بره الأجندة
مصطفى مجدي الجمال
الحوار المتمدن
-
العدد: 8296 - 2025 / 3 / 29 - 17:36
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منذ التسعينيات وأنا أكتب ضد تفشي الفكر الليبرالي (وحتى النيوليبرالي) وسط الحركات التقدمية في بلاد الجنوب، وكان التمويل الأجنبي من أهم وسائل استمالة وحرف اليسار بالذات عن الأجندة النضالية الشاملة، وقد تفاقم الأمر بعد انهيار موسكو تحت الضربات الخارجية والقصور الداخلي.
كان من نتائج ذلك تفكيك الأجندة النضالية الوطنية الديمقراطية الشاملة، تحت شعار وحدة "المجتمع المدني العالمي"، وإغماض العين عن الجانبين الاستخباراتي والاستراتيجي الذي نجح حتى في تحويل كثير من المناضلين الوطنيين إلى "نشطاء" مستفيدين بالمال والشهرة والنفوذ. كما تم اقتصار كثير من "المناضلين" على جانب واحد من قضايا النضال (الحقوق، المرأة، البيئة، الأقليات...) وذلك كله تحت مناورة مكشوفة باختزال المجتمع المدني في المنظمات غير الحكومية، التي اختُزِلت بدورها في المنظمات الحقوقية (حتى على حساب المنظمات الإغاثية والتنموية)..
وحدث في إطار هذه العملية أن هجر كثير من اليساريين والقوميين النضال السياسي "المباشر".. وكان من السهل عليهم ابتلاع منطلقات البيروسترويكا، إلى حد تبرير أو الصمت عن تهدير مليون يهودي روسي إلى إسرائيل. ثم انغمسوا في هوجة العولمة بزعم أنها وسيلة للسلام والحريات وتوازن المصالح...الخ.
وبدلاً من التحليل الصائب للطبيعة الإمبريالية لاحتكارات وسلطات القوى العظمى في الغرب، جرى الترحيب باضطلاع العولمة بتعظيم نفوذ كيانات فوق الدولة الوطنية (خاصة مؤسسات بريتون وودز)، وكيانات تحت الدولة الوطنية بدعاوى عرقية ودينية وجهوية بينما هدفها الأساسي هو خلق كيانات مفككة هزيلة وفاسدة تسمح بنهب الموارد وتفريخ العملاء.
واليوم نحن نشهد تطورًا استثنائيًا في هذا الشأن تحت إدارة الوقح طرامب الذي يريد تأبيد السيطرة الانفرادية لأمريكا على "النظام" الدولي.. فكانت تصفيته لهيئة المعونة الأمريكية التي كانت إحدى بوابات تمويل العملاء والمؤيدين.. أي ترشيد الاستعمال. فأصبح هؤلاء في ورطة شديدة.
وهذا ما يجعلني أتذكر ما نشرته على الفيسبوك منذ 15 عامًا تقريبًا بعنوان "بره الأجندة".. وإليكم ما كتبت:
((منذ فترة كنت جالسًا مع صديق عزيز جدًا، ومحترم جدًا.. لكن بيننا خلافات سياسية وفكرية أيضًا.. وأنا من النوع الذي لا أذهب بعيدًا في الخلاف أو الخصومة، وأضعهما دائمًا في حجمهما المناسب..
المهم أن صديقي أتى مرتديًا حلة أنيقة فسألته عن المناسبة، فعرفت أنه بعد ساعات سيلتقي الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشئون الخارجية والسياسة الأمنية كاترين أشتون والتي طلبت لقاء عدد من قيادات ”المجتمع المدني“. فأبديت امتعاضي وقلت له: أنت تكرر خطأك السابق بالاجتماع مع جون ماكين اليميني الفظ.. فما الهدف؟
قال : إنك كيساري و“قومجي“ (وهذه كانت دعابته الدائمة معي، وكنت أتقبلها بصدر رحب) تعرف أن النظام في مصر تهيمن عليه أمريكا وأوربا.. ومن المفيد أن نفضح النظام ونمارس الضغط عليه من خلال المتحكمين فيه.. ولن نخسر شيئًا.. بل سيزداد احترام النظام لنا وسيراعي أوزان الحركة المدنية والديمقراطية قبل الإقدام على مزيد من القمع لنا وللشعب..
قلت له : هذه براجماتية ونفعية سياسية غير مبدئية.. فهل أنت تستهدف التغيير في بلدك بواسطة الشعب أم بضغوط الخارج؟
قال: لماذا تضع الوسيلتين في تناقض.. هما متكاملتان؟
قلت : لكن ما الأساسي فيهما؟
قال : التوعية السياسية هي دور الأحزاب لا المنظمات الحقوقية والمدنية.
قلت : وهل تظن أن الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة يمكن أن يمارسا الضغوط من أجل برنامج ثوري حقيقي فيه البعدان الاجتماعي المعادي للاستغلال، والوطني المعادي لإسرائيل مثلاً..
قال : لا بالتأكيد.. لكن ضغوطهم مفيدة لفرض الديمقراطية السياسية، وهي المفتاح الذهبي لبرنامجك الراديكالي.. كما أن دور الثوريين في المجتمع المدني يحول دون احتكار الليبراليين للتحدث باسمه.. هكذا يسمع الغرب أصواتًا متعددة لا صوتًا واحدًا..
قلت : وهل تظن أن اجتماعك مع البرلمانيين والحكوميين، بل وحتى الحقوقيين، الشماليين يتم على أساس الندية؟
قال : لسنا مسئولين عن هذا.. ونحاول بكل الطرق رفض تدخلهم في شئون منظماتنا..
أعترف أنني تخابثت عليه وانحرفت بالنقاش بسؤال مفاجئ بدا بريئًا:
قلت : هل تقرأ كتابات سمير أمين الأخيرة..
أجاب بالإيجاب، وإن شككت أنه قالها من قبيل الإحراج..
قلت : ألم تقرأ فكرته عن الاستعمار الجماعي وعن الثالوث القيادي في النظام الرأسمالي العالمي.. فهل تتصور أن بين الاتحاد الأوربي وأمريكا اختلاف في ”النوع“ وليس مجرد اختلاف في ”الدرجة“ بسبب تباين ثانوي في المصالح..
أجابني بالصمت المطبق، فأكملت هجومي..
قلت : هل فكر أحدكم مرة في تلك اللقاءات مثلاً أن يتحدث عن الشروط المجحفة لصندوق النقد والبنك الدولي.. هل ناقشتموهم مرة في الدعم الراسخ للعدوان الصهيوني.. هل ناقشتموهم في جريمة تشكيل وتدريب وتسليح وتمويل الإرهاب.. هل ناقشتموهم في الدعم اللامحدود للنظم الجاهلية والفاسدة والمستبدة في المنطقة.. بل هل ناقشتموهم في ضرورة تعويض شعوبنا عن النهب الذي مارسوه في الحقبة الاستعمارية..
أوقفني قائلاً : لا.. لا.. على مهلك .. هذا بالطبع ”بره الأجندة“ !!