أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - نُبُوَّة وزِنَا (4) من نصّ إلى آخر















المزيد.....



نُبُوَّة وزِنَا (4) من نصّ إلى آخر


ناصر بن رجب

الحوار المتمدن-العدد: 3862 - 2012 / 9 / 26 - 00:07
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



تأليف : ألفريد - لويس دي بريمار
ترجمة وتعليق : ناصر بن رجب
 
مقال نُشر بالفرنسية تحت عنوان :
Alfred-Louis de Prémare
Prophétisme et adultère
D un texte à l autre
Revue des Mondes Musulmans et de la Méditerranée,
Année 1990, Volume 58, Numéro 1, pp. 101-135
 
 
الجَانِيان والشهادة عليها بالزِّنا [3. 1]
«فَلَمَّا وجدَ اليهودِيُّ مَسَّ الحِجارة قام إلى صاحبته فَجَنَأَ عَليْها، يَقِيها مَسَّ الحجارةِ» : هكذا، من مجرّد رِهانٍ إيديولوجي، يبدو أنّ الجانييْن تحوّلا فجأة إلى كائنين بشريين.
خلافًا للسّيرة التي ترفع، بالمناسبة، الأحاديث إلى ابن عبّاس، فإنّ رواياتنا الموازية تعْزو كلُّها مصدر هذه الإشارة إلى عبد الله بن عمر، وتجعل منها خاتمة غير مُنْفصلة عن القصّة. الحركة التي قام بها الرجل لحماية صاحبته تكتسي في كلّ الروايات شيئا من الأهمية. «فجنأ عَليْها» تقول بعض الروايات؛ «رأيتُه يُجَانِئُ بيَدَيْه عنها ليَقِيها الحجارة»، تقول أخرى؛ « «يقيها الحجارة»، تكتفي بالقول رواية أخرى؛ «فلقد رأيته يجانئ عليها يقيها الحجارة بنفسه»، يقول نصّ رواية مُسند ابن حنبل.
فَلِنُبْرِز الجانب الإنساني لهذه الحركة : بالفعل، إنّ الإشارة إليها تُقدّم لقصّةِ عُنْفٍ نَوعًا من التّلطيف من خلال الشفقة التي توحي بها تجاه المحكوم عليهما وذلك بالرّغم من صرامة «أمر الله» الذي أحياه نبيّ الإسلام. بالنسبة لبعض الرواة، الذين ينزعون إلى الْمُمَاحَكة في الألفاظ المستعمَلة في مختلف الأحاديث لتحديد الطبيعة الماديّة لحركة الرجل، يبدو أنّه ينضاف إليها فارق دقيق. فمُؤلِّف لسان العرب، الذي يورد الخبر، يناقش مُطوّلا معنى الجِذْرين (ح ن و) و ( ج ن أ)، والفِعْلين المستعملين في الأحاديث للتّعبير عن حركة الزاني اليهودي. وهو يميل إلى اعتبارهما يؤدّيان نفس المعنى. ولكنّ الأمر أكثر تشعُّبًا. فنحن بالفعل في وسطِ علماء دين، في وقت صار فيه الفتح والإمبراطورية مضمونين، والمطلوب هو إرساء أُسُسها الإيديولوجية والفقهية. وفي البحث عن صياغة الحدود الشرعية، وبالخصوص فيما يتعلّق بالزنا، يجب عليهم أن يُدَقِّقوا شروط إقامة الحدّ [أنظرE.I.2, article ḥadd]، فاللّفظ الذي يحتفظون به، أو يُدْخلونه هم أنفسهم، في الحديث الذي يذكر قرار النبيّ بالنّظر إلى الحالة الخاصّة موضع الحال، يكون مرصودًا لدعم حُكم فقهي.
همُّ ابن إسحاق بهذا الصدد هو بالفعل تبريرُ تنفيذ النّبي لحكمه عمليًّا تبريرا كاملا وشرعيًّا. فحتّى يُطبَّق الحدُّ الشرعي على الزاني، لا بدّ من شهادة أربعة شهود على الأقلّ. وهو ما جاء في القرآن [أنظر السورة 24، 4] والسنّة التي اتَّبَعها محمّد. غير أنّه إلى حدّ الآن، في الحديث المرفوع إلى أبي هريرة الذي تبدأ به السيرة في هذه الحالة بالذّات، فإنّ النبيّ لم يَسْتدعِ شهودًا لإثبات زنا اليهوديين الجانيين([49])، بقيّ كلّ شيء مركّزا على مشكلة المبدأ : العمل بـ «آية الرجم» الواردة في التوراة [وبدون شكّ بالنسبة للمؤلِّف، واردة في القرآن]. العنصر 3.1، المغاير جدّا لسابقه، إذ أنّه منفصل عنه بنوع من التفسير القرآني والذي هو محلّ «موضوع» جديد، كلُّه مُوجَّه نحو هذا التبرير الشرعي. واحتجَّ ابن إسحاق بابن عبّاس لكي يُوضِّح أنّ «تحقيق» الزنا منهما هو ما صنعه الله لرسوله أمام أعين الجميع عن طريق سلوك الجانيين نفسيْهما بما أنّ الرجل «جَنَأَ عَلَيْهَا».
في الروايات الموازية المرفوعة لعبد الله بن عمر في المُصنَّف، الحادثة وقع تقديمها على هيئة مُعاينة بسيطة بدون أيّ تعليق : « عن ابن عمر، قال: لقد رايتهما حين أمر رسول الله (ص) برجمهما، فلمّا جاء رأيته يُجافي بيده عنها، ليقيها الحجارة»؛ أو أيضا : «وإنّه يقيها الحجارة»؛ أو أيضا : «فرأيت صاحبها يحنو عليها ليقيها الحجارة». في صحيح البخاري، إحدى الروايتين تقول أيضا : «فرأيت الرجل يحني على المرأة» [لنُلاحظ هنا أنّ الجذر ح ن و/ح ن ي يضيف إلى فعل «الحُنوِّ» ظِلاًّ من «الحنان»]؛ والرواية الأخرى تقول : «فرأيت اليهودي أجنأ عليها». في المُسند : «يجانئ عليها». في رواية الطبري الوحيدة التي تذكر هذا الفعل، اللّفظ المستعمل هو يَحْني. نصّ السيرة، بالمناسبة، باخياره رفع الحديث لابن عبّاس، الظاهر لأنّه يريد أن يتميَّز عن الآخرين، يختار أيضا تعبير «جنأ عليها»، وفي تعليقه يرى في ذلك الشهادة، أمام أعين الجميع، بالإقرار بالزنا. الحكم بالرجم هو إذن شرعي، والنبيّ طبّق أمر الله بجميع الشرائع المطلوبة.
 
«فَكُنْتُ فيمَنْ رَجَمَهُمَا» [العنصر 3.2]
الروايات الأخرى للخبر المرفوعة إلى عبد الله بن عمر من طرق مختلفة [منها طريق الزهري الأستاذ المدني لابن إسحاق]، لا تذكر عموما نهاية الرجم هذه. إلاّ أنّ تعبيرا مُشابها يوجَد في صحيح البخاري مُسند لجابر بن عبد الله، ليس بخصوص اليهوديّيْن، ولكن بصدد الرجل المُسلم الذي، إمّا بسبب وَرَع أعمى، أو لأنّه لم يكن قد أخذ الأمور بجديّة، كان قد إتّهم نفسه بالزنا أمام النبيّ وشَهِد على نفسه بذلك أربع مرّات([50]). فلمّا يئس محمّد من تراجعه عن اعترافه، رغمًا عنه، أمر برجمه وذلك بناءً على هذه الشهادات الأربعة للمَعْنِي بالأمر وبعد التأكيد الذي أعطاه له الرّجل بأنّه ليس مجنونًا : « فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال : فكنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلَّى، فلما أذلقته الحجارة هرب، فأدركناه بالحرَّة [قرية في شمال شرقي المدينة] فرجمناه» [صحيح، باب لا يُرجم المجنون والمجنونة]. يَرد هذا الخبر عدّة مرّات أيضا في المُصنَّف؛ واحدة من الروايات تُصوِّر عمر بن الخطّاب وهو يُعطي الضربة النهائية لرجل محكوم عليه بالرجم وذلك عندما «رماه بلحْيَيْ بَعير، فأصاب رأسه فقتله» [المصنّف، VII، رقم 13.339]. ومع ذلك، فإنّ شهادة عبد الله بن عمر « فَكُنت فيمن رجمهما» تَرد مرّة عند مُسلم ومرّة عند الطبري.
لماذا اختارت السيرة، في النّص حول اليهودييْن، أن تذكر الصيغة المُسندة لعبد الله بن عمر « فكنت فيمن رجمهما»؟ يمكننا بالطبع أن نعتبر أنّ هذا السؤال عديم الفائدة في مجرى تقليدٍ نصف - شفهي، نصف – كتابي، لكنّه على أيّة حال مُترجرج، بحيث يُستعمل فيه أسلوب القوالب بقدْر ما تُنسب فيه التعابير الجاهزة للنّبيّ أو صحابته والتي يُمكنها أن تنتقل فيه من حديث إلى آخر. في منظور أكثر بيوغرافي وتاريخي، يمكننا، بالمقابل، أن نُشيد بأن السُّلوك الذي نُسب هنا لعبد الله بن عمر قد لا يتطابق تماما مع دماثة الخُلق التي يحلو للتّراث أن يُغدقها عامّة عليه؛ وأنّه من الممكن أن يكون ابن إسحاق قد أخطأ عندما نسب له، في هذه الحالة بالذّات، صيغةً قالها آخر في ظرف مختلف. ولكن قد يعترض أحدهم بأنّ عبد الله كان شابّا صغيرا في تلك الفترة : والمراهقون، في جموحهم الصبياني، أليسوا هم غالبا من يكون في أولى صفوف من يقوم بتنفيذ مثل هذه الأحكام؟
كلّ هذه الإعتبارات يمكن أن تُبَرَّر. ولكنّ ما تقدّم من تحليلنا سبق وأظهر أنّ هذه الرواية ذات التشابكات المتتالية جاءت في السيرة مُرتّبة بعناية، وليس هناك أيّة ميزة من الميزات الخاصّة بها كانت وليدة الصدفة، كما أنّه لا يمكننا أن نعطيها أبعادا من شأنها أن تخدم اليوم «الحكاية». ولكن مع ذلك فإنّه باستطاعتنا أن نُنَزِّل الشهادة النهائية المنسوبة هنا لعبد الله بن عمر في المنطق الداخلي لكتابة السيرة، وفي المنطق الداخلي لما كان يُروى ويُكتب في أوساط الحديث التي كان المُؤلِّف ينتمي إليها.
بالفعل، في كلّ مكان داخل النصوص التقليدية، يُقدَّم الخليفة عمر، أبو عبد الله، على أنّه المُناصر الشرس لرجم الزناة، وإليه يُنْسب في العديد من المرّات وبخصوص «آية الرجم في القرآن»، الصياغة الجاهزة : «ورجم رسول الله (ص) ورجمنا بعده». الصياغة، التي توجد في السيرة كما في كلّ كتب الحديث تُمثّل جزءًا من خطاب الخليفة الذي تحدّثتُ عنه سابقا والذي ألقاه في حين أنّه كان في صدام مع معارضيه الذين كانوا يُشكِّكون في شرعيّة مُبايعته.
المقصود هنا هو إذن نوع من «المتعارف عليه» التراثي بخصوص عمر بن الخطاب، مُندرجًا من ناحية في منهج إضفاء الشرعيّة على الخلفاء الأوائل (أبو بكر وعمر) ضدًّا على الحركات المناهضة، ومن ناحية أخرى في إطار النشاط والقرارات المنسوبة لعُمر في تنظيم الأمّة وفي بعض نقاط الحدود الشرعيّة، والأمران في كلّ الحالات متلازمان.
تبدو السيرة، إضافة لهذا المُتعارف عليه، وكأنّها تريد أن تزيد عنصرا إضافيّا : بَعدَ تأكيد الأَب : « ورجم رسول الله (ص) ورجمنا بعده»، يأتي بصورة جدُّ طبيعية تأكيد الإبن : «فكنتُ فيمن رجمهما»، طِبقا لأمر الله الذي بلغنا عن طريق النبيّ. وهذا لا يمكن إلاّ أن يخدم ويدعم بصورة أكثر الموضوعَ العام للرّواية : «أمرُ الله وكتابُه»، اللّذان «أماتَهُما» اليهود، ثم «أحياهما» مجيء محمّد وعمله وكذلك بواسطة شهادة أُمَّته، البيئة التي برز منها الخليفة عمر ثمّ إبنُه عبد الله.
عنصر آخر من خطاب الخليفة عمر يأتي ليؤكِّد ما نستشعِرُه : بمعنى أنّ الحديث الوارد حول رجم الزانيين اليهوديين الذي ردّدت السيرة صداه مع لمساتها الخاصّة، له علاقةٌ ما بالنصارى بقدر ما له علاقة باليهود : في فترة أصبح فيها المسلمون منتصرين عسكريّا وسياسيّا في مجال لا يزال فيه السُكّان بعدُ نصارى أو متنصِّرين بشكل واسع، كان لزاما عليهم أيضا، تجاه هذه الأقوام، تأمين أُسُسِهم الخاصّة بهم في ميدان الأفكار الدينيّة والممارسات الإجتماعية والشرعية.
 
«لا تُطْروني كما أُطْرِيَ عيسى بن مريم»
سواء كان ذلك في السيرة أو في كتب الأحاديث، فإنّ الجزء من خطاب عمر، الذي يُذكّر بما تفرضه آية الرجم، يُرفع دائما فيها لابن عبّاس. وهو ينتهي هكذا :
«ثمّ إنّا قد كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : "لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم" : إلاّ أنّ رسوا الله (ص) قال : "لا تُطروني كما أُطريَ عيسى بن مريم، وقولوا : "عبد الله ورسوله" !؟» [السيرة، IV، 337؛ عبد الرزاق، المُصنّف، V، رقم 9758، ص 441؛ ابن حنبل، مسند، 55 ،47 ،I؛ البخاري، صحيح، كتاب المحاربين من أهل الكفر والرّدة، باب رجم الحُبلى].
مُستنِدًا قبل كلّ شيء، ومُجدَّدًا، على «آية» ليست موجودة، هي أيضا، في المُصحف الحالي، يُريد عُمر، حسب الخطاب المنسوب له، توضيحَ ما قاله سابقا عن ممارسة النبيّ وخلفائه، بما فيهم هو نفسه : رَجَم الرسول ورجمنا بعده؛ إذن إيّاكم أن ترغبوا في شيء آخر غير ما جاء من «آبائكم» وسنّتِهم المُؤكّدة، وإلاّ فإنّه الكفر.
هذا السَند الجديد الذي عُثر عليه في «كتاب الله» لا يُمكنه إلاّ أن يثير بعض التساؤلات. فهو بالفعل يتعارض مع منطق نصوص المصحف الذي كُتِب وأصبح رسميّا بعد عمر بكثير : في كلّ موضع من المُصحف الحالي أين يُذكَر، في سياق جدالي، ما فعل أو عبدَ «آباؤكُم»، «آباؤُنا»،أو «آباؤهُم»، فإنّ هذا يُمثِّل جزءًا من الحُجج المُكرّرة التي يُعارِض بها «القوم الكافرون» كلَّ الأنبياء الذين أرسلهم الله لهم : هذا الرجل يريد أن ينهانا عمّا كان يعمل ويعبد آباؤنا [السور والآيات، 7، 70-71، 173؛ 11، 62، 87؛ 14، 10؛ 16، 35؛ 23، 24؛ 28، 36؛ 53، 23 وفي مواضع متفرّقة أخرى]([51])؛ «الآباء» الوحيدون الذين أفلتوا من هذا الحكم الدائم هم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، الحنفاء، أي المتمسّكون بالدين الحقّ [البقرة، 133، «... قالوا نعبُد إلهك وإله آبائِك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ...»؛ يوسف، 38 «واتّبعتُ ملّة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب...»]. فإذا كان الخِطاب هو حقيقة خطاب الخليفة عمر، وإذا كانت «الآيتان» الّلتان استشهد بهما لتأكيد حكم رجم الزانيين قد كانتا فعلا مُعتَبَرتين، في زمن محمّد، وحيّا مُنزّلا في «كتاب الله»، فثمّة هنا انقلاب مشهود للموقف.
على هذا الأساس، يمكننا أن نفترض أنّ الطبري في نهاية القرن 3 ﻫ/9 م، كمُفسّر ومؤرّخ معًا، كان واعيا جدّا بالإلتباس، الذي تسبّبه، في خطاب الخليفة عمر، العبارة «إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله». قد يُفسّر هذا أنّه يكون قد غيّر فيها عندما كَتَبَ : «وقد كنّا نقول»، ذلك مع أنّ سلسلة إسناد الخِطاب، من ابن عبّاس إلى الزهري، هي نفسها التي نجدها في كلّ مكان آخر. كذلك، الحديث عن عيسى، المنسوب للنبيّ والذي يأتي في كلّ مكان بعد هذا الإستشهاد، لا وجود له في نصّه [تاريخ الطبري، III، 204]. ومع ذلك ما يهمّنا هنا هو هذا الحديث.
بالنسبة لمؤلِّفي المغازي، السيرة وكتُب الحديث في القرن 2 ه/8 م، فإنّ الربط المباشر الذي يقومون به بين مسألة الرجم و «إطراء» عيسى، فيما وراء الجدال اللاهوتي الكلاسيكي حول التثليث أو بُنُوَّة عيسى الإلهية، يشير جيّدا إلى أنّ الأمر يتعلّق عندهم أيضا، وبدون فصل بين الأمرين، إلى موقف عيسى الذي تنسبه له الأناجيل بخصوص الشريعة التوراتية، أو بشأن المرأة الخاطئة، وخاصّة إنجيل يوحنّا بخصوص المرأة الزانية وبخصوص شريعة الرجم. أن تَنسب السيرة لواحدٍ من الأعلام البارزين في رواية الحديث شهادةَ «فكنْتُ فيمن رجمهُما»، فهذا يُحيل أيضا، كترديد لصَدى معكوس، إلى موقف عيسى : فعل عبد الله بن عمر ما رفض فعله عيسى الذي اعتبر نفسه فوق التوراة، أي تصديق حقّ الموت أو الحياة jus gladii([52]) الذي تفرضه الشريعة الموسوية بخصوص رجم الزّانيّين. يبدو أنّ ابن إسحاق فكّر في ذلك. فنصُّه مهيكل بطريقة يبدو معها وكأنّه كان قد بُنيَ على نفس أنموذج القصّة الإنجيلية التي تُعرف بقصّة «المرأة الزانية»، ولكنه يُعارضُها من حيث المحتوى.
 
يسوع، الكَتَبَة والفرّيسيّون، والمرأة الزانية
نصّ إنجيل يوحنّا، الذي يبدو أنّ بعض صيغ الروايات الإسلامية للقصّة تريد أن تنأى عنه، وعلى أيّة حال ذاك ما تفعله رواية السيرة، هو نصّ متكوّن من مقاطع في الإصحاحين 7، 53 – 8، 1-11، أُورِدُها هنا لغاياتِ تحليلٍ مقارن يُنجَزُ انطلاقا من العناصر الأساسية التي تطابقه في الحديث.
1. فَمَضَى [الفرّيسيّون] كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى بَيْتِهِ. أَمَّا يَسُوعُ فَمَضَى إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ. ثُمَّ حَضَرَ أَيْضًا إِلَى الْهَيْكَلِ فِي الصُّبْحِ، وَجَاءَ إِلَيْهِ جَمِيعُ الشَّعْبِ فَجَلَسَ يُعَلِّمُهُمْ. وَقَدَّم إِلَيْهِ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ([53]) امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِنًا. وَلَمَّا أَقَامُوهَا فِي الْوَسْطِ قَالُوا لَهُ : «يَا مُعَلِّمُ، هذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ، وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟» قَالُوا هذَا لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ.
2. وَأَمَّا يَسُوعُ فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَل وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى الأَرْضِ. وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ، انْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ : «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!» ثُمَّ انْحَنَى أَيْضًا إِلَى أَسْفَل وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى الأَرْضِ. وَأَمَّا هُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا وَكَانَتْ ضَمَائِرُهُمْ تُبَكِّتُهُمْ، خَرَجُوا وَاحِدًا فَوَاحِدًا، مُبْتَدِئِينَ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى الآخِرِينَ. وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ وَالْمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي الْوَسْطِ.
3. فَلَمَّا انْتَصَبَ يَسُوعُ وَلَمْ يَنْظُرْ أَحَدًا سِوَى الْمَرْأَةِ، قَالَ لَهَا : «يَاامْرَأَةُ، أَيْنَ هُمْ أُولئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟» فَقَالَتْ: «لاَ أَحَدَ، يَا سَيِّدُ!». فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ : «وَلاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضًا»([54]).
إذا قابلنا عناصر قصّة إنجيل يوحنّا الأساسية، في مسار تطوّرها، وعناصر قصّة السيرة النبويّة، فإنّنا نحصل على الجدول الصغير الإجمالي التالي :

 

 

السيرة

يوحنّا

1.     المدينة/بيت المدراس.

واقعة الزنا.

المداولة.

طلب التحكيم.

 

2.     بيت المدراس.

محمّد يخوض جدالا حول الكتاب.

جواب الأحبار؛ «وضع اليد» على الآية.

إحياء آية التوراة.

 

3.     «عند باب مسجده».

تنفيذ الحكم.

الرجل يُغطّي المرأة بجَسَدِه : إثبات الزنا.

«فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُمَا».

1.     جبل الزيتون/الهيكل.

واقعة الزنا.

«لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه».

«فماذا تقول أنت؟».

 

2.     [الهيكل].

سكوت يسوع، كتابة غير واضحة بالإصبع على الأرض.

أسئلة اليهود الْمُلحَّة ، «من كان منكم بلا خطيّة. الخ».

كتابة غير واضحة بالإصبع على الأرض.

 

3.     [الهيكل]

«أَمَا دانَكِ أَحدٌ؟»

-          لا أَحَد!

-          وَلَا أَنَا أُدينك/اذْهَبي ولا تُخطئي أَيْضًا.

 


يُلقي هذا الجدول الضوء على أمرين : من ناحية، الإنطباع بالنّسخ شبه التامّ الذي يقوم به الحديث انطلاقا من إنجيل يوحنّا فيما يخصّ الموضوع والتركيب الأدبي؛ ومن ناحية أخرى، التعارض الجذري فيما يخصّ محتوى الرسالة التي يريد كلاهما تبليغها. بالفعل، على مستوى الموضوع والمستوى الأدبي يمكننا أن نعتبر أنّ السيرة، عندما تُصوّر مشهد المُجابهة بين محمّد وأحبار المدينة، هي «مجرّد تنويع على الموضوع الأنموذج الذي يُخبِر عن قصّة يسوع مع الفِرِّيسيّين» ([55]). ولكن يجب التأكيد في نفس الوقت على أنّ لفظ «أنموذج» لا يُوضّح تناقض المحتوى الخاص لكلٍّ من الروايتين، وهو أكثر من مجرّد تنويع بل هو قطيعة جذريّة تمتدّ وتشمل بما في ذلك ما يتعلّق بمنزِلَة الكتابة المُقدّسة/الكتابة (اي الفرق بين النصوص المقدّسة والنصوص البشريّة). كيف يمكننا عرض هذا الأمر؟ هناك أمثلةُ نَسْخٍ أخرى من نفس النوع بإمكانها مساعدتنا على القيام بذلك.
 


[49])) من المُمكن أنّ يكون المُحدّثون المتأخّرون قد تفطّنوا لهذه الثغرة الفقهية في إثبات الزنا أي غياب الشهود فتداركوا الأمر بالإضافات الواجبة. فقد جاء في فتح الباري، ج 12، ص 174-179: "فأمر بهما رسول الله (ص) فرجما، زاد في حديث أبي هريرة : فقال النبي (ص) إنّي أحكم بما في التوراة. وفي حديث البراء : اللّهم إني أول من أحيى أَمْرَكَ إذْ أماتوه. ووقع حديث جابر من الزيادة أيضا، فدعا رسول الله (ص) بالشهود، فجاء أربعة فشهدوا أنّهم رَأَوْهُ ذَكَرُه في فَرْجها مثل الميل في المكحلة، فأمر بهما فَرُجما". (المترجم)
[50])) "حدثنا يحيى بن بكير: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وسعيد بن المسيَّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فناداه فقال: يا رسول الله، إني زنيتُ، فأعرضَ عنه حتى ردّد عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أبكَ جنون؟). قال: لا، قال: (فهل أحصنتَ؟). قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اذهبوا به فارجموه). قال ابن شهاب : فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال : فكنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلَّى، فلما أذْلَقَتْهُ الحجارة هربَ، فأدركناه بالحرَّة فرجمناه". [صحيح البخاري، باب: لا يُرجم المجنون والمجنونة] (المترجم)
([51]) «قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين» [الأنبياء، 53]؛ «لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين» [الأنبياء، 54]، «بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون» [الشعراء، 74]؛ «أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا» [هود، 62]؛ «إنّهم ألفوا آباءهم ضالّين» [الصافات، 69]، ... الخ. (المترجم)
[52])) jus gladii أو Droit de glaive ، يعني حرفيّا «حقّ السّيف»، أي : «حقّ الموت والحياة، بمعنى تبرئة مُتّهَم أو الحكم عليه بالموت إذا كان هناك ما يُبرِّر ذلك. عند الرومان، هذا الحقّ كان فقط بين أيْدي أكبر القضاة الذين كانوا يمتلكون ما يُعرف بـ : merum imperuim أي حقّ الحكم بالإعدام الذي لا يَقْبل الإستئناف» [M. MERLIN, Répertoire universel et raisonné de jurisprudence, Tome VII, p. 27, Paris, 1827] (المترجم)
([53]) كانت مهمّة الكَتَبة scribes [sopherīm]، السَّهر على نصّ الكتاب المقدّس في المعبد، في ساحة الكهنة، وضمان نسخِه نسْخًا مطابقا. نجد هذه التسمية في القرآن [80، 15] في صيغة الجمع «سَفَرَه». الفرّيسيّون [Perušim]، (تعني «المنفصلون»، «المتزهّدون») كانوا يُكوّنون في فلسطين، قبل وأثناء وبعد زمن يسوع، حركة علمانيّين دينيّين كثيري العدد وذوي نفوذ ومُركِّزين على التقيُّد الصارم بشريعة موسى.
[54])) ترقيم الآيات المستعمل هنا لا يوافق ترقيم آيات النصّ، ولكنه، من أجل دراستنا المقارنة، يتماشى مع العناصر الأساسية للقصّة، التي يتطابق معها الحديث حول رجم الزّانيّين وبالخصوص في واحدة من رواياته القصيرة التي أوردناها في بداية هذا المقال.
([55]) J. Wansbrough, Quranic Studies, p. 194.



#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نُبُوَّة وزِنَا (3)
- نُبوّة وزِنَا (2)
- نُبُوَّة وزِنَا (1)
- في أصول القرآن : مسائل الأمس ومقاربات اليوم (9)
- في أصول القرآن : مسائل الأمس ومقاربات اليوم (8)
- في أصول القرآن : مسائل الأمس ومقاربات اليوم (7)
- في أصول القرآن :مسائل الأمس ومقاربات اليوم (6)
- في أصول القرآن : مسائل الأمس ومقاربات اليوم (5)
- في أصول القرآن : مسائل الأمس ومقاربات اليوم (4)
- في أصول القرآن (3) مسائل الأمس ومقاربات اليوم
- في أصول القرآن : مسائل الأمس ومقاربات اليوم (2)
- في أصول القرآن، مسائل الأمس ومقاربات اليوم
- قراءات أفقية في السيرة النبوية


المزيد.....




- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - نُبُوَّة وزِنَا (4) من نصّ إلى آخر