أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدى السعيد سالم - روسيا وسوريا خير مثال على ان الطبيعة هى التى تحكم















المزيد.....



روسيا وسوريا خير مثال على ان الطبيعة هى التى تحكم


حمدى السعيد سالم

الحوار المتمدن-العدد: 3881 - 2012 / 10 / 15 - 05:34
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الجديربالذكر انه فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وقبل ظهور علم السياسة كتخصص أكاديمى، كانت الجغرافيا تحظى بمكانة كبيرة، كما كانت منظمة بحيث غالباً ما يتم تصور الشئون السياسية والثقافة والشئون الاقتصادية فيها بالرجوع إلى الخريطة.... ولذلك، فإنه فى العصرين الفيكتورى والإدواردى كانت "الجبال والبشر الذين تربوا فيها" تأتى فى المرتبة الأولى من التحليل، بينما الأفكار تأتى فى المرتبة الثانية ....وبالرغم من ذلك، لا تعنى أهمية الجغرافيا أن نقبلها كقوة حتمية يقف أمامها الإنسان عاجزاًكما يقول Robert D. Kaplan.... فقد أضعف الاتصال الجماهيرى والتكامل الاقتصادى العديد من الدول، وأصبحت المصادر المحلية والاثنية والدينية للهوية تعيد تأكيد نفسها..... ولأنها مرتبطة بتضاريس معينة فإن أفضل طريقة لوصفها هى الجغرافيا..... ومثل الصدوع التى تؤدى للزلازل، سيتحدد المستقبل السياسى بالصراع وعدم الاستقرار مع منطق جغرافى مشابه.....والاضطراب الذى أثارته الأزمة الاقتصادية الحالية يزيد من مغزى الجغرافيا بإضعاف النظم الاجتماعية والبنى الأخرى التى صاغها البشر، مما يترك المجال للحدود الطبيعية للكرة الأرضية لكى تكون هى المحدد الأساسى....لذلك، نحن نحتاج إلى العودة إلى الخريطة، وخصوصاً إلى ما اعتبره "مناطق التصدعات" فى أوراسيا... فنحن نحتاج إلى إعادة اكتشاف أولئك المفكرين الذين يعرفون التضاريس بصورة أفضل. كما نحتاج إلى أن نطور نظرياتهم بشأن انتقام الجغرافيا فى عصرنا....

لذلك نجد ان هناك رواد للجغرافيا السياسية وأحد أولئك الأشخاص هو المؤرخ الفرنسى فيرناند برودويل، الذى نشر فى عام 1949 كتاب: البحر المتوسط وعالم المتوسط فى عصر فيليب الثانى.... وبإدخال التركيب السكانى والطبيعة نفسها فى التاريخ، فقد ساعد برودويل بإعادة الجغرافيا إلى موقعها الطبيعى.... وفى مخطوطته، أدت القوى البيئية إلى توجهات تاريخية دائمة تتمثل فى الحوادث السياسية والحروب الإقليمية....وبالنسبة لبرودويل، على سبيل المثال، تزامنت التربة الفقيرة والمضطربة مع مناخ غير مستقر وجاف على شاطئ البحر المتوسط، مما شجع الإغريق والرومان القدماء على غزو البلدان المجاورة...... بعبارة أخرى، لكى نفهم التحديات الحالية للتغير المناخى وارتفاع درجة حرارة المحيط القطبى وندرة الموارد مثل النفط والماء، علينا أن نعيد اكتشاف التفسيرات المناخية للأحداث التى طورها برودويل....

ومن المقولات المهمة فى هذا الإطار مقولة سيادة البحار لألفريد ماهان، الضابط البحرى الأمريكى ومؤلف: تأثير قوة البحار على التاريخ: 1660-1783. حيث كان ماهان –الذى كان ينظر إلى البحار باعتبارها "ملتقى الحضارات"- يعتقد أن القوة البحرية كانت العامل الحاسم فى الصراعات السياسية العالمية..... كما كان هو الذى صك مفهوم "الشرق الأوسط" فى عام 1902، لكى يصف المنطقة التى تقع بين الأراضى العربية والهند والتى تحظى بأهمية خاصة للاستراتيجيات البحرية..... وفى الحقيقة، اعتبر ماهان المحيطين الهندى والهادئ المشجب الذى يتعلق به المصير الجغرافى، حيث إنهما يسمحان للقوة البحرية بأن تمارس القوة بامتداد ظهير أوراسيا ومن ثم تؤثر على التطورات السياسية التى تقع فى عمق آسيا الوسطى.... وتساعد أفكار ماهان فى تفسير السبب فى أن المحيط الهندى سيكون فى قلب التنافس الجيوسياسى فى القرن الحادى والعشرين، والسبب فى أن كتبه تحظى بأهمية كبرى لدى المخططين الاستراتيجيين الصينيين والهنود.....
وبالمثل، رأى المفكر الاستراتيجى الهولندى الأمريكى نيكولاس سبيكمان أن المسطحات المائية فى المحيطين الهندى والباسيفيكى هى مفاتيح الهيمنة على أوراسيا والوسائل الطبيعية لتهديد القوة البرية لروسيا.... وقبل وفاته فى عام 1943، عندما كانت الولايات المتحدة تحارب اليابان، تنبأ سبيكمان بصعود الصين وبحاجة الولايات المتحدة الفورية إلى الدفاع عن اليابان...... وحتى عندما كانت الولايات المتحدة تحارب لتحرير أوروبا، حذر سبيكمان من أن ظهور أوروبا الموحدة فى فترة ما بعد الحرب سيكون فى النهاية أمراً غير مناسب للولايات المتحدة..... هذه هى بعض من الرؤى المستقبلية التى تنبأ بها الحتميون الجغرافيون....

لكن ربما كان الدليل الأبرز على اهمية الجغرافيا وانتقامها هو أبو علم الجغرافيا السياسية الحديثة نفسه وهو هالفورد ماكيندر –الذى لا ترجع شهرته إلى كتاب وإنما إلى مقالة وحيدة بعنوان: "محور الارتكاز الجغرافى للتاريخ"، التى بدأت كمحاضرة ألقيت فى عام 1904 للمجمع الجغرافى الملكى فى لندن..... والعمل الذى قام به ماكيندر هو النموذج الهيكلى للضبط الجغرافى، ويلخص فكرته قائلاً: "الإنسان يبادر وليس الطبيعة، لكن الطبيعة هى التى تسيطر على مستوى النطاق العام".... وتفترض نظريته أن روسيا وشرق أوروبا وآسيا الوسطى هى محور الارتكاز الذى يدور حوله مستقبل الإمبراطورية العالمية.... وأشار إليها باسم: "قلب الأرض" فى كتاب تالى.... وتقع حول قلب الأرض أربعة أقاليم هامشية ترتبط، ليس مصادفة، بالديانات الأربع الكبرى، لأن الإيمان –وفقاً له- هو أيضاً أحد نتائج الجغرافيا.... وهناك منطقتان موسميتان من بين هذه المناطق الأربع، إحداهما فى الشرق تواجه المحيط الباسيفيكى بصفة عامة، وهى معقل البوذية، والأخرى إلى الجنوب تواجه المحيط الهندى، معقل الهندوسية..... أما المنطقة الهامشية الثالثة فهى أوروبا، التى يحيط بها المحيط الأطلنطى فى الغرب وهى معقل المسيحية... لكن المنطقة الأضعف فى تلك المناطق الهامشية الأربع هى منطقة الشرق الأوسط، موطن الإسلام، "المحرومة من الرطوبة لقربها من أفريقيا"، ولكون معظمها "خالية من السكان" (هذه هى صورتها فى عام 1904)...

وخريطة أوراسيا هذه، والأحداث التى وقعت فيها فى مطلع القرن العشرين، هى مادة لتحليلات ماكيندر، التى بدأها بجملة افتتاحية تنذر بنقلته الكبرى: "عندما يأتى التاريخيون من المستقبل لكى ينظروا إلى الوراء على مجموعة القرون التى نعيش فيها الآن، ويرونها مختصرة أمامهم، كما نرى الآن عهد الأسرات الفرعونية التى حكمت مصر، ربما سيصفون الأعوام الأربعمائة الأخيرة بأنها الحقبة الكولومبية (نسبة إلى المكتشف الشهير كريستوفر كولومبس)، وسيقولون إنها انتهت بعد العام 1900 بقليل"....ويشرح ماكيندر ذلك، أنه بينما كانت مملكة المسيحية فى العصور الوسطى "محصورة فى منطقة محدودة ومهددة من قبل البرابرة الخارجيين"، شهد العصر الكولومبى –عصر الكشوف الجغرافية- توسع أوروبا عبر المحيطات نحو بلدان جديدة.... لذا فى بداية القرن العشرين، "سيتوجب علينا مرة أخرى أن نتعامل مع نظام سياسى منغلق"، وفى هذه المرة، سيكون حجمه بمقاييس عالمية (يشير إلى روسيا).... وفى كل انفجار لقوى اجتماعية، سيرتد صداه بقوة من الجانب الآخر من الكرة الأرضية -بدلاً من أن يتلاشى فى إطار الدائرة الضيقة حوله- وستنقسم العناصر الضعيفة فى الأجهزة السياسية والاقتصادية فى العالم تبعاً لذلك... وبإدراك أن الإمبراطوريات الأوروبية لم تعد لديها غرف أخرى لكى تتوسع فيها، ومن ثم عليها أن تجعل صراعاتها عالمية، هنا استشرف ماكيندر –بالرغم من أنه لم يكن واضحاً بصورة تامة- صورة الحربين العالميتين....

ومن هنا، كان ماكيندر ينظر للتاريخ الأوروبى على أنه تابع لتاريخ آسيا، حيث اعتبر الحضارة الأوروبية مجرد محصلة للصراع ضد الغزو الآسيوى.... وقد كتب أن أوروبا صارت ظاهرة ثقافية وأن ذلك يرجع فقط لجغرافيتها، التى تتكون من سلسلة معقدة من الجبال والوديان وأشباه الجزر محاطة بالجليد فى الشمال، والمحيط فى الغرب، ومغلقة بالبحار والصحراء فى الجنوب، وتقبع فى مواجهة روسيا ذات الأراضى الشاسعة والمنبسطة فى الشرق، والتى تمثل تهديداً لها... وداخل هذه الأراضى المغلقة تدفقت موجات متتالية من الغزاة البدو والآسيويين عبر سهول الإستبس المكشوفة حول المناطق الزراعية فى روسيا.... وقد أنتج اتحاد شعوب الفرانك والقوط والرومان تجاه أولئك الغزاة قاعدة فرنسا الحديثة... وبالمثل، نشأت القوى الأوربية الأخرى، أو على الأقل نضجت خلال مواجهتهم مع الآسيويين. وفى الحقيقة، كان ما أشيع عن معاملة السلاجقة الأتراك للحجاج المسيحيين إلى القدس بطريقة سيئة هو ما أدى إلى الحملات الصليبية، التى يعتبرها ماكيندر بداية التاريخ الجمعى الأوروبى....وفى نفس الوقت، برغم أن روسيا محمية بغابات شاسعة تجاه الغزاة، إلا أنها خضعت لجحافل المغول فى القرن الثالث عشر... وقد أدى أولئك الغزاة إلى تأثر روسيا وتغيير طبيعتها.... ولكن لأن معظم أرجاء أوروبا تجنبت مثل هذا المستوى من الدمار الذى واجهته روسيا، فقد استطاعت أن تصبح كابينة القيادة السياسية للعالم، بينما مُنعت روسيا (التى تغيرت طبيعتها) من الاشتراك فى النهضة الأوروبية.... وقد عرفت الإمبراطورية البرية مترامية الأطراف معنى التعرض للهزيمة الوحشية؛ وكنتيجة لذلك، صارت مصابة دائماً بهاجس التوسع وضم الأراضى....

وقد كتب ماكيندر أن الاكتشافات الرئيسة للفترة الكولومبية أدت فقط إلى إعادة فرض الحقائق القاسية للجغرافيا.... ففى العصور الوسطى، كانت شعوب أوروبا مرتبطة بالأرض.... لكن عندما تم اكتشاف طريق للهند يدور حول رأس الرجاء الصالح، دخل الأوربيون فجأة إلى منطقة بطن جنوب آسيا، ناهيك عن الاكتشافات الإستراتيجية فى العالم الجديد.... وبينما كانت أوروبا الغربية "تقطع مياه المحيط بأساطيلها"، يخبرنا ماكيندر أن روسيا كانت تتوسع بالمثل على الأرض بالقوة، حيث "خرجت من غاباتها الشمالية" لكى تفرض النظام على سهول الإستبس عن طريق جنود من القازاق، وتمتد فى سيبيريا وترسل فلاحيها لكى يزرعوا سهول الإستبس التى تقع إلى جنوب الغرب منها بالقمح.... إنها حكاية قديمة، أوروبا فى مواجهة روسيا، قوة بحرية ليبرالية (مثل أثينا وفينيسيا) فى مواجهة قوة برية رجعية (مثل إسبرطة وبروسيا). وبالنسبة للقوى البحرية، فبالإضافة إلى النفوذ الكونى الذى تحصل عليه عن طريق ميزة الوصول إلى مرافئ بعيدة، فإن حدودها الآمنة توفر البيئة المناسبة لكى تتعمق فيها الديمقراطية. وفى القرن التاسع عشر لاحظ ماكيندر أن اكتشاف محركات البخار وحفر قناة السويس قد زاد من قدرة القوى الأوروبية على الحركة حول البطن الجنوبى لأوراسيا، كما كانت السكك الحديدية توشك أن تفعل نفس الشيء بالنسبة للقوة البرية فى قلب أوراسيا.... لذا كان الصراع على أشده حول السيطرة على أوراسيا، الأمر الذى دفع بماكيندر للوصول لفرضيته التى تقول:"ألم يتأكد بعد وجود دائم للعلاقات الجغرافية؟ أليس محور الارتكاز الذى تدور حوله سياسات العالم هو تلك المنطقة الشاسعة من أوراسيا التى تعجز السفن عن دخولها، لكنها كانت مفتوحة تاريخياً لراكبى الخيول من البدو، والتى هى اليوم مغطاة تقريباً بشبكات السكك الحديدية؟"...

فكما كان المغول يدقون -وغالباً ما يحطمون- أبواب المناطق الهامشية المحيطة بأوراسيا، فإن روسيا ترغب الآن فى أن تلعب نفس الدور، حيث كتب ماكيندر فى هذا الأمر قائلاً: "إن العوامل الجغرافية فى الحساب هى أكثر أهمية وأكثر ثباتاً من العوامل الإنسانية". ولننس القياصرة الروس والقادة السوفييت، فهم لا يمثلون شيئاً مقارنة بقوى الجغرافيا....وقد هيأتنا حتمية ماكيندر لصعود الاتحاد السوفييتى ومنطقة نفوذه الهائلة فى النصف الثانى من القرن العشرين، فضلاً عن الحربين العالميتين اللتين سبقتا ذلك.... وبعد ذلك، لاحظ المؤرخ بول كينيدى أن تلك الصراعات كانت حول المناطق الهامشية التى ذكرها ماكيندر التى تنتشر من شرق أوروبا إلى جبال الهيمالايا وما وراءها.... وقد اعتمدت إستراتيجية الاحتواء الخاصة بالحرب الباردة بقوة على قواعد منتشرة فى البطن الاستراتيجى فى الشرق الأوسط الكبير والمحيط الهندى.... وفى الحقيقة، إن ممارسة الولايات المتحدة للقوة فى العراق وفى أفغانستان، والتوترات الحالية مع روسيا حول المستقبل السياسى لآسيا الوسطى والقوقاز ما هى إلا تأكيد على فرضية ماكيندر.... ففى الفقرة الأخيرة من مقالته، أعلى ماكيندر من احتمالية أن تسيطر الصين على المنطقة المحورية التى قد تجعل الصين القوة الجيوسياسية المهيمنة.... ولنر الآن كيف أن المهاجرين الصينيين يطالبون بأجزاء من سيبيريا، كلما ضعفت السيطرة السياسية لروسيا على أطرافها الشرقية. وهنا يمكن أن نستنتج أن ماكيندر مازال على صواب....


وتستمر حكمة الحتمية الجغرافية عبر قرن من الزمان لأنها تدرك أن أعنف الصراعات الإنسانية ليست حول الأفكار ولكن حول السيطرة على الأراضى، وخصوصاً قلب الأرض وحافة الأرض فى أوراسيا.... والأفكار مهمة بالطبع وهى تشمل الجغرافيا.... وبرغم ذلك، هناك منطق جغرافى محدد حول المكان الذى تتجمع حوله الأفكار.... فأوروبا الشرقية الشيوعية ومنغوليا والصين وكوريا الشمالية كانوا جميعاً مجاورين للقوة البرية الكبرى وهى الاتحاد السوفييتى... والفاشية الكلاسيكية كانت بصفة عامة شأناًَ أوربياً.... بينما غرست الليبرالية جذورها العميقة فى كل من الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، وهما بصفة أساسية دولتا جزر وقوى بحرية.... ومن السهل أن نكره مثل هذه الحتمية لكن من الصعب أن نلغيها...
ولمعرفة إلى أين يؤدى بنا صراع الأفكار، علينا أن نطبق أفكار ماكيندر على زماننا هذا... فبعد كل هذا، لم يستطع ماكيندر أن يستشرف كيفية تأثير قرن من التغيير فى إعادة تحديد –وتطوير- أهمية الجغرافيا فى عالم اليوم.... وقد حاول ذلك أحد المؤلفين وهو بول براكن الأستاذ فى جامعة ييل الأمريكية الذى نشر كتابه: نيران فى الشرق، فى عام 1999. وقد رسم براكن خريطة مفاهيمية لأوراسيا تقضى بانهيار عنصرى: الوقت والمسافة، وبملء الفراغات.... وقد قادته تلك الفكرة إلى إعلان: "أزمة الغرفة".... ففى الماضى، عملت المناطق الجغرافية قليلة السكان كوسيلة أمان.... وبرغم ذلك، لم يعد هذا الأمر هو القضية، حيث يرى براكن أنه نظراً لأن مناطق الفراغ تختفى بصورة متزايدة، فإن "الحجم المحدود جداً للأرض" يصير قوة تدفع إلى عدم الاستقرار.....

وإحدى القوى التى تؤدى إلى انكماش خريطة أوراسيا هى التكنولوجيا، وبالتحديد التطبيقات العسكرية لها والقوة المتزايدة التى تضفيها على الدول..... ففى بداية الحرب الباردة كانت الجيوش الآسيوية بطيئة الحركة فى معظمها وثقيلة وهدفها الأساسى هو التماسك القومى، فقد كانت تركز على الداخل. ولكن مع تراكم الثروة القومية وقيام ثورة الكمبيوتر، طورت الجيوش الآسيوية، سواء من الدول الغنية بالبترول فى الشرق الأوسط أو النمور الآسيوية فى الباسيفيكى- طورت تقنيات متطورة عسكرية/مدنية ما بعد صناعية تستخدم فيها الصواريخ والألياف البصرية والهواتف التى تعمل بالأقمار الصناعية.... وقد صارت تلك الدول أكثر تماسكاً من الناحية البيروقراطية، الأمر الذى سمح لجيوشها بأن تركز على الدول الأخرى... فالجغرافيا فى أوراسيا صارت سجناً لا يمكن الهروب منه....والآن، هناك "حزام لا يمكن كسره من البلدان"، بحسب براكن، يبدأ من إسرائيل وينتهى بكوريا الشمالية، وهى الدول التى تقوم بتطوير صواريخ باليستية وترسانات من أسلحة الدمار.... وتكشف خريطة مديات صواريخ تلك الدول عن سلسلة من دوائر متداخلة، مما يعنى أنه ليس فقط لن يكون أحد آمناً من التعرض للهجوم، ولكنه أيضاً من اليسير إدراك أن سلسلة من الأفعال وردود الأفعال التى تؤدى إلى حرب واسعة (على غرار تسلسل الأحداث فى عام 1914 قبل الحرب العالمية الأولى) على وشك أن تبدأ..... وقد كتب براكن: يشبه انتشار صواريخ وأسلحة الدمار الشامل فى آسيا انتشار المسدسات سداسية الطلقات فى الغرب الأمريكى القديم"، وهو المعادل المميت بالنسبة للدول....

لذلك نرى مصطلح الشرق الأوسط الكبير الذى يتطلب مراجعات كبرى لنظريات ماكيندر حول الجغرافيا السياسية.... فنظراً لأن خريطة أوراسيا تتقلص وتمتلئ بالبشر، فإن ما يحدث لا يمثل فقط إزالة للحدود الاصطناعية بين المجالات الدراسية، وإنما أيضاً محواً لتقسيم ماكيندر لأوراسيا إلى "محور ارتكاز" محدد و"هوامش" مجاورة.... فمن الممكن أن تؤدى المساعدات العسكرية من الصين وكوريا الشمالية لإيران إلى قيام إسرائيل بإجراء عسكرى..... كما تستطيع القوات الجوية الأمريكية أن تضرب عمق الأراضى الأفغانية من قاعدة دييجو جارسيا، وهى جزيرة فى وسط المحيط الهندى..... وأيضاً تستطيع البحرية الهندية أو الصينية أن تستعرض قوتها فى خليج عدن وصولاً إلى بحر الصين الجنوبى... باختصار، أعيد تعريف الفكرة المناقضة لتصور ماكيندر بشكل عضوى متكامل...ويمكن رؤية الاختلافات الجديدة فى الخريطة فى مرفأ جوادار الباكستانى. فهناك، على المحيط الهندى، بالقرب من الحدود الإيرانية، شيد الصينيون ميناءً جديداً ذا مياه عميقة... وقفزت أسعار الأراضى فى تلك المنطقة قفزات هائلة، ويتحدث الناس عن قرية الصيادين التى لا تزال نائمة باعتبارها ستكون كمدينة دبى فى المستقبل، التى ربما ستربط مدن آسيا الوسطى فى يوم من الأيام بالأماكن الترفيهية المزدهرة فى الهند والصين عبر الأنابيب والشاحنات العملاقة ومضيق ملقا.... ولدى الصينيين أيضاً خطط لتطوير موانئ المحيط الهندى الأخرى من أجل نقل النفط عن طريق الأنابيب مباشرة إلى غرب ووسط الصين، وحتى من الممكن حفر قناة وبناء جسر أرضى عبر برزخ كرا فى تايلاند.... وخوفاً من أن يلتف حولهم الصينيون، يقوم الهنود بتوسعة مرافئهم البحرية الخاصة وتقوية علاقاتهم مع كل من إيران وبورما، وهما اللتان سيكون العداء الصيني- الهندى حولهما هو الأعنف...

وتنقل تلك العلاقات العميقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والمحيطين الهندى والباسيفيكى بتواصل كبير يكون فيه مضيق ملقا الضيق والمكشوف للهجوم بمثابة منخفض الفولدا فى القرن الحادى والعشرين.... لذا فقد صارت أقدار الشرق الأوسط الإسلامى وإندونيسيا المسلمة مرتبطة بصورة وثيقة بتأثير الروابط الجغرافية وليس الدينية....وستكون تلك الخريطة الأضيق والأكثر تكاملاً والأكثر ازدحاماً، أقل استقراراً مما افترض ماكيندر... وبدلاً من قلب الأرض والمناطق الهامشية التى تفترض الانفصال، ستكون لدينا سلسلة من المناطق الداخلية والخارجية متصلة معاً عبر الاهتمامات الشعبية السياسية والشعور بالاضطهاد..... وفى الواقع، ستكون معظم أرجاء أوراسيا فى النهاية مختنقة ومكتظة بالبشر بما يدفع للشعور بالخوف المرضى من الأماكن المغلقة مثل إسرائيل والأراضى الفلسطينية، حيث تسيطر الجغرافيا على كل شئ ولا توجد "غرفة" إضافية للتوسع فيها..... وعلى الرغم من أن الصهيونية تظهر قوة تأثير الأفكار، فإن القتال حول الأرض بين الإسرائيليين والفلسطينيين هو حالة من الحتمية الجغرافية الحادة.... وهو ما يمثل مستقبل أوراسيا أيضاً....

وستكون قدرة الدول على السيطرة على الأحداث محدودة أيضاً وفى بعض الحالات ستتلاشى تماماً.... وستتفتت الحدود المصطنعة، تاركة فقط الأنهار والصحارى والجبال والحقائق الجغرافية الثابتة الأخرى.... وفى الحقيقة، ربما كانت المعالم الطبيعية للتضاريس هى العلامات الإرشادية الوحيدة الباقية التى يمكن الاعتماد عليها لفهم شكل صراعات المستقبل.... ومثل الصدوع فى القشرة الأرضية التى تنتج عدم الاستقرار المادى، هناك مناطق فى أوراسيا أكثر عرضة للصراع من غيرها..... وتهدد تلك المناطق العازلة بالانفجار أو بالإبقاء على توازن هش.... وليس مدهشاً أنها تقع داخل ذلك القلب الداخلى غير المستقر فى أوراسيا، وهو الشرق الأوسط الذى يمثل محطة كبيرة بين عالم البحر المتوسط وشبه القارة الهندية التى شهدت كل التحولات الأولية فى سياسات القوة العالمية....وبالنسبة لماكيندر، مثل هذا القلب الداخلى إقليماً مزعزعاً بصورة فائقة.... وبرغم أنه كتب فى عصر لم تكن فيه أنابيب للبترول ولا صواريخ باليستية، فقد اعتبر أن هذا الإقليم غير مستقر بطبيعته، ولكن أيضاً له أهمية ثانوية من الناحية الجغرافية... وقد أدى عقد كامل من التقدم التكنولوجى والانفجار السكانى إلى تحويل الشرق الأوسط الكبير إلى وضع ليس أقل فى عدم الاستقرار ولكنه أيضاً أكثر اتساقاً بصورة دراماتيكية، وبينما كانت أوراسيا أكثر عرضة للسقوط فإن الشرق الأوسط الكبير يشهد الآن العديد من مناطق التصدعات....

وشبه القارة الهندية هى إحدى هذه المناطق. فهى معروفة بحدودها ذات التضاريس الجغرافية الصعبة، ففى الشمال توجد جبال الهيمالايا، وأدغال بورما فى الشرق، وفى الغرب يوجد نهر الإندوس وهو الحد السهل نسبياً، (وفى الجنوب يوجد المحيط الهندى بالطبع).... وفى الحقيقة، تنقسم الحدود الغربية إلى ثلاث درجات: الأولى هى نهر الإندوس، والثانية هى المناطق الجبلية الوعرة بصخورها الحادة وقيعانها العميقة التى تمتد إلى المنطقة الخالية فى آسيا الوسطى، والتى تسكنها قبائل الباشتون، والأخيرة هى سلاسل جبال هندو كوش التى تشمل أفغانستان نفسها.... ونظراً لأن تلك الحدود الجغرافية لا تتفق مع الحدود القانونية، ونظراً لأن أياً من جيران الهند لا تمثل دولة مستقرة وحقيقية، فإن التنظيم السياسى الحالى لشبه القارة الهندية لا يجب أن يؤخذ كأمر مسلم به..... فكما مررت بأى من تلك المناطق الحدودية، تجد أضعفها هى الحدود الرسمية...... وفى الغرب على وجه الخصوص، فإن الحدود التى يمكن أن تعتبر حدوداً بحق فهى سلسلة جبال هندو كوش.....
وفى نيبال، تسيطر الحكومة بالكاد على الريف الذى يعيش فيه 85% من السكان.... وبرغم الشخصية التى أضفتها جبال الهيمالايا على المنطقة، يعيش حوالى نصف سكان نيبال فى الأراضى المنخفضة الرطبة بامتداد الحدود مع الهند، والتى تتواجد فيها قوات الشرطة بالكاد.... ومن ملاحظة تلك المنطقة، نجد أنها تبدو قريبة الشبه من سهل جانجز الهندى.... فإذا كان الماويون الذين يحكمون نيبال الآن لا يستطيعون زيادة قدرة بلادهم على الاستيعاب فإن الدولة نفسها ستتلاشى.....
ونفس الأمر صحيح بالنسبة لبنجلاديش... فهى حتى أكثر من نيبال من حيث عدم وجود دفاعات جغرافية لحماية الدولة....ومثل باكستان، لم تعمل حكومة بنجلاديشية سواء كانت عسكرية أو مدنية بصورة جيدة من قبل.... فقد عبر ملايين اللاجئين من بنجلاديش الحدود إلى الهند بصورة غير شرعية.... وبسكانها البالغ عددهم 150 مليوناً (أكبر من سكان روسيا) المحشورين فى مساحة ضيقة تقع فى مستوى سطح البحر، تواجه بنجلاديش خطر التقلبات المناخية، ناهيك عن التقلبات التى يسببها ارتفاع درجة حرارة الأرض.... وبسبب الوضع الجغرافى لبنجلاديش، يتعرض عشرات الملايين من سكانها لخطر الغمر تحت مياه البحر، الأمر الذى يحتاج إلى كل جهود الإغاثة الدولية معاً... وفى هذه العملية قد تنهار الدولة نفسها...

وبالطبع، الكابوس الأفظع فى شبه القارة الهندية هو باكستان التى يأتى فشلها فى أداء وظائفها كنتيجة مباشرة للنقص الشديد لديها فى المنطق الجغرافى لتكوينها، حيث لا تكون الحدود الطبيعية هى التى تعين الحدود السياسية، وإنما العكس... فنهر الإندوس يجب أن يكون حداً بين بلدين، لكن باكستان توجد على ضفتيه، تماماً مثل منخفض البنجاب الخصيب الذى تشطره الحدود الهندية الباكستانية إلى نصفين.... أما صحراء ثار والمستنقعات التى تقع على جنوبها فهى فقط الحد الطبيعى بين الهند وباكستان.... وبرغم أن تلك الحدود تحظى باحترام الطرفين، إلا أنها ليست كافية لكى تحد دولة تضم جماعات اثنية متباينة ومستقرة جغرافياً (البنجاب والسيندهى والبالوتشى والباشتون)، والتى لم يوفر لها الإسلام رابطاً كافياً للوحدة..... فكل الجماعات الاثنية فى باكستان تكره جماعة البنجاب والجيش الذى تسيطر عليه، كما كانت الجماعات الاثنية الأقلية فى يوغسلافيا تكره الصرب والجيش الذى يسيطرون عليه...... فسبب وجود باكستان هو أنها توفر الأرض لمسلمى شبه الجزيرة الهندية، لكن 154 مليوناً منهم، وهو عدد مساو تقريباً لعدد مسلمى باكستان، يعيشون وراء الحدود فى الهند....أما الحدود الشمالية الغربية الباكستانية المجاورة لأفغانستان فهى هشة ومن السهل التسلل عبرها، حيث توجد سلسة المرتفعات الصخرية والوديان العميقة.... وفى الواقع، لا يمكن الفصل بين البلدين.... فعلى كلا جانبى الحدود يعيش الباشتون، فالمنطقة الواسعة الواقعة بين جبال هندو كوش ونهر الإندوس هى بلاد الباشتون، وهى كيان يهدد بالاستقلال فى حالة سقوط باكستان، وهو ما سيؤدى بدوره إلى تفكك دولة أفغانستان...... وما طالبان إلا مجرد التجسيد الأخير للقومية الباشتونية... وفى الحقيقة، يجرى معظم القتال فى أفغانستان اليوم فى أرض الباشتون فى جنوب وشرق أفغانستان وفى منطقة القبائل فى باكستان..... أما فى المنطقة الواقعة إلى شمال أفغانستان، بعد جبل هندو كوش، هناك القليل من القتال، حيث وصلت تلك المنطقة إلى منتصف الطريق فى سبيلها لإعادة البناء وعلى وشك إقامة علاقات أوثق مع جمهوريات الاتحاد السوفييتى السابق فى آسيا الوسطى التى تقطنها نفس الجماعات الاثنية التى تعيش فى شمال أفغانستان..... هذا هو عالم ماكيندر الذى يتكون من الجبال والرجال، والذى تتأكد فيه حقائق الجغرافيا يومياً، وهو ما يحبط القوى الدولية التى تقودها الولايات المتحدة، كما يحبط الهند التى يقع مصيرها وحدودها رهينة لما يحدث فى الجوار القريب داخل جبال هندو كوش التى تشكل حائطاً بارتفاع يبلغ 20 ألف قدم....

وهناك منطقة فاصلة أخرى هى شبه الجزيرة العربية. وتلك المنطقة الشاسعة من الأرض هى مرادف للعرب بنفس طريقة ترادف الهند مع شبه القارة..... لكن بينما الهند كثيفة السكان، فإن المملكة العربية السعودية تمثل شبكة جغرافية من واحات تفصلها أراضٍ شاسعة خالية من الماء.... لذا تعد الطرق السريعة والخطوط الجوية الداخلية ذات أهمية قصوى بالنسبة لتماسك المملكة..... وبرغم أن الهند أقيمت على فكرة الديمقراطية والتعددية الدينية، فإن المملكة العربية السعودية أقيمت على فكرة الولاء لأسرة ممتدة..... لكن بينما الهند محاطة من الناحية النظرية بجغرافيا مضطربة ودول فاشلة، فإن حدود المملكة تختفى وراء صحراء آمنة فى الشمال ومحاطة بحكومات قوية ومحكومة جيداً تقع إلى الشرق وجنوب الشرق...
والمكان الذى تتعرض المملكة العربية السعودية للخطر من ناحيته هو اليمن المكتظ بالسكان، وهو أيضاً السبب الذى يجعل شبه الجزيرة العربية مصدراً للقلق...... فبالرغم من أن مساحة اليمن هى ربع مساحة المملكة، فإنه يساويها فى عدد السكان تقريباً، وهو ما يجعل المركز السكانى الأهم فى شبه الجزيرة مكتظاً فى زاويتها الجبلية التى تقع إلى جنوب الغرب، حيث تعلوها هضبة من أحجار البازلت فوق قلاع من الرمال والصخور البركانية تتخللها شبكة من الواحات ذات الكثافة السكانية المرتفعة منذ القدم.... وفى نفس الوقت لن يستمر مخزون المياه الجوفية إلا لجيل أو جيلين....ونظراً لأن أيا من الأتراك أو البريطانيين لم يسيطروا على اليمن فعلياً، فإنهم لم يتركوا وراءهم مؤسسات بيروقراطية قوية كتلك التى ورثتها المستعمرات السابقة الأخرى.... والأسلحة الصغيرة منتشرة فى اليمن بصورة واسعة، وكذلك التنظيمات المسلحة الموالية لشيوخ القبائل.... ولا يوجد رقم محدد لعدد قطع السلاح الموجودة فى اليمن إلا أن من يريد سلاحاً يستطيع أن يحصل عليه بسهولة.... فقد أشار خبير عسكرى أمريكى فى العاصمة صنعاء، إلى أن "الإرهاب مشروع تجارى فى اليمن التى يوجد فيها 20 مليون شخص مسلحين جيداً ويتخذون من العدوان مشروعاً تجارياً، وجميعهم يعملون بجد ونشاط أكبر مقارنة مع جيرانهم السعوديين... إن هذا الأمر يمثل مستقبل هذه المنطقة، وهو الجحيم الذى تخشاه حكومة الرياض".... ومستقبل اليمن المكتظ بالسكان والقبلى سوف يحدد مستقبل المملكة العربية السعودية إلى حد بعيد..... وهنا، الجغرافيا هى التى تقوم بالدور الحاسم وليس الأفكار....

ويشكل الهلال الخصيب الذى يقع بين البحر المتوسط والهضبة الهندية منطقة تصدع أخرى.... إذ تمثل الدول الواقعة فيه –وهى الأردن ولبنان وسوريا والعراق- تعبيرات جغرافية غامضة لم يكن لها معنى قبل القرن العشرين.... وعندما تحركت الحدود الرسمية عن الخريطة، وجدنا خليطاً من الشرائح السنية والشيعية تناقض الحدود القومية.... وداخل هذه الحدود، هناك سلطات حاكمة قائمة بالكاد فى كل من لبنان والعراق، أما السلطة القائمة فى سوريا فهى مستبدة وغير مستقرة أساساً، بينما السلطة الحاكمة فى الأردن هى سلطة عقلانية لكنها تحت الحصار.... (السبب الرئيس لوجود دولة الأردن هو أن تعمل كمنطقة عازلة للنظم العربية الأخرى التى تخشى أن تكون مجاورة لإسرائيل).... وفى الحقيقة، يتسم المشرق العربى بوجود نظم سياسية سلطوية سيئة ونظم ديمقراطية غير فعالة....ومن بين جميع الدول التى تفتقد للمنطق الجغرافى فى وجودها فى الهلال الخصيب، لا توجد واحدة أكثر من العراق فى هذا الشأن.... فطغيان صدام حسين، وهو الأسوأ فى العالم العربى، كان نتيجة حتمية للجغرافيا؛ إذ أن كل ديكتاتور عراقى، بدءاً من قادة الانقلاب العسكرى الأول فى عام 1958، كان عليه أن يكون أكثر استبداداً من سلفه فقط لكى يمسك بزمام بلد لا توجد له حدود طبيعية ويطغى عليه الوعى الاثنى والطائفى... وربما أثبت وجود الجبال التى تفصل منطقة كردستان عن باقى العراق، وانقسام سهول ما بين النهرين بين السنة فى الوسط والشيعة فى الجنوب- أثبت أنه أكثر أهمية لاستقرار العراق من التلهف على النموذج الديمقراطى.... وإذا لم تستطع الديمقراطية فى مدى قصير نسبياً أن تنشئ جذوراً مؤسسية بالمجتمع، فإن جغرافيا العراق من المحتمل أن تقوده مرة أخرى إلى الطغيان أو الفوضى....

لكن رغم كل التركيز الحالى على العراق، فإن الجغرافيا والتاريخ يخبرانا أن سوريا من الممكن أن تكون فى قلب المستقبل المضطرب فى العالم العربى أيضاً.... فمدينة حلب فى شمالها تعد مدينة تجارية ترتبط بروابط تاريخية مع الموصل وبغداد والأناضول بأكثر مما ترتبط بدمشق..... وكما فى باكستان ويوغسلافيا السابقة، يتركز أتباع كل طائفة ودين فى سوريا فى منطقة معينة بين حلب ودمشق فى المنطقة التى يتزايد فيها نفوذ الإسلام السنى..... وبين دمشق والحدود الأردنية يتركز الدروز، وفى المنطقة الجبلية المشتركة مع لبنان يوجد العلويون- وكلاهما بقايا من موجات المد الشيعى التى جاءت من إيران منذ ألف سنة مضت..... وقد فاقمت الانتخابات التى جرت فى سوريا فى الأعوام: 1947 و1949 و1954 من تلك الانقسامات الطائفية عن طريق استقطاب الأصوات وفقاً للانقسامات الطائفية...... والآن لا أحد يعلم إلى أى مدى سيكون النظام ما بعد السلطوى مستقراً فى سوريا.... صحيح أن النظام السورى مستقر حالياً، فحتى الآن مازال نظام ما بعد حافظ الأسد يؤدى بصورة أفضل من نظام ما بعد صدام فى العراق، تحديداً لأن الطغيان فى الأخير كان أكثر بكثير من الأول، إلا أن صانعى القرار يجب أن يتوقعوا الأسوأ....وبالإضافة إلى عدم قدرة العالم العربى على حل مشكلات الشرعية السياسية، فهو غير قادر أيضاً على تأمين البيئة الطبيعية التى يعيش فيها السكان العرب.... فسكان الهضبة التركية قد يسيطرون على العرب فى القرن الحادى والعشرين لأن الأتراك لديهم الماء والعرب ليس لديهم..... ومع تحول الشرق الأوسط إلى عالم من المناطق الحضرية، ستزداد أهمية المياه مقارنة بالنفط..... فالبلدان التى ستكون لديها المياه، ستكون لديها القدرة على ابتزاز الذين ليست لديهم... وسيصير الماء مثل الطاقة النووية، مما سيجعل محطات تحلية مياه البحر وتوليد الطاقة هدفاً لهجمات الصواريخ فى حروب المستقبل..... فليست الضفة الغربية وحدها التى ليس فيها متسع للبشر، وإنما كل مكان فى العالم يعانى أيضاً من هذه المشكلة...

ومنطقة التصدع الأخيرة هى إيران التى تمتد من بحر قزوين وشمال إيران شمالاً إلى الخليج العربى فى الجنوب.... ونظرياً، توجد كل احتياطيات الشرق الأوسط الكبير من النفط والغاز الطبيعى فى تلك المنطقة... وكما أن خطوط الملاحة تخرج من الخليج العربى، فإن خطوط الأنابيب تمر من بحر قزوين إلى البحر المتوسط والبحر الأسود والصين والمحيط الهندى.... والبلد الوحيد الذى يضع قدميه على كلتا منطقتى إنتاج الطاقة هو إيران، حسبما ذكر جيفرى كيمب وروبرت إى. هاركافى فى كتاب بعنوان: الجغرافيا الإستراتيجية والشرق الأوسط المتغير.... يحتوى الخليج العربى على 55% من الاحتياطيات العالمية من النفط الخام، وتسيطر إيران على الخليج بأكمله من شط العرب على الحدود مع العراق إلى مضيق هرمز فى الجنوب الغربى، بشاطئ يبلغ طوله 1317 ميلاً وتوجد على امتداده العديد من الخلجان الفرعية والجيوب المائية والجزر التى توفر المزيد من الأماكن المناسبة لإخفاء القوارب السريعة المضادة لناقلات النفط....وليس من قبيل المصادفة أن إيران كانت القوة العظمى الأولى العالمية، فهناك منطق جغرافى محدد وراء ذلك.... فإيران تمثل كبرى نقاط الاتصال العالمية فى الشرق الأوسط التى تنصهر مع المراكز الجغرافية الكبرى الأخرى.... فحدودها تتفق وتتطابق تقريباً مع الملامح الطبيعية لتضاريسها- فهناك هضبة إلى الغرب، وجبال وبحار إلى الشمال والجنوب، وصحراء تمتد إلى الشرق ناحية أفغانستان..... ولهذا السبب، لدى إيران سجل محترم كدولة قومية وحضارة مدنية بأكثر مما لدى معظم البلدان الأخرى فى العالم العربى وجميع بلدان الهلال الخصيب..... وليس من قبيل المفاجأة أن كلاً من الهند والصين تتوددان إلى إيران، وهما البلدان اللذان ستسيطر قواتهما البحرية على المسارات البحرية لأوراسيا فى القرن الحادى والعشرين...ومن بين جميع مناطق التصدع فى الشرق الأوسط الكبير، يتسم المركز الإيرانى بخصائص فريدة، فعدم الاستقرار الذى سوف تسببه إيران لن يأتى من انهيار الدولة (مثل المناطق الأخرى التى تم تناولها)، وإنما سيأتى من الأمة الإيرانية القوية المتماسكة داخلياً التى ستنفجر إلى الخارج لكى تحطم المنطقة المحيطة بها..... فمن خلال أيديولوجيتها الصارمة وأجهزة مخابراتها الماهرة، تدير إيران إمبراطورية غير تقليدية ما بعد حداثية تتكون من كيانات أقل من الدولة فى الشرق الأوسط الكبير: حماس فى فلسطين، وحزب الله فى لبنان، والحركة الصدرية فى العراق...... أى أن المنطق الجغرافى للانفجار الإيرانى سيكون مخيفاً بالشكل الذى كان عليه الانفجار الروسى الذى أخبرنا عنه ماكيندر....


وتحدد جغرافيا إيران اليوم الإستراتيجية الأكثر واقعية لتأمين منطقة التصدع هذه مثلما كانت تحدد جغرافيا روسيا من قبل، وهى الاحتواء.... فكما كان مع روسيا، يجب أن يكون الهدف من وراء احتواء إيران هو وضع ضغوط على تناقضات النظام غير المقبول جماهيرياً والثيوقراطى فى طهران على النحو الذى يؤدى بالنهاية إلى تغييره من الداخل.... فالصراع حول أوراسيا يقع على جبهات عديدة، لكن أهمها هى عقول وقلوب الإيرانيين، تماماً كما كان بالنسبة لمواطنى أوروبا الشرقية أثناء الحرب الباردة.... فإيران يقطنها أحد أكثر شعوب العالم الإسلامى تعقيداً، فعندما تذهب إلى هناك تجد عداءً للولايات المتحدة وللسامية أقل مماهو موجود فى مصر.... وهذا هو المكان الذى يلتقى فيه صراع الأفكار مع محددات الجغرافيا......
ويشبه الصراع حول أوراسيا فى هذا القرن نظيره فى القرن الماضى، حيث مازالت فرضية ماكيندر صحيحة: الإنسان يبادر لكن الطبيعة هى التى تحكم.... ومع ذلك، فإن عالمية الليبرالية والفردية التى ينادى بها أشعيا برلين لم تذهب سدى، لكنه صار واضحاً أن نجاح هذه الأفكار على نطاق واسع تحدده الجغرافيا.... وفى ظل الأزمة المالية العالمية الحالية، لن تتبدد الثروة وحدها، وإنما سيتآكل معها التنظيم السياسى والاجتماعى القائم تاركين محددات الطبيعية ومشاعر البشر وحدهما للإجابة على السؤال القديم: من يستطيع أن يقهر من؟ فقد اعتقدنا فى السابق أن العولمة قد أتت على هذا العالم الأثرى بخرائطه البالية، لكنه عاد الآن لينتقم... لذلك سوريا في منطقة الشرق الأوسط تمثل فرصة استراتيجية بالنسبة لروسيا، فهي أحد أهم بقايا حلفاء روسيا في حقبة الاتحاد السوفيتي السابق...

من هذا المنطلق، وبوصف روسيا أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، فقد اعترضت على مشروع القرار الذي يعاقب حكومة بشار الأسد ويدين العنف الحاصل في سوريا، وامتنعت روسيا عن الموافقة على القرار.... وفي هذا الصدد يبدو أن سعي وإصرار روسيا على دعم بشار الأسد والحكومة السورية، بات ركيزة اهتمام وسائل الإعلام العالمية، لكن تحليل جذور وأسباب هذه المسألة بحاجة إلى إلقاء الضوء على عدة محاور على النحو التالي:
أولا: سوريا بموقعها في الشرق الأوسط تمثل فرصة استراتيجية بالنسبة لروسيا، فهي أحد آخر حلفاء الاتحاد السوفيتي السابق، وهي من هذا المنطلق تدعم حلفائها في المنطقة الذين يسعون للحفاظ على المصالح الروسية، ويحافظون على توازن القوى لصالح روسيا، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار مخاوف روسيا من تزايد النفوذ التركي وتصاعد التيارات الإسلامية السلفية وحركة الإخوان المسلمون....
ثانيا: المحاور الاقتصادية أيضا أحد أسباب هذا الدعم، فالتبادل التجاري في مجال التسليح بين سوريا وروسيا بلغ حوالي 1 مليار دولار، والتبادل التجاري غير العسكري بين الدولتين بلغ 1.5 مليار دولار، وبرغم أن هذا الرقم لا يمثل أهمية كبيرة، إلا أن هذه المسألة تمثل أحد الحجج الروسية من منطلق أن روسيا تعتبر الشريك الرئيسي والبائع الأول للتسليح السوري، وهي شراكة دامت على مدى أكثر من 45 عام.... وفي سياق تحليل هذه الشراكة يجب القول أن هذا الأمر بالنسبة لسوريا يمثل محور الحفاظ على التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، وبالنسبة لروسيا يمثل محور الحفاظ على النفوذ الاستراتيجي من أجل تحجيم تركيا وتحقيق تواجد في التوازنات الشرق أوسطية، ومن ثم فإن الحفاظ على علاقات التسليح السورية الروسية على هذا النحو في إطار نظام حكم بشار الأسد، يمثل أولوية كبرى بالنسبة للروس....

القضية الأخرى تتمثل في أن عودة بوتين إلى السلطة بنمط يشوبه الغموض تجاه وضع العلاقات الروسية الأمريكية، في ظل مشكلات وتعقيدات السياسة الروسية تجاه قضايا الشرق الأوسط، جعل من روسيا أحد أكثر الأطراف الإقليمية انفعالا تجاه قضايا المنطقة، ومن ثم تلعب روسيا مؤخرا دور محوري في ساحة التحولات السورية، إلى جانب الملفات الإيرانية على الساحة الدولية....في ظل هذا الوضع يجب أيضا أن نأخذ في الاعتبار التهديدات والمشكلات التي تنظر إليها روسيا ضمن تطورات منطقة القوقاز على الصعيد الداخلي والخارجي والإقليمي، فوجود 30 مليون مسلم داخل روسيا و60 مليون مسلم داخل الحدود المتاخمة (في آسيا الوسطى والقوقاز)، يكسب تطورات الأحداث على صعيد الشرق الأوسط، مكانة خاصة بالنسبة لروسيا، فدول وحلفاء هم الذين يتضررون من الانقلابات المتوالية التي ينفذها الإسلاميون بالمنطقة كما أن بداية دعم التيارات الإسلامية التي صلت إلى السلطة في الشرق الأوسط، يمكن أن يغلف الموقف الروسي بالغموض في المستقبل ويعرضها للمشكلات من جانب المسلمين الروس ومسلمي الكيانات المتاخمة للحدود الروسية...

حمدى السعيد سالم



#حمدى_السعيد_سالم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثقافة طبق الفول وحمير الاخوان
- مريم المقدسة
- صرخة فى وجه الحسبة
- ائتلاف شباب الثورة ورقة التوت الاخيرة التى فضحت الجميع
- لا حذاء للديمقراطية يامرشد الاخوان
- عفوا نحن فى زمن جاهلية الاخوان
- الماسة والاحجار
- ما المانع اذا ايها القدر!!!!!
- يامرسى اللى اختشوا ماتوا
- ما احوج اقباط مصر لمناضل يخلصهم من ظلم الاضطهاد!!!
- هل يستطيع الشعب السعودى الثورة على هذا النظام الموالى لاسرائ ...
- احبك يا بحر الرقة والحنان
- فض الاشتباك بين اشكالية اسلام النص واسلام التاريخ
- الاسبرطية والشيوعية والتحريضية الاخوانية الكفاحية هى المشروع ...
- البلوتوث الانسانى(التخاطر عن بعد)
- لن تستطيعوا فهم ما يجرى حولكم حتى تفهموا النظام العولمى
- الأخضر الإبراهيمي هو القنطرة لاستعادة تركيا مجدها السياسى فى ...
- افيقوا الفيلم المسىء للرسول طعم لتغذية الفتنة الطائفية وتقسي ...
- كل ما بداخلى مات
- الفيلم المسىء للرسول هل هو حرية رأى ام تحريض على فتنة طائفية ...


المزيد.....




- برق قاتل.. عشرات الوفيات في باكستان بسبب العواصف ومشاهد مروع ...
- الوداع الأخير بين ناسا وإنجينويتي
- -طعام خارق- يسيطر على ارتفاع ضغط الدم
- عبد اللهيان: لن نتردد في جعل إسرائيل تندم إذا عاودت استخدام ...
- بروكسل تعتزم استثمار نحو 3 مليارات يورو من الفوائد على الأصو ...
- فيديو يظهر صعود دخان ورماد فوق جبل روانغ في إندونيسيا تزامنا ...
- اعتصام أمام مقر الأنروا في بيروت
- إصابة طفلتين طعنا قرب مدرستهما شرق فرنسا
- بِكر والديها وأول أحفاد العائلة.. الاحتلال يحرم الطفلة جوري ...
- ما النخالية المبرقشة؟


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدى السعيد سالم - روسيا وسوريا خير مثال على ان الطبيعة هى التى تحكم