إحموا المناعة الوطنية


مصطفى مجدي الجمال
الحوار المتمدن - العدد: 8561 - 2025 / 12 / 19 - 07:36
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

عندما تضطر أمة إلى خوض الحرب، سواء بإرادتها أو تورطًا، فإن من أهم عوامل النصر ألا تكون جبهتها الداخلية ممزقة أو متوترة.
وكانت هزيمة 1967 فرصة مواتية لتنشط التيارات الأصولية والليبرالية الموالية والمهادنة للغرب، في مجهود متصاعد منها يرمي إلى التشكيك في قدرة نظام يوليو على حماية الوطن وكرامته. واضطر النظام بالفعل إلى ترك ثغرات محكومة لتعبث فيها تلك التيارات، بل وساندتها بشكل غير مباشر قوى من داخل النظام نفسه، وكانت تتحين الفرصة للانقضاض على النظام بأكمله.
لكن سرعان ما استعاد النظام الناصري كثيرًا من هيبته تدريجيًا بعد معركة رأس العش، والضربة الجوية التي شنها اللواء مدكور أبو العز، ثم إغراق المدمرة إيلات، لتتفاقم حرب الاستنزاف التي استمرت ثلاث سنوات عبر معارك يومية بالغة الضراوة، حتى وصلت إلى مرحلة الدفاع النشط وإنهاك العدو.
والسؤال هنا: ما هي أهم عوامل استعادة الأمة المصرية ثقتها بنفسها، وتركيزها على تحرير الأرض؟
طبعا هناك تدفق السلاح السوفيتي بنوعيات لم تنلها بعض دول حلف وارسو. وكذلك الدعم المالي والدبلوماسي العربي. وفي الداخل تم تجنيد مليون من الشباب الأقوياء، بمن فيهم حملة المؤهلات العليا، وتقريبًا لم يخلُ بيت من أبنائه المجندين.
لكنني أجزم أن وحدة الأمة المصرية تحت الراية الوطنية والإجماع تقريبًا على العداء للإمبريالية والصهيونية كانت من أهم عوامل المقاومة والتحضير للتحرير.
لماذا؟
لم تحدث أزمات كبيرة، أو حتى تُذكر ،في السلع والخدمات، وظلت فوارق المستويات الاجتماعية في حدود مقبولة. كما قام النظام ببعض المبادرات والمناورات للالتفاف على نوازع الغضب مثل تصفية "مراكز القوى" وإصدار بيان 30 مارس..الخ. ومع ذلك كان النظام يضطر أحيانًا إلى إشهار عصاه الغليظة.
ونتيجة لما سبق كانت الأرض ممهدة ومواتية للمضي في معركة التحرير وعدم الرضوخ للأعداء.
خلاصة القول أن هذه الفترة لم تشهد صراعات أساسية تهدد النظام والمجتمع، أو تعيق استعداده للحرب الكبرى.
لماذا أتحدث اليوم عن هذا؟
السبب الأساسي أن مصر محاطة الآن بتهديدات، بعضها وجودي، ومن عدة اتجاهات جغرافية. وأصبح احتمال الدخول في صراع مسلح احتمالاً لا يمكن إلغاؤه، خاصة في ظل المؤامرات الإمبريالية والصهيونية، فسيناء مهددة بتهجير سكان غزة، والسودان يتفكك، والدولة السورية مرشحة للانتهاء، والسد الإثيوبي يمثل تحديًا غير مسبوق، والميلشيات الليبية في شرقها قبل غربها قد يتم استغلالها لإزعاج مصر، ناهيك عن السد الإثيوبي الذي يجر أقدام الجيش المصري تدريجيًا نحو القرن الأفريقي...
المفترَض بالطبع أن الدولة المصرية على دراية تامة بكل هذا، لكن طبيعة النظام قد تجعله يأخذ مناحي غير كافية.
فمثلاً لا يصح عدم الاكتراث بتناقضات داخلية أو الالتفاف عليها، ومبعث كثير منها مرتبط بسياسات حكومية. ومن المزعج أن تصح بعض التحليلات التي تتكهن بأن الحكومة وأجهزتها تفتعل بعض الصراعات "المحكومة" بين صفوف الشعب على سبيل الإلهاء لتخفيف الضغط عليها لاتخاذ مواقف وإصلاحات جذرية.
ومن واجبنا الوطني أن نحذر من الانجرار إلى صراعات مصطنعة حتى في موضوعات ثانوية. خاصة وأنه من المؤكد أن بعض الأدوات الإعلامية والرقمية تبذل جهودًا جبارة لإثارة الفرقة بين صفوف الشعب.. فمن السهل اليوم أن يتم استخدام "الذباب الإلكتروني" بكثافة لتفكيك وحدة شعب قد يجد نفسه فجأة في حالة حرب.
ولا يحتاج الأعداء مثلاً أكثر من تجنيد وتسليط آلاف بل ملايين التدوينات لتحقيق مآربها في تفكيك الوحدة الوطنية، بين المسلمين والمسيحيين، وبين المتدينين والعلمانيين، الذكوريين والنسويين، وحتى بين الانتماءات الرياضية...الخ. حتى وصل الأمر إلى حدود مخيفة حقًا.
لكن ما يثير مخاوفي أكثر، يتمثل مثلاً في زيادة بطالة الشباب، وانخفاض القدرة الشرائية للفئات الدنيا وحتى المتوسطة، ومأساة أصحاب معاشات التقاعد، وإشعال الصراع بين ملاك ومستأجري المساكن بالعقود القديمة، والبيع المنفلت لأراضي الدولة، وتدليل "المستثمرين" ورأس المال العربي والأجنبي على نحو غير مريح...
صفوة القول أن الاستعداد لردع التهديدات لا يكون فقط بالسلاح والتدريب، وإنما يحتاج أساسًا إلى تهدئة الصراعات الداخلية، حقيقية كانت أم مصطنعة، حتى يطمئن المقاتل لظهره.