أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد القبانجي - الايمان, السياسة, الحكومة















المزيد.....



الايمان, السياسة, الحكومة


أحمد القبانجي

الحوار المتمدن-العدد: 3967 - 2013 / 1 / 9 - 03:55
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


بقلم: محمد مجتهد الشبستري
ترجمة: أحمد القبانجي

يواجه المفكرون المسلمون اليوم إشكالية مهمة تدور حول كيفية إيجاد علاقة معقولة بين الإيمان والسياسة والحكومة، وأنا أبحث هذا الموضوع من موقع المتكلّم الديني (وليس الفقيه الديني)، ومهمة المتكلم الديني أو عالم الكلام هي السعي لإيجاد رابطة منطقية بين الإيمان الديني وسائر أنماط المعرفة البشرية بصورة منتظمة.
وفي هذا الصدد نبحث خمسة مواضيع نسعى من خلالها لبيان أوجه الغموض فيها وتحليل مفرداتها وتفاصيلها. وهذه المواضيع الخمسة تعين الإنسان المسلم على إيجاد رابطة معقولة بين الإيمان
والسياسة والحكومة. اعتقد أنه ما لم تسُدْ في أجوائنا الثقافية مثل هذه الأبحاث فإننا لا نتخلّص من الكثير من التعقيدات السياسية والاعتقادية. وأساس البحوث الكلامية التي تأخذ على عاتقها تنظيم الرابطة بين الإيمان الديني مع سائر المعارف البشرية يقوم على مبان دينية، ومن هنا تتمّ صياغة سلوك الإنسان المسلم في دائرة التعاليم الدينية، إذْ إن الاهتمام بمثل هذه المسائل الكلامية يُعتبر في الدرجة الأولى من الضرورة والأهمية.
هذه المواضيع الخمسة التي سأتحدّث عنها في هذه المقالة تمثل أهمّ المواضيع التي لفتت أنظار المفكرين المسلمين في المائة وخمسين سنة الأخيرة، أي في بداية التحولات السياسية والاجتماعية في عالمنا الإسلامي، وكل واحدٍ من هذه المواضيع الخمسة يتضمن تيارين إسلاميين يختلفان في دائرتي النظر والفكر، وسأستعرض كلا هذين التيارين مع تحليل لمقولة كل منهما حيث ستتضح المباني التي تقوم عليها منظومة الفكر و الاعتقاد في كل منهما والنتائج المترتبة على الأخذ بكل واحدة من هاتين المنظومتين الفكريتين.

الموضوع الأول:العمل السياسي وظيفة أم حق؟
كيف يمكن للإنسان المسلم تقييم العمل السياسي من موقع الوحي ((الكتاب والسنّة)) الذي هو دعامة الإيمان الإسلامي؟ فإذا التفتنا بدقة إلى القيود المذكورة في هذا السؤال أمكننا التحدّث عن هذا الموضوع بصورة واضحة، إذْ يجب أن نقوم بتعريف كلمة ((السياسة)) في البداية كيما يمكننا أن نتعقل إيجاد العلاقة بين الإيمان والسياسة. وهنا أعرّف السياسة بما هي عمل سياسي، فالعمل السياسي عبارة عن تصميم الإنسان وتحرّكه على مستوى الحياة الإجتماعية وعلاقات الأفراد في داخل المجتمع بهدف إيجاد النظام وتحسين أجواء الحياة في مختلف أبعادها المجتمعية ((لا الفردية)) وهذه النشاطات والأعمال إنما تكون بهدف تصحيح وإشباع الحاجات، والتقليل من المشكلات والسعي للارتقاء بأفراد المجتمع وتوظيف قابلياتهم المختلفة.
والسؤال الأساسي في هذا المجال هو: ماذا نقصد بالعمل السياسي في دائرة الفكر الإيماني وكيف يتم تقييمه؟ فهل أن المسلم عند قيامه بنشاطات سياسية يريد بذلك هذه الحياة الدنيا والتقليل من المشاكل التي تواجه أفراد المجتمع في هذه الحياة؟ وهل هذا الإقدام العملي يجب أن يكون بعنوان تكليف ووظيفة دينية للإنسان المسلم، أو يؤخذ هذا السلوك بعنوان أنه ((حق)) لكل فردٍ من أفراد المجتمع يمكنه المطالبة به والعمل على وفقه؟
ومن أجل أن يتضح معنى هذا السؤال يجب أن نطرح سؤالاً آخر قبل ذلك ونستعرض نمطين من الفكر الديني تجاه هذا السؤال.
هل أن حركتنا الدنيوية في إشباع الغرائز وإرضاء الدوافع البدنية والنفسية في هذه الدنيا هو من باب الضرورة وبصورة مقدمة لتحقيق هدف أصيل آخر؟ وهل أن الرؤية الصحيحة هي أن هذه الأعمال بنفسها غير مطلوبة وغير مقدسة ((لا ضد المقدس)) وإنما هي من باب الضرورة لأدارة حياة الإنسان بهدف الوصول إلى السعادة الأخروية؟ هل يصح أن نقول أن المدح لنظام الخلقة الوارد في القرآن الكريم لا يشمل هذه الظواهر الدنيوية وأن الله لا ينظر إلى من يتحرك لإشباع هذه الحاجات الدنيوية نظر محبّة بل من باب رفع الضرورة الناشئة من النقص الذاتي في عالم المادة؟ وهذا يعني أن الله تعالى قد جعل وظيفتين أساسيتين للإنسان: إحداهما تسبيح الذات المقدسة وعبادتها، والأخرى خدمة الناس والسعي لقضاء حوائجهم، وأمّا المتع الطبيعية واللذائذ المادية فهي خارجة عن هاتين الوظيفتين وإنما تكون مورد رضا الله تعالى لأنها تمثل مقدمة لإدامة حياة الإنسان وسعيه في أداء وظائفه الأساسية، فنحن مكلّفون بإشباع غرائزنا وحاجاتنا المادية لنستمر في الحياة ونعمل على أساس تلكما الوظيفتين الأساسيتين ((العبادة لله والخدمة لخلق الله)) وأمّا إشباع الغرائز فهو وظيفة مقدماتية والإلزام فيها ناشئ من الإلزام في الوظائف الأصلية. ومن هنا فقد ورد في بعض التعاليم الدينية أن الإنسان هو مخلوق مسؤول ومكلّف أمام الله تعالى.
أو نقول أن التفكير السليم في هذا الباب وطبيعية تمتّع الإنسان في هذا العالم مطلوبة بنفسها ومورد رضا الله تعالى في مدحه لنظام الخلقة على أساس الأصالة وليس من باب المقدمة والضرورة، فعندما يتحرك الإنسان على مستوى إشباع حاجاته وإرضاء غرائزه والتمتع المباح في هذه الدنيا فإن قسماً من ((الجمال الإلهي)) يتجلّى في واقع الإنسان ويتكامل نظام الخلقة، إن تكاليف الإنسان في مقابل الله تعالى مهمّة جداً ولكن الإنسان ليس كائناً مسؤولاً فقط بل إن الإنسان في دائرة المفاهيم الدينية يعيش حالة العبودية لله وهي عبارة عن الحياة طبقاً لإرادة الله.
وهذا المفهوم أعم من الوظيفة والمسؤولية، وفي هذا المفهوم يكون الإنسان هو العبد وليس ((المكلف)) وحينئذٍ تكون التمتعات الطبيعية للإنسان متوافقة مع الإرادة الإلهية لأنها تمثّل جزءاً من الحياة الطبيعية للإنسان، ومقدمة لعبودية الإنسان لله تعالى، كما أن العمل بهاتين الوظيفتين الأساسيتين ((العبادة والخدمة للناس)) أيضاً يكون متوافقاً مع الإرادة الإلهية ومقدمة لعبودية الإنسان للحق تعالى، فالتمتعات الطبيعية للإنسان من قبيل طلب الرزق تعتبر في دائرة المفاهيم الوحيانية للإسلام من قبيل العبادة.
ونلاحظ أن هاتين الرؤيتين غير متوافقتين في الرؤية إلى العالم، وكل من هاتين الرؤيتين تقوم على أساس الإجابة الخاصة عن هذا السؤال: هل أن العمل السياسي وظيفة أم حق؟ فأصحاب الرؤية الأولى يرون أن انشغال الإنسان بالتمتعات الطبيعية عبارة عن وظيفة مقدماتية، وهكذا الحال في العمل السياسي أيضاً، فهؤلاء يقولون أن إجراء النظْم (ونظْم أمركم) بالحياة الإجتماعية يعد ضرورة، والضرورة هنا بمعنى أن الناس لا يمكنهم الحياة بشكل طبيعي في الدنيا إلاّ من خلال النظْم في دائرة الحياة الإجتماعية والعمل بوظائفهم الشرعية، فهنا نرى أن العمل السياسي بمثابة استجابة لهذه الضرورة وهي إقامة النظام الإجتماعي، ليتمكن الإنسان من العمل بوظيفته الشرعية الأساسية، وبمقتضى هذا الاعتقاد فالعمل السياسي يعتبر وظيفة مقدماتية، والجانب الإلزامي لهذه الوظيفة مقتبس ومترشّح من الإلزام في الوظائف الأصلية للإنسان وهي عبادة الخالق والخدمة للخلق.
ولكن الله تعالى لا ينظر بعين المحبة والرحمة لهذا النمط من العمل البشري بالحياة الدنيا، ومن هنا فإن اتباع هذه الرؤية يطلبون من الناس أن يقوموا بأعمالهم السياسية بقصد القربة لله تعالى ويتصوّرون أن مثل هذه الأعمال تُهييء الأرضية اللازمة للتكامل المعنوي لأفراد المجتمع وإزالة الباطل من أجوائه أو إعادة الحقوق إلى أصحابها، بمعنى أنّ جميع الطرق تنتهي بمعيار التكليف والوظيفة الشرعية.
وأمّا أتباع النظرية الثانية فإنهم يرون العمل السياسي من زاوية أخرى، ففي نظر هؤلاء أن المشاركة في الحياة السياسية والإجتماعية والتحرّك نحو الإستفادة من اللذات الطبيعية لها أصالة بحدّ ذاتها وليست مقدمة إلى شيء آخر، وهذه الأصالة تعني أن المشاركة السياسية هي إحدى الظواهر الممدوحة في عالم الخلق، فعندما يساهم الإنسان في الحياة السياسية فهو في الحقيقة يعمل في إطار تحسين الحياة الدنيوية لجميع الأفراد ليعيشوا الرفاهية والهناء ويساهموا في التقليل من المشاكل والمصاعب والتحدّيات التي تواجه الإنسان في حركة الحياة، إن المساهمة في الحياة السياسية هي نوع من التدبير البشري لشؤونه الفردية والإجتماعية، وهذا التدبير يستسقى من ((الحق)) الذي وهبه الله تعالى للإنسان وليس عملاً بالوظيفة الشرعية.
وفي نظر هؤلاء المفكرين , أن المؤسّسات السياسية الدينية هي مؤسّسات مدنية وعرفية كما هو الحال في مؤسّسة الزواج والطلاق مثلاً، فوضع المقرّرات الشرعية لمثل هذه النشاطات الاجتماعية لا يعني خروجها من هويتها المدنية، ووضع المقررات الأخلاقية في دائرة الحكومة لا يوجب خروج هذه المؤسسة السياسية عن هويتها المدنية أيضاً، وقد ورد في الكتاب والسنة مفردات من قبيل ((الحكم)) و ((الملك)) في بيان دور هذه المؤسسات السياسية كما ورد التعبير عن البيع، والشراء، والزواج والطلاق، فكلّها من التدبيرات البشرية والعقلائية والعرفية من أجل الاستمرار في حركة الحياة، أمّا تصميم الإنسان للعمل في هذا الطريق إنما هو ((استفادة من الحق)) لا العمل بالوظيفة، فكل تصميم وتدبير يتعلق بالحكومة هو تدبير بشري وعقلائي يستوحي مقوّماته من عنصر الحق لا العمل بالوظيفة الشرعية. وهذا لا يتنافى مع وجود بعض المقررات الأخلاقية في الكتاب والسنّة لهذه الأعمال المدنية.
ويعترف هؤلاء المفكّرون بوجود مفاهيم أخرى في الكتاب والسنّة من قبيل: القيام بالقسط، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التصدي للظلم، وأمثال ذلك مما له هوّية معيارية ولكنْ، في إطار بيان بعض الوظائف والتكاليف الشرعية، فهذه كلها مفاهيم مستقلة تماماً، وفي الحياة السياسية للمجتمع البشري قد تطرأ بعض الأحوال والأوضاع السلبية التي تستدعي من أفراد المجتمع القيام بالقسط أو مخالفة للظالم أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه تكاليف شرعية تتوجّه إلى المكلّفين في شرائط وظروف خاصة ويجب على الإنسان التحرك في دائرة العمل بها، ولكن في نظر هؤلاء المفكرين لا يوجد هناك واجب شرعي في النصوص الدينية يسمى ((تشكيل الحكومة)) فهذا المعنى يشير الى وجود ارتباك في معرفة المفاهيم الدينية وعدم القدرة على تشخيص المصاديق الواقعية لها.
إن الأبحاث والدارسات التي تؤكّد على أن الدين لا ينفصل عن السياسة في دائرة الفكر الديني لدى المسلمين إنما هي عبارة عن سعي التيار الأول للأجابة عن هذا السؤال الأساسي، وينبغي الإلتفات إلى أن المراد من هذه العبارة قد يكون بمعنيين مختلفين، فالبعض يقصد من هذه العبارة ((أن الدين لا ينفصل عن السياسة))، بمعنى أن كل نوع من العمل السياسي يندرج تحت عناوين شرعية، وعندما يكون مقترناً مع قصد القربة يكون عملاً دينياً.
أمّا أصحاب الرؤية الثانية فعندما يقولون هذه العبارة فإنهم يقصدون منها شيئاً آخر، وهو أن العمل السياسي حتى لو لم يكن بقصد القربة بل كان من قبيل الممارسات الطبيعية للإنسان فإنه يكون مورد رضا الله تعالى وعنايته لأنه يساهم في تدبير وتحسين أمور الناس الحياتية والمعيشية، وهنا يكون الإنسان في حال العبادة أيضاً لأنه يسير في خط الإرادة الإلهية والطاعة والعبودية حيث تتجلى الأسماء والصفات الإلهية على هذه الأعمال والنشاطات.
إذن فالعمل في الدائرة السياسية يدخل ضمن التديّن والعبودية لله تعالى. ويظهر الفرق بين هاتين النظريتين عن العمل السياسي في النتائج، فعلى أساس النظرية الأولى حيث تكون الاستمتاعات الطبيعية من باب الضرورة والمقدمة، فإن معنى تحسين الوضع المعاشي للناس، وهو موضوع العمل السياسي، سيكون محدوداً جداً، ويكون المعيار لذلك الإنطباق على الظواهر الدينية في المجتمع، فعندما يرى أولياء الأمور أنها متطابقة مع الشرع يتصورون أنه لا توجد مشكلة حقيقية في هذا المجتمع وأن جميع حاجات الناس قد ارتفعت، وفي مثل هذه الرؤية لا تؤخذ حاجات الناس الواقعية مأخذ الجد، وأمّا على أساس الرؤية الثانية من اتحاد العمل السياسي والدين فإن ((الرفاه الإقتصادي والإجتماعي العام)) يتمتع بالأصالة، ومن هنا يخضع الوضع السياسي والإقتصادي للمجتمع إلى محاسبات دقيقة علمية عن واقع الفقر أو الرفاه في المجتمع لا على أساس الظواهر الدينية، ويسعى المسؤولون وفق حسابات علمية إلى حلّ مشاكل الناس ورفعها بصورة جدّية وواقعية.
ونستنتج من هذا التحليل أن كلا هذين التيارين يواجهان سؤالاً جدّياً، هو: هل أن الله تعالى أراد للإنسان حياة مرفّهة ومنعّمة في هذه الدنيا بالأصالة ((وليس بعنوان الضرورة والمقدمة))؟ إنّ أتباع الطائفة الأولى لا يمكنهم الجواب عن هذا السؤال بوضوح وشفافية، ولكن أتباع الطائفة الثانية يجبيون بدون تردد: نعم.

الموضوع الثاني: نظرية سياسية أم تعليمات سياسية؟
أخذ هذا الموضوع مساحة كبيرة من الأبحاث والدراسات الجدية للمفكرين الإسلاميين وخلاصته: هل توجد نظرية سياسية في الكتاب والسنّة مضافاً إلى التعليمات السياسية، أم أن النصوص الدينية تقتصر على تعليمات سياسية للمسلمين من دون طرح نظرية سياسية خاصة؟
لابد أوّلاً من معرفة المراد من النظرية السياسية هنا، فلو أردنا تعريف النظرية السياسية بملاحظة الهدف والغاية فلابد أن نقول: أن النظرية السياسية هي النظرية التي تهدف إلى إعطاء تصور عام للإنسان عن الوضع السياسي في المجتمع، فالنظرية السياسية توضح المراد من المؤسسة السياسية، وكيفية حدوث التحولات السياسية، ومن هم القائمون على أمر سياسة المجتمع. كما إن النظرية السياسية تهدف إلى بيان الجواب على الأسئلة التالية:
هل توجد معايير طبيعية للعدالة؟ وما هي العلاقة الصحيحة التي ينبغي أن تكون بين الفرد والمجتمع؟ ومن هو الذي يجب تفويض الأمور إليه؟ وما هي العناصر التي يتشكل منها المجتمع المتكامل؟ وهل هذا المجتمع هو الذي يعيش فيه الإنسان بأمن وطمأنينة ويحس بالرضا عن حالته المعيشية؟ وكيف يمكن أن تتحرك المؤسسات السياسية في عملية تنظيم الأمور بحيث لا يتمكن حكّام الجور من إلحاق ضربات كبيرة بالفرد والمجتمع؟
وهنا يُطرح السؤال التالي:
هل توجد نظرية سياسية في الكتاب والسنّة بهذا المعنى؟ هل توجد إجابات واضحة عن هذه الأسئلة في النصوص الدينية؟ وهل من الصحيح أن نسعى إلى استخراج ((نظرية سياسية)) من هذه المصادر الدينية ونسميها ((نظرية وحيانية وإسلامية))؟
البعض يرى أن الإسلام طرح نظرية سياسية خاصّة بإمكانها الإجابة عن كل تلك الأسئلة ويجب على المسلمين أن يتحركوا في نشاطاتهم السياسية على أساس هذه النظرية، ولكن البعض الآخر من المفكرين المسلمين ينكرون وجود نظرية سياسية في الكتاب والسنّة ويرون أن هذا المعنى لا ينسجم مع شؤون الدين والكتاب والسنّة.
هؤلاء يرون وجود ((تعليمات سياسية)) في النصوص الدينية وليس نظرية سياسية، وهذه التعليمات الواردة في المصادر الدينية تتجاوز الحياة الفردية للإنسان، أي إنها تنظر إلى الحياة الإجتماعية والسياسية لأفراد المجتمع، ولكن هذا لا يستلزم وجود نظرية سياسية في التعليمات الشرعية بل إن التعليمات الواردة في الكتاب والسنّة تتضمن نظريات حول هوية الإنسان وشخصيته.
والنظرية السياسية أعمّ وأوسع من تشخيص هوية الإنسان، فكل فيلسوف في السياسية له نظرية سياسية أيضاً وتبتني نظريته على أساس تشخيص رؤيته عن الإنسان وهويته، ولكن النظرية السياسية لا تساوي الحديث عن هوية الإنسان.
وعلى سبيل المثال فعندما يطرح ((هوبز)) نظريته السياسية فهو يؤسسها على قاعدة معرفية في شخصية الإنسان وهويته، وهناك نظرية سياسية أخرى للفيلسوف ((أريك فروم)) الذي يختلف في نظرته للإنسان عن هوبز، يقول فروم: (الإنسان موجودٌ عاشقٌ للتعالي والسمو) وعلى أساس هذا التصور بنى نظريته عن النظام السياسي، وأمّا ((ماركس)) فأهم مسألة لدى الإنسان في نظره هي ((الغربة عن الذات))، ولهذا نجد أن نظرية ماركس السياسية تختلف عن نظريات الآخرين حيث استهدف بالأساس رفع هذه الغربة عن واقع الإنسان.
وهناك نظرية لجان جاك روسو في النظام السياسي الأصلح للمجتمع البشري حيث يرى أن كل فساد وخلل في المجتمع البشري إنّما هو من صناعة الإنسان نفسه في إطار علاقاته الإجتماعية، فالإنسان في وضعه الطبيعي هو موجود خيّر، فإذا تطابق النظام الإجتماعي مع ذلك الوضع الطبيعي والفطري فسيرتفع الفساد والخلل من مفاصل المجتمع، ولهذا كان روسو متعصباً بشدّة في مقابل التمدن البشري ومخالفاً للحضارة والتقدم العلمي حيث يرى أن التمدن يضع الأغلال في يدي الإنسان ورجليه ويسلبه حالته الفطرية والطبيعية التي كان فيها طاهراً من الشرور والأنانية، والتربية الخاطئة هي المسؤولة عن تحوّل طبيعة الإنسان نحو الشر والأنانية. إن أتباع النظرية الثانية التي تنكر وجود نظرية سياسية في الكتاب والسنّة يقولون بأن ما ورد في القرآن الكريم إنّما هو سلسلة من الصفات والدوافع البشرية من قبيل ((يؤوس، عجول، هلوع، ظلوم وأمثال ذلك)) وهذا لا يعني وجود نظرية سياسية في البين، وعلى سبيل المثال قوله تعالى:ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس... .
فمن هذه الآية لا يمكن استخلاص مقولة أن القرآن الكريم يؤيد نظرية ((الوضع الطبيعي)) وأن الفساد والإختلال إنما ينشأ من الأجواء الإجتماعية، ولكن هؤلاء المفكرين يؤيدون وجود تعليمات سياسية في النصوص الدينية، وهذه التعليمات السياسية تختلف عن التعليمات المتعلقة بالأخلاق الفردية، فالتعليمات السياسية عبارة عن سلسلة من المفاهيم الأخلاقية والإنسانية التي ترسم شكل العلاقات الإجتماعية بين الأفراد، وهذه التعليمات والمبادئ يمكنها أن تجيب على الأسئلة من قبيل: هل ينبغي فسح المجال لأفراد المجتمع في مجال الفكر وحرية البيان؟ هل ينبغي تقسيم الفرص والإمكانات في المجتمع بشكل متكافئ؟ هل يجب أن يقف جميع أفراد المجتمع أمام القانون بصورة متساوية؟

الموضوع الثالث: المفاهيم الكلّية وتفاصيل الواقع
محور هذا الموضوع هو: هل أنّ التعليمات الأخلاقية والسياسية المذكورة في الكتاب والسنّة تقبل الإنطباق على جميع الموارد؟ أو أنها عبارة عن مقولات كلية وانتزاعية ينبغي تعيين علاقتها مع: القابليات، الضرورات، الواقعيات، الإمكانات، أي ينبغي رسم العلاقة بينها وبين المصاديق المذكورة ثم الحكم بعد ذلك؟
فالبعض يرى بأنّ للعدالة في الكتاب والسنّة معنى معيناً ومحدوداً ووظيفتنا تجسيد ذلك المعنى في واقع المجتمع المعاصر، وكأنّ المجتمع في نظر هؤلاء المفكرين هو أمرٌ يقبل التأسيس والبناء كما هو الحال في طرح المهندس لخارطة البناء ثم يُبنى البناء على أساس تلك الخارطة، فالمعنى الذي ذكره الله تعالى في النصوص الدينية للعدالة بمثابة ((خارطة العدالة)) ووضعها في اختيار الإنسان وأمره أن يجسد ذلك في حياته الإجتماعية.
هؤلاء المفكرون تصوروا أنّ ((المجتمع المثالي)) هو مفاهيم كلية انتزاعية تدور في مجال الفكر وما عليهم إلاّ تجسيدها في الواقع الخارجي.
ولكن أتباع النظرية الثانية يرون إن هذا الكلام عقيم وإنّ طريق الحل هو أن ننظر إلى الواقعيات الإجتماعية الموجودة، فلابدّ من قراءة الضرورات والإمكانات والقابليات الموجودة في المجتمع أولاً، ثم النظر إلى تلك المفاهيم الكلية والإنتزاعية ودراسة نسبتها إلى حالة معينة مشخّصة في الواقع الخارجي. فالقابليات تعني ما يمكن أن يتحقق، والضرورات تعني ما يمكن أن يحدد هذه القابليات، والواقعيات تعني تلك الأمور التي تفرض نفسها على الواقع والإنسان، والإمكانات تعني تلك الأشياء التي يستطيع بها الإنسان من تحصيل أشياء أخرى بواسطتها.
فإذا اُخذت هذه الأمور كلها بنظر الأعتبار فحينئذٍ يمكن أن يقال أنها مصداق للعدل أو مصداق للظلم، مصداق لحرية البيان والفكر أو مصداق للاستبداد، إنّ أنصار هذه النظرية يهدفون إلى إصلاح الوضع الموجود فعلاً على أرض الواقع ولا يفكرون في مجتمع مثالي وأحلام طوباوية بعيدة عن الواقع، ففي نظر هؤلاء لا توجد نسخة جاهزة تذكر جزئيات العدالة والحرية في كل مجتمع ليقوم الإنسان بتطبيقها وتحقيقها، فهذه المفاهيم تظهر بصور مختلفة في المجتمعات البشرية، ويلعب الزمان والمكان دوره المهم في تعيين مصاديق الظلم والعدل، فالتعريف الكلي والمفهومي للعدل والظلم لا يتغيّر، ولكن المصاديق هي التي تتغير وتختلف، وعلى هذا الأساس فإن العامل الأساس في مصداقية العدل والظلم في المجتمع البشري إنما هو عيّنات ذلك المجتمع من جهة، وكذلك ما يعيشه الإنسان في شعوره ووجدانه من أفراحٍ وأتراحٍ من جهة أخرى.
فمع الأخذ بنظر الإعتبار هذه الأمور العينية والموضوعية يمكن القول بأن هذا المجتمع يسوده العدل أو الظلم. بمعنى أنّ النظام السياسي يجب أن يقوم على أمرين مهمين هما: تفسير المفاهيم الكلية، والإدراك العميق للواقعيات.

الموضوع الرابع: صياغة مبادئ أم الانسجام مع المبادئ؟
ينطلق هذا الموضوع من فرضية عدم وجود نظرية خاصّة للحكومة في الكتاب والسنّة، فما هو موقف المسلمين بالنسبة إلى شكل الحكومة والنظام السياسي؟ هل يمكنهم صياغة شكل خاص للحكومة والقول بأن هذه الصياغة إسلامية؟ وبعبارة أخرى هل أن النظام السياسي للمسلمين يجب أن يسترفد أصوله ومعاييره من الكتاب والسنّة، أو أنّ هذا النظام لا ينبغي أن يتقاطع مع الأصول والمبادئ الإسلامية وحسب؟
البعض قالوا بأن الحكومة أو النظام السياسي يجب أن يكون مبنياً أو قائماً على أساس القيم الإسلامية والمبادئ الوحيانية، ولكن البعض الآخر يرون كفاية عدم تقاطع النظام السياسي مع المبادئ والأصول الدينية، ففي نظر هؤلاء لا يمكن الحديث عن أيّ نظام سياسي بأنّه مبني على أصول وقيم معينة، بل إن ما يمكن ادّعاؤه أن هذا النظام غير مخالف لتلك الأصول والقيم، فعدم وجود الظلم قد يكون واضحاً ولكن وجود العدالة لا يمكن توضيحه بسهولة، ولهذا لا يمكن إطلاق كلمة حكومة إسلامية بسهولة على نظامٍ معين بمجرد وجود بعض الظواهر الدينية فيه، وهذا يعني أنّ إسلامية النظام هي غير تنفيذ القوانين الإسلامية في المجتمع!
وهنا يواجهنا تساؤل مهم ضمن هذا الموضوع، وهو: كيف يمكننا معرفة أن هذا النظام السياسي منسجم مع القيم الإسلامية أو غير منسجم، أو أن العمل السياسي الفلاني هو من مختصات رجال الدين أو يمكن للآخرين إبداء نظرهم في ذلك؟ وبعبارة أخرى: هل هناك إلزام شرعي وأخلاقي نابع من الكتاب والسنّة يؤكّد على أن الناس يجب عليهم التقليد في الأمور السياسية؟ هناك الكثير من المفكرين يرون عدم وجود مثل هذا الإلزام الشرعي ولا ينبغي على الناس التقليد في مثل هذه المسائل.
أمّا الأساس الذي يقوم عليه مثل هذا النمط من التفكير فهو أن القيم السياسية والمبادئ التي يقوم عليها العمل السياسي والذي هو مورد قبول الإسلام ليست من قبيل الحقائق الشرعية التي يختص أمر الفتوى بها برجال الدين، لأن هذه الأصول والمبادئ إنما هي مفاهيم إنسانية وعُرفية وقد جاء الشرع لتأكيدها، ومن هنا يكون إظهار النظر في هذه الأصول وأنها منسجمة أو غير منسجمة مع الدين هو عملٌ من حق الجميع، وهو بالتالي يؤدي إلى ترشيد الذهنية السياسية للناس ويتعلق بمدى فهمهم السياسي وحجم إطّلاعاتهم ومعلوماتهم عن الواقع الإجتماعي والسياسي في المجتمع، وهذا يعنى أنّ قبول هذه المبادئ من قبل الناس لا يُفترض أنْ يكون بمثابة التقليد الشرعي.

الموضوع الخامس: هل التصويت عقد شرعي أم التزام أخلاقي؟
وهنا نتساءل: هل أن القوانين والمقررات التي يتم التصويت عليها في المجتمع الإسلامي لها حكم القوانين الشرعية وأن التخلّف عنها يكون ((معصية)) ويستوجب العقاب الأخروي؟ أو يقال بأن هذه القوانين لا تستوجب سوى التعهد العقلائي والتخلف عنها لا يستدعي ذنباً ولا عقوبة إلهية وإنْ استوجبت عقوبة قانونية ودنيوية؟ فالحكومة لها الحق من أجل حفظ نظام المجتمع أن تقرّر بعض العقوبات على المتخلفين عن هذه القوانين فقط ولا يستوجب إرتكاب ما يخالف القانون ذنباً ومعصيةً إلاّ اذا كان ذلك العمل ((حراماً شرعياً))، ولكل واحد من القولين دلائل ومبررات، فأصحاب النظرية الأولى يقولون إن طاعة الحكومة الإسلامية واجبة في الكتاب والسنّة، وهذا الوجوب هو وجوبٌ شرعي، ويرى بعض هؤلاء ممن يميل إلى الديمقراطية بأن المسلمين عندما يدلون برأيهم لصالح القانون الأساسي الذي يرسم ويعيّن شكل الهيئة الحاكمة والنظام السياسي فإنهم في الواقع يتعهدون بالإلتزام بمقررات وقوانين هذه الحكومة، وهذا هو عقدٌ مشمول للأمر الإلهي الكلي:أوفوا بالعقود.
فكما أنّ الشخص الذي يخرج بدون دليل ومجوز عن مقتضيات ((عقد البيع)) ولا يسلّم البضاعة التي باعها واستلم ثمنها إلى المشتري فإنه قد ارتكب عملاً مخالفاً للشرع، فهكذا الشخص الذي لا يفي بعقوده الإجتماعية ويرتكب مخالفة لمقررات الحكومة الإسلامية. فعلى أساس هذا الكلام يكون التصويت للقانون الأساسي بمثابة ((عقدٌ شرعي)) بين أفراد المجتمع.
أمّا أتباع النظرية الثانية فلا يرون هذا الإستدلال متيناً حيث يقولون أنه لا يُستفاد من الكتاب والسنّة وجوب إطاعة القوانين والمقررات الحكومية، وأكثر مايمكن استفادته من النصوص أن الحكومة لها الحق في وضع القوانين والمقررات من أجل حفظ النظام في المجتمع وتدبير أموره ومعاقبة المخالفين لهذا القانون، وبهذا يتحقق مقصود الشارع المقدس بإعطائه صلاحية إقامة العقوبة على الخارجين على القانون، ولا يحتاج بعدها إلى تحريم شرعي وإعمال العقوبات الأخروية.
إن أتباع هذه النظرية يقولون بأن تطبيق النظام السياسي الديمقراطي على مقولات ومفاهيم فقهية إنما هو سعىٌ عقيم وغير مثمر، فإن هيكلية النظام الديمقراطي ليست عقداً إجتماعياً ولا تعني وكالة الحاكم من قِبَل الأفراد، لأنّ هذا النظام السياسي إنما هو نمط خاص من الحياة الإجتماعية لمجتمع يعيش ثقافة خاصّة ويقوم على مبانٍ فلسفية معيّنة وقيم أخلاقية وأوضاع إقتصادية وثقافية خاصّة ولا يمكن تفسير هذا النظام بمقولات فقهية كالوكالة والعقد الشرعي. ففي النظام الديمقراطي لا يكون انتخاب شخصٍ للحكومة بمعنى الوكالة من الناحية الفقهية كما أن التصويت للقانون الأساسي لا يعني العقد الشرعي الفقهي.

رأي وتحليل
هذه خلاصة ما يمكن قوله بالنسبة إلى المواضيع الخمسة المهمّة والتي اقترنت بسجالات واسعة ومباحثات كثيرة بين المفكرين الإسلاميين في القرنين الماضيين ويمكن القول بوجود آراء مختلفة في هذا المجال. ولا نريد هنا أن ندخل في هذا البحث لصالح هذه النظرية أو تلك بل نريد توضيح أمر مهم يعتبر المفتاح الذي ينبغي لكل متكلّم أن يدلي برأيه في هذه المسائل.

الحكومة والسياسة
بالنسبة إلى مقولة السياسة والحكومة فإن المؤمنين يهتمون بشكل خاص بموضوع معين بهذه المسألة، وهو معرفة الظروف والشروط الواقعية للنظام السياسي الذي يتمكن المؤمن من خلاله وفي أجوائه أن يحفظ إيمانه بصورة أفضل ويعمل على ترشيده وتقويته، فالمسألة الأساسية للمؤمنين بالنسبة إلى موضوعات السياسة والحكومة هي هذه المسألة بالذات ولابدّ من الأخذ بهذا المعيار في أي بحث سياسي أو اجتهاد فقهي.
وقد أوضحنا في فصول متعددة من كتاب ((هرمونوتيك الكتاب والسنّة)) معاني الإيمان وأن الإيمان لا يتحقق بدون حرية الفكر والإرادة الحرّة للناس، وأن الإيمان سواءً كان شهادة التوحيد أو قبول رسالة الأنبياء، أو العمل بالتكاليف والوظائف أو المعرفة الفلسفية أو ما يطلق عليه بالتجربة الدينية القلبية في مواجهة الأمر القدسي، ففي كل هذه الصور لابد أن يتحرر الفكر من الجوازم التقليدية والقيود الوراثية والأعراف الإجتماعية وتنطلق إرادة الإنسان من ذاته الحقيقية، فالإيمان على أيّة حال إنما هو ((اختيار الإنسان بكل وجوده)) أذْ إنّ هذه الحقيقة الواقعية يجب أن تتخلص من جميع الأطر الإجتماعية والسياسية ولا يمكن أن تتحقق في أيّ نسيج حكومي أو بإعمال عنصر القوة في النظام السياسي، لأنّ حرّية الفكر وحرّية الإرادة ليست حقيقة يمكنها أن تتحقق في أي نظام إجتماعي أو سياسي.
إنّ حرّية الفكر والإرادة تتلائم مع الحقائق الموجودة على أرض الواقع السياسي والإجتماعي فتكون متلائمة مع واقع سياسي وإجتماعي معيّن وغير متلائمة مع آخر، وهذه الحريات يمكنها أن تنعدم ضمن شكلٍ خاص من الحكومة والنظام السياسي ويمكنها أن تنمو وتزدهر في ظل نظامٍ آخر، فلا تتلائم حرية الفكر والإرادة مع كل أنواع الحكومات والوظائف السياسية، لأن سنخ الأعمال الحكومية ونمط ممارساتها في المجتمع يمكن أن يؤدي إلى انعدام هذه الحريات ويمكن أن يساعد على ترشيدها وتقويتها. وبمقدار ما يعيش الإنسان حالة الحرية في الخارج، أي يعيش مجتمعاً سالماً تكون فيه الأمور السياسية والحكومية متلائمة مع حرية الفكر والإرادة، فإن ذلك يعتبر شرطاً قطعيٌاً لتحقيق الإرادة الباطنية، أي الحرية في الفكر والأرادة. ولا يمكن في أي نظام إجتماعي وسياسي يكبت الحريات ويصادر الحقوق أن يعيش فيه الانسان حرية الفكر والإرادة. وبلا شك أن المجتمعات المتمدنة ونصف المتمدنة في هذا العصر قد جعلت من الحريات والحقوق وتوزيع القدرة السياسية وتحريرها وانتقالها بصورة سلمية إلى أطرافٍ أخرى وبدون الإستعانة بالعنف والقوة القهرية أمراً ممكناً ومن اللوازم الضرورية للحياة الإجتماعية المطلوبة للإنسان.
وتكون نتيجة هذا التحليل أنّ منطق الإيمان يستوجب أن يتحرك المؤمنون في خط تحقيق الواقع السياسي والإجتماعي الذي يمكّنهم من ترشيد إيمانهم وتحقيق شروط هذا الإيمان بحرية كاملة لكي يعيشوا الإيمان الخالص بصورة أفضل. كما إن مثل هذا المجتمع أفضل قطعاً من المجتمع الاستبدادي والتوتاليتاري، وهذا هو المعيار الفاصل بين أنماط النظم السياسية والإجتماعية كما إنه المعيار الأفضل في استجلاء الرؤية الإيمانية.
وفي رأينا أن أهم معيار يمكن اتّخاذه في المسائل المتعلقة بأمر السياسة والحكومة بالنسبة إلى رجال الدين والإجتهاد الفقهي ومنهج تفسير الكتاب والسنّة هو هذا المعيار، وقد أكّدتُ في كتاب ((هرمونوتيك الكتاب والسنّة)) أنه ينبغي على علماء الدين في كل عصر أن لا يغفلوا عن هذا المعيار الأساسي في وضْع المناهج الفقهية. ومن دون هذا المعيار النابع من جوهر الإيمان والذي يتيح للإنسان أن يعيش حالة الإيمان الخالص فإن كل خطوة في طريق تحقيق النظام السياسي ستنتهي إلى وادي الحيرة والضلال.
إن الإحتمالات الواردة في دائرة النظام السياسي وتطبيقه على الأصول والمبادئ الدينية من دون الأخذ بهذا المعيار الواضح سوف لا تكون قادرة على أن تكون حجة فيما بين الإنسان وبين الله تعالى، لاسيما وأنّ حيازة وتحصيل هذه الحجة ترتبط بجوهر الإيمان ونسبته إلى الواقع السياسي والإجتماعي.

ضرورة نقد الدين
الأمر الآخر هو أن جوهر الإيمان عبارة عن اختيار واعٍ حُرّ لا يمكن أن يتحقق بالتلقين أو وسائل الإعلام ولا يمكن تحديده وصياغته من خلال كبت الحريات وحظر النقد للأفكار والنظريات الدينية الموجودة في الوسط الديني.
فالإيمان ليس أيديولوجية لكي يمكن تعميقه وترسيخه في ذهنية الجمهور من خلال أدوات الخطاب الأيديولوجي، وقد ذكرت في كتاب ((هرمونوتيك الكتاب والسنّة)) حول ضرورة النقد الحر والبحث في جذرور العقائد والأفكار الإيمانية وأن استمرار الإيمان الواقعي في المجتمع إنما يكون ممكناً إذا لم يفقد الإيمان هويته في الاختيار الحُرّ والواعي للإنسان المؤمن، والإيمان إنّما يبقى على هذه الصورة من الاختيار الحُرّ إذا استمرت عملية الحوار والنقاش المعقول والمنطقي بين الخطاب الديني وسائر أنواع العقائد والأفكار الأخرى بحيث يستطيع المؤمنون تجديد خطابهم بصورة مستمرّة كما هو الحال في قضايا العلم والفلسفة وأمثال ذلك. وعلى المؤمنين التحرّك نحو إيجاد صيغ جديدة من الخطاب الديني وطرحها على مائدة البحث والنقاش، لأن الحركة التجريدية لا يمكن أن تحدث بدون نقد جدّي للدين والتديّن والإيمان في المجتمع، فالنقد الخارجي للدين يساعد على إثارة النقد الداخلي للدين، وما نشاهده في القرن الأخير من توجيه نقد للدين من قبل المفكرين، يساعد على إلقاء الأضواء على معنى الإيمان الخالص لدى المؤمنين.
إن ما ذكره فويرباخ وماركس من نقد الدين والإيمان إنما يساعد المؤمنين على إدراك ماهية إيمانهم والتعرّف على تفاصيله الدقيقة، فهذه الإنتقادات أوضحت كيف أن المصالح الإجتماعية الطبقية يمكنها أن تبرز في أجواء المجتمع بعنوان الدين ويكفي أن سيكولوجية الإنسان وآماله وطموحاته يمكنها أن تخلق إلهاً موهوماً للإنسان.
هذه الإنتقادات ساعدت كثيراً في عملية تفكيك الإيمان عن غير الإيمان، والتوحيد عن الشرك. وطبعاً إنّ أكثر الناس وخاصّة العوام يخافون من توجيه مثل هذا النقد للدين لأنّ مثل هذا النقد بإمكانه أن يلحق الضرر بالإيمان التقليدي المرتبط بالمصالح الفردية والإجتماعية للمتدين، فالمجتمع المطلوب بالنسبة للمؤمنين ليس هو المجتمع الفارغ من نقد الدين والإيمان، ومنع أي مقالة أوكتاب ضد الدين والإيمان والوقوف ضدّ أيّ حديث يوجّه كلمات انتقادية للمفاهيم الدينية.
مثل هذا المجتمع الموحّد في الظاهر إنما يعكس الجمود والجهل والتقليد في الواقع، وبذلك يفقد الإيمان مضمونه الخالص ويخرج من دائرة الإختيار الواعي والإختيار الحر. في مثل هذا المجتمع سوف تتقاطع المصالح المختلفة للفئات والطبقات المقتدرة بصورة إيمان ودين، وستؤدي إلى مشاكل كثيرة، فالناس قد يتحركون في علاقتهم مع الآخرين من موقع العداوة والبغضاء بدافع المصالح الدنيوية والمنافع الشخصية ولكنهم يتصورون إن ذلك إنما هو في سبيل الله، وحينئذٍ سيكون الحب والبغض عاملاً مهمّاً في تأمين منافع طبقة معيّنة والقضاء على منافع طبقة أخرى، وكل ذلك يكون بوهم أن هذا الحب والبغض هو خالص لله، وهنا ستظهر قوى الإنحراف وتعمل على تضييع حقوق الأفراد والحريات والعدالة الإجتماعية من خلال التلفع بالدين وارتداء لباس القداسة الدينية بحيث يتوهم الناس أنّ هذه القوى والحكومات منصوبة من قبل الله تعالى، والنتيجة هي إيجاد جو فكري ملوّث تتحكّم فيه الروابط العاطفية بين الأفراد وليس العقلية، وكل ذلك يكتسب مشروعيته من صبغة الدين والإيمان الذي سيحلّ محل الإيمان الواقعي. وبذلك يتم تفريغ المجتمع من الإيمان الواقعي، وإبقاء الإيمان السطحي أو الشكلي الذي لا يُغني ولا يسمن من جوع.
ومن أجل أن تتضح حقيقة ما يجري باسم الدين والإيمان في المجتمع نتساءل: هل إن هذه الأمور التي تظهر بلباس الدين والإيمان، هي رغبة خالصة وتحرّك سليم في خط الإيمان والمسؤولية والانفتاح على الله تعالى؟
إن نقد الدين والإيمان ونقد المنظّمات الدينية وعلماء الدين يعتبر ضرورة من ضروريات الحياة الإيمانية، ويجب على المؤمنين أن يتحركوا على مستوى توجيه النقد للدين وترشيده في الوسط الاجتماعي، ويجب عليهم أن يفسحوا المجال للآخرين ليتعرفوا على الدين والعمل الديني من خلال نقد الآخرين لمعارفهم وأعمالهم، وبذلك يمكنهم العمل على تحسين هذه المعارف من خلال هذا النقد ووصولاً لإصلاح أعمالهم ونيّاتهم وأفكارهم.
في المجتمع الإيماني لا ينبغي أن توضع خطوط حمراء أمام المنتقدين فلا يصحّ أن ُيقال لهم: أنه يسمح لكم النقد في هذه الجهة ولا يُسمح لكم في أخرى، يجب أن يشعر المنتقدون بالحرية الكاملة ومن دون خطوط حمراء في دائرة النقد، والشخص المؤمن عندما يقف حائراً أمام النقد يشعر بجدية المسألة وخطورة الموقف لاسيما اذا شعر أنّ جوهر الإيمان الذي يتمتع به ويحافظ عليه يقف عاجزاً عن الصمود أمام هذا النقد، بمعنى كيف يمكن للإنسان المؤمن أن يحافظ على معقوليته وجاذبيته وهو يكتشف إيمانه من جديد؟
أجلْ، إذا تصوّرنا أنّ الإيمان هو ظاهرة تتضمّن بعض المعارف والإعتقادات الثابتة دائماً يحق لنا أن نضطرب ويصيبنا القلق من جراء النقد الموجّه إلى هذه المعارف، ولكن الإيمان ليس كذلك، فالإنسان المؤمن يمكنه أن يكتشف معارفه الإعتقادية ويُجدّد إيمانه دائماً، فالتصور العرفاني لله تعالى غير التصور الفلسفي لله، وتصور الفلاسفة عن مفهوم الحقيقة المطلقة غير تصور المتكلّمين، وهكذا سائر أفراد المجتمع، فهذه المعارف والإعتقادات تختلف فيما بينها اختلافاً جذرياً وأساسياً، فعلى هذا الأساس فإن مضمون المعرفة الإيمانية غير ثابت وينبغي اختيار مضمون الإيمان دائماً، فالإيمان يتعرض دائماً للزيادة والنقيصة وتغيير الشكل. ولهذا فإن الإنسان المؤمن قد يتعرض لصدمة وإحباط في إيمانه، ولهذا يجب عليه أن يستمر في عملية الإختيار لينقذ نفسه دائماً من دوامة الخطر ومنـزلقات الاعتقاد المنحرف.
إذن فمن يتصور أنه قد أحاط بجميع الحقائق ويجب على الجميع أن يفكروا مثل تفكيره ويعتقد بمثل اعتقاده ولا ينبغي لأحد أن يوجّه إليه وإلى معارفه تساؤلات وإشكالات من موقع النقد فهو غارق في بحر الوهم وربما الأنانية والسذاجة.
ومن هنا ينبغي التمييز والتفكيك بين قضيتين:
القضية الأولى: أن الإنسان المؤمن ينبغي أن يتحرك في دائرة الأفكار والحالات والأعمال والسلوكيات في خط الإيمان ويقوم بوزنها بالمعايير الدينية والإيمانية وإلاّ فلا معنى لكونه مؤمناً.
القضية الثانية: أن يتحرك بعض أفراد التيار الأصولي من موقع التضييق والتكفير وإقصاء المفكرين الآخرين من ميدان العمل الأجتماعي وهتك شخصيتهم وسحق كرامتهم لمجرد أنهم يفكّرون بنحو آخر، وكل ذلك يتم باسم الإسلام والدين.

الدين لا يقوم على العنف والاستبداد
القضية الثانية تختلف تماماً عن القضية الأولى. فالقضية الأولى لا إشكال في صحتها ومعقوليتها ولكن القضية الثانية خاطئة تماماً وغير عملية، فلا يمكن تحقيق المجتمع الديني في جميع أبعاده باستخدام أدوات العنف والقهر، فقد يكون لدينا إيمان حقيقي واختيار للدين، ولكن لا يمكن أن يكون لدينا علم وفلسفة وفن وصناعة وحضارة صحيحة وحقيقية. إنّ القوة والعنف آفة الإيمان ولا يمكن أن يقوم الإيمان على أساس القوة، وإن المجتمع الذي يقوم على دعامة الإستبداد والعنف لا يوجد فيه مجال للعقل والإيمان، إذْ إن القوة يجب أن تواجه بمثلها، ولا علاقة لها بالعقل والمنطق والإيمان، والقوة تريد صبغ جميع الأمور بمثلها والعمل على مسخها، وعليه فإن المجتمع الذي يعيش الاستبداد هو أبعد ما يكون عن المجتمع الديني والإيماني.

المعارف البشرية غير مقدّسة
من جهة أخرى إنّ ما يطرحه علماء الدين من معارف وتعاليم دينية إنّما هي معارف بشرية لأن علماء الدين هم من البشر ويفهمون دعوة الأنبياء والوحي من خلال المعايير البشرية، ولكنّ أقوال علماء الدين وسلوكياتهم إذا كانت نابعة من الإيمان الخالص وكانوا يسيرون في خط العلاقة مع الله والرسالة والمسؤولية فحينئذٍ سيكونون مقدسين في نظر المؤمنين، ولكن معنى القداسة هنا هو أن المؤمنين يحترمون العلوم والمعارف الدينية فيما لا يتعاملون بذلك مع العلوم والمعارف الدنيوية.
وهذا الإحترام للعلوم الدينية وعلماء الدين هو عمل اختياري كالإيمان ويجب أن يبقى كذلك دائماً، كما إنّ حرمة العلوم الدينية ورجال الدين اختيارية، أو إنها يجب أن تبقى كذلك دائماً. وكذلك فإن حرمة العلوم الدينية ورجال الدين ليست شيئاً يمكن إلقاؤه إلى الناس من خلال وسائل الإعلام والتبليغات، بل يجب على المؤمن تشخيص هذه الحقيقة عن بصيرة ودراية لكي يفهم من أين يتسلم الخطاب الإلهي وكيف يتعامل معه، فالمؤمنون إذا علموا أن شخصاً معيناً يحمل الخطاب الإلهي فإنهم سيحترمونه ويقدسونه، ولكن هذا لا يعني أن المعارف والعلوم التي يحملها علماء الدين بعيدة عن الخطأ والزلل ولا ينبغي مراجعتها أو مواجهتها من موقع النقد أو غلق باب الإجتهاد واحتكار المعرفة الدينية والاقتصار على نظرية واحدة ومنع النظريات الأخرى،لأن جميع هذه الأمور تؤدي إلى سدّ باب الإجتهاد الواقعي ومزج الإيمان بالقوة والعنف، وهذا لا يصب في مصلحة العلم ولا في مصلحة الدين ولا في مصلحة الإيمان.
يجب على المؤمنين أن يعيشوا أجواء النقد والتقييم لإيمانهم دائماً، لعل ذلك يمكّنهم من تشخيص مواقع الخلوص ومواقع الخلل، ثم معرفة مَن مِن أهل الدين يتحرك في دعوته من موقع الإخلاص للدين والإيمان، ومن منهم يتحرك بعيداً عن هذا الخط.

الحجب والعلاقة مع الله
إن البحوث المذكورة آنفاً يمكن أن تثير السؤال التالي: يمكن للمؤمنين أن يوفروا الحرية والإختيار الحر للإيمان في المجتمع الديني ليحققوا لأنفسهم الحرية الباطنية في عملية الإختيار، ولكن ما هو المقدار الممكن لتحقيق المرونة في السنن والقوانين الدينية لتحقيق هذه الغاية؟
عند الجواب على هذا السؤال لابدّ أن ندرك ضرورة الإحتفاظ بحيوية التجربة التوحيدية القلبية ولزوم انسجامها مع قواعد وقوانين الشريعة المقدّسة، ومنها التوحيد بمعنى السلوك النظري والعملي للتغلب على الحجب الأربعة التي تمثّل مصدر الشقاء والألم للإنسان في هذا العالم وهي:
1. حجاب التاريخ.
2.حجاب المجتمع.
3.حجاب البدن.
4.حجاب الطبيعة.
وهناك حجب أخرى يمكن أن يلمسها الإنسان من خلال التجربة العرفانية وكلمات العرفاء الذين عبّروا عن هذه الحجب بكلمة السجن.
إن ((القرآن والسنّة)) هما مجموعة من النصوص الوحيانية التي تبيّن حركة الإنسان وأهدافه في سلوكه التوحيدي، وهذه النصوص تعمل على الإجابة عن الأسئلة وعلامات الإستفهام التي تواجه الإنسان في سلوكه النظري والعملي، وعلى هذا الأساس فالعلاقة التي تربط الإنسان بهذه المجموعة من النصوص هي بعينها التي تحدّد علاقة الإنسان بفهم المعنى والمصير النهائي لذاته، ومن ثم طريق الفلاح في محضر الله تعالى.
إمضاء بعض الأحكام القَبَلية في مجتمع المدينة
إنّ الدراسات التاريخية تبين بوضوح إنّ النبي الأكرم كان قبل البعثة وكذلك أفراد المجتمع في الحجاز ((مكّة والمدينة)) كانوا يعيشون في علاقاتهم العائلية وروابطهم الإجتماعية في إطار ابتدائي لم يتضمن شكلاً بسيطاَ من أشكال الحكومة والقضاء والعقوبات وأمثال ذلك، وهذه الأنماط والأطر بقيت في الغالب بعد ظهور الإسلام أيضاً.
إن مداخلات القرآن والسنّة في صياغة الروابط العائلية والإجتماعية في ميدان الحكومة والقضاء وأمثال ذلك لا تمثّل صياغة قوانين في هذا المجال، لأنّ مثل هذه القوانين كانت موجودة في ذلك المجتمع وكان الناس يعيشون في علاقاتهم هذه القوانين، ولكن هذه المداخلات كانت على مستوى المنع فقط، أي منع ما يخالف الأخلاق والكرامة الإنسانية والعدالة ومنْع ما يمثّل حجر عثرة في طريق السلوك التوحيدي والمعنوي.
إنّ منطق القرآن والسنّة يقوم على أساس أن السلوك المعنوي للإنسان لا ينسجم مع مختلف النظم الإجتماعية والقيم الأخلاقية، فالقوانين والعادات والأعراف الموجودة في مجتمعٍ معين يمكنها العمل على تيسير أو تعسير السلوك المعنوي لأفراد المجتمع، ومن هنا فإن مداخلات الكتاب والسنّة تواجه كثيراً من المحدوديات، والنبي الأكرم (ص) بصفته مصلحاً معنوياً له هدف إصلاحي أو عملية إصلاحية جاءت لمواجهة تلك الأطر الأربعة التي تحدّ من فاعلية الإصلاح الثقافي والإجتماعي، فوجد نفسه مضطراً إلى العمل ضمن هذه الأطر ((الواقعيات، القابليات، الضرورات، الإمكانات)) وفي غير هذه الصورة فإن عملية الإصلاح ربما تكون غير ممكنة وغير مقبولة أساساً.
وهذا هو معنى إمضاء بعض الأحكام القَبَلية في باب المعاملات والسياسات من قبل الشارع، حيث يمكن استنتاج هذه الحقيقة ممّا تقدّم بيانه، وهي أن العلاقات العائلية، الروابط الإجتماعية، الحكومة، القضاء، العقوبات والمعاملات وأمثال ذلك التي وردت في الكتاب والسنّة على شكل إمضاءات للواقع الموجود في المجتمع العربي، وما ورد في هذه المحاور من قوانين وإصلاحات وحقوق لا يمثّل قوانين خالدة أو نسقاً سياسياً خاصاً بالإسلام، ففي هذه الإمضاءات نرى ما هو ثابت وخالد مثل ((الأصول والقيم الأساسية))، أي أن هدف الإصلاحات والتعديلات الواردة في الكتاب والسنّة ومداخلات النصوص تستمد وتستلهم مقوماتها من تلك الأصول والقيم الإنسانية، وهذه الأصول المعيارية ليست أموراً مستقلة بذاتها بل هي من ضرورات السلوك التوحيدي للإنسان حيث تسترفد اعتبارها من ضرورات هذا السلوك التكاملي والمعنوي. وعلى هذا الأساس فإنّ الأصل في مداخلات الكتاب والسنّة في الموارد المذكورة إنّما هو بهدف إيجاد إصلاح وتعديل، ولكن في إطار المحدوديات الأربعة، وهذا لايدلّ على إمضاء قانون أو مادّة أو عرف إجتماعي بواسطة النصوص الدينية، وأنّ هذه الظاهرة الإجتماعية مورد قبول الكتاب والسنّة أيضاً، وعلى سبيل المثال فإن ((نظام الرقّ)) يمكن أن يكون شاهداً بارزاً على هذا الموضوع، حيث كان نظام الرقّ يمثل واقعاً اجتماعياً في الحجاز ولم تتحرك النصوص الدينية لتغيير هذا الواقع (رغم إدخال بعض الإصلاحات عليه) ولكننا لا نجد شخصاً في هذا العصر يقول بلزوم استمرار ذلك الواقع الإجتماعي لأنه مورد قبول الكتاب والسنّة، أي إنّ عدم تغيير ذلك الواقع لا يمكن أن نستنتج منه وجود أساس أصولي له. ومن هنا يتضح لنا أنّ من اللازم إيجاد قوانين ومؤسّسات في كل عصر تأخذ على عاتقها صياغة العلاقات والروابط الحقوقية في العائلة والمجتمع والحكومة والقضاء والمعاملات وأمثال ذلك، ومطابقة هذه القوانين والمقررات مع معيار انسجامها أو عدم انسجامها مع إمكانية السلوك التوحيدي والإيماني لأفراد المجتمع.
وهنا يمكن القول باختصار:إذا ثبت من خلال الدراسات والتحقيقات للمفكرين الإسلاميين وجود بعض القوانين والأعراف في تراثنا الديني كانت موجودة في المجتمع العربي قبل الإسلام، ثم دخلت إلى المجتمع الإسلامي واُقرّت من قبل النصوص الدينية لكونها متناسبة مع المحدوديات والأطر الأربعة في عصر البعثة ثم بُنيت عليها لبنات فوقية وفروع فقهية في المجتمعات السابقة، ولكنّ هذه القوانين والأعراف تمثّل في هذا العصر عائقاً كبيراً ضد السلوك التوحيدي والمعنوي للناس، فإنه لا ينبغي التردّد في ضرورة تغيير هذه القوانين والمقررات وإصلاحها.
فمن الممكن أن تكون بعض القوانين والمقررات الشرعية والعرفية في مجتمع معين وبسبب حدوث تعقيدات كثيرة في واقع النظام الإجتماعي والثقافي والعاطفي لأفراد ذلك المجتمع معوّقة لطريق الإيمان والإستقامة والأخلاق بحيث يكون هذا الإيمان والإنفتاح على الله غير ممكن أو صعباً للغاية، وربما تكون القيم والأصول الحقّة في هذا المجتمع مهددة بالإضمحلال والزوال، ففي مثل هذه الموارد يجب التحرك على مستوى إصلاح وتعديل هذه القوانين والأحكام وتغييرها كما بدأ النبي حركته الإصلاحية بذلك. وهذه العملية الإصلاحية يمكنها أن تطال جميع أبواب المعاملات، نظام الأسرة، الحكومة والقضاء , والحدود , والقصاص , والديات , وأمثال ذلك، وهذا الإقدام العملي ليس فقط لا يؤدّي إلى تغيير القانون الإلهي الخالد (لأنّ القانون الإلهي الخالد هو عبارة عن تلكم الأصول القيمية النابعة من حقّانية السلوك التوحيدي إلى الله والذي يجب أن تكون القوانين منطبقة عليه). بل هو عين السعي الضروري نحو حفظ القيم والأصول الإلهية الخالدة وإدامة حركة السلوك التوحيدي إلى الله. أمّا الملاك الشرعي في عملية التغيير هذه وإصلاح وتعديل الأحكام والقوانين بهدف رفع الموانع الإجتماعية التي تحول دون السلوك التوحيدي فيمكن استنباطه من الكتاب والسنّة، أي أن النصوص الدينية هي التي عملت على إصلاح وتعديل الوضع الإجتماعي في صدر الإسلام وجعلت من ذلك سنّة إلهية.
وفي هذا الموضوع لا ينبغي الشكّ أو التردّد أيضاً في أنّ معرفة الواقعيات ومعطيات القوانين والطقوس والأعراف في المجتمعات الجديدة والمعقّدة جعلت معرفة إنسجام أو عدم إنسجام هذه القوانين والأعراف مع موضوع السلوك التوحيدي والتجربة الدينية خارج قدرة علم الأصول أو الفقه أو الفلسفة والكلام أو العرفان، فهذه العلوم يمكنها أن تمدّ يد العون إلى جانب العلوم الأخرى التي اكتسبها الإنسان بالتجربة في عملية السلوك التوحيدي والإيماني، أمّا المعرفة محل البحث التي تفضي إلى معرفة سلبية أو إيجابية القوانين والأعراف على سلوك الإنسان المعنوي والتوحيدي فانها تحتاج إلى معرفة كبيرة وإطّلاع واسع على العلوم الإنسانية والإجتماعية من جهة، وعلى المدركات والتصديقات العلمية والتجريبية للبشرية من جهة أخرى.
فمثلاً أنّ ضرورة التنمية الإقتصادية والثقافية ليس لها مبدأ أساسي في الكتاب والسنّة ولا في العلوم الإسلامية في تراثنا الديني بل من المسائل المستحدثة، والتنمية هي هدف إجتماعي حيث يجد أفراد المجتمع حاجّة وضرورة إليها ويتحركون بكامل إرادتهم الحرّة لتحقيقها (ومن المعلوم أنّ التنمية تعد ضرورة للمجتمعات الحديثة)، وهنا يمكن إدراج مداخلة الكتاب والسنّة في أمر التنمية في المجتمعات الإسلامية، أي يمكن إدراج ذلك ضمن الأهداف القيمية النهائية للتنمية وأنّها لا ينبغي أن تكون مغايرة لتلك الأصول والقيم الواردة في الكتاب والسنّة علماً بأن جميع برامج التنفيذ يمكن أن تؤخذ من العلوم الجديدة، أمّا علم الفقه فلا يمكنه أن يطرح برنامجاً لهذا الموضوع، وهذا العلم ((الفقه)) لا يمكنه توضيح الواقعيات الموجودة في المجتمع ولا يمكنه تغيير البرامج الموضوعة لها. ومضافاً إلى تلك الأصول الكلّية القيّمة فإن الأحكام الشرعية والفقهية من الحلال والحرام يمكنها أن تؤكّد كيفية صياغة برنامج التنيمة الإقتصادية والإجتماعية العمل على ترشيد المسيرة وتحقيق الهداية، وممارسة السلوك التوحيدي الذي يستشعر الرقابة الإلهية، ويستحضر الوعد الإلهي والعدالة الإلهية في العقاب والثواب.




#أحمد_القبانجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العلم الالهي وحرية الانسان
- تحقيق في اخر اللحظات التي عاشها المسيح
- في نقد برهان النظم
- التقليد والتحقيق في سلوك طلاب الجامعة - د. عبد الكريم سروش
- نظرة عامة في براهين وجود الله
- دوافع جعل الحديث عند الشيعة
- مدرسة الجشتلت ... علم نفس الشكل
- المجتمع المدني مجتمع تحت سلطة القانون
- القرآن والتحدي بمجموع الآيات
- التفسير السيكولوجي لظاهرة الايمان بالله
- منهج العقل الديني في التعامل مع المعارف والمطالب الدينية
- التفسير السسيولوجي لظاهرة الايمان بالله
- التجربة الدينية للنبي
- هل الدين معيار للعدالة أو العدالة معيار للدين؟
- القراءة السطحية للنصوص
- -لا للديمقراطية- هو الشعار الحقيقي للإسلام السياسي
- صورة الله عند الفلاسفة
- من انجازات النبي ... توحيد القبائل والشعوب
- المنهج الجديد في تفسير النص
- اسطورة الفيل وحرب أبرهة الحبشي


المزيد.....




- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!
- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد القبانجي - الايمان, السياسة, الحكومة