أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الرحيم التوراني - أغنية للجلاد















المزيد.....

أغنية للجلاد


عبد الرحيم التوراني
صحفي وكاتب

(Abderrahim Tourani)


الحوار المتمدن-العدد: 3979 - 2013 / 1 / 21 - 20:46
المحور: الادب والفن
    


كنت أنبح وأعوي من شدة الجلد. وكان الجلاد محترفا قاسيا. بل هو القسوة نفسها والقساوة تتنفس. توقف فجأة عن تعذيبي. ابتعد عني. مشى خطوات متثاقلة وجلس فوق الكرسي الوحيد بقاعة العمليات. هكذا يسمون قاعة التعذيب. أشعل سيجارة سوداء وانشغل عني في التأمل والتفكير. هل الجلاد مثل الآخرين يفكر أيضا ويتأمل؟ هكذا سألت نفسي ساعتها، وعجزت عن إيجاد جواب كيفما اتفق. لقد كنت غير قادر إلا على النباح والعواء، بل إني خجلت من صياحي وبكائي الذي يصدر مني على شكل صوت الكلاب والذئاب، هل أصل الإنسان يعود لهذا الحيوان؟ تشارلز داروين يخبرنا أننا من سلالة القردة. وتمنيت لو استطعت أن أنهق. إذ لا يمكنني وصف سهولة إلقائهم القبض علي إلا ب"تحماريت"، مع بالغ الاحترام والتقدير للحمار. ليس من باب الصدفة أن اختار مؤسسو الحزب الديموقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية رسم الحمار شعارا لحزبهم العتيد. تأخر الجلاد في استراحته، وكأني به دخن أكثر من سيجارتين. أنا كنت قد التقطت أنفاسي خلالها محاولا العودة لآدميتي. حرضت نفسي على الصمود أكثر. استرجعت بعض التعليمات التي حفظتها لمثل هذه المصيبة المشؤومة. كنا نضع أمر اعتقالنا وخضوعنا للتعذيب بين أعيننا. تماما كما كان أبي يوصينا أنا وإخوتي، ونحن ما زلنا أطفالا مقبلين على الحياة، أن نضع الموت أمام أعيننا. "أينما كنتم يدرككم الموت". وها قد أدركني الموت تعذيبا على أيدي من لا يشفق ولا يرحم. فجأة انتبهت إلى ظله الضخم يتجه صوب الجدار الواقع خلفي. بدأت أرتعد والنباح والعواء واقف على شفتي المزمومتين. خفت أن ألتفت ورائي فينزل علي الجلاد بضربة قاضية. حل صمت حسبته دهرا. تحسست بللا تحتي. وشعرت بالنعاس وبالعياء. منذ أيام، لا أعرف كم هي، لم أذق طعم النوم. ثم أعادني صوت التكبير من غفوتي. (الله أكبر. الله أكبر. سمع الله لمن حمده). أدركت أن الحاج يؤدي الصلاة. لم أعرف أي صلاة هي. لعلها كانت صلاة الفجر. صلى ركعتين. وتلاهما بالدعاء لله سبحانه. لم أسمع جيدا كلمات دعائه ومطالبه التي يتمنى أن يقضيها له السميع المجيب. دعوت أنا أيضا الله أن يخلصني من هؤلاء القتلة، ودعوته أن ينتقم لي منهم. لكن دعائي لم تسبقه صلاة، كما فعل الحاج المؤمن. بعدما أنهى واجبه الديني توجه نحوي ليستكمل واجبه الدنيوي. إن هذا البدين المفتول الشارب الغليظ القلب يقتات من تعذيب المعارضين للملك. يشتري حاجيات أولاده وزوجته من الجروح والدم الذي ينزف من الأجساد والجثث خلال حصص التعذيب. وبالمناسبة أشهد له أمام الله وأمام العبد أنه لم يكن يغش في عمله، بل إنه يوفي التعذيب حقه ولا يستعجل التخلص من مهمته للذهاب لمتابعة مباراة في كرة القدم مثلا. وكانت تلك الأيام تصادف تنظيم مباريات نهائيات كأس العالم، ومنتخب بلادنا من بين المنتخبات المشاركة. العمل عبادة. وقد كان يتعبد متوسلا إلى خدمة رؤسائه على حساب هلاكنا. إنه يسجل إصاباته في مرمى أجساد المعارضين.
تقدم نحوي ليكمل شغله. رفع كفه الغليظة وهوى بها على خدي. أبصرت أضواء ملونة ونجوما لم أحظ برؤيتها من قبل.
- ألا تخجل من معارضة أسيادك وأصحاب الفضل عليك في الحياة أيها الخنزير. أما زلت مصرا على الصمود والإنكار؟ من أي طينة أنتم وأي بطن ولدتكم. حاشى لله أن تكونوا مغاربة مسلمين. أنتم يهود.. خنازير.. ملاحدة.. لا تعرفون ربي ولا خلقه.
ظللت صامتا. كأني أغيظه وأعذبه بدوري على طريقتي. أشعل سيجارة ومد لي أخرى. أنزلني من فوق منصة التعذيب. تغيرت لهجته ولكنته. صار لينا خافتا.. إنه ينتمي لبني البشر. سماني باسمي لأول مرة. لم يشتمني. لم يتفوه بالكلام البذيء. سألني إن كان بي جوع أو أرغب في شرب فنجان شاي أو قهوة. أوصاني أن أتوب إلى الله وبأن أصلي.
- الصلاة لا تكلفك شيئا..فيها راحة نفسية عظيمة للإنسان لو تدري يا ابني.
وصفني بابنه...
بدأت الوساوس تسيطر علي. تساءلت عما يعده لي هذا الغول المفترس. لم أثق لحظة واحدة في أي كلمة لطيفة تصدر منه. طلب مني أن أرتاح وأن أنسى كل ما حصل بيننا.. قال إنها الضرورة. "والله يلعن بو الخبز". شربت ماء معدنيا ودخنت ثلاث سجائر. وقشرت برتقالة. رتبت أفكاري والسيناريو الذي أعددته من قبل للجواب على أسئلته. وكان سؤاله الأول عن أحمد شوقي. أجبت أن لا أحد من أفراد الخلية التي كنت عضوا بها يتسمى بمثل هذا الاسم. ضحك حتى بدت أضراسه.
قال لي:
- يا أحمق أنا أسألك عن أمير الشعراء، إلا إذا كنت ضد كل الملوك والأمراء قاطبة، فهذا شأن آخر.
ثم انخرط في ضحك أطول من السابق حتى أخذته نوبة من السعال. فضحكت أنا أيضا معه.
لما توقف نهرني:
- بلا ضحك. أتكلم معك بجد. هل تحفظ شعرا، هل لديك ميولا أدبية؟ لا تنكر هذا أيضا. بلغني أنك تكتب الشعر وتنظم الهتافات التي ترددونها في المظاهرات، أليس كذلك؟
ظللت صامتا غير مدرك لهذيان الرجل. محتاطا. أين سيمضي بي.
قدم لي صفحة داخلية من جريدة قديمة، تتضمن حوارا معه بصفته بطلا في رياضة المصارعة وفنانا ملحنا. واستدرك مشيرا إلى الصورة المرفقة بالحوار:
- هذا أنا. لن تستطيع التعرف علي بسهولة لو لم أقلها لك. ثم ابتسم كبليد.
بدأت أقرأ، فانتزع مني الصفحة واعدا أن يستنسخ نسخة منها ويهديها لي لاحقا. شكرته على لطفه وكرمه.
نهض وأخذ يطوف حولي ويتكلم:
- سأخفف عنك إن أنت ساعدتني وتعاونت معي.
قلت:
- والله لقلت لك كل ما أعرف عن التنظيم، فأنا لست قياديا كما تعتقدون.
قاطعني غاضبا.
- لا تتكلم قبل أن أنهي كلامي أيها الكلب. يا ابن الق....
سكتت أنا. ثم سكت هو.
اقترب مني طالبا العذر والمسامحة.
وبصوت يكاد يكون هامسا كمن يخاف أن يسمعه أحدهم، قال لي:
- إن الذي يحدثك اللحظة ليس هو الجلاد، دعك من هذا العبث، الذي معك الآن هو الفنان الملحن كاتب كلمات الأغاني.
- تشرفت بك أيها الفنان المبدع.
- المطلوب منك خلال يوم أو يومين على الأكثر أن تقدم لي خدمة. خدمة لن أنساها لك
- نعم وما المطلوب مني؟
- - لنتفق أولا، كل عمل له مقابله الملموس، لن أستغلك.. لا..لا.. حرام علي
- ما المطلوب...؟
. - لا تستعجل... المطلوب منك شيء بسيط في متناولك... أيها الشاعر الكبير
- ...
- أكتب لي قصيدة شعر.
- شعر؟
- نعم... هل أتحدث معك بلغة لا تعرفها؟
- ...
- أكتب لي قصيدة مدح في الملك. أعرف أنك معارض متطرف، لكنك سوف لن توقعها أنت. ستكون باسمي أنا، وسألحنها لتغنى في عيد العرش بعد أقل من أسبوعين..
- ...
- لا تخذلني، لقد ذهب عني كل الإلهام الذي وهبني إياه الله. هذا العمل المقيت لا يترك الإنسان يقول شعرا..
بعد تفكير لم يطل كتبت أي كلام، لا روح فيه ولا صلة له بالشعر. لما قدمته إليه كنت أتوجس من أن لا يعجبه فيتهمني بالتهكم على الذات الملكية، لكن فوجئت بالحاج يشكرني ويدعوني أن أتقاسم معه وجبته. ثم أهداني علبة سجائر أمريكية. بدأت أفكر فيما بعد مغادرتي هذا السجن السري. لكن الملحن غاب عني أياما. ذهب للاستعداد لحفلات عيد العرش، وتم تغييره بفنان جديد يطرب لتأوهاتي ويرقص. ويكتب أسئلة التحقيق ويلحنها لوحده. فيما كان الرعب يسيطر علي حد الانهيار عندما أتخيل أن الرفاق بلغتهم قصيدتي، أقصد فضيحتي... في مدح الملك.
(الرباط، المغرب)



#عبد_الرحيم_التوراني (هاشتاغ)       Abderrahim_Tourani#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نشرة استثنائية مطولة
- قصة قصيرة: أغنية الجلاد
- عندما تحمر النجوم وتزداد السماء زرقة
- الأمن الوقتي
- من أخبار الجرائم
- البكاء تحت المطر
- عملية انفجار أحرف باردة
- بيصارة كسيح بلا شواء
- حب ضاحك كالحزن
- الفرز العظيم
- أكل الكفن
- قصة: موعدي معي
- قصة: فيروس الجاذبية
- قصة واقعية تقريبا : حكاية شاعر معتقل
- قصة واقعية: اعتقال ابتهال
- إعدام الجثث ذات الدم الحار
- عندما قرر المخزن أن تطيح 20 فبراير بسلالة علال


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الرحيم التوراني - أغنية للجلاد