أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصناعة والزراعة - مفيد بدر عبدالله - حريق نهر














المزيد.....

حريق نهر


مفيد بدر عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 3967 - 2013 / 1 / 9 - 20:14
المحور: الصناعة والزراعة
    


حريق نهر
مفيد بدرعبدالله
ونحن نقلب صفحات مذكراتنا ونستذكر أيام الماضي الأنيق، حيث الطفولة ببراءتها وصدقها، ونستذكر تلك الأيام حين كنا نلعب ونلهو تحت ظلال النخيل الباسق و ( سوابيط العنب ) الخضراء المتدلية الثمار وأشجار الحمضيات ومن حولها الورود بألوانها الزاهية وما تعبق به من روائح سحرية من الجوري والياسمين بألوانها البراقة الساحرة.
عشقي وحنيني لطالما يشدني لنهر ارتبط بذكريات طفولتي ولم يغادر مخيلتي، تعلمت فيه العوم بصحبة أخوتي وأبناء قريتي ومازالت إلى اليوم تدوي في أذنيَّ صرخاتهم وهم يقذفون بأنفسهم من أعلى إحدى القناطر إلى الماء ويتسابقون بالغوص، وما كنت أخشاه كثيرا طفح الماء فيه كان يبلغ حافة الشارع ويغطي أحيانا أعشاب البساتين، تذوقت أسماكه الحمري، الشبوط، البني، البرزم، نرمي لها قطع الخبز فتتجمع حولها وتحدث حركة لولبية متلألئة بأشعة الشمس، أسماك كنا نشاهدها وهي تسبح في القاع لصفاء مائه ونظافته، و نحرص على نظافة النهر بباعث ذاتي وأخلاقي، وهذا ما نفتقده اليوم رغم استحداث وزارة للبيئة.
تركت قريتي مرغما بعد أن أصبحت ميدان حرب حالي حال الكثيرين، ولم أحمل معي غير الذكريات الجميلة التي لم تمحها السنين الطويلة، ظلت ذكريات النهر ورفيقته النخلة على الدوام تلاحقنا مثلما لم تُمح من ألسنتنا عبارات أبي الخصيب، فالكبير يطلق كلمة ( يُبا ) على أي شخص وكأنه يخاطب احد أبنائه، فيفصح عن هويته الخصيبية وكأنها بصمة ألسنتنا الممزوجة بالطيبة والسجية، كان يبكينا هناك منظر الباص الخشبي الذي يذكرنا بالطريق الملتوي بين العشار وأبي الخصيب ومن حوله النخيل مارا بالجسور التي تعتلي الأنهار على مقربة من ( الجراديغ )، وتشعل حريق أفئدتنا تلك القطع المعلقة على بعض المحال ( طرشي أبو الخصيب ) تلك العلامة التجارية الرائجة، و لم ننسَ(حلاوة نهر خوز) بمذاقها السحري وخلطتها العجيبة والتي ظلت لأكثر من قرن صامدة أمام كل ما صنعت البلدان المتطورة ولم تتراجع، لم أحتمل كل هذا، تركت المدينة خلفي عائدا لمسكن الطفولة ولم أكن ادري ما فعلته عجلة الأيام من محو وتآكل فلم يبقَ من تضاريس المكان سوى هياكل الأشياء والأطلال ولم يبق شيء مما حملته تجاويف ذاكرتي، فلا الماء هو الماء ولا الزرع الذي كنت اعرفه، ومن بين الخرائب نهر طفولتي فقد أصبح خاليا من الماء وأصبحت قاعه يابسة متشققة، نمت فيها الأدغال وتحول إلى مكب للنفايات يلعب من حوله الأطفال بعدما جفت البساتين، والذين تسببوا قبل أيام باشتعال النيران بأحراشه المتيبسة والأزبال، اتسعت النيران فيه مما اضطرنا لاستدعاء الإطفاء، لم يصدق عمال الإطفاء عبارات جاري المستنجد: ( حدث حريق في نهر !!) لغرابة ما يقول ولعلها من سخريات القدر ومفارقاته، فكيف لنهر أن يحترق ؟ ، تصوروا أنه يمزح ولكن بعدما أعاد آخرون الاتصال حضروا وبعد جهد جهيد تم إطفاء النار، لكن ما لم تنطفئ نار قلوبنا على ما آل إليه وضع الأنهار في مكان كان يدعى في أحد الأيام ببندقية الشرق، لم أجد أدق ما ينطبق عليه مما قاله أحد الأدباء المحترمين بان ( البصرة أصبحت مدينة في الخيال )، فما بين طفح ماء الأنهار بالأمس وجفافها اليوم عبرات ودموع.
كان نهر طفولتي يستمد ماءه من نهر أوسع متصل بشط العرب، الذي عانى الأمرين من الغوارق التي ظلت لعقود مغمورة فيه مثل الخناجر التي تخترق جسده، وغادره الكري إلى غير رجعة، وظلمته السدود من داخل العراق وخارجه، فبعدما كان يصارع امواج البحر المالح وينتصر عليها ويدفع بها لخارج حدودنا، يقف اليوم خجولا منهزما متقهقرا أمام مياه الخليج المالحة فيبكي وتبكي معه البصرة بنخيلها التي لم تجنِ منا غير المر رغم كل ما أعطته من حلاوة، لم ترحمها سكاكين الجرافات العسكرية والقنابل ، واليوم تقتل بأيدي بعض الأثرياء الجدد شياطين الإنس ممن استحوذت عليهم سلاطين الغرائز وضربوا عرض الحائط قول الدين والقانون، فلا يعرفون ما الذي تعنيه النخلة، التي كانت ولا زالت رمز شموخنا وإرث آبائنا والأجداد والسحر الذي تغنى به السياب، ارتوت من دموعهم ودمائهم و بها عاشوا حصار التسعينيات اللعين، ينتابني هاجس الحياء والهزيمة وأنا أرى في أسواقنا تمورا من غير بصرتنا أو من غير عراقنا.
تأتي الخطوة المتأخرة لإقرار إنشاء السد بادرة أمل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتخفيف المعاناة عن المناطق المنكوبة، فعلها تعيد لبصرتنا ذكريات الزمن الأنيق وتعيد لنهر طفولتي الماء وبدلا من أن يحترق بمزابله وأحراشه، يكون مصدر أمان لإطفاء أي حريق في القرية لا سمح الله، حينها لا نحتاج إلى استدعاء الإطفاء والأهم أن تُطفئ نار قلوبنا بعدما نراه ممتلئا بالماء العذب ومن حوله النخيل المنتج المرتوي رمز شموخنا وهويتنا البصرية والعراقية.



#مفيد_بدر_عبدالله (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مهندسا في الصباح حمّالا في المساء
- رجل بحاجة لحرب عالمية ثالثة
- هم ليسوا اغبياء
- مد ايدك للسمه اكرب
- لن اصفق لافتتاح المجسرات
- دولة سيد فرج
- ترحموا على جدي والنخيل
- ما تعلمت من القطة
- كفى تجاهلا للسياب
- ثلاثون مليون محلل سياسي
- جاسمية وهيلري كلنتن


المزيد.....




- مع زعيم أفريقي.. ترامب يشعل ضجة بفيديو أسلوب حديثه: اسمك وبل ...
- فرنسا وبريطانيا تعلنان لأول مرة عن تنسيق جديد في -الردع النو ...
- رسوم جمركية أمريكية جديدة على ثلاث دول عربية، وترامب يتوعّد ...
- هاربون ومصابون ومنسيون.. مهاجرون على حدود بولندا مع بيلاروسي ...
- الجيش الإسرائيلي يعترف بمقتل جندي في غزة خلال محاولة أسره
- أطباء: نقص الوقود يهدد بتحويل أكبر مستشفى في غزة إلى مقبرة
- حماس: نسعى لاتفاق شامل ينهي العدوان على غزة
- ممثلون للكونغو الديمقراطية وحركة -إم23- في قطر لبحث اتفاق سل ...
- روسيا ومؤامرة تسميم ذكاء الغرب الاصطناعي
- حكومة نتنياهو تقيم نموذجا مصغرا لإسرائيل الكبرى في الضفة


المزيد.....

- كيف استفادت روسيا من العقوبات الاقتصادية الأمريكية لصالح تطو ... / سناء عبد القادر مصطفى
- مشروع الجزيرة والرأسمالية الطفيلية الإسلامية الرثة (رطاس) / صديق عبد الهادي
- الديمغرافية التاريخية: دراسة حالة المغرب الوطاسي. / فخرالدين القاسمي
- التغذية والغذاء خلال الفترة الوطاسية: مباحث في المجتمع والفل ... / فخرالدين القاسمي
- الاقتصاد الزراعي المصري: دراسات في التطور الاقتصادي- الجزء ا ... / محمد مدحت مصطفى
- الاقتصاد الزراعي المصري: دراسات في التطور الاقتصادي-الجزء ال ... / محمد مدحت مصطفى
- مراجعة في بحوث نحل العسل ومنتجاته في العراق / منتصر الحسناوي
- حتمية التصنيع في مصر / إلهامي الميرغني
- تبادل حرّ أم تبادل لا متكافئ : -إتّفاق التّبادل الحرّ الشّام ... / عبدالله بنسعد
- تطوير المشاريع الصغيرة والمتوسطة، الطريقة الرشيدة للتنمية ا ... / احمد موكرياني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصناعة والزراعة - مفيد بدر عبدالله - حريق نهر