مصطفى مجدي الجمال - مفكر وسياسي يساري مصري - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: اليسار المصري .. بين الأجيال (منظور إنساني/ موضوعي).


مصطفى مجدي الجمال
الحوار المتمدن - العدد: 3873 - 2012 / 10 / 7 - 15:21
المحور: مقابلات و حوارات     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -89 - سيكون مع الأستاذ مصطفى مجدي الجمال - مفكر وسياسي يساري مصري - حول: اليسار المصري .. بين الأجيال (منظور إنساني/ موضوعي).
 


مدخل شخصي


في البداية لا بد من الاعتراف بسر كنت أحتفظ به لنفسي. فقد سبق أن أخذت عهدًا على نفسي بالتوقف عن العمل السياسي اليومي والمباشر، وأن أتفرغ للبحث والكتابة بمجرد بلوغي سن الستين. قلت إنه بعد أكثر من اثنين وأربعين عامًا من الانخراط المباشر، قد يكون من الأكثر فائدة للآخرين (أو قل: الأقل إضرارًا بهم!!) أن أتوقف بعد عقود كتبت فيها مئات مجلات الحائط والمقالات والمنشورات والتقارير والبيانات والدراسات السياسية المباشرة (الكثير منها بغير توقيعي) وحضرت آلاف اللقاءات الثنائية والاجتماعات والندوات والمؤتمرات والتحركات الجماهيرية.. ولكن قبل أن يأتي الموعد المضرب بعام ونصف جاءت ثورة 25 يناير.. فانتعشت رئتاي بأنفاس جديدة كأنني شاب تتفتح عيناه من جديد على واقع ثوري مدهش. وذهب ذاك العهد الشخصي أدراج الرياح الثورية.

كان التصور عندي أن الواقع السياسي والتنظيمي والجماهيري لليسار قد بات راكدًا، وأن تجارب جديدة لا بد أن تُخاض، وأن نمنح أصحابها الجدد فرصتهم كافيةً لأن يبدعوا ويتقدموا. والغريب أنه على الرغم من قناعتي هذه وجدت نفسي- بمجرد اشتعال الحدث الثوري- مدفوعًا بقوة خارجية لا رادّ لها كي أقدم المساعدة، وأن التقاعس عنها جريمة. وأزعم أنني ظللت حريصًا على ألا أتجاوز حدود "المساعدة".

كانت البداية يوم الخامس والعشرين، ولكن في ظهر يوم الثامن والعشرين من يناير 2011 دارت خمس ساعات رهيبة من أكثر الساعات حسمًا في تاريخ مصر الحديث. فبمجرد انتهاء صلاة الجمعة دوت الهتافات الشجاعة وبدأت أصوات الرصاص والقنابل الصوتية والمسيلة للدموع.. كان معي أحد أبنائي البالغ وقتها ستة عشر عامًا في أول يوم له من الاحتكاك الجدي بالسياسة.

حاصرتنا المدرعات عند مدخل سوق التوفيقية بوسط القاهرة ووجدت نفسي أصرخ في قائد إحدى المدرعات وأنا أسبه سبًا مقذعًا على بعد أمتار قليلة منه، وحذرته من الضرب. الغريب أن الرجل تجمد تمامًا وظل ينظر إلى في هدوء ولم يطلق طلقة واحدة من أي نوع.. وهاج عليَّ باعة قطع غيار السيارات المتمركزين في هذه السوق الذين خشوا على دكاكينهم وبضائعهم.. قال لي أحدهم: "جرى إيه يا حاج مالوش لازمة كده!!". رنت في أذني كلمة "حاج"!! وقلت إنني قد كبرت في السن فعلاً..

توالى الكر والفر.. وبدأ الشباب يقيمون المتاريس وخوضون معارك بطولية بمعنى الكلمة.. وفي لحظة تعيسة وجدت نفسي محاصرًا مع مجموعة صغيرة من المتظاهرين في شارع سينما أوديون من الناحيتين وأطلقت المدرعات- ومن بينها ذات المدرعة التي سببت قائدها- ما لا يقل عن عشرين قنبلة خانقة في هذا الحيز الضيق جدًا.. وتقدم رجال المباحث بملابسهم المدنية وأعملوا الضرب الوحشي في الشباب.. ضاقت أنفاسي فتهاويت على الرصيف وتأكدت أنني على وشك الموت اختناقًا.. تجاهلني المهاجمون وركزوا على اصطياد الأولاد.. قفز ابني من فوق سور لفناء خلفي لمنزل قديم، أشرت إليه بعبوره.. فلم يكن الأمن ليتواني عن ضربه وأترابه ضربًا مميتًا بعصي غليظة جدًا.



دهشة الاكتشاف

أفقت من نصف الغيبوبة رويدًا رويدًا لأجد شابًا في العشرينيات يسألني: "أنت في المظاهرات من يوم 25 ياحاج؟" (مرة ثانية أسمع كلمة "حاج").. فكان ردي "أنا في المظاهرات من 68 يابني.. من سنة 68 يعني!!". بهت الولد وكأنه يعاين ديناصورًا بمعنى الكلمة. وتذكرت أنني وقتها كنت في ذات عمر خالد ابني الآن (انقطعت الصلات بيننا بسبب قطع شبكات المحمول.. وعلمت فيما بعد أن العاملات في مشغل للخياطة خبأنه ثم هربنه من شارع خلفي، وبالأحرى تاه مني ولم أعثر عليه إلا صدفة في المظاهرات بعد ساعتين)..

دار حوار طويل نسبيًا بيني وبين الشاب، وكنا كمن يكتشف أحدنا الآخر.. واكتشفت أنه يصور الحوار بكاميرا في يده.. قال إنه سيضع الفيلم على "النت".. ولحظتها أحسست على الأقل بالفوارق التكنولوجية بين "جيلينا" (كانت طباعة منشور أو تبليغ قرار عاجل مثلاً عملاً معقدًا). بعد هذا بساعات قليلة شاركت في نقل جنود الأمن المركزي المختنقين من الغازات للعلاج في مقر حزب التجمع بميدان طلعت حرب، وعندما بدأت قوات الأمن المركزي في الانسحاب من الشارع ساعدت في حمايتها من غضب المتظاهرين.. وحدث أن التقيت الشاب نفسه مرة أخرى فبادرني بقوله: "نجحنا يا ريس والبوليس بينسحب" (هذه المرة قال "ياريس" وليس يا "حاج").. قلت له: "نعم ولكن نزل الإخوان ومن المؤكد أن الجيش هينزل بالليل". قال لي: "الثورة في الشارع".
 


الاكتشاف الأسبق

لا أعرف لماذا استدعت ذاكرتي على الفور أول لقاء لي في أوائل السبعينيات مع يساريين قدامى طلبوا لقاءنا، وكنا لم نزل في أولى سنوات الجامعة، وفي الحقيقة أن مشاعر التوجس سرعان ما تحولت لبهجة حقيقية لأن تجد بين الكبار من هم مثلك.. بل إن النقاش مع الرفاق الأقدم قد كشف لنا عن تكامل قوي الاحتمال بين خبراتهم التنظيمية العريضة وبين حركتنا الفعالة.. والأهم أننا اكتشفنا أن اطلاعنا الثقافي أكثر رحابة منهم حيث لم يتحدثوا كثيرًا خارج المأثورات والنصوص. كما كانت القضية الوطنية وتحرير الأرض المحتلة هي مدخلنا إلى الفكر الاشتراكي، بينما كانوا هم أكثر اهتمامًا بقضيتي الديمقراطية والعدل الاجتماعي. ومن هنا برزت أمام عينيّ إمكانيات التكامل.

بعد هذا اكتشفنا أن أولئك القدامي ليسوا شيئًا واحدًا.. وعلى أي حال جثمت في الأجواء مسألة حل الأحزاب الاشتراكية لنفسها في منتصف الستينيات.. وأزعجتنا الاتهامات المتبادلة، وحاول البعض من القدامى استبعاد البعض الآخر بتهمة الحل هذه، والتي تضاهي البوليسية ولا تستحق في نظرهم ما هو أقل من "الحرمان الكنسي". وحدث أن تفرقت بنا السبل بين تنظيمات يسارية مختلفة، ومن الغريب أن كان على رأس كل تنظيم مجموعة من القدامى. ودارت بيننا وألهتنا كثيرًا معارك فكرية طاحنة حول طبيعة المرحلة الثورية (وطنية ديمقراطية أم اشتراكية) وطبيعة السلطة، والقضية الفلسطينية، وحتى الموقف من الصراع الصيني السوفيتي.

أنتجت هذه الممارسات الحلقية أيضًا مدارس متخلفة في التربية السياسية للكادر والأعضاء تقوم على الولاء الشخصي والانتماء الشللي، والتعصب للحلقة إلى حد عدم الاهتمام بالاستماع- مجرد الاستماع- لمخالفيها من حلقات أخرى.. وأسهمت السرية المفروضة على تلك التنظيمات والحلقات في تفريخ مشاعر الشك والخوف من الانفتاح على الآخر/ المناضل. وفي أجواء السرية أيضًا استطاع القادة الانتهازيون تسخير إمكانيات التنظيم المادية والمعنوية لصالحهم الشخصي وكسب الولاءات وبسط نفوذهم "التاريخي"، إلى حد استخدام هذا النفوذ في عقد المساومات مع السلطة.

تشابكنا في العمل التنظيمي مع مناضلين قدامى دون أن نعرف شيئًا عن انتماءاتهم التنظيمية السابقة، حتى بدأت في الظهور كتب رفعت السعيد التي تؤرخ لليسار المصري في الحقب السابقة، وبدأنا نفك بعض شفرات ما نراه أمامنا من سياسات وممارسات وتحزبات. إلا أن شعوري الشخصي- على الأقل- كان شعور الانبهار ببعض القادة الذين ربما اختلفنا معهم في هذا الموضوع أو ذاك، إلا أنه لم يكن من الممكن إنكار أننا أمام قامات عالية ضحت كثيرًا.
 


جدل وخصوبة

أذكر من بين هؤلاء الشهيد زكي مراد، الذي استضفته في منزلي بالمنصورة في منتصف السبعينيات ومعه حوالي عشرة من قادة اليسار بمحافظة الدقهلية، وكانت لجنة هذه المحافظة هي أهم لجان مناطق الحزب. وقد جاء ليناقش معنا مقدمة البرنامج (استراتيجة الحزب)، وكانت الجلسة شديدة السخونة من جانب الشابين اللذين حضرا الاجتماع (وكنت أحدهما)، فقد رفضنا تمامًا التحليل المقدم لثورة يوليو ويقترب من تخوم نظرية التطور اللارأسمالي ودولة "التوجه الاشتراكي". بل إن زميلي قال في تعبير جارح لا أنساه: "هو أنتم عاملين حزب عشان الثورة والا عشان تساوموا بيه". رغم قسوة الاختلاف لم نفترق، وكان الرجل صبورًا إلى أقصى حد، ودافع عن أفكاره بحماس وبلاغة، لم أعرف مثيلاً لهما طوال حياتي، ويتناقضان مع طبيعة اجتماع سري. وبعد الاجتماع قلت لزميلي الشاب إنه زعيم وطني بحجم الوطن، وليس زعيما لمجموعة من الاشتراكيين وحدهم.

وفي الأيام الأولى من إنشاء منبر اليسار (حزب التجمع فيما بعد) قدمت لزكي مراد رؤية مكتوبة في حوالي عشرين صفحة حول الموقف التكتيكي السليم من إقامة هذا المنبر وضرورة الحيلولة دون أن تحتكره مجموعات يمينية متعاونة مع نظام السادات (ولا أعرف مصير هذا التقرير) وأذكر أنني أنهيته بعبارة أن علينا إرسال قدر محدود من "الكوماندوز" إلى التجمع ويتم التنسيق معهم "باللاسلكي"، وأننا بحاجة إلى "مناورة بالنيران وليس مناورة بالقوات"، أي أن المهم هو القدرة على التأثير وليس التواجد المادي لمئات من الأعضاء يشكلون كتلة تصويتية لنا هناك. اندهش الرجل لهذه التعبيرات "الاستراتيجية" وباغتني بقوله: "العربي بتاعك شيك قوي يا يوسف" (وهو أحد أسمائي الحركية) أي أن كتابتي أنيقة. فقلت له: "أفهم من هذا أن رأيي لا يعجبك". فضحك ضحكة مدوية وقال: "أبدًا.. أبدًا". هكذا كان الرجل العملاق يتعامل مع الشباب بحنو وذكاء وتشجيع لم أصادفه في كثيرين.

بالطبع صادفت أنواعًا كثيرة من القدامى، ولكني أحب أن أتطرق إلى اثنين آخرين. أحدهما رجل مذهل الثقافة ومحب للعمل مع الشباب، وكان حريصًا على توجيهنا إلى ضرورة التفكير المستقل وألا نكون تابعين لأحد. ورغم أنه امتلك كل مقومات الأستاذية فقد تطرف في حرصه على ألا يكون له تلاميذ. وقد حدث أن اختلفنا حول طريقتي في التتثقيف الحزبي (وكنت مسئولاً عنه) لأنني لم أحبذ التلقين النظري، بينما هو رأى أهمية التأكيد على المبادئ النظرية أولاً، ثم في مرحلة تالية يتم تشجيع الاجتهاد. وانتهى الخلاف بأن قال لي: "أنت وما ترى". أما الرجل الآخر فقد كان "دينامو" تنظيميًا، يقوم بالتدابير والإجراءات العملية باحتراف وذكاء بالغين، لكنه للأسف كان حلقيًا يصطف مع أقرانه الحلقيين دون اعتبار للسياسة. ورغم أنك لا يمكن إلا أن تعجب لإنجازاته، تظل هناك غمامة حلقية تطل في الأفق بينكما. فهو لم يتوقف يومًا عن حشد "الأنصار" داخل الحزب.

ربما كانت تلك سمات شخصية خاصة. ولكن المهم أنك كنت تجد وسط القدامى تنويعات كثيرة من المناضلين. ولا شك أن تلك السمات كانت مرتبطة أيضًا، إن لم يكن أساسًا، بالمواقف والخيارات السياسية والفكرية والتنظيمية المتباينة. أي أنها لم تكن لصيقة بـ "جيل" مختلف عن "جيل" آخر. وما يؤكد هذا أن كثيرًا من الخلافات اشتجرت بيني وبين بعض من "جيلي"، ولا أنكر أن بعض هذه الاختلافات كان مبعثه الولاء الشللي والانتماءات المتدنية.
 


صراع أجيال أم مواقف حلقية؟

ورغم أن فكرة "صراع الأجيال" قد وجدت صدى لها عند البعض، متأثرين بكتابات "هربرت ماركيوز" وغيره، إلى حد دعوة مجموعة من الشباب إلى بناء "حزب الطلبة"، كما عرفت المنظمات اليسارية انشقاقات شبابية اصطدمت في النهاية بالواقع وانهارت.. رغم ذلك أعتقد أن فكرة صراع الأجيال لم تكسب أرضًا كبيرة وسط الموجة السبعينية الجديدة التي صبت الكثير من الحيوية في عروق الحركتين الوطنية والتقدمية المصرية. وليس هنا مجال التفصيل فيما آلت إليه تلك الموجة.. إذ المهم أننا أنفسنا مرت علينا السنون بمتغيراتها وجورها، واجتهد معظمنا من أجل وطنه قدر الطاقة وحسب رؤيته الخاصة.. غير أن عقد الثمانينيات "الضائع" كان مثل الرياح العاتية التي جرفت الكثير من البنى التنظيمية والأفكار والكوادر والروح المعنوية أيضًا..

ومن المفيد التطرق للصراع الذي اندلع داخل الحزب الذي كنت أنتمي إليه في أوائل الثمانينيات، أي بعد تولي حسني مبارك، حيث فاجأنا المكتب السياسي في أبريل 1982 بتقرير موغل في اليمينية عن إمكانيات انفتحت للتحول الديمقراطي، وهو التقرير الذي أسقطته اللجنة المركزية بعد هذا بأسابيع. وتفاقم الصراع ليأخذ بعدًا حلقيًا حتى أن مناضلاً كبيرًا كان أحد اثنين صاغا التقرير المشئوم غير مواقفه بزاوية 180 درجة واصطف حلقيًا مع رفاقه التاريخيين. استقوى كل اتجاه بعامل من خارج الحزب. فتمترست مجموعة في منطقة الخارج، واستندت الأخرى إلى مراكزها في حزب التجمع. وتبودلت الاتهامات بـ "التصفوية الانتهازية" من جانب، "والانعزالية اليسارية" من جانب آخر. وتطور الأمر إلى الصراع بإجراءات تنظيمية، فعملت المجموعة المتمترسة في الخارج على إقامة تكتل داخلي غير تنظيمي وأصدرت في الخارج مجلة تعبر عن خطها هي وليس الخط الرسمي للحزب. أما المجموعة الأخرى فاستصدرت قرارًا بعدم السماح لمن قضى أكثر من عشر سنوات خارج مصر بالترشح لعضوية اللجنة المركزية.

كانت فترة عصيبة. وفي لحظات كنت أقول لنفسي: "إلى أين يذهب بنا الزملاء القدامى؟" رغم أن شباب الحزب توزعوا في الانتماء للجناحين المتصارعين. وأذكر في هذه الأثناء، أن عقدت اللجنة المركزية بكامل هيئتها لأول مرة في منتصف الثمانينيات في فيلا كانت أسرتي تمتلكها بمصيف رأس البر (كانت اللجنة تعقد قبل هذا على مجموعتين إحداهما للمنخرطين في المجال العلني، والأخرى للمنخرطين في النشاط السري). وكانت هذه مجازفة أمنية كبرى، إذ كان من الممكن أن يكون الاجتماع صيدًا ثمينًا يضم أكثر من 35 من أهم وأشهر قيادات اليسار المصري في تلك الفترة. وكان الاجتماع من أتعس ذكرياتي، ففيه بلغ التمزق أوجه.. وأذكر أنني لم أتكلم يومها كثيرًا، وأخذت أتأمل العبارات النارية المتبادلة والمماحكات والصغائر والاتهامات الجزافية، وأنا في حالة من البؤس القاهر. فاستدار إلىّ المناضل العمالي الكبير "محمد علي عامر"، وقال لي: "مالك ياوِلْد؟". قلت: "ألا ترى!". فرد في عبارة أذهلتني ولا تزال ترن في أذنيّ: "الجمل ياما كسر بطيخ!!" (أي أن الخسائر حتمية في مسيرة أي قافلة).

والغريب أنه على الرغم من هذا الجو الخانق الذي اشترك في صنعه قدامى وجدد على السواء، لم يحدث أي اختلاف يذكر بين الجناحين المتصارعين في الموقف من البيروسترويكا، التي كانت أخطر صرعة أو موضة نظرية وقتذاك. أزعم أن الغالبية العظمى فيمن عرفتهم بالحزب أيدوها على طول الخط. وكنت أنا من القلة القليلة جدًا التي تحفظت على البيروسترويكا باعتبارها برنامجًا للهدم دون مخطط حقيقي لإعادة البناء، ورفضنا رفضًا كاملاً فكرة توازن المصالح مع الإمبريالية العالمية. يؤسفني القول إننا كنا محل تهكم الرفاق في أحيان كثيرة بدعوى الجمود والانغلاق، بينما المفترض منا كشباب أن نكون أقدر على مسايرة هذا "التجديد". وكنت أتعجب لإقبال الكبار على تأييد أفكار شديدة "الحداثة" كهذه، ولكني اكتشفت سريعًا السبب في هذا، وهو الولاء للحزب الشقيق الأكبر.
 


عقد الثمانينيات الضائع

في هذه الفترة لم يكن قد تبقى على ساحة اليسار سوى حزبين كبيرين هما التجمع (العلني) والشيوعي المصري. لكن العلاقة الملتبسة بينهما أودت بالكثير من قوة الاثنين لصالح مجموعة صغيرة تلاعبت بالحزبين، وزاد الطين بلة تلك المواقف المتهادنة من نظام حسني مبارك. وجاء انهيار النظم الاشتراكية ليضيف المزيد من الضياع واللايقين، خاصة في ظل العيوب التقليدية للتبعية للمراكز الاشتراكية في موسكو وبكين، والاحتماء الفكري بالنماذج الاشتراكية التي أخذت في التهاوي أو التحول، والتقديس المبالغ فيه للنصوص دون إيلاء الاعتبار الواجب لسياقها التاريخي وسماتها الذاتية.

مئات من الكوادر اليسارية الواعية، والتي كانت واعدة جدًا، أخذتها مسارات متعددة بديلة، كالسفر للخارج، أو الاكتفاء بالأنشطة الثقافية النخبوية المعزولة، أو الانغماس في المنظمات الأهلية بقضاياها الجزئية وطابعها الاحترافي والانعزالي، أو حتى هجرة الاهتمام بالسياسة كليةً. ومن هنا أعذر شباب اليسار والوافدين الجدد عليه في ذلك الاغتراب "الشعوري" تجاه مناضلين سابقين لحق بهم من الهزائم ما يطمس تضحيات نبيلة لآلاف من اليساريين الذين لم تصبهم شهرة ولا مغانم.

فجوة حدثت بالتأكيد.. وتشبه كثيرًا الفجوة التي خبرناها- نحن "السبعينيين"- وقت بدء نشاطنا. والمدهش أنه مثلما استُخدمت أيامنا مسألة "الحل" لتبرير الابتعاد عن القدامى، هناك من عمل على توسيع هذه الفجوة مع "السبعينيين" بإصدار الأحكام بالنفي والخصام مع المناضلين الأقدم سنًا، حتى من لم ينغمس منهم في مواقف يمينية أو أخلى الساحة. وهنا لا بد من المصارحة أكثر، فقد اختلف المبرر بعض الشيء. كان انهيار الاتحاد السوفيتي دلالة قاطعة عند البعض على ضرورة الانفصال التام عما اعتبروه "ستالينية" وعدم الاختلاط بكل من له "سوابق" معها. وبالطبع كانت التسعينيات هي الفترة التي اعتبرتها تيارات اشتراكية "راديكالية" عالمية فرصةً حاسمةً لأخذ زمام المبادرة في يده والخروج من الوضع الهامشي الذي عانت منه عشرات السنين.
 


إعدام جيل!!

قرأت وسمعت بأذنيّ الكثير من الترهات والتطاولات الداعية- موضوعيًا وعمليًا- لإعدام "جيل" بأكمله بدعوى أنه "جيل فاشل" و"جيل من خاف سلم!!"، و"جيل أعمته القضية الوطنية عن المسألتين الطبقية والديمقراطية"، وأن "جيل الثورة المتخلص من أدران السبعينيات استطاع في 17 يومًا إنجاز ما عجز السبعينيون عن تحقيقه في ثلاثين عامًا".. إلى غيره من الاتهامات السطحية التي لا تستحق الرد. ولكن هذه الاتهامات أسهمت للأسف في تعميق الفجوات واصطناع المزيد منها.

أثمرت هذه الدعاوى الكثير من المرارة، حتى أنها قاربت مرض "التلوث الفكري" الذي دعا سان سيمون للاحتراس منه. وبالطبع كان وسط "السبعينيين" كثيرون من أسرى التفكير الاشتراكي "الرسمي/ الأرثوذكسي". ولكن ضرورات النضال كانت تتطلب عدم تغذية هذه النعرة الجيلية التي اكتست هذه المرة بطابع أيديولوجي. كما أنه من غير العلمي بالمرة تصوير "جيل" على أنه ثوري و"جيل" آخر على أنه متخاذل.

ومن المثير للأسى أن "الجيل" السبعيني الذي أنتمي إليه قد تعرض لمحاولات الإقصاء مرتين، سواء داخل الأحزاب أم المجتمع المدني أم حتى المؤسسات الرسمية. ففي الماضي كان هناك من ينظر إلينا على أننا "جيل" لم ينضج بعد لتولي القيادة، وفي الحاضر هناك من ينظر إلينا على أننا أكبر من اللازم للاشتراك في القيادة!!

ويعتبر الحديث عن صراع بين الأجيال خاطئ من أساسه، علميًا وأخلاقيًا ونضاليًا، إذ بداخل كل "جيل" اختلاف وتنوع بين اليساري واليميني، المبدئي والانتهازي، المبدع والمقلد، الفاعل والخامل.. خاصة إذا ظلت الحركة حبيسة الفئات البرجوازية الصغيرة، وخصوصًا الطلبة والمهنيين والمثقفين.

ولا يصح الحديث عن "أجيال" منفصلة تمامًا عن بعضها، كما لا يصح تقديم كل "جيل" على أن له صفات عامة واحدة وحتمية. إنما الأصح في نظري الحديث عن وجود موجات ثورية تضيف في كل مرحلة أعدادًا كبيرة من الكوادر والجماهير الشابة في لحظة احتدام ثوري بعينها، ثم في نهاية المرحلة ينزوي البعض ويستمر الآخر، ولا تكف المتغيرات عن أن تجري على المنزوين والمستمرين. ولا يمكن اعتبار أن نضالات كثيرة، مهما اعتبرت مبعثرة أو ناقصة، على مدى العقود السابقة، اعتبارها منبتة الصلة بالفعل الثوري الكبير الجديد.



اليسار في الثورة

في هذه الأجواء "الانفصالية" نسبيًا وظاهريًا وقعت ثورة 25 يناير.. ليحدث تفاعل حي وعميق في التظاهرات والمؤتمرات والبيانات.. وبدأ الاكتشاف المباشر المتبادل يعمل عمله بين المنتمين لمختلف الموجات الثورية التاريخية والحالية. وإن أعاقته مشاعر الاسترابة من جانب، والتعالي من جانب آخر. خاصة وأن البعض من السبعينيين المنقطعين عن العمل السياسي بعد تجارب مجهضة أو فاشلة قد عادوا بحماس للنشاط الثوري، ربما تكفيرًا عن سنوات أضاعوها في الهواء، أو رغبة من قلة في تولي الزعامة والاحتكار. وكل هذا من طبائع الأمور طبقيًا وإنسانيًا، ولا يمكن اعتباره خصيصة لـ"جيل" بعينه.

وبعد شهور طويلة من الأحداث الصاخبة، بتضحياتها وخيباتها، أكاد أقول إن اليسار المصري لو كان موحدًا بمعظم مشاربه ومنظماته وكل "أجياله" لكانت الصورة مختلفة. وكانت العقبة الأولى والكبرى عدم وجود حزب يساري كبير قادر أن يلعب دور القطب الجاذب لكل الأطياف.. بل إن المحاولات الجادة لإنشاء أحزاب يسارية بدأت بعد اندلاع الثورة، مثل حزب التحالف الشعبي والاشتراكي المصري وحزب العمال والفلاحين. أما حزبا التجمع والشيوعي المصري فقد كانا في حالة من الإرهاق الشديد، ومرا بمرحلة تشبه "فصل التوءم السيامي" فيما بينهما.

وأظن أن وقتًا ثمينًا قد ضاع في مراهنات ثبت خطؤها فيما بعد- في نظري على الأقل- على أن الائتلافات الشبابية التي ظهرت قبيل وأثناء وبعد الثورة يمكن أن تحل محل الحزب الثوري، مرحليًا على الأقل. بل امتلأ الفضاء الإلكتروني بالسخرية من الأحزاب ككل، وبغض النظر عن سابق مواقفها، وتصور أن الثورة توجد في الميدان والشارع فحسب وليست بحاجة إلى مقرات وتثقيف وزعامات ورؤى نظرية. وانتشر فهم حركي متطرف للعمل الثوري، كاد يقصره على الإضرابات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية والتدوين على شبكات التواصل الاجتماعي. فضلاً عن تصور بدائي ينظر للثورة على أنها عملية تسير في خط صاعد مستقيم ولا يمكن أن تعرف الانحناءات والتراجعات والمناورات.

والأسباب وراء هذا واضحة، وتكمن في الطبيعة الفضفاضة لتلك الائتلافات ومن ثم ضعف الانضباط التنظيمي خاصة في لحظات الجزر المؤقت. وأيضًا تكاثر عدد تلك الائتلافات وبالتالي كثرة الزعامات، والطابع شبه الفردي في قيادة كل ائتلاف، وهو ما أنتج المزيد من الانقسامات مع تراجع المد أو عند لحظات الاختيار الفارقة بين موقف تكتيكي وآخر. والأخطر أن تلك الائتلافات قامت أساسًا من أجل إسقاط أو استكمال إسقاط النظام ولكن لم تكن لديها برامج متكاملة للإنجاز الثوري. فكان خلط كثير بين الاستراتيجية والتكتيك، وسادت النزعات الإرادية والمزاجية على بعض المواقف.

تعرضت الائتلافات الشبابية المذكورة لكثير من عوامل التعرية والتفكك. وذهب الكثير من أعضائها إلى طيف واسع من الأحزاب السياسية يمتد من الإخوان المسلمين إلى الاشتراكيين الثوريين. كما ذهب بعض من الزعامات الشبابية اللامعة للعمل في الفضائيات والصحف الجديدة والمنظمات الأهلية (أيضًا). وكشفت القلة منهم عن انتهازية في التعامل مع نظام الحكم الإخواني. والأسوأ كانت تلك المواقف السياسية والتكتيكية الخاطئة، مثل التورط في معارك خاسرة بكل المقاييس إلى جانب السلفيين وأنصار الدعيّ حازم أبو إسماعيل. وما أقسى أن تشاهد شابًا ماركسيًا مثلاً يقف على باب لجنة الانتخابات يستجدي من الجمهور في حَيِّه انتخاب محمد مرسي!!

وإذا كانت شبكات التواصل الاجتماعي قد لعبت دورًا خطيرًا في إسقاط نظام مبارك، فإنها للأسف قد استخدمت في هجاء الأجيال السابقة، مع استخدام لغة عدوانية سبق أن تعرضت لها في مقال سابق بعنوان "سموم اللغة الثورية الهابطة" http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=310866 . والمؤسف أن هذه الكتابات تنم عن تقصير واضح في استيعاب الثقافة السياسية العامة والخاصة، إلى جانب التعامل مع المواقف السياسية من منظورات أخلاقية مثل منظور الجبن/ الشجاعة وليس منظور الحسابات التكتيكية الموضوعية. ويسود ميل بأن أكثر المواقف تطرفًا هو الأكثر ثورية بالتبعية.

على أية حال فإن ما تبقى من الائتلافات الشبابية لا يزال يشكل منبعًا مهمًا يمكن أن يرفد الأحزاب والجماعات اليسارية والديمقراطية الثورية بدماء جديدة. لكن هذا يتطلب بالمقابل دأبًا وقدرة حركية أكبر من جانب تلك الأحزاب والجماعات.
 


اللحظة .. مخاطر وممكنات

أقول إن أمام اليسار المصري فرصة تاريخية نادرة، وإن جاءت في ظروف بالغة الصعوبة، لأن يعيد بناء نفسه في ظروف تتسم بانفتاح ديمقراطي نسبي، واتساع الاهتمام بالشأن العام وسط الجماهير الشعبية، وتصاعد التحركات الاجتماعية والنقابية والحقوقية. وعلى اليسار المصري أيضًا مسئولية تاريخية هائلة لحماية وقيادة وتطوير ثورة الشعب المصري التي تقع ثمارها الآن بالجملة في حجر قوى الثورة المضادة. بوضوح أكثر أقول إن مستقبل هذه الثورة (ذات الطابع الديمقراطي الغالب) مرهون بتقدم اليسار إلى مواقع قيادية في غضون الأشهر القليلة المقبلة. فنحن أمام خطر داهم لهيمنة الاستبداد المتسربل بعباءة الإسلام السياسي، والمدعوم بقوة حتى الآن من جانب الإمبريالية العالمية، وهو خطر يمكن جدًا أن يطيح قريبًا بكل ما اكتسبناه من حريات ديمقراطية وإنجازات تنظيمية.

والخطر الأكبر يتمثل في إدخال مصر في دوامة النزاعات الطائفية والمذهبية، وشق المجتمع عموديًا لأول مرة بهذه الدرجة من الخطورة في تاريخ مصر الحديث. وهو ذات الإسلام السياسي الذي يتبنى المنهج الرأسمالي المتوحش الذي يريد القضاء على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وتقزيم الدور الاجتماعي والاقتصادي المطلوب من الدولة، أي جلب المزيد من البطالة والإفقار والخراب والمديونية وتدمير قاعدة الإنتاج الوطني..الخ. إنها أخطار ستعيد مصر لقرن على الأقل إلى الوراء، ومن ورائها البلدان العربية بأكملها.

ويجب ألا نغفل عن احتمالات وقوع حروب إقليمية يتم توريط مصر فيها، فضلاً عن المخاطر الحقيقية التي تمثلها الأوضاع في سيناء، والمخططات لإنشاء مناطق اقتصادية خاصة تشكل الخطوة الأولى في مشروع "السلام الاقتصادي" و"الوطن الفلسطيني البديل"، ومن ثم إدخال مصر تحت هيمنة إسرائيلية/ أمريكية بمباركة وتمويل من الرجعية العربية.

وإذا كان من المحتمل جدًا أن تدخل مصر في أزمة دستورية تستدعي تدخل الجيش من جديد، فإن الهاجس الذي لا يمكن التنبؤ به على نحو محدد، ولا يمكن إهماله أبدًا، يتمثل في أن تتصاعد الأزمة الاقتصادية الخانقة من تضخم وبطالة وإفقار وتردي وانعدام الخدمات والأمن، بسبب سياسات جماعة الإخوان المسلمين، وأن تكون مصر على وشك فوضى اجتماعية عارمة يطلق عليها البعض "ثورة الجياع".. فتكون كل الطرق مؤدية بنا إلى حكم فاشي قد يرضخ العالم لـ"شرعيته" خشية امتدادات غير محسوبه له إلى كامل الإقليم وحتى أوربا نفسها.

وهي تحديات جسيمة لا يمكن الاعتماد على التيارات الليبرالية في قيادة مواجهتها. لأن تلك التيارات والأحزاب الليبرالية تركز فقط أو أساسًا على الحريات المدنية والسياسية. بينما نحن في عصر، وفي مجتمع، لا يمكن الفصل فيهما بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية، ناهيك عن ضرورة تفكيك جُل روابط التبعية للرأسمالية العالمية وبناء تحالف إقليمي سياسي واقتصادي وأمني في مواجهة الإمبريالية العالمية.

فهل يظن أحد أن بإمكان ثورة متعددة الأبعاد (من أجل التحول الديمقراطي وإنهاء التبعية وتقليل حدة الاستغلال الرأسمالي والتنوير الثقافي)، وشديدة المخاطر، كهذه أن تنجح دون قيادة يلعب فيها اليسار دورًا فاعلاً؟

وهل يمكن لليسار القيام بهذا الدور دون أن يبني نفسه بروح الفريق، بالضبط مثل الفرق الرياضية الناجحة التي تحرص على الجمع بين عنصري الخبرة والشباب؟ وهل يمكن لهذا أن يتم دون أن يقتنع كبار السن بأن للشباب خبراتهم هو الآخرون، ولا بد من احترامها والتعلم منها؟

وهو ما يدعوني إلى مطالبة الجميع من كل التيارات و"الأجيال" اليسارية بالارتفاع إلى مستوى هذه المسئولية وتنظيم الصفوف الموحدة على الفور لإنقاذ الشعب والوطن. وفي القلب والمقدمة من تلك المهمة ضرورة الانضواء في حزب يساري ثوري موحد بين معظم القوى اليسارية المتفقة على استراتيجية واحدة، شريطة أن تتوفر فيه كل عناصر الديمقراطية الداخلية التي تفسح الطريق للتنوع والإبداع والمرونة والانفتاح على الجمهور. وقد يتطلب هذا الأمر وقتًا أتمنى ألا يطول، وأرجو أن يكون الإعلان مؤخرًا عن إقامة "التحالف الديمقراطي الثوري" خطوة ناجحة في هذا الاتجاه. انظر:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=322454

بالطبع يجب توحيد اليسار على أسس مبدئية، ولكن دون مغالاة في التقعير النظري وتمحيص التحليلات السياسية، فالواقع يعلمنا بقدر لا يقل عن النظريات والمناظرات والاجتهادات. ولا قيمة كبيرة لوحدات تتم بين نخب قيادية، دون أن تواكبها تحركات على الأرض في توعية وتنظيم الجماهير الشعبية.

فوق هذا وذاك يجب أن يكون الفهم واضحًا لطبيعة الحزب الثوري المطلوب، وبخاصة ضرورة أن ينتهج الحزب استراتيجية ثورية، تسمح بالطبع بممارسة الأساليب البرلمانية ورفع الشعارات الإصلاحية في إطار النضال الثوري العام وليس بديلاً منه.



الوحدة المنتجة

ولن يتسنى لأي وحدة يسارية أن تصبح منتجة ما لم تضع أقدامًا ثابتة في الريف المصري.. فالثورة ليست في المدن أو الميادين فقط.. ومن الممكن أن تكون البداية هي التركيز على إقامة كيانات نقابية فلاحية ومنظمات ريفية بشكل عام. وقبل هذا لا بد للتحالف أو الحزب اليساري الموحد أن يقف بكل قواه وراء حرية إنشاء المنظمات النقابية، وخاصة العمالية منها، ومحاولة تجميعها تحت شعارات "وطنية" عامة وليس المطالب الجزئية "الفئوية" فحسب. وما قلناه عن الريف ينطبق أيضًا على أهمية التحرك في الأحياء الشعبية والعشوائيات بالمدن.

كما أشير إلى أهمية انتباه اليسار المصري للدور الذي لعبته فتيات ونساء مصر في ثورة 25 يناير، ولا بد من بحث الأساليب الكفيلة بعدم إهدار هذه الطاقات الثورية الهائلة، ووضع المطالب التحررية العادلة للمرأة المصرية في إطار النضال الاجتماعي العام.

جانب آخر لا بد من الالتفات له والاتفاق عليه، ألا وهو الخاص بالتحالفات الأوسع. وتواجهنا هنا مشكلة التصعيد المتعمد للخلافات مع التيار الناصري، مع الاستفادة من الأخطاء التي يرتكبها بعض زعماء هذا التيار (خاصة عندما تحالفوا مع الإخوان المسلمين في قوائم واحدة بانتخابات مجلس الشعب). والغريب أن بعض اليساريين كانوا على أتم الاستعداد والترحيب للتعاون والتنسيق مع قوى ليبرالية في موقف معاكس على طول الخط من موقفهم من الناصريين. استندوا في هذا إلى خلافات أيديولوجية ورواسب تاريخية. ويتناسون أن معظم فصائل التيار الناصري تتبنى اليوم نهجًا مؤيدًا للديمقراطية، مع عدم الادعاء باحتكار الحقيقة الثورية. وإذا كنا نؤكد دائمًا على أهمية بناء التحالف الشعبي الثوري على أساس منظمات مجتمعية ونقابية راسخة، فمن الواجب أن يردف هذا الاهتمام بإقامة تحالفات مع التنظيمات اليسارية (بالمعنى المتسع) والتي أثبتت الأيام الأخيرة أن لها في الشارع، بل وفي القرى، نفوذًا يمكن الاستهتار به.

إن العنصر الأهم اليوم في ردم الفجوة بين تيارات و"أجيال" اليسار فهو ضرورة اتخاذ موقف ثوري واضح، دون أدنى ميوعة، من جماعات الإسلام السياسي، خاصة وقد انتهت الذريعة الخاصة بالتناقض "المزعوم" الذي قيل به بين هذه التيارات والمجلس العسكري الذي حكم مصر حتى انتخاب مرسي. وبالطبع يجب مراعاة أن الكثير من قواعد هذه التيارات "مختطفة" أصلاً من القوى التقدمية، وأن علينا إيضاح التناقض الطبيعي والموضوعي بينها وبين قياداتها الموغلة في الرجعية والعداء لمصالح الشعب، وهو جهد معقد ومتناقض بطبيعته لكن لا مفر منه . في نهاية المطاف مطلوب موقف واضح من هذا النظام الذي يعمل بحماس على بسط هيمنته، وسيقدم إن آجلاً أم عاجلاً على تغيير قواعد اللعبة التي جاءت به للسلطة. لا يوجد ما يلزمنا بتقديم المبررات لبقاء هذا النظام بدعوى "شرعية" صندوق الانتخاب، ومن حقنا وواجبنا النضال بكل قوة من أجل إسقاطه بشتى الطرق..

إذا اتفقنا على كل ما سبق.. هل يمكن الحديث عن صراع أجيال داخل اليسار؟

إني على يقين بأن الإجابة : لا.