أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - أحمد القبانجي - الديمقراطية والمعنوية















المزيد.....


الديمقراطية والمعنوية


أحمد القبانجي

الحوار المتمدن-العدد: 3968 - 2013 / 1 / 10 - 17:00
المحور: المجتمع المدني
    


بقلم: مصطفى ملكيان
ترجمة: أحمد القبانجي

في هذا المحفل الذي اُقيم لاحياء ذكرى المجدد الديني الكبير المعاصر المرحوم المهندس بازرجان أتقدم بتحية إكبار وإجلال لروح لذلك الرجل الكبير، واُقدم سلامي وتحياتي للأخوات والإخوة الأعزاء، وأستغل هذه الفرصة للحديث عن العلاقة بين الديمقراطية والمعنوية، التي أعتقد بها واُؤكد عليها، وأطرح بعض النقاط التي تتناغم مع الاطار الفكري للمرحوم المهندس بازرجان.
الواقع أنّ الموضوع الذي أروم بحثه وطرحه يمثّل امتداداً لمحاضرات ألقيتها في أمكنة أخرى، فقلت في مورد إننا نشعر بالالتزام المعرفي والالتزام الأخلاقي بالنظام السياسي الديمقراطي، يعني إذا كنّا نحن وعلم المعرفة، أي محض طلب الحقيقة، وأيضاً إذا كنّا نحن والقيم الأخلاقية، أي محض طلب العدالة، فكلاهماـ طلب الحقيقة وطلب العدالة ـ يقتضيان اختيار النظام السياسي الديمقراطي، وقلت هناك إننا إجمالاً في جميع الموارد التي لا يتيسر فيها إثبات رأي مقبول لدى الجميع، بمعنى أنّه لا يمكننا الاستدلال لإثبات صحة أو عدم صحة موضوع معين، ففي جميع هذه الموارد التي يقال عنها بلغة معرفية أنّها معتقدات اُوبجكتيفية/ objectiv، وسوبجكتفية / subjectiv بالقوّة، ليس أمامنا سوى آراء الناس لاتخاذ قرارات جمعية، أي أننا في جميع الموارد التي يكون القرار والرأي مبنياً على القرارات الجمعية، وكان ذلك الرأي غير قابل لإثبات العقلاني، فليس أمامنا سوى اتخاذ مبنى القرار الجماعي المقبول لدى الناس، والتسليم بهذا القرار والرأي، وهذه هي الفلسفة الوجودية للديمقراطية والتسويغ المعرفي والأخلاقي لها، وكل نظام آخر لا يملك التسويغ والدليل، لا من الجهة الأخلاقية، ولا من الجهة المعرفية، ولكن ما اُريد طرحه في هذا المجلس هو أنّ النظام الديمقراطي في ذات الوقت الذي يعد أفضل نظام سياسي للحكومة أبدعه البشر لحدّ الآن، فإنّه لا يخلو من إشكال أيضاً، وفي المقابل ينبغي القول إنّ النظام الديمقراطي هو أفضل نظام توصل إليه البشر في حياته السياسية.
إنّ جميع أرباب الفكر والنظر، والأشخاص الذين يعملون في حقل الفلسفة السياسية وكذلك الأشخاص الذين يعملون في فلسفة الحقوق وعلماء النفس الاجتماعي، يعلمون جيداً أنّ النظام الديمقراطي يتضمن سلسلة من النواقص والثغرات، وأزعم أنّ هذه النواقص والثغرات يمكن جبرانها بالنزعة المعنوية للناس الذين يقبلون بالنظام الديمقراطي، وبعبارة أخرى، إذا انفصلت الديمقراطية عن المعنوية فإنّ هذه النواقص والمعايب ستكون واردة، وإذا اقترنت الديمقراطية بما يسمى بالمعنوية، ففي هذه الصورة يمكن تطهير النظام الديمقراطي من تلك الثغرات والنواقص المتوقعة.
ومن هذا المنطلق عندما نبحث موضوع الديمقراطية والمعنوية، فالمسألة المطروحة أمامنا، هي أنّ الديمقراطية لا تخلو من عيوب ونواقص رغم أنّها أفضل نظام متصور للمجتمع البشري، ولكن في ذات الوقت إذا اقترنت مع معنوية الناس فمن الممكن تقليل هذه العيوب والنواقص إلى أدنى مرتبة وربّما تصل إلى الصفر، وبعبارة أخرى أنّ النظام الديمقراطي إذا اعتبر شرطاً لازماً لسعادة الناس وفلاحهم، فإنّه ليس شرطاً كافياً، فالمجتمع البشري عندما يعيش النظام الديمقراطي الواقعي فإنّه يوفّر لنفسه الشرط اللازم للسعادة والفلاح، ولكن هذا الشرط اللازم لا يعني أنّه شرط كاف، وأزعم أنّه من أجل تحقيق الشرط الكافي لهذه المسألة، أي الشرط الكافي للسعادة والفلاح، يجب أنّ نعيش النزعة المعنوية، أو المصطلح الذي سأذكره لاحقاً.
وعلى هذا الأساس يمكن القول إننا في ذات الوقت الذي نلتزم فيه بالديمقراطية، فإنّ هذه الديمقراطية وليدة طلب الحقيقة وطلب العدالة، وفي الوقت نفسه فإنّ هذه الديمقراطية عندما تتحقق في فضاء المجتمع، فإنّها تحتاج أيضاً إلى أبيها واُمّها، بمعنى أنّها تحتاج للعقلانية وتحتاج أيضاً للمعنوية، وهذا النمط من التفكير يقودنا إلى رؤية أخرى وهي أنّ جميع الأشخاص الذين يقبلون بالديمقراطية بوصفها نظامياً سياسياً مثالياً، فإنّهم في الواقع يحتاجون إلى مؤسسات ديمقراطية، وعندما نطرح الديمقراطية والمعنوية فإننا في الواقع لا نحتاج فقط للمؤسسات الديمقراطية في الواقع المجتمعي، بل نحتاج إلى الجانب «الخفي» من الديمقراطية، أي لابدّ أن نعيش الديمقراطية في باطننا وضمائرنا لا المؤسسات الخارجية فقط، فباطننا ونفوسنا وضمائرنا يجب أن تكون نفوس وضمائر ديمقراطية، فالمؤسسة الديمقراطية تعني مؤسسة أخلاقية، وتعني مؤسسة معنوية، والأشخاص الذين يعيشون في باطنهم الديمقراطية يعني أنّهم يشعرون في باطنهم بالمحبّة والمودّة للناس، ومن هذه الجهة نحن نحتاج إلى دراسة مضمون كلا الأمرين والحديث بشكل مختلف عن الديمقراطية والمعنوية.
وبهذه الرؤية أطرح بعض النقاط التي تمثّل، بالإضافة إلى كونها شرطاً لازماً للنظام الديمقراطي، شرطاً كافياً لتحقيق الفلاح والسعادة للناس، وهذه النقاط كلها تدور حول محور الأمور المعنوية، والمراد من المعنوية هنا أننا نحتاج إلى سلسلة من الرياضات الباطنية، فبالإضافة إلى وجود مؤسسات الديمقراطية في مجتمعنا يجب أن توجد في باطننا سلسلة من الرياضات الأخلاقية والمعنوية، فلو كانت جميع المؤسسات ديمقراطية ولكننا لم نتحوّل في باطننا بالكيفية التي سأطرحها ولم نقبل في ذواتنا بهذه المتغيرات، فإننا لا نستطيع أولاً: أن نقيم مؤسسات ديمقراطية بالمعنى الواقعي للكلمة، وثانياً: لا نستطيع مشاهدة بقاء ودوام هذه المؤسسات الديمقراطية، وهنا أستعرض هذه النقاط بالوقت المتاح لي:
النقطة الاُولى، التي نحتاجها تماماً في النظام الديمقراطي، هي أن الناس في ظلّ هذا النظام لا ينبغي أن يتصوروا أنّهم يؤدون وظيفتهم الخيرة بالنسبة لحق المجتمع وسائر المواطنين من خلال الأدلاء بأصواتهم والمشاركة في الانتخابات فقط، في الواقع أنّ هذا التوهم متوفّر في أذهان الكثير من الناس وهو أننا عندما ندلي بأصواتنا في انتخابات مجلس الشورى «البرلمان» أو انتخابات رئاسة الجمهورية أو الانتخابات المماثلة، فإننا في الواقع أدينا وظيفتنا في مقابل المواطنين، وبالتالي أوكلنا المسؤولية إلى نوّاب المجلس، هذا خطأ كبير، في النظام الديمقراطي لا يتمّ أداء الواجب تجاه المواطنين من خلال الاشتراك في الانتخابات فقط، بل مضافاً إلى ذلك يجب أن أعيش هاجس الناس في المجتمع وحالاتهم وكيفية معيشتهم، فلا يكفي القول بأنني أديت واجبي في الإدلاء بصوتي وبعد ذلك يجب على نوّاب المجلس أداء مسؤوليتهم فيما يتصل بسن القوانين والمقررات أو عمل المسؤولين في الجهاز التنفيذي، وهذا النقص موجود في النظم الديمقراطية والغربية المعاصرة، فنحن لا نستطيع، بمجرّد التصويت، إبراز شفقتنا ومحبّتنا الباطنية لحال المواطنين في المجتمع ونكتفي بهذا المقدار ونحوّل المسؤولية إلى عهدة المسؤولين، وهذه النقطة في غاية الأهميّة، فالاهتمام بجميع الشؤون، وليس فقط في المسائل الخاصة، هي وظيفة الإنسان المعنوي وتمثّل نوعاً من حبّ الخير للناس، وطبعاً يستلزم أن يعيش الإنسان نوعاً من الشفقة العامة.
ويمكن بيان هذا الموضوع بلغة أخرى، فنحن في النظام الديمقراطي لا ينبغي أن نهتم بأنفسنا وزوجاتنا وأبنائنا من الذين نتحمل المسؤولية المباشرة عنه، بل ينبغي توسيع دائرة المحبّة في النظام الديمقراطي أكثر فأكثر، أمّا القول بأنّ واجبي يتمثّل فقط في المسائل الفردية والعائلية فهذا مخالف للأخلاق والمعنوية، إنّ توسعة دائرة المحبّة لتستوعب أفراداً أبعد من ذلك هي وظيفة أي إنسان أخلاقي ومعنوي.
النقطة الثانية، التي ينبغي غرسها في ذواتنا وباطننا، هي أن نسعى لتقليص النزعة الطفولية في ذواتنا، وأقصد بالنزعة الطفولية، التفكير بالمصالح الفورية والآنية، وعدم التفكير بالمصالح والمنافع على المدى الطويل، وعلى حدّ تعبير علماء النفس أنّ الشخص في هذه الحالة يفقد الاحساس بالمقارنة وإيجاد النسبة، يقول علماء النفس أنّ الأطفال لا يملكون شيئاً يسمى بايجاد النسبة. فالأطفال لا يملكون القدرة على إيجاد النسبة بين الأمور بشكل صحيح، ولا يستطيعون تشخيص المهم والأهم، فيرجحون النفع الصغير على النفع الأكبر، ولا يمكنهم إيجاد نسبة بين النفع الصغير والكبير، فينبغي علينا إيجاد وتوطيد هذا الحس بإيجاد حالة النسبة والمقارنة، وهذا يعني أنّه لا ينبغي أن نتحرك في النظام الديمقراطي وراء المنافع الآنية والفورية العاجلة ونسيان المنافع الأكبر، فأحياناً يتوجب علينا التضحية بالمنافع الآنية والعاجلة لصالح المنافع الأكبر على المدى البعيد، يجب على الناس وكذلك على نوّاب المجلس مراعاة هذه النقطة وترشيدها في ذواتهم وهي أن يعيشوا دوماً المقارنة وإيجاد النسبة بين السيء والأسوء وبين الحسن والأحسن، وبين المنافع الآنية والعاجلة والمنافع الآجلة والبعيدة المدى، والأشخاص الذين لا يملكون هذه الحالة الأخلاقية الباطنية يوقعون أنفسهم وكذلك نوّابهم بهذه المتاهة وينظرون إلى المنافع الآنية ويغفلون عن المسائل البعيدة المدى.
النقطة الثالثة، التي ينبغي علينا غرسها في ذواتنا هي التحرر الفكري، فجميع الأفراد في النظام الديمقراطي يجب أن يربوا أنفسهم على أجواء الحرية الفكرية بشكل تدريجي، فحرية الفكر تمنع وقوع الكثير من الآفات التي نشاهدها في النظم الديمقراطية، فربّما يحدث في النظام الديمقراطي غسيل للأدمغة وغرس تصديقات ومعتقدات زائفة بأساليب ديمقراطية تماماً، وبالتالي يعيش الناس بعقائد خاطئة، وتصورات موهومة وخرافية، فبالإمكان غرس مثل هذه العقائد والتصورات في أدمغة الناس من خلال أجهزة الارتباطات الجمعية، وبمنهج ديمقراطي، فمجرّد أن تكون المناهج ديمقراطية فإنّ ذلك لا يضمن أن تكون التصديقات والمعتقدات صحيحة، وإنّما نستطيع الحيلولة دون عملية غسيل الأدمغة ولا نكون مجرّد تابعين مستسلمين لما يلقى إلينا، فيما لو إمتلكنا حرية الفكر وزرعنا هذه الحالة في أنفسنا، وحرية الفكر هذه تحول دون غسيل الأدمغة أو غرس التصديقات الخاطئة في أذهان الناس، مضافاً إلى أنّها تحول دون إيجاد التزام أخلاقي معين بالنسبة الأشخاص الذين لا يستحقون مثل هذا الالتزام من قِبلنا، وكذلك تحول دون وقوعنا في أسر حالات التقليد لمن لا يستحقون تقليدهم.
في النظام الديمقراطي، رغم أنّ الغالبية هي الأساس للقرارات، ولكنّها لا تستدعي أن يكون رأي الغالبية على حقّ، إنّ اتخاذ رأي الغالبية أساساً للقرارات، بسبب أنّه لا يوجد طريق أفضل من ذلك لاتخاذ القرارات الجمعية، ونحن لا ينبغي أن نتلون بلون الجماعة وننصهر بالجو العام بحيث نغدو ظلاًّ باهتاً للجماعة ونتصور أنّ ذلك يملك قيمة إيجابية، فالأشخاص الذين لا يملكون حرية الفكر يشعرون بنوع من التماهي والتماشي مع أفكار العامة ويعدّون التلون بلون الجماعة فضيلة، إنّ الطريق الوحيد لمنع تزريق المعلومات الخاطئة في أدمغة الناس أنّ يتحرك الجميع على صعيد كسب حرية الفكر، وحرية الفكر تعني فقط أن يتحرك الإنسان في مقام العمل على أساس فهمه وتشخيصه، ويقبل أو يرفض الآراء، وعندما تضعف هذه الحالة في أفراد المجتمع فسوف تتبدل النظم الديمقراطية تدريجياً إلى نظم يحكمها أفراد قلائل يتولون تزريق أفكارهم في أذهان الناس ويتحدّثون بالنيابة عن الناس، وهكذا نسقط في الدور الذي أردنا الهروب منه، وتنكشف سوأة النظام الاستبدادي، وذلك أن يقوم شخص واحد بتولي انتاج ثقافة الناس وتلقينهم بما يفكر به هو، فعندما يتولى بعض الأفراد صناعة الثقافة والمعلومات ويلقونها في أذهان الناس ويقولون لهم إنّ هذه الأفكار هي مبنى حياتكم وسلوكياتكم، فمثل هذا النظام استبدادي وإن كان ديمقراطياً في الظاهر، إنّ حرية الفكر التي ينادي بها جميع المعنويون في العالم تقول بأنّكم يجب أن تعيشوا حياة أصيلة لا حياة مجازية، والحياة التي تقتبسون فيها أفكاركم من الآخرين لمجرّد أنّ الجميع أو الغالبية من الناس يعتقدون بها، هي مخالفة للحياة الأصيلة، والمعنويون يشتركون في هذه الخصوصية، وهي أنّهم يملكون نوعاً من الاعتماد على فهمهم وتشخيصهم، وعندما أتبعكم في أفكاركم والناس تتبع بعضها البعض في الأفكار والعقائد ويغرق الجمهور في حالات الانفعال بالانخراط في حركة التيار، فمثل هذه الحالة من شأنها أن تشل في الأفراد إرادة المواجهة ولا تنسجم مع روح المجتمع الذي يسير في خط الرقي والتقدم والإزدهار.
النقطة الرابعة، يجب غرس نوع من طلب الحقيقة في باطننا، ولا ينبغي أن نتصور أننا عندما نعيش في مجتمع ديمقراطي فإننا غير مكلّفين بالحركة في خط طلب الحقيقة، إنّ مسيرة طلب الحقيقة في باطن الفرد تعني مجابهة التعصب للرأي ورفض حالات الذاتية والعجب، لابدّ من التصدي لحالات التعصب والجزمية والجمود، وكل إنسان يطلب الحقيقة فهو أولاً يعيش بعيداً عن النرجسية، أي أنّه لا يقول إنّ الفكر الفلاني مطابق لفكري إذاً فهو فكر صحيح ومعتبر، ومن جهة أخرى لا يعيش طالب الحقيقة حالات الجزمية والجمود، أي لا يقول إنني وصلت في هذه المسألة لهذا الرأي وبعد ذلك لا اُريد سماع رأي آخر، ولا يقول إنني أبقى وفياً إلى ما أملكه من آراء، يجب كسر مثل هذا الوفاء للمعتقدات والآراء، وكلنا يعيش، قليلاً أو كثيراً حالة التعصب والجزمية والانغلاق على الذات، وهذه الحالة لا تتناسب مع النظام الديمقراطي الذي يعيش فيه أفراد المجتمع الانفتاح في آفاق الحياة على مختلف الآراء والعقائد بعيداً عن كل أشكال الجزم والجمود والانكماش.
النقطة الخامسة، والتي اُعبر عنها بعدم العنف، كما يقول غاندي: إنّه لا يكفي أن نجتنب العنف في الخارج، ينبغي أن نعتقد بالقبح الأخلاقي للعنف، وعندما نعتقد بقبح العنف أخلاقياً فإننا نلتزم بأمرين: أحدهما: فيما لو أردنا اقناع الطرف المقابل برأي معين فالطريق لذلك هو الاستدلال والحوار فقط ولا يمكن سلوك طريق آخر لإقناع الطرف المقابل، وهذه نقطة مهمة جدّاً، والآخر، الالتزام بالصدق وعدم استخدام أساليب الخداع والمراوغة يجب أن نعلم بأنّ باب الحوار والاستدلال إذا اُوصد، فلا يبقى أمامنا سوى طريقين: أحدهما العنف والآخر الخداع، والأشخاص الذين لا يريدون أن يصل بهم الأمر لاستخدام العنف والخداع فيجب سلوك طريق الاستدلال والحوار والصدق مع الآخرين، إنّ جميع الفاشيين، سواءً الفاشيين الذي تولوا السلطة في ألمانيا أو ايطاليا أو اسبانيا أو الفاشيين في البلدان الماركسية، يملكون خصوصيات مشتركة فيما بينهم، وذلك أنّهم يتحركون في تواصلهم مع الناس بآلية الخداع والمكر إذا استطاعوا لذلك سبيلاً، وإلاّ فيستخدمون آليات العنف معهم، إذاً لا يكفي أن نقيم نظاماً ديمقراطياً في فضاء المجتمع، فأن نكون في باطننا وذواتنا من أرباب الاستدلال والحوار الباطني أهم بكثير من إقامة نظام ديمقراطي في الخارج، وفي ذات الوت نعيش في الباطن حالة الاستبداد، ونتعامل مع الآخرين العنف.
ونحن غالباً في المناقشة والحوار نستمع حسب الظاهر لكلام الطرف المقابل، فعندما تتحدّث بصوت عال وأنا حسب الظاهر أتخذ جانب السكوت والاستماع، ولكنني أتوفر في باطني على أجوبة لكلامك فإنني في هذا الحال لا اُصغي لك، وعندما تتحدّث وأنا ألتزم السكوت، فلا ينبغي أن يكون سكوتي باللسان فقط بل نوع من السكوت الذهني، وليس السكوت الذهني فقط بل نوع من السكوت النفساني، وفي هذه الصورة فقط يمكنني أن اُصغي لكلامك لأستطيع فهمه جدّاً، وإلاّ فعندما تتكلّم وأنا أتحدّث مع نفسي في الباطن وأتهيأ للهجوم وطرح الأجوبة عن أسئلتك وانتقاداتك، فنحن لسنا في حوار، بل نقوم بعملية تبديل المواقع، فتارة تتحدّث بصوت عال وأنا بصوت منخفض، ثم يتبدل الموقع فأتحدّث أنا بصوت عال وأنت بصوت منخفض، والحوار إنّما يتحقق فيما إذا تحدّث كل من الطرفين بالمعنى الواقعي للكلمة، والآخر يسكت بالمعنى الواقعي للكلمة.
النقطة السادسة، المهمة جدّاً، هي أنّه يجب علينا أداء واجباتنا ومسؤولياتنا بأفضل وجه، وتسليط عدسة الرقابة على أنفسنا قبل الآخرين، ففي النظام الديمقراطي لا يصح أن نسلط الأضواء على الآخرين فقط لنرى هل أنّهم عملوا بمسؤولياتهم وأدوا واجباتهم أم لا، دون أن نسلط الضوء على أنفسنا وهل أننا أدينا ما علينا من واجبات ومسؤوليات بشكل جيد؟ إنّ المشكلة الكبيرة التي نعيشها تتمثّل في أنّ الشخص الذي يتولى مسؤولية معينة، بدلاً من مراقبة نفسه والتدبر في أنّه هل قام بواجباته بشكل جيد أم لا، فإنّه ينظر إلى الآخرين وإلى أعمالهم هل أدوا أعمالهم بشكل جيد أم لا؟ يجب أن نتعلم أنّ المجتمع بالمعنى الواقعي للكلمة ليس سوى أفراد البشر ولا يملك هوية أخرى غير هؤلاء الأفراد، وهذا يعني أنّه لا ينبغي أن يهمل الأفراد أعمالهم ونتوقع بعد ذلك أن تسير الأمور في المجتمع على ما يرام، يجب أن نتعلم أنّ المجتمع ليس سوى مجموعة الأفراد، وإذا حصر الأفراد في هذا المجتمع اهتمامهم بالنظر إلى أعمال الآخرين ولم يتساءلوا من أنفسهم هل أديت واجبي والمسؤولية الملقاة عليّ أم لا، فإنّ مثل المجتمع لا يصل إلى نتيجة مطلوبة، وهذه النقطة تقودنا إلى النقطة التالية.
النقطة السابعة، أنّ أفراد المجتمع الديمقراطي يجب أن يملكوا حالة الرقابة الباطنية على أنفسهم، فالمجتمع يحتاج دوماً إلى أفراد الشرطة، وأفراد الشرطة بدورهم يحتاجون من يراقبهم ويراقب أعمالهم، وهؤلاء المراقبين يحتاجون إلى مراقبين لأعمالهم وهكذا دواليك، فمثل هذا المجتمع حتى لو كان ديمقراطياً في العمق، فانّة لا يمثّل المجتمع المطلوب والمثالي، أنّ المجتمع الديمقراطي الناجح هو الذي يعيش فيه الأفراد الرقابة على أنفسهم، ولا نكتفي فقط بالرقابة الباطنية بل نتشدد في مراقبة طباعنا وأعمالنا، وهذه المسألة تختلف عن مسألة التماهل واللامبالاة، نحن لا اُريد أن نتشدد تجاه الآخرين ونتساهل بالنسبة لأنفسنا، نحن في الغالب نداري أنفسنا ونتساهل في الحكم عليها وبعكس ذلك نتشدد بالنسبة للآخرين، ولكن الصحيح عكس ذلك، فيجب أن نتشدد في التعامل مع أنفسنا ولا نغفر خطايانا وفي ذات الوقت نتسامح مع الآخرين، وهذا الأمر ليس بالهيّن، وللأسف لا نملك مثل هذه الحالة، إنّ جميع الأشخاص الذين يتحركون على صعيد الاصلاح الاجتماعي يؤكدون في كلماتهم على ضرورة التشدد في محاسبة الذات والتسامح مع الآخرين، وهذا الشيء أعلى من مجرّد الرقابة الباطنية، فالرقابة الباطنية لنا يجب أن تكون أكثر وأشد من الرقابة الخارجية.
النقطة الثامنة، التي يجب تقويتها في أنفسنا، أننا يجب علينا أن نصحح رؤيتنا عن العمل، فالمجتمعات التي يكون فيها العمل وسيلة فقط لكسب المال، فإنّ هذه المجتمعات مهما كانت ديمقراطية فإنّها لا تتحرك في خط النمو والازدهار، وقد ذكرت قبل سنتين فيما يتصل بالمسائل الأقتصادية وقلت: إننا إذا أردنا ترشيد وضعنا الاقتصادي في بلدنا فيجب الاهتمام بالتعاليم العرفانية، وقلت للأصدقاء في تلك الجلسة أنّكم ربّما تتصورون أنني ساذج جدّاً في هذا الكلام، وسوف تقولون: كيف يمكن حل المسائل الاقتصادية الحساسة في البلد بتعاليم العرفاء، ما هي علاقة العرفان بالاقتصاد؟ قلت هناك: ما هو مركز اهتمام في المسائل الاقتصادية؟ هل تتصورون أنّ المجتمع الذي يعيش التقدم والازدهار في مسائله الاقتصادية هو الذي يملك منابع طبيعية كثيرة، من النفط، والغاز، والنحاس، والذهب والفضة وما إلى ذلك، هل يعني ذلك قوة الاقتصاد؟ وهل يعني وجود أهل الخبرة من النخبة يتخذون مواقع المشاورة لصياغة البرامج اللازمة ويرسمون المخططات للنظام الاقتصادي؟ كل هذا لا يكفي رغم أنّ كلا هذين الأمرين ضروري في موقعه، ولكن النقطة المهمة هنا، إذا كان المجتمع يملك منابع طبيعية وفيرة وفي ذلك المجتمع يوجد خبراء ومشاورون اقتصاديون على أعلى مستويات، ولكن الناس لا يرون قيمة للعمل ويعتقدون أنّ العمل وسيلة فقط لكسب المال، فإنّ مثل هذا المجتمع لا يجد طريقه للرقي ولازدهار، إذا أردنا النجاح والازدهار فينبغي إشاعة تعاليم جلال الدين الرومي الذي يقول: الشخص الذي يأخذ مني المال ويعطني العمل فأنا أقبل ذلك، لأنّه يعتقد بوجود قيمة لعمله لا أنّ العمل مجرّد وسيلة لكسب المال، مثلاً لو أعلنتم في الراديو والتلفزيون أننا في هذا الشهر ندفع حقوق الموظفين في الدوائر الحكومية، سواءً عملوا في الدوائر أم لا، فسوف نرى ما هي النسبة المئوية من الموظفين الذين يحضرون إلى دوائرهم ويزاولون أعمالهم، لماذا؟ بسبب أنّه يعملون في وظيفتهم ليكسبوا المال، فعندما تدفع لهم المال، فلماذا يزاولون أعمالهم؟ وهذا يعني أنّ العمل وسيلة لكسب المال، ومفهومه أنّه ما لم تدفع المال فلا يتحرك الاقتصاد في طريق النمو، نحن ننظر إلى العمل على أساس أنّه تكليف ينبغي اسقاطه عن عهدتنا بأية قيمة، فلو أننا حصلنا على مال بعمل أقل فسوف نرحب بذلك ونقبله، وحتى لو حصلنا على المال بدون عمل فسوف نرحب أكثر، وطبيعي أننا في مثل هذا الجو الثقافي لا نستطيع الحركة في خط الرشد والنمو، يجب علينا تلقين أنفسنا بأنّ العمل جوهر الإنسان، سواءً كان عملاً بدنياً أو ذهنياً أو روحياً، فالعمل لا ينحصر بالعمل البدني فقط، وهذه هي جوهرة الإنسان، ولو ترتب عليه نتيجة فرعية تسمى كسب المال فهو، وإذا لم يترتب عليه ذلك فيبقى العمل يملك قيمة ذاتية.
هذه النقاط الثمان يجب غرسها في أنفسنا وتحريك مفاهيمها في فضاء المجتمع وفي ثقافته الديمقراطية، ولا ينبغي أن نتصور أننا إذا عشنا رحاب النظام الديمقراطي في مجتمعنا فإننا لا نحتاج بعدها إلى هذه الأمور المعنوية.
—–



#أحمد_القبانجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في البلورالية الدينية او الصراطات المستقيمة
- الايمان, السياسة, الحكومة
- العلم الالهي وحرية الانسان
- تحقيق في اخر اللحظات التي عاشها المسيح
- في نقد برهان النظم
- التقليد والتحقيق في سلوك طلاب الجامعة - د. عبد الكريم سروش
- نظرة عامة في براهين وجود الله
- دوافع جعل الحديث عند الشيعة
- مدرسة الجشتلت ... علم نفس الشكل
- المجتمع المدني مجتمع تحت سلطة القانون
- القرآن والتحدي بمجموع الآيات
- التفسير السيكولوجي لظاهرة الايمان بالله
- منهج العقل الديني في التعامل مع المعارف والمطالب الدينية
- التفسير السسيولوجي لظاهرة الايمان بالله
- التجربة الدينية للنبي
- هل الدين معيار للعدالة أو العدالة معيار للدين؟
- القراءة السطحية للنصوص
- -لا للديمقراطية- هو الشعار الحقيقي للإسلام السياسي
- صورة الله عند الفلاسفة
- من انجازات النبي ... توحيد القبائل والشعوب


المزيد.....




- عائلات الأسرى تتظاهر أمام منزل غانتس ونتنياهو متهم بعرقلة صف ...
- منظمة العفو الدولية تدعو للإفراج عن معارض مسجون في تونس بدأ ...
- ما حدود تغير موقف الدول المانحة بعد تقرير حول الأونروا ؟
- الاحتلال يشن حملة اعتقالات بالضفة ويحمي اقتحامات المستوطنين ...
- المفوض الأممي لحقوق الإنسان يعرب عن قلقه إزاء تصاعد العنف فى ...
- الأونروا: وفاة طفلين في غزة بسبب ارتفاع درجات الحرارة مع تفا ...
- ممثلية إيران: القمع لن يُسكت المدافعين عن حقوق الإنسان
- الأمم المتحدة: رفع ملايين الأطنان من أنقاض المباني في غزة قد ...
- الأمم المتحدة تغلق ملف الاتهامات الإسرائيلية لأونروا بسبب غي ...
- کنعاني: لا يتمتع المسؤولون الأميركان بكفاءة أخلاقية للتعليق ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - أحمد القبانجي - الديمقراطية والمعنوية