير من الحافلة .جلس,اتصل بصديقه سامر "هل بدأت المحاضرة؟ "لا. أظن أن الأستاذ متغيب"
"حسنا أتمنى ذلك.أنا في طريقي إلى الجامعة.اراك بعد قليل" "أنتظرك إلى اللقاء"
ما الذي تفعله سارة هنا؟ لما لم أراها منذ خمسة عشرة سنة.لما لم تراسلني عندما انتقلت إلى حي آخر.لكنها كانت في الخامسة و كنت في الخامسة أيضا! فكيف ستراسلني؟؟ لم تتكبد أمها عناء السؤال عن عائلتنا.حملت أبنائها و زوجها المقعد إلى الحي الجديد بصمت.لم أعرف حينها سبب نقلتهم المفاجئة.حدق في رقبتها..وجهها مستدير الآن بخدود براقة ..أثدائها ممتلئة..شامتها ازدادت سوادا ..أما شعرها فهو قصير كعادته..شفاهها تخبرك عن تاريخ قصير من الابتسامات و تاريخ حديث من القبل..هل يجب أن احدثها ؟ مالذي ستعتقده؟ هل سأقول لها بأننا كنا رفاق الحمام العمومي ؟؟ بأننا شاهدنا أثداء النساء الضخمة و ضحكنا بكل بلاهة...و بأننا غمسنا ايدينا في سطل من الماء البارد ثم سكبناه على أجسادنا في ذلك الشتاء القارس؟؟ يمكن أن أخبرها بأنني أنقذتها عندما همت بالسقوط على أرضية الحمام الزلقة وأمسكت بجسدها إلى أن سقطنا معا.ماالذي سأقوله لها! سأقدم نفسي :عمر بن حسين ,طالب سنة أولى مسرح و فنون ركحية أم سأقول أني ذاك الشقي الذي لم يحب إلى الآن ؟؟ لم يلمس فتاة إلى الآن! ما الذي سأقوله أيها القدر القذر؟ ما الذي يمكن أتفوه به أمام جسد قد يعرفني و شخصية قد لا تتعرف علي!كيف يمكن أن أعري شخصي أمامها دون أن تستفيق ذاتي الحقيرة من سباتها؟؟ شعرها القصير المبعثر..مشاهد من علاقتي بمورفين الحب :مقصّف ذو أطراف متداخلة..أنا الذي لا أدري ماالذي يجب التأكد منه في ذاتي؟؟ ما الذي يجب إصلاحه حتى أطلق هذه المشاعر المتداخلة.مشاعر مقصّفة تماما يمكن أن أحررها بمقص ذي قص مستقيم,و يمكن أترك هذه المشاعر في طولها العفوي إلى حد النطق بكل سهولة.شفتاها سراب ..لا شيء بينهما و لا شيء يتخللهما غير الفراغ..غير الذي ينتظرني بعد النزول من هذه الحافلة.أحلامي مسرحية من سراب..أي ركح ذاك الذي سيعري خشبته من أجلي؟؟ أي مسرح سوى طريق من العبث المستمر..هذا مؤلم! نعم..العجز عن الكلام مؤلم! لما لا تصدر هذه الأصوات في شكل ذبذبات حتى تتمكن سارة من سماعي؟أثدائها..ما تكور من إنتظارات في مخيلتي الصغيرة..إنتظارات مؤجلة..ما الذي سأخاطبه فيها؟؟ قد يتذكرني ردفيها أكثر مما تتذكرني عيناها؟؟ قد ينبت للنهد ذاكرة و ينقذني من الهزيمة أمام لعنة التذكر! ما الذي يجب أن أتذكر بالذات؟؟
وقفت الحافلة أمام حرم الجامعة,أفاق عمرمن تخيلاته على صوت سارة:"هل تدرس بهذه الجامعة ؟؟"
بكل تردد:"نعم,هنا أدرس"
تابعت حديثها و هي تنزل رفقة صديقاتها الثلاث وعمر من الحافلة "هل يمكن أن تساعدنا في إيجاد المكتبة؟؟نحن بصدد البحث عن كتاب عن الفن التشكيلي و علاقته بالمسرح و التيارات المسرحية,مكتبتكم تحوي هذا الكتاب وقد أتينا للبحث عنه"
لم يتخلص بعد من تردده ماالذي يمكن أن يتفوه به في مثل هذا الموقف..حسنا ..سارة هل يمكن أن امليك الكتاب سطرا..سطرا..تحت ماء الحنفية ؟؟ او ربما يمكن أن تكوني فنا تشكيليا و أكون مسرحا..و يتسنى لنا الوقت لتباحث علاقتنا المشتركة في رغوة الصابون؟؟يمكن كذلك أن يخرج حديثنا في شكل فقاعات مائية إذا نزلت معي للحوض..هيا أي شيء؟؟ أي شيء يمكن أن يذكرك بي؟
"بالتأكيد..يمكنني أيضا أن أساعدك في البحث عن الكتاب .أنا خبير في المكتبة و أقضي معظم وقتي هناك,بالإضافة إلى أنك ستدهشين عند رؤية المكتبة.إنها شاسعة و تحوي آلاف الكتب."
"شكرا..سيكون هذا ممتعا.لن ننسى لك هذه الخدمة لأننا بحاجة لهذا الكتاب في امتحاننا النهائي."
"كلية الفن التشكيلي؟ أليس كذلك؟"
"نعم,انا سارة الغريبي و هؤلاء صديقاتي:ليلى ,أحلام و خديجة.جميعنا طالبات في كلية الفن التشكيلي..هل لي أن أسأل عن اسمك؟"
"آه!..نعم..نعم آسف..عمر بن حسين و بطبيعة الحال أدرس المسرح و الفنون الركحية."
تقدمت المجموعة إلى بهو الجامعة حيث تقف مجموعات لا نهائية من الطلبة..هؤلاء اللذين لا تظهر على وجههم ملامح المسرح..و لا ملامح الممثلين..إنهم لا يدركون شيئا عن مسرحة الحياة!عن امتصاص الحياة كخشبة ناطقة حتى! إنهم يشتغلون بدوام كامل في مكْننة المسرح سائرين على خطى أساتذتهم الأفاضل.
"يجب أن ننقسم إلى مجموعتين الآن.أنا و سارة و ليلى سنبحث في الجزء الشرقي..أحلام و خديجة يجب أن تبحثا في الجزء الغربي"
العنوان كان كالآتي"المقاربات التشكيلية في فنون المسرح" و عنواني كان سارة.ما الذي تخبئه هذه المخلوقة الصغيرة؟؟ لما لا تتوقف الذاكرة عن وصفها ك"صغيرة"!
"المكتبة شاسعة جدا ياسر.أظن أن إيجاد الكتاب قد يطلب منا عدة ساعات..إن لم يكن اليوم بأكمله."
"لا تقلقي..قلت لك أنني أقضي معظم وقتي هنا..انظري هذه الرفوف السبعة لا فائدة من البحث فيها.لقد فتشتها كتابا كتابا منذ أشهر."
"هذا رائع.أظن أنك تعشق القراءة؟"
"نعم,صموئيل بكيت ,اوسكار وايلد,شكسبير,موليار..مسرح كما تعرفين.لكنني أعشق الفلسفة."
ظل البحث متواصلا لعدة ساعات..شامتها ساطعة بما أن الرفوف بيضاء..تتعمد أحيانا الإنحناء للبحث في الرفوف السفلية..يتشكل جسدها كنصف دائرة مهووس بشطره المفقود..الشامة فاقدة للذاكرة بعض الشيء..كيف تنسى؟كيف يمحوا الوقت لمساتي و تبقى الشامة صامدة! كيف يتشكل العالم بشكل دائري في عنقها؟؟ دورة الحياة التي تبدو سوداء فوق مسطح أبيض؟؟ إذا أنا في الأسود الآن!فأين الأبيض؟؟ هي خبيرة في الفن التشكيلي يجب أن تجيني:أين أنا من المسطح الأبيض؟ هراء! يجب أن ابحث عن الكتاب و أتناسى أنني رأيت "سارة الغريبي " ربما لا تكون هي ..ربما هي شبيهتها؟؟
"هل وجدت شيئا بعد,عمر ؟ أنا بحثت في ستة رفوف الآن و لم أتوصل لشيء.الرف السابع لتاريخ الدراما لذا لا أظن بأنه يحوي الكتاب"
"لا شيء بعد,و بما أن خديجة و أحلام لم تأتيا إلى الآن أظنهما لم تجدا شيئا أيضا"
أطوقها بين ذراعي..أفتحها ككتاب..أخرج من عنقها أقلام الرصاص و أروي عطشها بألوان مائية..أوقف فيها السرد و أفتح مع شعرها كبّة من الحوار الداخلي..ما الذي يمكن أن افعله..أهز جسدها الصغير مجددا..أقضم شامتها و أحقق لها أمنيتها الطفولية القديمة..لعلها صارت مقتنعة الآن بأنها علامة جمال..إنها شامة جذابة..
"سارة..سارة!"
"نعم,عمر..هل يمكن أن نرتاح قليلا ثم نعود للبحث.لقد أصبت بالعماء جراء تقليب هذه الكتب."
"لا داعي للراحة.لقد تمت المهمة"
"هل وجدت الكتاب . هل هذا صحيح؟؟"
"نعم وجدته و هو عند أمين المكتبة الآن"
"و لما لم تأتي لي به؟؟ أهو ممنوع من الاقتراض؟"
"لا ليس الأمر كذلك.دعينا نلعب لعبة صغيرة أو لنعقد إتفاقا :الكتاب مقابل قبلة. هذا كل ما أطلب."
"ماذا! قبلة...و لكن"
"من دون تردد..أرجوا ان تفعلي هذا و الآن ..أرجوا ان لا تفكري بطريقة سيئة ..يمكن أن اشرح لك بعد القبلة"
آخر..المطاف..قد تحدث..قد يحصل شيء ما..يستفيق شيء ما..أحس بشكل ما يرسم فوق شفتي..تحررت الذاكرة..تنتشر الأفلام القديمة على السطح في تراص..يتساقط البخار المقدس القديم فوق شفتي..تتحرر الحنفيات من قدر الانغلاق..تفتح على مصرعيها فوق جسدينا..انغلاق الشفتين ثقب في ذاكرة ميتة ..انفتاحهما في آخر القبلة هبوب لريح من الذكريات العاصفة.
قبلته..نظرت في عينه بعد ذلك للحظات..شيء ما تراكم في عينيها..إلى الآن لازالت تمسك يده و تنظر إليه...تبحث عن كلمات مناسبة..شفتيه رحم جديد لذاكرة مجهضة..و بصوت طفولي ..قالتها ببطيء شديد..كأنها تخيط أطراف الوقت الممزق من جديد:" أنت ..عمر!عمر بن حسين!..عمر..إنه أنت..إذا تبا للكتاب الآن! "



#خلود_العدولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عندما يفرض النص قوانينه:الإعلان عن القائمة القصيرة لجائزة ال ...
- مذكرات طوباوية غارقة في الوهم
- إنحداره بعد إنقطاعه -زيارتي لمعرض تونس الدولي للكتاب-
- تبشير بالأدب الكوني
- يوميات هائمة في شوارع العاصمة
- إلى حلاق باب الخضراء
- مدخل للتفكير في سؤال ما الكتابة؟؟
- اللقاح الذكري
- بين البحث عن الذات و واقع البينذاتية
- إقرأ لأحبل بكتاب
- إلى طفلي
- فوضوية أنثى.....عشوائية صارخة
- النفس الانتحاري في الرواية اليابانيّة
- حانة الكلمات
- جيل البيت في الرواية الأمريكية -the beat generation-


المزيد.....




- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خلود العدولي - من النسيان تولد الذاكرة