أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد القبانجي - العلم الالهي وحرية الانسان















المزيد.....



العلم الالهي وحرية الانسان


أحمد القبانجي

الحوار المتمدن-العدد: 3961 - 2013 / 1 / 3 - 16:56
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



المشكلة في مفهومها الأولي:
«البداء» لغة من «بدا» يبدو بدواً: بمعنى «الظهور» عن خفاء وكتمان يقال: بدا لي من امرك بداء، أي ظهر لي، ومنه قوله تعالى:
(بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ...).
وقد يأتي بمعنى «التغير» في القصد كما تقول: بدا لي أن أؤخر السفر، أي تغيّر قصدي وعزمي في وقت شروع السفر.
هذا في اللغة، أمّا في الاصطلاح فهو: أن يبدو لله تعالى في قضائه غير ما كان، أي نفس معناه اللغوي الأول الذي يستلزم أن يكون الله تعالى جاهلا بالامور كما يشنّع على الشيعة مخالفوهم، وقد تصدّى علماء الشيعة للدفاع عن مقولة «البداء» بحملها على غير الظاهر من الكلمة، وقالوا: إنّ البداء بذلك المعنى محال على الله تعالى ولا تقول به الامامية، بل المراد هو: «الإظهار أو الإبداء في القضاء الموقوف» قال الشيخ أبوجعفر الطوسي:
«إذا اضيفت هذه اللفظة (لفظة البداء) إلى الله تعالى فمنه ما يجوز اطلاقه عليه، ومنه مالا يجوز، فاما ما يجوز من ذلك فهو ما أفاد النسخ بعينه، ويكون اطلاق ذلك عليه على ضرب من التوسّع، وعلى هذا الوجه يحمل جميع ما ورد عن الصادقين (ع) من الاخبار المتضمّنة لاضافة البداء إلى الله تعالى دون مالا يجوز عليه من حصول العلم بعد أن لم يكن ..».
ويقول الشيخ المظفر في المقصود من البداء لدى الشيعة: «والصحيح في ذلك أن نقول كما قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد: (يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)، ومعنى ذلك أنّه تعالى قد يظهر شيئاً على لسان نبيّه أو وليّه أو في ظاهر الحال لمصلحة تقتضي ذلك الاظهار، ثم يمحوه فيكون غير ما قد ظهر اولا مع سبق علمه تعالى بذلك، كما في قصة اسماعيل لما رأى أبوه ابراهيم أنّه يذبحه، فيكون معنى قول الإمام(عليه السلام)(ما بدا الله في شيء كما بدا له في اسماعيل ابني) أنّه ما ظهر لله سبحانه أمر في شيء كما ظهر له في اسماعيل ولده إذا اخترمه قبله ليعلم الناس أنّه ليس بامام، وقد كان ظاهر الحال أنّه الإمام بعده لأنه أكبر ولده».
ويقرب هذا التقرير للمقصود من البداء من «النسخ» في تقريب الشيخ الطوسي المتقدم مع تفصيل وشرح، وغاية ما يقال إنّ «البداء» لدى الشيعة ليس هو الظهور بعد خفاء على الله، بل هو اظهار بعد اخفاء كما في النسخ فلا يستلزم الجهل والنقص عليه تعالى، فيغود الخلاف بين الشيعة والسنة لفظياً بعد اتفاقهم على مستوى المفاهيم. ولكن بعد التأمل في الادلّة العقلية والنقلية نجد أنّ الأمر على خلاف رغبة الشيعة في تحجيم الخلاف في دائرة التسمية، بل هو أعمق من ذلك بكثير.

أمّا بالنسبة إلى الروايات:
1 ـ روى الصدوق باسناده عن زرارة عن أحدهما (الباقر أو الصادق) قال: «ما عبد الله عزوجل بشيء مثل البداء».
2 ـ وروى الصدوق باسناده عن هشام بن سالم عن ابي عبدالله(عليه السلام) قال:
«ما عظّم الله عزّوجل بمثل البداء».
3 ـ وروى باسناده عن محمد بن مسلم عن ابي عبدالله(عليه السلام) قال:
«ما بعث الله عزّوجل نبياً حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الاقرار بالعبودية، وخلع الانداد، وأنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء»( ).
4 ـ وعن الريّان بن الصلت قال: سمعت الرضا(عليه السلام) يقول:
«ما بعث الله نبياً قطّ إلاّ بتحريم الخمر وأن يقرّ له بالبداء».
5 ـ وورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال:
«ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل إبني».
إلى غير ذلك من النصوص الدينية في التأكيد على مقولة البداء، وانت ترى أن كل هذا التأكيد لا يتواءم مع تسطيح القضية وحصر الخلاف في اللفظ والتسمية بل لابدّ أن يكون هذا الأصل مهم جدّاً إلى درجة أن يقول الإمام(عليه السلام): «ما عبد الله عزوجل بشيء مثل البداء»، فلو كان حاله حال النسخ فجميع المسلمين وكذلك من غير المسلمين ليس لهم كلام في النسخ ولا مناقشة، ولا يستلزم من قبوله أن يكون «أعظم عبادة» هذا أولا ..
وثانياً: ما الذي يدعو أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) إلى فتح ثغرة كبيرة في جدار المعتقدات الشيعية واستخدام كلمات موهمة تثير المخالفين عليهم وتسوّغ لهم الطعن والتشنيع في مذهب الشيعة بلا حق ولا مسوّغ موضوعي وهم على ما عرف منهم كانوا أحرص الناس على اجتناب مثل هذه الشبهات حتى أنّهم(عليهم السلام) كثيراً ما يستخدمون سلاح التقية في المسائل الجزئية (حسب ما يورده الفقهاء في باب تعارض الخبرين) ليدفعوا عن انفسهم ومذهبهم القيل والقال؟! ألم يكن من الافضل ترك مثل هذه المقولات واجتناب استخدام هذه المفردة (البداء) حتى لا يتورط علماء الشيعة بهاجس الدفاع ويتحول الواقع الفكري إلى مشكلة مستعصية على الحلّ؟
الشيخ المفيد وغيره من اساطين علماء الشيعة يؤكّدون على أن أصل المشكلة هي الروايات الواردة في هذا الباب، ولولاها لما برزت مشكلة في البين، يقول:
«قول الإماميّة في البداء طريقه السمع دون العقل، وقد جاءت الاخبار به عن أئمة الهدى(عليهم السلام)، والاصل في البداء هو الظهور»( ).
فإذا كان المقصود من البداء هو ما يشبه النسخ أو اظهار ما خفي على الناس فهذا ليس بالامر المهم، ولا يشك فيه أحد وكان أهل البيت(عليهم السلام) في غنىً عن فتح جبهة جديدة للصراع الفكري الدائرين بين المدرستين: الشيعية والسنّية.
وثالثاً: إنّ هذا التصوير والصياغة لمفهوم البداء يعارض الكثير من الروايات الواردة في الباب وخاصة في تفسير الآيات الكريمة التي تتحدث عن العلم الإلهي الثابت والمتغيّر، أو المحتوم والمشروط.
وعلى سيل المثال ما جاء في تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال: «سمعت ابا جعفر(عليه السلام)يقول:
«من الأمور محتومة كائنة لا محالة، ومن الأمور موقوفة عند الله يقدم ما يشاء ويمحو ما يشاء، ويثبت منها ما يشاء، لم يطّلع على ذلك أحداً، فأمّا ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذّب نفسه ولا نبيه ولا ملائكته»( ).
فتلاحظ أنّ الثابت الذي لا يتغيّر هو ما أخبر به رسله واظهره للناس عن طريقهم، والمتغيّر أو المشروط هو الذي عند الله، وهذا التفصيل عكس ما قرأناه في هذه الصياغة المذكور للبداء.
وكذلك ورد مثله في (عيون اخبار الرضا): «قال الرضا(عليه السلام) لسليمان المروزي:
إن علياً(عليه السلام) كان يقول: «العلم علمان: فعلم علّمه الله ملائكته ورسله، فما علّمه الله ملائكته ورسله فإنّه يكون، ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله. وعلم مخزون عنده لم يطلع عليه أحداً من خلقه، يقدّم منه ما يشاء، ويؤخر منه ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء»( ).
ومحل الشاهد هو ما ذكرنا في الرواية السابقة..
لهذا كلّه ولما سيأتي من تفصيل في معنى البداء نرى أنّ هذه المحاولة للجمع بين رأي الشيعة والسنّة في معنى البداء على اساس من الاظهار بعد الاخفاء ـ فاشلة وبعيدة عن الصواب.

المحاولة الثانية:
وفي مطاوى كتب الاصحاب نجد محاولة أخرى أعمق مما سبق في تحليل وتفسير مفهوم البداء، بما لا يتقاطع مع الثوابت الدينية في مقولة العلم الإلهي، يقول الشيخ المفيد بعد أن يحمل بعض الروايات الواردة في البداء على المعنى الأول المذكور آنفاً:
«وقد يكون الشيء مكتوباً بشرط، فيتغيّر الحال فيه. قال الله تعالى: (ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ)( ) فتبيّن أن الآجال على ضربين، ضرب منها مشترط يصح فيه الزيادة والنقصان، الا ترى إلى قوله تعالى: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّر وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَاب إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)( )، فالبداء من الله تعالى يختص ما كان مشترطاً في التقدير وليس هو الانتقال من عزيمة إلى عزيمة ولا من تعقب الرأي»( ).
ويقول الشيخ السبحاني في بيان حقيقة البداء عند الامامية:
«وبذلك يظهر أنّ المراد من البداء الوارد في أحاديث الامامية ويعدّ من العقائد الدينية عندهم ليس معناه اللغوي .. بل مرادهم (ع) من البداء ليس إلاّ أنّ الإنسان قادر على تغيير مصيره بالاعمال الصالحة والطالحة، وأن لله سبحانه تقديراً مشترطاً موقوفاً، وتقديراً مطلقاً، والإنسان انما يتمكن من التأثير في التقدير المشترط، وهذا بعينه قدر الهي، والله سبحانه عالم في الأزل بكلا القسمين كما هو عالم بوقوع الشرط، أعني الأعمال الإنسانية المؤثرة في تغيير مصيره وعدم وقوعه، ولكن هذا العلم الأزلي لا يسلب الاختيار عن الإنسان»( ).
وبذلك يتبين من كلمات الاصحاب وتبعاً للنصوص الكثيرة الواردة في هذا الباب أن تقدير الله على نحوين:
1 ـ التقدير المطلق، أو المحتوم، وذلك الذي لا يتغيّر ابداً وسيقع حتماً بكل تفاصيله.
2 ـ التقدير المشروط، وهو ما كان مشروطاً بفعل العبد، أي يمكن للإنسان أن يتدخل في تغييره والتأثير فيه،

مناقشة التقريب الثاني:
بعد هذا التوضيح والسرد للوجه الثاني الذي يقرره العلماء في حلّ هذا المعضل نقول:
ـ إنّ هذا الوجه والتقرير يواجه الكثير من الاشكالات على مستوى الصياغة الفلسفية وكذلك من جهة توافقه مع النصوص الواردة مما يجعله قاصراً عن تقصي المشاكل المعرفية والعقبات الايديولوجية، وذلك:
أوّلا: إنّ هذه الصياغة في تقرير مفهوم البداء لا يختلف فيها اثنان من المسلمين وغير المسلمين، فما ذكرنا من الاشكالات على الصياغة الاولى ترد أيضاً على هذه الصياغة، فليس التصديق به يمثل عبادة لا مثيل لها كما في الرواية الاولى، ولا يمثل هذا المعنى تعظيماً لله تعالى كما في الرواية الثانية، ولا داعي لأنّ يفتح الأئمّة(عليهم السلام) ثغرة وجبهة جديدة مع المخالفين إذا كان الأمر بهذه الصورة المسلّمة.
ثانياً: هناك خلط واضح في هذه الصياغة بين التقدير الإلهي والعلم الإلهي، وسوف نغض النظر عن هذا التهافت في التعبير حيث سيتضح وجه الدقّة فيه فيما بعد ـ نلفت النظر في هذه الفقرة إلى امكانية تقسيم العلم الإلهي الأزلي إلى القسمين المذكورين، فحسب ما ورد في تقرير الشيخ السبحاني «والله سبحانه عالم في الأزل بكلا القسمين كما هو عالم بوقوع الشرط، أعني الأعمال الإنسانية المؤثرة في تغيير مصيره وعدم وقوعه» فمع هذا العلم الأزلي التفصيلي بكل جزئيات الحوادث الواقعة في المستقبل فهل يبق للتقسيم المذكور معنى؟ وكيف يمكن تصوير العلم المشروط إذا كان الله يعلم بوقوع الشرط حتماً؟ أي أنّه سيكون من القسم الأول حينئذ، ولا يبقى هناك فرق بينه وبين المحتوم.
وببيان آخر: إن الآيات والروايات الشريفة تصرح بوجود علم الهي ثابت وعلم الهي مشروط ومتغير في دائرة علم الله تعالى لا على اساس إظهاره أو عدم اظهاره كما رأينا من الصياغة الاولى، فإذا قلنا بأنّ الله عالى عالم في الأزل بكلا القسمين بطل التقسيم المذكور وصاراً علماً واحداً تفصيلياً، والحال أنّ هذا المعنى غير مقصود قطعاً من تلك النصوص الشريفة، وللتوضيح اكثر نورد ما ذكره الطباطبائي في تفسير قوله تعالى: (يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)( ).
«فالملخص من مضمون الآية أن لله سبحانه في كل وقت وأجل كتاباً، أي حكماً وقضاء، وأنه يمحو ما يشاء من هذه الكتب والأحكام والأقضية ويثبت ما يشاء، أي يغيّر القضاء الثابت في وقت فيضع في الوقت الثاني مكانه قضاء آخر، لكن عنده بالنسبة إلى كل وقت قضاء لا يتغيّر ولا يقبل المحو والثبات، وهو الاصل الذي يرجع إليه الأقضية الاخر وتنشأ منه، فيمحو ويثبت على حسب ما يقتضيه هو»( ).
وبالنسبة إلى مسألة المحو والاثبات يورد العلماء امثلة كثيرة تبعاً للنصوص الواردة من قبيل الصدقة التي تدفع ميتة السوء وصلة الرحم التي تطيل العمر وأمثال ذلك، فإذا فرضنا أن زيداً كان من المقرر في علم الله أنّه يموت بعد يوم واحد، ولكن تصدّق أو وصل رحمه، فإنّ عمره سيزداد الى سنة، وهذا هو المتبادر من الآيات والروايات المتواترة في هذا الباب، فلو قلنا بأنّ الله يعلم بأنّ زيداً سيتصدّق قبل يوم من وفاته حتماً، وسيمدّ الله عمره إلى سنّة كاملة حتماً، فهذا يعني أنّه لم يكن في علم الله أنّه سيموت حتماً بعد يوم، وإلاّ وقعنا في تناقض وبارادوكس منطقي واضح، فما أردنا اثباته نقوم بنفيه في ذات الوقت، فعلم الله بأنّ زيداً سيتصدق حتماً وبتبع ذلك سيزيد الله في عمره سنة يعني أنّ الله يعلم بأنه سوف لن يموت غداً، وهذه القضية خلاف ما فرض أولا من أنّ الله يعلم بموته غداً. إلاّ أن يقال: إن علم الله في القضية الاولى (موت زيد غداً) ـ ولنسميه علم الله رقم (1)، يقع في مرحلة سابقة على علم الله (2) ـ أي موت زيد بعد سنة ـ وهذا يعني أنّ علم الله بعمر زيد موقوف على تصدق زيد، ولا يستلزم محذور الجهل كما سنرى.

تقاطع العلم الأزلي وحرية الإنسان
ثالثاً: يقول الشيخ السبحاني في ما تقدم من الصياغة الثانية: «ولكن هذا العلم الأزلي لا يسلب الاختيار عن الإنسان» ولكن بقليل من التأمل في مفهوم وملازمات علم الله الأزلي يتبين لنا أنّه يستلزم نفياً لحرية الإنسان ويؤدي بنا إلى مقولة الجبر حتماً، وما يقال من التمثيل لهذا المطلب بعلم الاستاذ بنجاح التلميذ وعدم تأثير هذا العلم باختيار التلميذ، قياس مع الفارق، وتصوير ذلك:
إنّ المفهوم الاولى من اختيار الإنسان يعني قدرته على فعل المخالف، وليس بالضرورة أن يرتكب الخلاف حتى يقال ذلك العنوان، أما لو اوصدت جميع ابواب احتمال فعل الطرف المخالف لما بقي معنى لقدرة الإنسان واختياره على مستوى الفعل، وحينئذ نقول، بأنّ علم الله الأزلي بأنّ زيداً سوف يتناول فطوره في المطعم الفلاني غداً يوجب تحقق المعلوم المذكور حتماً، وإلاّ لكذبت قضية «علم الله الأزلي» وقولنا مع ذلك بأن زيداً مختار في فعله يعني جود احتمال الخلاف، كما ذكرنا في معنى الاختيار، ونفس وجود احتمال الخلاف يكذّب القضية الاُولى (علم الله الأزلي بفعل زيد المذكور)، والخطأ في التمثيل المذكور أنّ نجاح التلميذ مشفوع دائماً باحتمال الخلاف ولو كان ضئيلا (1%) وبنفس هذا المقدار نحتمل كذب القضية الاولى وهو علم المعلم المسبق بنجاح التلميذ، ومثل هذا الاحتمال جائز في حق علم المعلم وليس كذلك في حق علم الله تعالى، فإنّ مجرد احتمال الخلاف مهما كان ضئيلا يهدم القضية (1) ـ وهي تناول زيد لفطوره غداً في المطعم الفلاني ـ من الأساس ـ وبذلك تتضح الملازمة الاكيدة بين علم الله الأزلي بافعال الإنسان وسلب الاختيار عن الإنسان بالضرورة وأنّ الاعتقاد بالقضية (1) يتناقض مع الاعتقاد بالقضية (2) وهي اختيار زيد في الفعل المذكور، ولا يستلزم مثل هذا التناقض في الاعتقاد في مثال المعلم والتلميذ، فإنّ صدق القضية (ـ1) ـ وهي علم المعلم ـ لا يتناقض مع القضية (2) ـ وهي اختيار التلميذ ـ لوجود احتمال الخلاف في كلا القضيتين.
ولزيادة التوضيح نستعرض هذا البيان بوجه آخر فنقول: إنّ المثال المزبور من تناول زيد فطوره غداً في المطعم وتصوير تقاطع علم الله الأزلي بذلك مع اختيار زيد بالامكان صياغته في مقدمات عدّة:
1 ـ إنّ الله تعالى يعلم علماً أزلياً بأنّ زيداً سوف يتناول فطوره غداً في المطعم الفلاني.
2 ـ زيد ينوي الذهاب غداً إلى المطعم لتناول فطوره باختياره (مقدمة صحيحة حسب الفرض)
3 ـ إن علم الله الأزلي سوف يقع حتماً، لأنّ من المحال أن يتعلق علم الله الأزلي بأمر كاذب لاستلزامه نسبة الجهل للذات المقدسة.
4 ـ إذا تعلّق علم الله بشيء فلا أحد يستطيع (منطقاً) العمل على خلاف ذلك العلم الإلهي (نتيجة مترتبة على المقدمة 3).
5 ـ إذن فزيد لا يمكنه أن يفعل ما يخالف علم الله الأزلي، أي لا يستطيع أن لا يتناول فطوره غداً في المطعم، وهو معنى الجبر، أي أنّ الاختيار يستلزم امكانية القدرة على فعل النقيض، وهذه الامكانية غير متحققة هنا وفقاً للمقدمة (5).
6 ـ إذن فتناول زيد لفطوره غداً في المطعم لا ينشأ من اختياره، حتى لو قلنا بأنّ الله يعلم بأنّ زيداً سيفعل هذا الفعل باختياره لأنّ لاختيار يستلزم إمكانية فعل النقيض وإلاّ لما كان للاختيار معنىً، ومجرد وجود هذه الإمكانية لزيد أن لا يفعل هذا الفعل ينافي الاعتقاد بعلم الله الأزلي، لأنّ معناه إمكان عدم وقوع وتحقق ذلك العلم، وهو محال.
والسبب الذي دعا علماء المسلمين للالتزام بالقضية (1) إلى جانب القول بالقضية (2) هو توهّم استلزام الجهل والنقص على الله تعالى في حالة سحب اليد عن الاولى، أي أنّهم وقعوا بين محذورين: فاما القول بطرو الجهل في علمه تعالى (فيما لو ارتكب زيد خلاف المعلوم بالعلم الأزلي)، وهذا مما لا يمكن المصير اليه، وإما سلب الاختيار عن زيد، وهذا أيضاً باطل لا محالة لأنه مذهب المجبرة، فلم يجدو أبدّاً من القول بأنّ الله تعالى يعلم منذ الأزل بأنّ زيداً سيرتكب ذلك العمل باختياره، وقد اتضح لك التناقض المبطن الذي يستلزمه الاعتقاد بصدق القضيتين.

عدم العلم لا يعني الجهل!
ولا سبيل لحلّ هذا التناقض سوى سحب اليد عن أحدهما، ولا سبيل لإنكار الاختيار في القضية الثانية حتماً، فلابد من المصير إلى القضية الاولى وأنّ علم الله في مثل هذه الوقائع مشروط بنية العبد وارادته، وهذا يعني أنّه تعالى لا يعلم على وجه التحقيق والحتم ما سيختار زيد من الأفعال، وهذا لا يستلزم نسبة الجهل إلى الله تعالى، والخطأ الاساس في فهم علماء الكلام لهذه المسألة هو خلطهم بين عدم العلم والجهل، فتوهموا أنّ القول بعدم علم الله في بعض الموارد ويعني الجهل والحال أنّ الجهل يكون في موارد امكانية العلم، أمّا عدم علمه بالمعدوم فلا يستلزم نسبه الجهل إليه تعالى كما صرح القرآن الكريم بذلك وأنّ الله تعالى لا يعلم بوجود شريك له:
(قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الاَْرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)( ).
وهو ما يقول عنه المناطقة بأنّ القضية «سالبة بانتفاء الموضوع» فعلم الله المطلق لا يتنافى مع عدم علمه بالمعدومات المحضة، كما أنّ قدرته المطلقة لا تتنافى مع عدم قدرته على جمع المتناقضين وخلق الشريك والابن وأمثال ذلك، لأنّ القصور في الطرف المقابل لا في علم الله الأزلي وقدرته المطلقة، وهذا لا يعني نسبة الجهل والعجز إلى الذات المقدسة، لأنّ نسبة الجهل بشيء، إلى شخص يعني امكانية تحصيل العلم بذلك الشيء، ونسبة العجز تصح في مورد امكانية القدرة على الشيء، ومع انتفاء الموضوع من الاساس لا يبقى مجال للمحمول، فالتقابل بينهما من نوع التقابل بين الملكة وعدمها كالعمى والبصر، فمن فقد ملكه البصر كالجدار لا يقال له أعمى. وقد تقدم بعض الكلام عن هذا الموضوع في المقالة الثانية من هذا الكتاب وأن أفعال الإنسان الاختيارية معلولة لإرادته الحادثة والمخلوقة في ذلك الظرف من الزمان، والخالق لهذه الإرادة هو الإنسان نفسه (وإلاّ للزم التسلسل الباطل أو القول بأنّ الله خلقها وهو الجبر) وهذا يعني أن إرادة الإنسان كانت قبل ذلك عدم محض، فلا يتعلق علم الله الأزلي بها، ولا يستلزم ذلك نسبة الجهل إليه تعالى كما اسلفنا، فلا نعيد.
رابعاً: الافراط في كل شيء أمر مذموم كالتفريط، بل هما وجهان لعملة واحدة حيث يشكل الافراط عادة ردّ فعل لمقولة التفريط، فالغلاة من الشيعة أفرطوا في الولاء لعلي واهل بيته في مقابل الجحود والاقصاء والاستهانة بحقهم من قبل الحكومات وبعض التيارات المذهبية، وكذلك في مسألة الجبر أو التقيد الحرفي بالنصوص من قبل الشاعرة جاءت كردة فعل للمسك العقلاني المحض للمعتزلة، فالدافع للقول بالجبر اساساً هو التنزية وبسط قدرة الله ومشيئته المطلقة لتستوعب كل شيء حتى أفعال الإنسان، فكانت نتيجة هذا الافراط هو مذهب الجبر، وهكذا في ما نحن فيه، فعلماء الكلام بعامة التزموا بأزلية علم الله تعالى واتساع دائرته لتشمل جزئيات وتفاصيل الأعمال الإنسان المستقبلية على اساس تنزيه الله من الجهل والنقص والحال أنّهم سقطوا ـ من حيث لا يشعرون ـ في وادي الجبر الخفي كما رأينا آنفاً، ولكن الأنكى من ذلك هو تجميد المشيئة الإلهيّة وتكبل إرادة الله بعلمه الأزلي، وذلك هو مذهب اليهود حيث قالوا: (وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ...)( ).
وتوضيح ذلك: أنّ القول بأنّ الله تعالى يعلم منذ الأزل بجزئيات ما يحدث على البشرية بتفاصيلها الدقيقة يلازم أن ارادته أيضاً أزلية في خلق ووقوع هذه الحوادث، ويلزم من ذلك تجميد قدرته تعالى على ما كان في علمه الأزلي، لأنه إما أن يقدر على المحو والاثبات والتدخل المباشر في عالم الخلقة، فيلزم من ذلك تغيير العلم وهو معنى «البداء» الحقيقي، ولا يلزم منه الجهل كما يتوهم، وإما أن تكون قدرته وارادته تعالى متطابقة مع علمه الأزلي بتفاصيل وجزئيات الحوادث والأفعال البشرية، فهذا يعني نفي القدرة والاختيار بالنسبة إلى الله تعالى، لأنه لا معنى لأنّ يقال إنّ الله قادر ومختار وبإمكانه تغيير الأمور ومع ذلك لا يستطيع مخالفة علمه الأزلي، ولو سلمنا امكان ذلك على مستوى المفهوم والنظر، إلاّ أنّ الحال لا يختلف على مستوى التطبيق والواقع المتحرك بين قولنا بوجود القدرة والاختيار أو نفيهما عن الله تعالى، فالله على كل حال ليس بامكانه أن يتحرك خطوة خلاف علمه الأزلي، وإن قلنا خلاف ذلك على مستوى النظرية، وهذا هو معنى «يد الله مغلولة» الذي قالت به اليهود، وقد ردّهم الله تعالى بقوله:
(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ)( ).

وجوب القول بالبداء الحقيقي
خامساً: بعد أن اتضح جواز القول بالبداء الحقيقي وأنّ المنكرين له إنّما يجمّدون المشيئة الإلهيّة في نطاق العلم الأزلي، نقول هنا بضرورته ووجوبه، ويشهد لذلك جمع الآيات والروايات الشريفة في باب المحو والاثبات، والدعاء والاستجابة، وأنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم، ونصرة الله للمؤمنين المشروطة، وزيادة الرزق ونقصانه، واستنزال المطر وحدوث القحط وظهور الفساد في البرّ والبحر بما كسبت ايدي الناس وزيادة الآجال ونقصانها وغير ذلك من الأمور ذات الطرفين: الله والإنسان، فهي متصلة من أحد طرفيها بالله تعالى، وطرفها الآخر متصل بالإنسان، ولا يوجد أي تناقض بين هذه المتغيّرات وبين علم الله الأزلي، لأنّه لا وجود لعلم الله الأزلي في هذه الموارد، وانما هو توهّم محض لبس سربال الحقيقة في أذهان علماء الكلام.
وتوضيح ذلك يتم من خلال الالتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الله تعالى فوق الزمان، أي أنّه حال محض دائماً، ولكن علماء الكلام اطلقوا عليه صفة «القديم» في دليل الحدوث لإثبات وجوده تعالى، وقد أثبتنا بطلان ذلك الدليل في الحلقة الاولى من هذه الحلقات الكلامية، كما اثبتنا بطلان دليل «الوجوب والامكان» الذي يتمسك به الفلاسفة لاثبات وجود الله، وقد اطلقوا على الذات المقدسة اسم «واجب الوجود» بتبع ذلك الدليل الواهي، وعلى أية حال، فإنّ صفة «القديم» الزائفة هي التي أدّت إلى توهم وجود «علم الله الأزلي» كصفة من صفات الذات المقدسة، وإلاّ فإن الله تعالى وجميع صفاته من العلم والحياة والقدرة هي حال محض وفوق الزمان والمكان، لأنه تعالى هو خالق الزمان والمكان على القول بأنّ لهما حقيقة خارجية، أو أنّ الله تعالى خالق الحركة وبتبعها وجد الزمان والمكان كما عن بعض الفلاسفة ومنهم صدر المتألهين، وحينئذ يكون الإنسان في واقعه حال محض أيضاً، فالماضي أمّا عدم محض ولا وجود له إلاّ في الذاكرة والذهن وهي لا تعيش إلاّ في الحال، أو أن وجود الماضي تحول إلى آثار وعناصر تعيش الحال أيضاً كما في العلوم البشرية المتراكمة في الحضارة البشرية العاصرة، فكل شيء يتعلق بالماضي قد اصبح حالا ولا وجود للتأريخ الا في اذهان البشر وطيات الكتب، وأمّا المستقبل فهو عدم محض أيضاً بالنسبة إلى كيان الإنسان ووجوده في دائرة الحرية والاختيار، وهكذا يتم تصوير العلاقة بين الإنسان وخالقه كعلاقة تفاعل مستمر وحركة دائمة من العطاء والأخذ والتأثير والتأثّر، ولا مانع من ذلك في الساحة الربوبية، ولا يكون الله تعالى محلا للحوادث والمتغيّرات كما يتوهم علماء الكلام، فالله تعالى على مستوى الفعل يتأثر بدعاء العبد وبارتكابه للذنب وذلك للشروط التي قررها هو على مستوى علاقته مع العبد، وهذا التصوير المتحرك والفاعل على مستوى العلاقة والرابطة بين الإنسان وربّه رغم ما فيها من غموض فلسفي في بعض جوانبها هي أفضل من تجميد الله تعالى في نطاق علمه الأزلي الثابت ما عدا بعض التلاعب بالالفاظ والمصطلحات في الصياغة السابقة.
وأمّا سعة دائرة علمه تعالى لما كان وسيكون وما هو كائن إلى يوم القيامة فهو حقيقة مسلّمة لا خدشة فيها ولكن العدم خارج تخصصاً عن دائرة هذا العلم، وأفعال الإنسان المستقبلية من هذا القبيل، وبعبارة أخرى: أنّ مائدة الماضي والحال والمستقبل مفتوحه امام العلم الإلهي في الحال، فهو يعلم بالماضي والحال والمستقبل كلّه بنحو علمه بالحال، لأنّ الماضي والمستقبل مفهومان داخلان في الزمان وهما من توهمات الذهن البشري المحدود في الزمان والمكان، وليس لهما وجود على نحو الحقيقة.

سادساً: البداء الحقيقي في القرآن
بعد أن استعرضنا في ما تقدم بعض الأدلة العقلية على جواز البداء الحقيقي على الله وأجبنا على ما يطرأ على الذهن من شبهات في هذا المجال، نأتي إلى القرآن الكريم وهو مصدر المعارف الدينية ومرجع الحقائق الإلهيّة للمسلمين لنرى رأيه في هذه المسألة.
ويمكننا ترتيب هذه الفقرة ضمن نقاط:
1 ـ إننا لا نجد ولا آية واحدة تصرح أو تشير إلى علم الله تعالى بأفعال الإنسان المستقبلية، فأليس من العجيب أن تتصدر هذه المسألة المهمچة الكتب الكلامية للمسلمين في باب العلم الإلهي وكذلك في اصل العدل الإلهي ويكثر البحث فيها بين العلماء وكلّهم يؤكّدون على استحالة البداء الحقيقي ولكن القرآن لا يشير في آية واحدة أو جزء آية ما يؤيّد مذهب هؤلاء العلماء!؟
وما يتوهم أنّه يشير إلى ذلك من الآيات الكريمة فهو توهم ساذج واسقاط للمعتقدات الذهنية على القران الكريم، من قبيل قوله تعالى:
(وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّة فِي الاَْرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ)( ).
(أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ)( )
(أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)( )
فانت ترى أنّ كل هذه الآيات الكريمة تشير إلى علمه تعالى بما هو موجود فعلا (كالآية الثانية) فإنّ الله يعلم بنوايا العباد وسرائرهم الموجودة فعلا لا ما كانت معدومة فعلا وسوف توجد في المستقبل، أو يتعلق العلم الإلهي بما سيوجد في المستقبل فيما لو كانت علله وأسبابه متحققة وموجودة في الحال كما في غير أفعال الإنسان من الحوادث الطبيعية التي ستكون في المستقبل الى يوم القيامة، فالله تعالى عالم بها لوجود اسبابها من الشمس والقمر ودوران الافلاك وماذلك، أو وجود الإرادة الإلهيّة فعلا على خلق عوالم أخرى في المستقبل فهذا أيضاً من قبيل ما وجدت علّته فعلا وهي الإرادة الإلهيّة، ولا يمكن أن نقول مثل ذلك في أفعال الإنسان، لأنّ تدخل الإرادة الإلهيّة يعني الجبر، وأما الإرادة الإنسانيّة فهي غير موجودة فعلا.
2 ـ وفي مقابل عدم وجود آية تؤيد مزاعم القوم في علم الله الأزلي بأفعال العباد، هناك العشرات من الآيات الكريمة التي تصرح بالبداء الحقيقي وأنّ الله لا يعلم مستقبل الإنسان على مستوى الهدايه أو الضلال، أو الإيمان أو الكفر، من قبيل قوله تعالى:
(لَِيمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ...)( ).
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الُْمجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ...)( ).
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)( ).
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ...)( ).
(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)( ).
إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ الله تعالى لا يعلم فعلا بمستقبل الأفراد إلاّ من خلال الاحداث والمحن في حركة الحياة.
ولا يعقل حمل كل هذه الآيات الكريمة على المجاز ولا يوجد مسوّغ جدّي لأنّ يستخدم القرآن الكريم المجاز في مثل هذه المقولات العقائدية المهمّة ليثير الشبهات ويشوش الأذهان وخاصة مع شدّة التأكيد الوارد في الآية الاخيرة من الآيات المذكورة اعلاه (فليعلمنّ الله).
3 ـ الآيات القرآنية الصريحة في باب المحو والاثبات في دائرة العلم الإلهي كما في الآية الكريمة التي ذكرناها سابقاً ويستشهد بها العلماء في باب تقسيم العلم الإلهي أو القضاء الإلهي الى: ثابت ومتغير محتوم ومشروط:
(يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)( ).
ومثلها قوله تعالى:
(كُلَّ يَوْم هُوَ فِي شَأْن)( ).
حيث تصرح بتغيّر الإرادة الإلهيّة والمشيئة الربّانية، وذلك يستلزم تغيّر العلم الإلهي الأزلي كما اسلفنا، ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:
(ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ)( ).
حيث تبين أنّ الأجل على نوعين: ثابت ومتغيّر، ولا معنى لهذا الكلام إلاّ بتغيّر العلم الإلهي وكونه على نوعين: ثابت ومتغيّر.
ولتوضيح هذا المطلب اكثر نقول:
إنّ هذه الآيات الكريمة تشير إلى أنّ جميع الحوادث الواقعة والتي سوف تقع في عالم الوجود مكتوبة في كتابين في دائرة علم الله الأزلي، وهما:
1 ـ أمّ الكتاب: وقد يرد التعبير عنه بـ «اللوح المحفوظ» و«الكتاب المسطور» و«كتاب مكنون» وعلى ما يظهر من التسمية فإنّ هذا الكتاب أو هذا القسم من العلم الإلهي يختص بامهات الحوادث وما سيجري على البشرية دون الدخول في تفصيلاتها الدقيقة، وهذا هو العلم الإلهي الثابت والقضاء الإلهي المحتوم الذي لا مجال لحدوث التغيّر فيه.
2 ـ كتاب المحو والاثبات: وهو العلم الإلهي الخاص بالحوادث الواقعة والتي ستقع على افراد البشر بسبب اعمالهم وسلوكياتهم الايجابية والسلبية، وكما يظهر من الاسم أنّ هذا الكتاب أو العلم الإلهي قابل للتغيير والتبديل والزيادة والنقصان كما في موارد الآجال المتغيّرة تبعاً لموقف الإنسان وسلوكه في حركة الحياة، وكذلك الأرزاق، والصحة والسلم، والنصر والهزيمة وما إلى ذلك، وقد تقدم أنّ هذا العلم الإلهي ذو طرفين: طرف متصل بالله تعالى، وطرف متصل بالإنسان، والقضايا المذكورة في هذا الكتاب الإلهي هي من نوع القضايا المشروطة. فإذا وقع الشرط وقع المشروط، وإلاّ فلا، ويمثل لذلك العلامة المجلسي: «مثلا يكتب فيه أنّ عمر زيد خمسون سنّه، ومعناه أن مقتضى الحكمة أن يكون عمره كذا إذا لم يفعل ما يقتضي طوله أو قصره، فإذا وصل الرحم مثلا يمحى الخمسون ويكتب مكانه ستّون، وإذا قطعها يكتب مكانه أربعون، وفي اللوح المحفوظ أنّه يصل (رحمه) وعمره ستّون»( ).

اللوح المحفوظ في العقل الفلسفي والديني!
بعد أن اتضح لديك أنّ العلم الإلهي على قسمين: ثابت ومتغيّر، كما تشهد بذلك الآيات الكريمة بتعابيرها المختلفة عن هذا العلم الإلهي كاللوح والكتاب والرقّ المنشور وغير ذلك، نعطف نظر القاريء الكريم إلى ما فهمه العقل الفلسفي والعقل الديني عن هذه المفردات ليتبيّن لك زيف هذه المنهج في استكناه حقائق الدين والمعارف الغيبية.
فبالنسبة إلى العقل الفلسفي يقول «صدر المتألهين» في معنى اللوح المحفوظ:
«وأمّا اللوح المحفوظ فهو عبارة عن النفس الكلية الفلكية سيما الفلك الأقصى إذ كلّما جرى في العالم أو سيجري مكتوب ومثبت في النفوس الفلكية، فإنّها عالمة بلوازم حركاتها كما بيناه في مباحث الأجسام، فكلما يستنسخ بالقلم في اللوح الحسّي النقوش الحسيّة كذلك ارتسمت من عالم العقل الفعال صور معلومة مضبوطة لعللها وأسبابها على وجه الكلي، فتلك الصور محلها النفس الكلية التي قلب العالم والإنسان الكبير عند الصوفية، وكونها لوحاً محفوظاً باعتبار انحفاظ صورها الفائضة عليها على الدوام في خزائن الله على وجه بسيط عقلي، أو باعتبار اتحادها مع العقل الفعّال، ثم ينتقش في النفوس المنطبعة الفلكية صور جزئية متشخصة بأشكال وهيئات ...»( ).
ولا يحسن بنا الاسترسال في استعراض مثل هذه السخافات المقولبة بقالب الفلسفة والحكمة المتعالية بعد أن ثبت بالعلم الحديث بطلان نظرية بطليموس التي يعتمدها حكماء الإسلام كأصل مسلّم لا يقبل الخدشة كما رأينا في كلام صدر المتألهين، والمصيبة أنّه مع ذلك يدعي في مقدمة كتابه أنّه لم يكتب في كتبه سوى ما أرشده إليه الكشف اليقيني وأيده البرهان العقلي، كما رأينا في المقالة الاُولى من كتاب التوحيد من هذه السلسلة الكلامية، والأنكى من ذلك أنّ هذا المنهج الواهي في فهم حقائق الدين الذي سماه صدر المتألهين بالحكمة المتعالية هو المعتمد لحدّ الآن في الأوساط الحوزوية والاجواء العلمية الدينية!!
أمّا تفسير المنهج الديني لمثل هذه المفردات القرآنية فانه يعتمد ـ كما أشرنا مسبقاً ـ على الروايات الواردة في هذا المجال دون مراجعة العقل والوجدان، ولذلك لا أراه بأحسن حالا من نظيره الفلسفي، فمثلا يقول العلامة المجلسي (وهو العلم العلاّمة من بين علماء الشيعة) تبعاً للروايات وجموداً حرفياً على النص:
«ثم إعلم أنّ الآيات والاخبار تدلّ على أنّ الله خلق لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات: أحدهما اللوح المحفوظ الذي لا تغيير فيه اصلا وهو ما سبق علمه تعالى، والآخر لوح المحو والإثبات فيثبت فيه شيئاً ثم يمحوه لحكم كثيرة لا تخفى على اُولي الألباب»( ) وأنت في غنىً عن دحض مثل هذا الكلام الذي يلتزم بحرفية النص في جميع المفردات الغيبية المذكورة في القرآن الكريم من العرش والكرسي والنفخ في الصور والقلم واللوح وما إلى ذلك.

سابعاً: البداء الحقيقي في الروايات:
وهي كثيرة تكاد تصل إلى حدّ التواتر، ونكتفي بذكر طرفاً منها:
1 ـ كان علي بن الحسين(عليه السلام) يقول:
«لولا آية في كتاب الله لحدثتكم بما كان وبما يكون إلى يوم القيامة ، فقلت له: أيّة آية؟ قال: قال الله: (يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)»( ).
2 ـ عن أبان بن تغلب عن ابي جعفر(عليه السلام) قال:
«لما اُسري بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يا ربّ ما حال المؤمن عندك؟ قال: يا محمد، من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي، وما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في وفاة المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته...»( ).
3 ـ عن ابي عبدالله(عليه السلام) في قوله تعالى: (يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)( )، قال: هل يمحي إلاّ ما كان ثابتاً، وهل يثبت ا لاّ ما لم يكن»( ).
4 ـ (عيون أخبار الرضا): قال الرضا(عليه السلام) لسليمان المروزي:
«ان علياً(عليه السلام) كان يقول: العلم علمان: فعلم علّمه الله ملائكته ورسله، فما علّمه الله ملائكته ورسله فانه يكون، ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون لم يطّلع عليه احداً من خلقه، يقدّم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء»( ).
5 ـ وفي الكافي عن الفضيل بن يسار عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال:
«إن الله كتب كتاباً فيه ما كان وما هو كائن فوضعه بين يديه فما شاء منه قدّم وما شاء أخر، وما شاء محى وما شاء كان ومالم يشأ لم يكن».
6 ـ ما أوردناه من الروايات في اول البحث من قوله(عليه السلام):
«ما عبد الله عزّوجل بشيء مثل البداء» وقوله(عليه السلام): «ما عظم الله عزّوجل بمثل البداء».
أقول: هذه الروايات الشريفة وأمثالها تجتمع مع تفسيرنا لمعنى البداء وأنّ المراد به معناه الحقيقي الذي تكون إرادة الله فيه فاعلة ومتحركة ومتغيّرة بتغيّر سلوك الإنسان وقربه وبعده من الله تعالى، ولعمري إنّ هذه التصوّر عن علم الله وإرادته وعلاقته المتحركة مع الإنسان هو المعنيّ بكونه أعظم العبادات وأسمى معاني التعظيم والتقديس لله تعالى، وإلاّ فاي تعظيم في الفهم السائد عن البداء كما تقدم في صياغته الاولى والثانيه؟ وايّ عبادة تكمن في قولنا إنّ الله يعلم منذ الأزل بجميع ما كان وما يكون من أفعال العباد وسلوكيات الإنسان سوى ما يستلزمه من جمود الإرادة الإلهيّة وتحنيط المشيئة الربانية على العلم الأزلي وتناقض هذه المفاهيم مع حرية الإنسان واختياره كما أسلفنا؟! وحتى لولم تستلزم هذه المفاهيم الباطلة لا يكون الاعتقاد بهذا المعنى من البداء شيئاً مهماً يستحق هذا التعبير من الإمام(عليه السلام)فجميع الناس تعتقد بذلك على اختلاف مذاهبهم ومستوياتهم العلمية، وهذا يعني أنّ الأئمّة(عليهم السلام) أرادوا الفات نظرنا إلى التدقيق في مفهوم البداء وعدم الاكتفاء بالظاهر ولم يتوغلوا في ذكر التفاصيل حذراً من غوغاء العامة وتشنيع أهل الخلاف وتدخل حكام الجور لصالح الفكر السنّي السائد في تلك الاعصار، إلاّ أنّ بعض الروايات المذكور آنفاً كالرواية الثانية صريحة جداً في نسبة التردد في الإرادة إلى الذات المقدّسة، وذلك يستلزم التردد في العلم، أي عدم العلم الأزلي، ولا يعني ذلك نسبة الجهل إلى الله تعالى كما رأينا من الفرق بين عدم العلم (الجائز على الله تعالى) والجهل (المحال على الله تعالى)، وعدم التفريق بين الجهل وعدم العلم هو الذي دفع علماءنا إلى ردّ مقولة البداء الحقيقي مع كل ما فيه من عظمة وبهاء وقداسة ..
وأعتقد أن هناك سبباً آخر نفسانياً في محتواه، وهو أنّ علماءنا حفظهم الله ينطلقون غالباً في مقولاتهم الكلامية من موقف الدفاع ضد تشنيعات أهل السنّة، أي انهم يتحركون في فهمهم واستدلالهم من موقع الحساسية المذهبية ودفع شبهات أهل السنّة لجلب رضاهم واقناعهم بأنّ الشيعة لا تخالفهم في مقولاتهم كما رأينا في البداء أو في مقولة تحريف القرآن، أو في الشفاعة والسجود على التربة وما إلى ذلك، وهذا هو السبب الذي يؤدي إلى تسطيح الفكر وتهميش المعرفة العقائدية لحساب ارضاء الطرف المقابل، ولذلك ترى أدلتهم في هذه المجالات الفكرية سطحية وضعيفة جداً، بينما تراهم في الفقه والاصول في غاية التدقيق والمتانة على مستوى الاستدلال، والمفروض الانطلاق في دراسة المقولات العقائدية والمعارف الدينية من موقع الحياد الفكري التام وعدم السماح لهاجس الدفاع أو ارضاء الفكر الآخر للتدخل في صياغة النتائج التي تكبّل العقل في نطاق التراث الديني السائد.

هشام بن الحكم والبداء الحقيقي:
العالم الوحيد من علماء السلف الذي أيّد مقولة البداء الحقيقي وعدم علم الله بجزئيات أفعال العباد هو هشام بن الحكم تلميذ الإمام الصادق(عليه السلام) وأحد أصحابه الخلّص، ولا نشك في أنّ هذا الرأي لم يذهب إليه هشام بن الحكم إلاّ بعد اقتباسه من الإمام الصادق (عليه السلام) لأنّ مثل هذا التصوير عن علم الله تعالى وعلاقته بالإنسان يعدّ من امهات المسائل الكلامية، وقد عرفنا من سيرة الاصحاب أنّه يرجعون إلى الإمام (عليه السلام)مباشرة لما ذكرنا من قسوة المحيط السياسي والاجتماعي وتدنّي المستوى الثقافي إلى درجة أنّ عامة الناس لا تتحمل مثل هذه المقولات الدقيقة المثيرة للشبهات والتساؤلات، ولهذا اكتفوا ببعض التصريحات الكلية كما رأينا واعطوا الضوء الاخضر لهشام بن الحكم في التصريح بالحقيقة، ورغم أنّ كتاب هشام لم يصل إلى أيدينا مثل كثير من كتب الاصحاب المعاصرين للأئمة (عليهم السلام) إلاّ أنّ الفخر الرازي المعروف بدقته في نسبة الاقوال الكلامية ينسب هذا الرأي إلى هشام ويذكر مقاطع منه ويدّعي أنّ الحلّ الوحيد لمشكلة الجبر والإختيار والقضاء والقدر هو ما ذهب إليه هشام بن الحكم رغم أن موقفه السلبي من الشيعة معروف، يقول الفخر الرازي في كتابه «المطالب العالية» بعد أن يختار رأي الاشاعرة في هذه المسألة وهو عدم ورود التحسين والتقبيح العقليين في أفعال الله تعالى:
«فيثبت أنّه لو كان تحسين العقل وتقبيحه جارياً في أفعال الله وفي احكامه لوجب القطع بقبح تكليف من علم الله أنّه يكفر.
وإعلم أنّ حاصل الجواب عنه يرجع إلى طريقين:
الطريق الأول: وعليه اعتماد جمهور المعتزلة في هذه المضايق (وكذلك علماء الشيعة) أن قالوا: الخلق والتكليف كما حصلا في حقّ من كفر، فكذلك حصل في حقّ من أطاع، وذلك يدل على أنّ الخلق والتكليف ليسا سببين لحصول الكفر والمعصية ...
والطريق الثاني: طريقة هشام بن الحكم، وهي: أنّ هذه الاشكالات إنّما تلزم لو قلنا: إنّه كان عالماً في الأزل بأنّ فلاناً يكفر، فإذا لم نقل بذلك، بل قلنا: إنّه تعالى لا يعلم هذه الجزئيات إلاّ عند وقوعها اندفع الإشكال»( ).
ويقول في بيان أنّ العلم والخبر من الله لا يمنعان من وقوع الفعل بعد أن ينقل جوابين لحلّ هذه المعضلة ويناقشهما: «وأما الجواب الثالث: وهو قول هشام بن الحكم: أنّه تعالى لا يعلم الجزئيات قبل وقوعها، فهذا قول قد أطبق اكثر المسلمين على عدم الالتفات اليه، واتفقوا على أنّه يجب تنزيهه تعالى عنه، وإن كان لأخلاص عن تلك العقيدة البتة إلاّ بالتزامه»( ).

ثامناً: العلم الحضوري لله يؤكد البداء الحقيقي!
يقسم الحكماء العلم إلى قسمين: علم حضوري وعلم حصولي، وعندما يعرف العلم بأنّه: «حضور صورة المعلوم في الذهن» فإن المقصود نفس العلم الحصولي فقط»، وأمّا العلم الحضوري فهو «حضور نفس المعلوم لدى العالم» كما في شعور الإنسان بالفرح والألم، فإنّ إدراكه للألم مثلاً يعني أن نفس المعلوم هو الألم حاضر عند الشخص المتألم، ثم تنقل الأعصاب الحسية هذا الألم ونوعه ومحلّه إلى الدماغ والذهن فيدركه الإنسان بالعلم الحصولي.
إذا تبيّن ذلك نقول: إنّ الله تعالى بما أنّه بسيط الحقيقة وهو الوجود المحض المنبسط على جميع الأشياء، وأنّ علمه ذاتي له وليس صفة عارضة أو حالة طارئة عليه كما هو الحال في علم الإنسان، فهذا يعني أنّ العلم الإلهي من نوع العلم الحضوري بالأشياء، كما ذهب إلى هذا المعنى شيخ الإشراق السهروردي، ولا يعقل أن يكون لله علماً حصولياً بالأشياء، لأنّ العلم الحصولي يستلزم وجود ذهن ويستلزم الغيرية بين العالم والعلم والمعلوم، وهذه الأمور محالة على الله تعالى، فهو سبحانه كل الأشياء تبعاً للحقيقة الفلسفية التي أكّدها صدر المتألهين في موارد عديدة من كتابه الأسفار: «بسيط الحقيقة كل الأشياء ويقول في الشواهد الربوبية: «في أنّه جلّ اسمه كلّ الوجود.. كل بسيط الحقيقة من جميع الوجوه فهو بوحدته كل الأشياء...»( ).
وإذا كان علم الله بمخلوقاته من نوع العلم الحضوري، فهذا يعني أنّه تعالى لا يعلم بالمعدومات التي سوف تتوجد في المستقبل، لأنّ العلم بها لا يكون إلاّ من قبيل العلم الحصولي والتصوري.
وأيضاً فإنّ الدليل على ثبوت صفة العلم لله تعالى ـ كما يذكر الفلاسفة ـ هو أنّ الله علّة لجميع الموجودات، وبما أنّه يعلم بذاته فهو يعلم بمعلولاته، لأنّ العلم بالعلّة يقتضي العلمب المعلوم لعدم انفكاك المعلول عن العلّة، وهذا هو ما ورد في الآية الشريفة: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)( )، لأنّه علّة لها، والعلة حاضرة في المعلول، والمعلول حاضر في العلّة، وهذا هو ما يقول عنه الفلاسفة من اتحاد العلم والعالم والمعلوم، ولكن الله ليس علّة فعلاً للمعدومات التي ستوجد في المستقبل كما توهّم بعض علماء الكلام، فالعلّة الفعلية التامة هي التي لا تفارق معلولها، والله ليس علّة تامة لم سيوجد في المستقبل، لأنّ العلّة التامة تقتضي وجود معلولها فوراً وبدون ترتب زمني وإن كان هناك ترتب على مستوى المرتبة، فالله مقتضي لما سيوجد وليس علّة تامة، وإذا وجد المقتضي وارتفاع المانع، وهو عنصر الزمان، صارت العلّة تامرة فينوجد المعلول على نحو الضرورة، ومع كون هذه المسألة في غاية الوضوع، إلاّ أنّ الكثير من علماء الكلام استدلوا بدليل العلية على علم الله بالمستقبل مع أنّ هذا الدليل يثبت عكلس المقصود تماماً، يقول الشيخ السبحاني في كتاب الإلهيات:
«إنّ العلم بالسبب والعلّة بما هو سبب وعلّة، علم بالمسبب، والمراد من العلم بالسبب والعلّة، العلم بالحيثية التي صارت مبدأ لوجود المعلول وحدوثه، ثم يذكر مثالاً للعلم بالمعلول كالخسوف والكسوف بمجرّد العلم بعلته وإن تحقق الخسوق والكسوف بعد ذلك بمدّة طويلة» ويقول: إذا عرفت كيفية حصول العلم بالمعلول قبل إيجاده من العلم بالعلّة نقول: إنّ العالم بأجمعه معلول لوجوده سبحانه، وذاته تعالى علّة له، وقد تقدم أنّ ذاته سبحانه عالم بذاته، وبعبارة أخريس: العلم بالذات علم بالحيثية التي صدر منها الكون بأحمعه، والعلم بتلك الحثيثة يلازم العلم بالمعلول.. ثم يضيف: وقد استدل بهذا البرهان لإثبات علمه تعالى الأشياء قبل الإيجاد أعاظم المتكلّمين والحكماء»( ).
وأنت ترى ما في الكلام من خلط بين كون الله علّة تامة لما هو موجود فعلاً، وبين كونه متقضياً لما سيوجد، ولو كان علّة تامة لوجد المعلول فوراً بلا تأخير، ومعلوم أنّ العلم بالمقتضي لا يستوجب العلم بالمعلول، هذا أولاً.
وثانياً: إنّ العلم الإلهي بما سيوجد لاحقاً ـ حسب الفرض ـ ليس من العلم الحصولي الذهني كما في الإنسان، بل هو من العلم الحضوري الذي يعني وجودنفس المعلوم في الذات المقدّسة، وهذا يعني أنّ الله عالم بوجود زيد مثلاً على قيد الحياة، إذا كان زيد فعلاً حي، ويعلم كذلك بأنّه ميت فعلاً، إذا كان زيد سيموت بعد سنة، وهذا يعني انطباق علمين مختلفين على موضوع واحد في وقت واحد، وهو اجتماع الضدين، بل اجتماع النقيضين، لأنّ الله يعلم الآن علماً حضورياً بأنّ زيد حي وأنّه غير حي في ذات الوقت (وليس بعد سنة)، لأنّه يراه الآن حيّاً ويراه كذلك ميتاً في ذات الوقت، من قبيل أن تشعرب الجوع والشبع في آن واحد، فمن الممكن أن يشعر الإنسان بالجوع بالعلم الحضوري وبالشبع بالعلم الحصولي في وقت واحد، أمّا أن يشعر بهما معاً بالعلم الحضوري فهذا يعني اجتماع الضدين، أو المتناقضين في وقت واحد، وكذلك لا يمكن اجتماع علمين حصوليين في الذهن في وقت واحد إلاّ بأنّ تتخللها فاصلة زمنية لو قليلة.
وثالثاً: لنفرض أنّ الله يعلم بما سأكون عليه في المستقبل، أي يعلم الآن علماً حضورياً بأنني جالس في الغرفة أكتب هذا الكتاب، ويعلم كذلك بأنني سوف أموت فيما بعد، أي يرى جنازتي ويشهد علمية دفني، كذلك عملية حسابي يوم القيامة وإن كنت من أهل النار فهو يراني في النار اُتعذب، إذاً ماذا يبقى لمقولة الاختيار حينئذ؟ هل يستطيع تغيير مصيري وأكون من أهل الجنّة والله يراني الآن اُتعذب بالنار؟ هل هناك دليل على الجبر أوضح من هذا؟
الحقيقة أنّ هذا المأزق الذي وقع فيه علماء الإسلام، أو أوقعوا أنفسهم فيه يعود إلى تلك الفرضية المسبقة في أذهانهم، وهي أنّ عدم العلم بالمستقبل يساوق الجهل، والله منزّه من الجهل، ولو تدبروا قليلاً في هذه المسألة لتبين لهم أنّ المستقبل عدم محض، وأنّ عدم العلم به يعني الجهل، كما أنّ عدم القدرة الإلهيّة على الممتنعات كخلق الشريك أو الابن أو جمع المتناقضين لا يعني عجز، لأنّ العجز يتعلق بالأشياء الممكنة والمقدورة، والجهل كذلك يتعلق بالأشياء الموجودة ولكن الإنسان لا يعلم بها، وهذا العجز أو الجهل هو المنتفي عن الذات المقدّسة، لا مجرّد عدم القدرة أو عدم العلم بالأشياء الممتنعة والمعدومة.
ويذكر الفخر الرازي كلاماً جامعاً مانعاً لما تقدم في استعراضه لأدلة القائلين بعدم علم الله بالمستقبل، ويقول ما هذا نصه: «قالوا: لو كان الله تعالى عالماً بهذه الجزئيات قبل وقوعها لبطلت الربوبية ولبطلت العبودية، أمّا بطلان الربوبية، فلأنّ الذي علم وقوعه يكون واجب الوقوع، وما كان واجب الوقوع امتنع كون الله قادراً عليه، فوجب أن لا يقدر الله على شيء، وذلك يقدح في الربوبية، وأمّا بطلان العبودية فلأنّ غير ما ذكرناه يقتضي أن لا يقدر العبد على شيء البتة، وذلك يمنع من كونه قادراً على العبودية»( ).
وهذا يعني: عجز الخالق والمخلوق تعالى الله والإنسان عن ذلك علواً كبيراً.

النتائج:
1 ـ إنّ البداء الحقيقي ممكن على الله تعالى، بل واقع، بل هو ضرورة منطقية للايمان بحرية الله والإنسان على السواء.
2 ـ إنّ هذا البداء مختص بأفعال الإنسان ونواياه، ويعني أنّ الله تعالى لا يعلم ما سيفعله الإنسان غداً،.
3 ـ إن علم الله تعالى قد يتعلق ببعض أفعال الإنسان المستقبلية لمن بلغ المرتبة القصوى من الإيمان أو الكفر، فيعلم أن مثل الانبياء سوف لا يعصونه، وأن أئمة الكفر سوف لا يؤمنون به كما أخبر تعالى عن عدم ايمان ابي لهب، وذلك لعلم الله تعالى ببواطن هؤلاء وأنّ جانب الشرّ قد زال تماماً من قلوب الانبياء، وأنّ عنصر الخير قد مات في قلوب الكفار.
4 ـ إنّ القول بعلم الله الأزلي بافعال العباد بتفاصيلها الدقيقة يعني تجميد المشيئة الإلهيّة فوق ذلك العلم الأزلي، وهو معنى قول اليهود «يد الله مغلولة» بخلاف القول بالبداء الحقيقي الذي يعني تفاعل المشيئة الإلهيّة مع الاحداث والمتغيرات الطارئة على احوال البشر وسلوكياتهم في حركة الحياة، فتكون العلاقة بين الإنسان وربّه علاقة متحركة وفاعلة ومليئة بالأمل والنشاط والتفاعل المتقابل في عملية الأخذ والعطاء والتعاطف من الجانبين.
5 ـ إنّ القول بعلم الله الأزلي بافعال العباد يتناقض منطقياً مع حرية الإنسان واختياره.
6 ـ إنّ الآيات والروايات الكثيرة تصرح بالبداء الحقيقي دون معارض.
7 ـ إنّ عدم علم الله بافعال الإنسان لا يعني الجهل، لأنه من باب «السالبة بانتفاء الموضوع» فالعلم الإلهي يتعلق بالموجودات لا بالمعدومات، وأفعال الإنسان من النوع الثاني.



#أحمد_القبانجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تحقيق في اخر اللحظات التي عاشها المسيح
- في نقد برهان النظم
- التقليد والتحقيق في سلوك طلاب الجامعة - د. عبد الكريم سروش
- نظرة عامة في براهين وجود الله
- دوافع جعل الحديث عند الشيعة
- مدرسة الجشتلت ... علم نفس الشكل
- المجتمع المدني مجتمع تحت سلطة القانون
- القرآن والتحدي بمجموع الآيات
- التفسير السيكولوجي لظاهرة الايمان بالله
- منهج العقل الديني في التعامل مع المعارف والمطالب الدينية
- التفسير السسيولوجي لظاهرة الايمان بالله
- التجربة الدينية للنبي
- هل الدين معيار للعدالة أو العدالة معيار للدين؟
- القراءة السطحية للنصوص
- -لا للديمقراطية- هو الشعار الحقيقي للإسلام السياسي
- صورة الله عند الفلاسفة
- من انجازات النبي ... توحيد القبائل والشعوب
- المنهج الجديد في تفسير النص
- اسطورة الفيل وحرب أبرهة الحبشي
- العلاقة المتبادلة بين الدين والأخلاق


المزيد.....




- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد القبانجي - العلم الالهي وحرية الانسان