|
على مَن يضحك السفيرالأميركي بيكروف ؟
علاء اللامي
الحوار المتمدن-العدد: 3909 - 2012 / 11 / 12 - 02:01
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يتضح شيئا فشيئا، أنّ تقاربا حثيثاً يحدث في أيامنا هذه بين مضمون و مفردات وآليات الخطاب الذي تعتمده المنظومات الدبلوماسية التابعة لأغلب الدول الغربية التي توصف عادة بـ "الديموقراطية العريقة" ونظيراتها في الدول ذات الحكومات الاستبدادية والدكتاتورية.
فإذا كان النوع الأول قد تميز بشيء، يزيد ونقص حسب المناخ السياسي، من الصراحة والنقدية والتوثيق في طرح القضايا والمعلومات و النأي عن محاولات تضليل الرأي العام وخصوصا الداخلي، فقد أمسى النوع الثاني، والسائد في الدول الدكتاتورية الشمولية مزيجا من التضليل والكذب والتحريف بهدف تزويق المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي تحت شعار "كل شيء على ما يرام سيدي الجنرال !" لتسويقه، من ثمَّ، للمراقب والمشاهد في الداخل والخارج بما يخدم النظام ويديم بقاءه. يبدو أنّ الفروق بين هذين النوعين من الدبلوماسية تتضاءل وتنحسر حتى ليكاد الخطاب الأول يصبح امتدادا للثاني، و لنا في الحادثة التالية خير مثال: في اجتماعه بمراسلي عدد من الصحف العراقية اليومية قبل بضعة أيام، حاول السفير الأميركي الجديد في بغداد روبرت بيكروفت أنْ يستعمل سلاحا كان قد أهمله أسلافه من السفراء و حكام الاحتلال المدنيين، بدءاً من بول بريمر الذي لُقِبَ "بمدمِّر العراق"، ومرورا بمهندس "فرق الموت" في الهندوراس والعراق، جون نيغروبونتي، وليس انتهاءً بسلفه المباشر جيمس جيفري. هذا السلاح هو استعمال وسائل الاتصال الجماهيرية الواسعة التأثير والانتشار كالصحافة اليومية بهدف التواصل والتوصيل. لقد فشل سفير دولة الاحتلال، ومنذ بداية لقائه، في تقديم نفسه بطريقة صحيحة وملائمة، وفي مخاطبة مجتمع متضرر بشدة من ممارسات دولته التي دمرت هذه البلاد خلال عملية احتلال دموية بشعة وبحجج ومزاعم اتضح لاحقا أنها كاذبة وفاسدة جملة وتفصيلا. فمنذ البداية، لم يكن حديث السفير مواسياً أو اعتذارياً، بل ولم يكن في الحد الأدنى مراعيا أو محترِما لجراحات وآلام هذا الشعب، إنما قدم نفسه، وبالتالي دولته، كالمتفضل على العراقيين بإنجازات كبرى متحققة وأخرى على الطريق، فيما يعيش هذا الشعب أسوأ فترة في تاريخه منذ سقوط السلطنة العثمانية، وربما منذ ما قبلها بكثير، حيث التشوهات المرضية تنتشر بين المواليد الجدد بنسب مخيفة بسبب التلوث الإشعاعي الذي خلفه استعمال الأسلحة الأميركية المحرمة دوليا و بخاصة قذائف اليورانيوم المنضَّب والفسفور الأبيض، وحيث البنى التحتية والخدمات البسيطة تذكِّر المراقب بمثيلتها في العصور السحيقة، وحيث فقدان الأمن والرجّات الأمنية المتلاحقة بفعل التفجيرات والعمليات المسلحة الإجرامية، وحيث التأزم الاجتماعي والفساد المالي والإداري الشامل والذي يكاد أن يتحول الى عملية نهب واسعة النطاق و منظمة للمال العام، و حيث الاستقطاب الطائفي والعرقي على أشده، استقطاب ينذر بالتحول في أية لحظة الى اقتتال دموي أهلى واسع النطاق؛ حيث كل هذا وسواه يغطي المشهد العراقي، يأتي السفير بيكروفت ليخاطب العراقيين بهذه اللغة المتعجرفة ولكن المرائية في الوقت عينه، والتي لم تخلُ حتى من احتقار الدبلوماسية الأميركية التقليدية للشعوب الأخرى ومنها الشعب العراقي. كنموذج على هذا الاحتقار لنقرأ هذا التعريف للعراق كما ورد في كلامه ( أرى مستقبلا اقتصاديا واعدا جدا للعراق، لأن البلد يمتلك النفط والأرض ) فالعراق إذاً، بحسب عقلية بيكروفت، ليس إلا أرضاً تحتها نفط، أما ما تبقى من عمليات بناء "العراق الجديد" فسيتكفل به السوبرمان الأميركي!
في حديثه نفى السفير وجود قوات أميركية في العراق، وقال إنّ الكلام عن وجود هذه القوات هو "مجرد شائعات"، وأكد أنْ "ليس لبلاده خطط لاستقدام قوات جديدة". وإذا كان من الممكن أنْ نصدق أن الولايات المتحدة لن تستقدم قوات جديدة الى العراق، لئلا تُذَل وتباد كما حدث للقوات التي سبقتها، فإننا لا يمكن إلا أن نعتبر نفي السفير لهذا الوجود المتحقق للقوات الأميركية الكبيرة محض تخريف لأنه لا يصمد أمام الدليلين التاليين: الأول، هو أنَّ الاتفاقية الأمنية التي يسميها الحكم "اتفاقية انسحاب القوات الأجنبية" نصَّت بوضوح على وجود هذه القوات، وصدرت تصريحات من الطرفين الموقعين ومن أطراف أخرى تؤكد على أنها لا تقل على خمسة عشر ألف عسكري. الدليل الثاني، هو أنّ السفارة الأميركية في بغداد، المعروفة بكونها أكبر سفارة في العالم، تعتبر حصنا ومعقلا محروسا بشدة، يمنع الدخول إليه أو الخروج منه إلا بموافقة وتفتيش أميركيين. وقد حاول عدد من النواب العراقيين مناقشة هذا الموضوع حين اختفت عدة دبابات من صفقة دبابات من طراز إبرامز كانت السلطات العراقية قد تسلمتها من نظيرتها الأميركية ولكن دون جدوى. وما تزال تلك الدبابات مختفية حتى الآن بحسب بعض المصادر والبعض يقول إنها ربما تكون أضيفت الى تسليح القوات الضاربة داخل السفارة المحصنة. ما تبقى من كلام بيكروفت يقطر بهجة وسعادة وتفاؤلا، على طريقة سفراء الأنظمة الشمولية تماما، فليس هناك مشاكل بين العراق وأميركا بل هناك ( رغبة وفرصة للتعاون والتفاعل في كل المستويات الحكومية، بل حتى مع الشارع العراقي )، وأنّ بلاده ( تتعامل مع العراق بمستوى ديمقراطي ودبلوماسي، وعلى الدول الاخرى ألاّ تتدخل في الشأن العراقي بغير الوسائل الدبلوماسية و بروح المساعدة) و أنه (سعيد بعلاقة الولايات المتحدة مع العراق اليوم ) ولم ينسَ السفير الأمريكي المبتهج أصلاً – كي لا نقول المبتهج وراثياً - أنْ يعبر عن سعادته ( بإجراءات تفتيش الطائرات المدنية الإيرانية في العراق معربا عن أمله باستمرار هذه الاجراءات وعدم التخلي عنها). هذه اللغة "المتفائلة" والمطاطية تذكرنا شئنا أم أبينا بلغة سفراء ومسؤولي النظام الدكتاتوري السابق حين يلتقون بوسائل الإعلام المحلية والأجنبية ويتفضلون بإبلاغها وهم على وشك التثاؤب لفرط الهدوء والنعاس: كل شيء على ما يرام، و ليس ثمة مشكلة من أي نوع، والتقدم متواصل على جميع الصُعُد.. فالوطن بخير والمواطن في رخاء وسعادة .. الخ.
تلميح صغير باح به السفير بيكروفت بشأن خروج العراق من البند السابع كشف شيئا له دلالاته الخاصة، فقد قال السفير إنّ حكومته عملت ومن خلف الستار – دون أن يوضح لماذا من تحت الستار وليس من فوقه - من أجل تسوية وتقريب العلاقات بين الجارتين العراق والكويت، وسعينا لتطوير علاقتهما وأكد أنّ مكتب دولته في الامم المتحدة يعمل بجد من أجل إخراج العراق من البند السابع وعودته للبند السادس، ولدينا اجتماعات دورية كل ستة أشهر من أجل حل هذه المسألة. ولكن لماذا بقي العراق تحت طائلة هذا البند طوال عشرة أعوام تقريبا؟ الواقع، هو أنَّ أي جواب لا يصمد أم قوة السؤال المعبر عن الشك في السلوك الأميركي إزاء العراق وبقائه تحت طائلة ووصاية البند السابع. لقد انتهت الحرب منذ عشرة أعوام تقريبا، ورحل الرئيس الأميركي الذي شنها، وانسحب جلُّ القوات المحتلة ولكن العراق لم يخرج حتى الآن من طائلة هذا البند الذي شنت حرب الاحتلال بذريعته. وفي كلِّ مرة يطرح فيها التساؤل عن السرِّ في بقاء العراق تحت وصاية هذا البند يشار إلى الدور الكويتي المعرقل لذلك، وإذا ما علمنا أن الحكومتين الكويتية والعراقية تقاربتا كثيرا حتى أصبحت العلاقات بينهما أفضل من أية علاقات تربط بين العراق وأية دولة أخرى في الإقليم، سيتحتم علينا البحث عن سبب آخر. إنّ ما يقوله السفير الأميركي حول الجهود التي تبذلها حكومته - تحت الستار أو فوقه - لإخراج العراق من وضع الوصاية لا يمكن تصديقه و استيعابه بل هو يشير وبوضوح إلى أنّ الولايات المتحدة الأميركية تستخدم قضية إخراج العراق من طائلة هذا البند لابتزاز هذا البلد وإبقائه تحت هيمنتها و استمرار ارتهان حكومته العاجزة والفاشلة على شتى الصُعُد، وسواء تم هذا الأمر بمساعدة كويتية أو بعدمها فالأمر سيان من حيث الجوهر.
لم يفوت السفير بيكروفت الفرصة دون أن يتفاخر أمام الصحفيين العراقيين بما قدمته دولته من صفقات سلاح للجيش العراقي فقال أن هناك ( صفقات لدبابات ومدرعات وطائرات مروحية وكذلك طائرات أف 16، وتلك الصفقة تشمل ايضا تدريب العراقيين على صيانة تلك المعدات، ونحن نعمل بجد من أجل تسليم طائرات "أف 16" في أقرب وقت ممكن ). الغريب أنَّ سوء الحظ بدا وكأنه يلاحق السفير ، فبعد مرور أقل من 24 ساعة على لقائه الصحفي، وتفاخره بإنجازات حكومته وما قدمته للعراق، أعلنت قيادة القوات الجوية العراقية أن ضباطها اكتشفوا أجهزة تجسس إسرائيلية ومن تصنيع شركة "رادا" الإسرائيلية في داخل تلك الطائرات، وأن الشركة الأميركية المصنعة تجاهلت استفساراتها حول هذا الموضوع! إذاً، فحتى السلاح الذي يشتريه العراق بملايينه النفطية من أميركا لا يخلو من الدسائس والغدر المخابراتي! وختاما، فإذا كان لابد لنا من أنْ ننصف السفير بيكروفت فسنقول عنه إنه، وإنْ كان قد اعتبر العراق أرضا ونفطا لا غير، ولكنه – والحق يقال- لم يعتبر الشعب العراقي برمته صفرا على الشمال، وإنما امتدح بعض الأشخاص العراقيين ( مشددا على أن هناك أشخاص أذكياء جدا، وأكفاء يستحقون منحهم الفرصة ) والأكيد أنْ أذكياء بيكروفت هؤلاء سيمنحون فرصة أكيدة، وأن ذكاءهم سيزداد "شراسة؟" حين تشملهم المخابرات المركزية الأميركية "السي آي أيه" برحمتها و خبراتها وأجهزتها الإسرائيلية!
*كاتب عراقي
#علاء_اللامي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إطلاق سراح أوجلان..إطلاق سراح أمتين!
-
السدود والبحيرات كمسبب للزلازل في تركيا وشمال العراق/ج2 من 2
...
-
قضية الهاشمي: شهادة ليست للقضاء العراقي!
-
احتمالات انهيار السدود التركية بسبب الزلازل
-
توظيف العامل -الديني- في قضايا المياه
-
كافكا الآخر.. رصد الاغتراب الروحي /ج2
-
كافكا الآخر : رصد الاغتراب الروحي
-
التيّاران اليساريّ والقوميّ بين الفشل وقصور الأداء
-
شط العرب اليوم : إنها الكارثة!
-
فرانز كافكا بعيون عربية
-
شط العرب في معاهدة أرضروم وما بعدها
-
شط العرب بعد قرن من الأطماع الإيرانية
-
نصف قرن من التجاوزات المائية الإيرانية
-
التجاوزات العدوانية الإيرانية على أنهار العراق/ توثيق أولي
-
سوريا: الدم المسفوك لا يحتمل مزايدات الساسة!
-
زيارة أوغلو الاستفزازية كانت لمصلحة عراقية كركوك!
-
ربيع الأكراد والخلط بين الصهر القومي والاندماج المجتمعي
-
مَن يعرقل إكمال سد بخمة وإنقاذ دجلة ولماذا ؟
-
الحدث السوري في ضوء التجربة العراقية: ضرورة الموقف المُرَكَّ
...
-
مشروع تحلية الثرثار سينقذ العراق، فلماذا إهماله؟
المزيد.....
-
الاتحاد الأوروبي يرفع رسوم دخول الزوار إلى ثلاثة أضعاف قبل ب
...
-
-عصير رمان وزيت زيتون-.. الرئاسة العراقية تعلق على هدية من ا
...
-
نتنياهو يتهم حماس -بتجويع متعمَّد- للمحتجزين في غزة، وواشنطن
...
-
أوكرانيا: الكشف عن مخطط فساد -كبير- في صفقات شراء طائرات مسي
...
-
ريبورتاج: درعا تحتضن الفارين من معارك السويداء بجنوب سوريا
-
نتانياهو يعبر عن -صدمة عميقة- بعد نشر حماس تسجيلات لرهينتين
...
-
الكونغرس يقر تعيين مقدمة برامج سابقة في أبرز منصب قضائي بواش
...
-
معظم حالات انتحار الجنود الإسرائيليين مرتبطة بالحرب في غزة
-
مع مفاوصاتها النهائية.. هل تضع المعاهدة الدولية حدا لطوفان ا
...
-
-الأكثر تأثيرًا في هذا القرن-.. شاهد كيف يُعيد ترامب تشكيل أ
...
المزيد.....
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
-
زمن العزلة
/ عبدالاله السباهي
-
ذكريات تلاحقني
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|