أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جوزفين كوركيس البوتاني - عرس في أطراف المدينة















المزيد.....

عرس في أطراف المدينة


جوزفين كوركيس البوتاني

الحوار المتمدن-العدد: 3842 - 2012 / 9 / 6 - 07:10
المحور: الادب والفن
    


طرقت الباب طرقة خفيفة ووقفت منتظرة الرد حيث كان الباب شبه مفتوح، وبعد لحظات، خرجت امرأة بدت في العقد الخامس من عمرها. كانت المرأة بدينة وطويلة وبشرتها بيضاء وناعمة للغاية. قالت بصوت ناعم، وكأنه صوت طفلة في العاشرة من عمرها:
-- نعم، تفضلي كيف لي ان اخدمك يا ابنتي؟
ترددت الفتاة وهي تهز برأسها والحياء يكسو وجهها الأبيض المستدير، وكانت غمازة جميلة قد بدأت تظهر على خدها الأيمن.
--عذرًا يا سيدتي، كنت اتسأل فيما إذا كانت جارتكم أم سلام هنا، لقد طرقت بابها أكثر من مرة دون أن القى الرد، وعندما لم يفتح أحد، قلت لعلي أجد جوابًا عندكم.
أجابت المرأة بصوتها المميز: لا بأس ربما قد ذهبت للتسوق فهي لا تذهب بعيدًا في العادة. أنا واثقة من أنها ستعود بعد قليل..بأمكانك ان تنتظريها هنا عندنا حتى عودتها فلا فرق بيننا—فنحن وهم كالأهل. هيا تفضلي بالدخول.
دخلت الفتاة بعد تردد وبعد تاكدها من ان دخولها لن يزعج الجيران.
--على العكس، نحن مسرورن بزيارتك يا ابنتي وسنستأنس معًا حتى عودة أم سلام. نحن نفتقد الضيوف كثيرًا في هذا البيت..فمنذ زمن لم يطرق بابنا أحد، وكما تعلمين الكل مشغول في أموره الخاصة ومعظم أهالينا غادروا البلد مجبرين.
قالت الجارة وبعدها التزمت الصمت بصورة بدت فجائية، وكأنها أدركت بأنها تخاطب غريبًا وعليها أخذ الحيطة في طريقة كلامها...
وبعد برهة، عاودت الجارة الكلام وكأنها كانت عطشى للتحدث مع إنسان... وردت الفتاة الزائرة بخجل: أخشى ازعاجكم يا سيدتي.
وكأنها كانت تقول للجارة بأن ما تتحدث عنه لا يعنيها كثيرًا، ولكن الفتاة سرعان ما حست بوقع عبارتها على الجارة المسكينة وأكدت بأنها لا تمانع الإستماع إليها البتة. واسترسلت جارة أم سلام بالكلام من جديد وهي تمدح طيبة أم سلام ودعت الفتاة الزائرة للدخول إلى غرفة الجلوس.
**
كانت الغرفة مرتبة وأثاثها بسيط يطغى عليه اللون الأخضر. الستائر والأرائك وحتى إطار صور العائلة كانت خضراء اللون حتى بدا وكأن أصحاب البيت من عشاق ذلك اللون. تأملت الفتاة المكان وهي تجول بنظراتها من إتجاه لآخر، وهنا قطع حبل أفكارها صوت المرأة وهي تقول: خذي راحتك وتصرفي وكأنك في بيتك حتى تعود أم سلام، وبالمناسبة، إبنتي بعمرك أيضًا—إنها تعد الشاي الآن وسترينها بعد قليل.
وجلست المرأة بجانبها وبدت مهمومة ثم تنهدت بعمق وخانتها العبرة وأخرستها. التفتت الفتاة الشابة إلى الجانب الآخر من الغرفة فرأت رجلاً بدا أيضًا وكأنه في العقد الخامس من عمره. كان جالسًا فوق كرسي للمعاقين بكل هدوء واضعًا سماعة المذياع على أذنيه ويستمع للأخبار بكل هدوء. كان جميل المحيا وشعره لايزال رمادي وكثيف رغم تراكم السنين. عندما لاحظ نظرات الفتاة إليه، أبعد سماعة المذياع عن أذنيه ورحب بها بكل أدب.
قالت الفتاة: أسفة، لم أنتبه لوجودك يا عمي.
أجابها وهو ينظر إليها بكل حنان: أهلاً بك في بيتك!
قاطعته المرأة قائلة للفتاة الزائرة: هذا زوجي. لقد أصيب بشلل نصفي منذ أمد بعيد وأقعده المرض عن العمل لأكثر من تسع سنوات. لم نترك بابًا إلا وطرقناه، والجميع أكد لي بأنه سيشفى، وها نحن اليوم نعيش على ذلك الأمل الذي ليس لنا سواه. تصوري، جربنا كل مستشفيات البلد ولم يتمكن أحد من تشخيص حالته. وقد لا يشفى أبدًا إلا بمعجرة إلهية.
تألمت الفتاة وحاولت أن تبلع ريقها لتسيطر على شعور المرارة الذي انتابها بشدة. قالت بصوت متقطع: أتمنى له الشفاء من صميم قلبي. أرجو أن تتحقق المعجزة التي تنتظروها.
قاطعتها المرأة كي تنقذ الموقف وتتفادى بقية الحوار المؤلم: هل ام سلام من أقاربكم؟ لم أرك عندهم من قبل رغم إننا وهم أصدقاء ونقضي أوقات كثيرة مع بعض، فكما تعلمين، الجار الطيب عادة ما يكون أقرب من الأهل علينا.
أجابت الفتاة وهي تحاول طرح خجلها جانبًا لمواصلة الحوار مع هذه العائلة الطيبة: بصراحة أنا جئت من أطراف المدينة. أم سلام جارة قديمة لنا، وأنا تربيت على يدها، كما كانت تحدثني أمي عنها دائمًا، لذا قررت ان آتي لدعوتها شخصيًا لعرسي...ولكنها ليست هنا لسوء حظي.
ودخلت في تلك الأثناء الأبنة الشابة وكانت تشبه أمها إلى حد كبير، عدا إنها كانت اكثر رشاقة بكثير. كانت تحمل بيديها صينية فيها أقداح من الشاي وإناء يحوي قطع من الكعك. رحبت بالفتاة الضيفة: مرحبًا. أنا ريما، وأنت ما اسمك؟
--إسمي طوق النجاة. قد تستغربون لسماع أسم مركب كهذا، ولكن لأسمي قصة. قالت لي أمي بأن أبي كان على خط النار أثناء الحرب مع أيران، وولدت انا يوم عودته من الجبهة سالمًا، لذا قام هو بتسميتي بهذا الأسم وقال حينها لأمي بأن ولادتي كانت فاتحة خير له، ولكنه استشهد بعد سنتين من ولادتي بعد أن تم نقله من القاطع الجنوبي لخط المعركة إلى قاطع شمالي في حاج عمران. ولقي حتفه هناك ولم نستلم حتى جثته...وذهب أبي وبقيت أنا طوق النجاة الذي لم ينجيه في النهاية. تركني وحيدة مع أسم غريب عليّ وعلى كل من يسمعه.
وهنا قاطعتها ريما قائلة: لكن صدقيني أن اسمك جميل ومثير للغاية.
--أشكر لطفك هذا يا ريما. سأنتظر ربع ساعة أخرى، وإذا لم تأتي أم سلام، سأضطر للمغادرة. كما تعلمون فأن بيتي في أطراف كركوك وأنا وحدي. لا أريد لأمي أن تقلق عليّ.
ثم بدأت طوق النجاة بارتشاف الشاي وتناولت قطعة من الكعك وهي سعيدة بوجودها بين أفراد هذه العائلة التي تبدو متماسكة وتفيض محبة وحنان رغم الظروف التي تمر بها، ثم عادت لتتامل الرجل الهادئ من جديد. كان ذو بشرة صافية ووجه ودود للغاية. تأملت صورته المعلقة في ركن الغرفة وبدأت تقارن بين شكله الحالي وشكله في الصورة، وانبسطت أسارير الرجل وأشرقت ابتسامة خفيفة من فمه وكأنه كان يشكرها على شعورها الطيب تجاهه. دار حوار صامت بين ذلك المقعد وتلك البريئة، ومن ثم حوّل نظراته إلى زوجته وكأنه كان يوبخها ويؤكد لها بأنه لا يزال وسيمًا، ثم قال لها بصوت شبه مسموع، ممزوج بحزن عميق: هل لي بأدوات الحلاقة؟
ونظرت الأم إلى ابنتها بدهشة شديدة من طلبه هذا حيث إنه لم يحلق ذقنه منذ زمن طويل، ثم أجابت: بكل سرور.
وذهبت لإحضار أدوات الحلاقة وعادت وجلست قبالته، ثم بدأت تحلق له ذقنه وهي تنظر إليه بكل احترام واعتزاز وكأنها تؤكد له بأنه سيظل عزيزًا على قلبها رغم عجزه وبأنها ستبقى فخورة به دائمًا وبأنه سيظل حجر زاوية بيتها. وبعد ان انتهت من حلق ذقنه، مسحت وجهه بمعطر مطهر وقالت: نعيمًا يا عزيزي!
--شكرًا لك. اتعبتك معي.
--لا تقل هذا يا حبيبي. تعبك راحة!
ثم التفت الرجل إلى الفتاة وكأنه يرسل رسالة خفية مفادها: "أنظري الآن ألا أشبه الصورة؟"
كان يسأل بلغة صامتة وخفية لأنه شعر بأن طوق النجاة من النوع الذي يفهم لغة اليائسين. فأجابت بصوت مسموع
--بصراحة أنت أجمل من الصورة، وأقولها بلا مجاملة!
وقالت ريما: لا أسمح لأحد بالتغزل بأبي!
وضحك الجميع إلا هو حيث بقي نظره شاخصًا إلى طوق النجاة. ثم بدأ يتحدث لها عن أسباب مرضه وكيف انتهى به الحال مقعدًا بعد أن كان عضوًا فعالاً في المجتمع حيث كان قد عمل ميكانيكيًا لمدة خمس وعشرون عامًا في أحد حقول النفط، وكيف كان محبوبًا في عمله ويتقن الإنكليزية بطلاقة—تعلم اللغة من خلال عمله مع الأنكليز اثناء فترة احتلالهم للبلاد. ومنذ رحيل ابنه لخارج البلاد، فهو لم يعد يتحدث ولا حتى بلغته الأصلية—فرحيل أعز الناس على قلبه قد أخرسه للأبد...أبنه، كما ذكر لطوق النجاة، هاجر إلى استراليا حال تخرجه من معهد النفط ولم يلقى وظيفة في حقله، علمًا أن هناك بند ينص على أن أولاد موظفي وسكنة بيوت شركة النفط لديهم الحق في تكملة مشوار ذويهم في نفس الحقل. ولكن التعيينات في هذا الوقت أصبحت مقتصرة على أولاد البعثيين فقط...ولم يكن لأبنه من خيار سوى مغادرة الوطن ليجد مستقبله وليكسب رزقًا كافيا لمعيشته، خصوصًا بعد أن أقعد والده المرض.
--إبني الآن هو معيلنا الوحيد، فبدونه لما كنا استطعنا تناول خبزنا اليومي ولما كان بمقدوري الحصول على علاجي الغالي الثمن. غدًا إن شاء الله ستزول عنا كل هذه الهموم عندما يرفع الحصار عن بلدنا المنهك، وسيرجع ولدي ليأخذني معه للعلاج في الخارج. لا أعرف إن كنت سأرى ذلك اليوم...
قال الرجل ثم تنهد وأخذ يتنفس بصعوبة وكأن غصة عميقة لازمته غفلة.
--آه، أخشى أن يطول الحصار ويطول انتظاري لولدي. صحيح إنه لا يكف عن محادثتنا بالهاتف وإرسال صوره لنا، لكن هذا لا يكفي. أريد أن اضمه إلى صدري وألمس وجهه بيدي لأشكره وجهًا لوجه لكل ما يعانيه في الغربة من أجلنا.
أضاف الرجل وعيناه شاخصة على طوق النجاة التي لم تتمالك مشاعرها ولم تفلح في حبس دمعة كانت قد بدأت تنزل من عينها.
--لا تقلق، أنا واثقة من أن الأمور ستتحسن وستعود المياه إلى مجاريها ويعم الفرح بيتكم من جديد. لقد سعدت حقًا بالتعرف عليكم. أرجو ان تسمحوا لي. يبدو بأن أم سلام ستتأخر.
قالت طوق النجاة وهي تخرج بطاقتي عرس من حقيبتها وناولتهما لأم ريما وأضافت: الخميس القادم يوم عرسي. هذه دعوتين واحدة لكم وواحدة لأم سلام. سيشرفني حضوركم كضيوف شرف أعزاء. أرجو ان تبلغوا تحياتي الحارة لأم سلام.
وبعد توديعهم، خرجت إلى الشارع وهي مثقلة بهموم هذه العائلة التي تمثل البلد بأسره. وأخذت تلعن الحصار ومخلفاته في قرارة نفسها لاعنة هذه الحياة التي لا تعطي بقدر ما تأخذ. غادرت وهي تتمنى الشفاء العاجل للأب والعودة لأبنه المغترب كما وتمنت زوال الحصار لتعود جميع الطيور المهاجرة من أجل لقمة العيش أو من أجل النجاة من ويلات الحروب أو للهرب من أيدي القتلة والجلادين.
**
وبعد اسبوع من تلك الزيارة، طاف في المدينة موكب عرس زاهي بدأ يجوب المدينة بهدوء وكأنه موكب عزاء، ولفت انتباه العروس لافتة نعي تقول: انتقل إلى دار حقه....كل نفس ذائقة الموت...
إنتابها حزن عميق وأدركت سبب غياب أم سلام وجارتها عن عرسها وانحدرت دمعة من عينها وضغط العريس على كتفها وقال:
--أعرف ان فراق أمك صعب، ولكني سأكون أمك وأباك وعائلتك. كلي لك فقط ضعي رأسك على كتفي واتركي الباقي عليّ.
وبينما كان العريس يلفظ بكلماته هذه كانت هي تصلي في أعماقها على روح ذلك الرجل الطيب طالبة الرحمة والغفران له والسلوان لأهله والعودة بالسلامة لأبنه الغائب منذ سنين...
وصمت العريس وبكيت العروس بصمت بينما استمر موكب العرس في سيره غير مبالي بلافتة النعي التي كانت تتراقص في الهواء وكأن شيء لم يكن...

كركوك- 3 آذار 2002



#جوزفين_كوركيس_البوتاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نعيق غراب ونافذة انتظار
- طرق بابي ومضى
- اللقاء الأخير
- نظرة ود عابرة


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جوزفين كوركيس البوتاني - عرس في أطراف المدينة