أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بدر الدين شنن - يوم تركنا البلد














المزيد.....

يوم تركنا البلد


بدر الدين شنن

الحوار المتمدن-العدد: 3951 - 2012 / 12 / 24 - 15:26
المحور: الادب والفن
    


اعتدت النوم حوالي العاشرة ليلاً .. لكن هذه الليلة اختلف الموعد عن المعتاد . فبعد أن بدأت أهيء نفسي للنوم ، بتوجيه التلفاز بعيداً عن المحطات العربية المقززة للنفس بأخبارها عن الحروب والدمار ، والانفجارات والأشلاء المتناثرة ، وبتناول الدواء المساعد على النوم .. وقبل أن أطفيء النور والتلفاز .. رن جرس الهاتف . قلت في نفسي .. خير إنشاء الله .. ترددت برفع سماعة التليفون . لكن الذي على الطرف الآخر ترك الرنين المزعج يتواصل .. تعبيراً عن رغبته الملحة بالتكلم معي . أزعجني ذلك .. وأحرجني . رفعت السماعة وانتظرت من مهاتفي أن يبدأ الكلام . وبالفعل بادرني قائلاً :
- ألم يصلك الخبر بعد ؟ ..
قلت :
- أي خبر ؟ ..
قال :
- خبر موتي .
حسبته يمزح .. وقلت له :
- هل الآن وقت مزاح .. وبهكذا مزحة ؟ ..
- أنا لا أمزح .. وهل سمعت يوماً .. أن هناك أمواتاً يمزحون ؟ ..
فكرت .. ربما هو سكران .. أو مشوش التفكير بشيء آخر . فأردت مسايرته ، وإنهاء الحديث معه .. قلت له :
- الله يرحمك يا أخي .. غداً نلتقي .. تصبح على خير .
رد علي بانفعال واضح : - هل تأخذني على قد عقلي .. أنا بالفعل قد مت ..

فاضطررت لمسايرته وتابعت معه :
- ومتى وكيف حدث ذلك ؟ .
- لا أعرف .. منذ مدة طويلة وأنا ميت دون أن أدري .. وفجأة اكتشفت أني ميت ..

وصممت على إنهاء الكلام معه قائلاً :
- كفى أرجوك .. أريد أن أنام .. تصبح على خير ..
أجابني والأسى غالب في نبرة صوته :
- حتى أنت يا أبو زياد ..
- حسناً .. سأتصل بك غداً .
- لاتستطيع ..
- إذن سأزورك على قبرك .. أين دفنوك ؟ ..
- لاأعرف .. لعلي لم أدفن بعد .
- سآتي إلى منزلك ..
- أي منزل يا أبوزياد ؟ ..

ووجدت نفسي متوتراً .. وأردت أن أنقل حديثنا إلى مستوى من الجدية والجدوى .. فقلت له :
- مذا تريد بالضبط ؟ ..
رد وكأنه يبكي :
- أريد أن أودعك .. لأنني لاأعرف متى أدفن ..
- وهل يصح ذلك بالتليفون ؟ ..
- ولم لا .. ألم نودع بعضنا مرات ومرات .. يوم تطوعنا بالمقاومة في حرب السويس .. وأيام الحصار .. وعندما كانوا يأخذوننا في الصباحات السوداء .. ونتصور كل مرة .. أننا لن نرى بعضنا بعدها ؟ ..
وأغلق التليفون من طرفه .. وتركني حائراً .. عاجزاً عن النوم .. أفكر به .. وبموته .. وبحديثه معي وهو ميت ..

ماذا كان يريد أن يقول أبو صبيح .. ماذا كان يريد أن يبوح به ولم يستطع .. هل سيطر عليه الاكتئاب إلى هذه الدرجة .. وهو الذي كان في الزنزانة يدندن أشعار الشوق لحبيبته ؟ ..
لا .. ليس الأمر كذلك . هناك شيء آخر .
خطر لي أن أتلفن له .. لأستوضح منه لماذا يخبرني بموته . ثم استبعدت ذلك حتى لا أثقل عليه أكثر مما هو عليه .
وضحكت بصوت مسموع لما خطر لي .. ماذا سأفعل بأبي صبيح إذا التقيت به غداً ..

لما التقيت به .. وجدته معافى .. وليس به ما يدل أنه في حالة مهددة بالموت . رحب بي قائلاً :
- أهكذا تحدثني لما أخبرتك أني قد مت ؟ .
- تستأهل أكثر من ذلك .. لأنك تحدثني وأنت تدعي الموت
ابتسم وقال :
- صدقني أنني قد مت .. وأنت مت أيضاً . ألا تشعر بالموت مثلي ؟ .
احترت فيما أرد عليه . الواضح أن ابو صبيح في مأزق . أردت أن أركب سؤالاً إليه دون أن اثير عنده أي إزعاج . وقبل أن أطرح السؤال ، بادرني هو :
- ليس للموت العضوي أي علاقة بجسدي .. أفهمت ؟ ..
- لكن ما المشكلة ؟ ..
- المشكلة أن موتنا الآن نهائي .
- وهل هناك موت مؤقت وموت نهائي ؟ ..
- نعم نحن قد متنا مرات ومرات .. هل أنساك صخب الحياة هنا ، حياتنا ، ومعاناتنا هناك ؟ .. ألم تقل أنت عندما صرنا بلا حرية أننا متنا ؟ .
قلت :
- هذا صحيح .
- ألم تقل عندما ركلونا والدم ينوف من جسدينا إلى داخل الزنزانة أننا متنا يا أبو زياد ؟ ..
- نعم قلت .
- ألم تقل أنت عندما وصلنا إلى هنا في المنفى .. أننا متنا يا أبو زياد ؟ ..
- قلت .

وصمت أبو صبيح ساكناً .. حزيناً .. وأبعد عينيه عن صورة القلعة الشامخة المعلقة على الجدار .. وراح وهو يغالب الدمع الذي ينفر من عينيه .. يتذكر طفولتهما ، لما كانا يمران من حول القلعة في الطريق إلى المدرسة . ومسح بكفيه وجهه المبلل بالدموع وقال :
- لقد حولوا البلد إلى دمار .. لقد قتلوا الفرح في عيون الأطفال .. وأبكوا بردى والفرات وأبو فراس وسطان ..
وتابع يقول :
- أتعتقد أننا نحيا هنا في المنفى .. ؟ .. لقد متنا يوم تركنا البلد للعابثين واللئام يا أبو زياد .. ومتنا يوم تركنا البلد إلى المنفى .
وقال :
- لكن موتنا النهائي هو .. أننا لن نتمكن من العودة إلى البلد يا أبو زياد .. سواء بقي من هربنا من ظلمه .. أو جاء بديل ظلامي من بعده . ولهذا أعلنت موتي ..

وبينما كان أبو صبيح يسترسل في توصيفاته البائسة لما جرى في حياتنا .. المقتولة حرية في البلد .. والمقتولة غربة في المنفى .. والمقتولة وجوداً في البديل الدموي .. تزاحمت في مخيلتي الذكريات والمشاعر الأليمة .. وتساءلت في نفسي .. هل فقدنا حقاً .. إمكانية العودة إلى البلد .. ألا يمكن أن نتحدى موتنا .. ونتجدد .. ونحيا .. ؟ ..



#بدر_الدين_شنن (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقومات - الربيع العربي - ومعوقاته 2 / 2
- مقومات - الربيع العربي - ومعوقاته 1 / 2
- اليتيم - إلى رمضان حسين -
- غزة العظمى .. تقاتل ..
- ما بعد تجاوز سقوف الأزمة إلى الحرب
- سوريا من التغيير إلى التدمير .. لماذا ؟ ..
- حبيتي حاب
- بصمات عثمانية على الجدران السورية
- السؤال الحاسم في الأزمة السورية ( 2 /2 )
- السؤال الحاسم في الأزمة السورية 1 / 2
- حتى تتوقف كرة الدم
- أول أيار وسؤال البؤس والثورة
- الهروب إلى الحرية
- لماذا السلاح .. وضد من ؟ ..
- بين غربتين
- حتى لاتكون سوريا سورستان
- من الحزب القائد إلى الدين القائد
- ضريبة السلاح ولعنة الدم
- دفاعاً عن الرايات الوطنية
- إعادة الاعتبار - للثورة - .. واليسار .. والاشتراكية


المزيد.....




- إيرادات فيلم سيكو سيكو اليومية تتخطى حاجز 2 مليون جنية مصري! ...
- ملامح من حركة سوق الكتاب في دمشق.. تجمعات أدبية ووفرة في الع ...
- كيف ألهمت ثقافة السكن الفريدة في كوريا الجنوبية معرضًا فنيا ...
- شاهد: نظارة تعرض ترجمة فورية أبهرت ضيوف دوليين في حدث هانغتش ...
- -الملفوظات-.. وثيقة دعوية وتاريخية تستكشف منهجية جماعة التبل ...
- -أقوى من أي هجوم أو كفاح مسلح-.. ساويرس يعلق على فيلم -لا أر ...
- -مندوب الليل-... فيلم سعودي يكشف الوجه الخفي للرياض
- الموت يفجع الفنانة اللبنانية كارول سماحة بوفاة زوجها
- وفاة المنتج المصري وليد مصطفى زوج الفنانة اللبنانية كارول سم ...
- الشاعرة ومغنية السوبرانوالرائعة :دسهيرادريس ضيفة صالون النجو ...


المزيد.....

- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بدر الدين شنن - يوم تركنا البلد