أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - نظام الإبادة: من الإبادة السياسية والأخلاقية إلى القتل الجماعي















المزيد.....

نظام الإبادة: من الإبادة السياسية والأخلاقية إلى القتل الجماعي


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 3828 - 2012 / 8 / 23 - 16:53
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


يعرض تعامل النظام الأسدي مع السوريين الثائرين ميلا ثابتا إلى تحطيمهم، وإلى تدمير بيئاتهم وشروط حياتهم فيها. وصل الأمر إلى القتل في حالات جاوزت 18000 خلال 500 يوم من الثورة، والتسبب بنزوح ما يقارب المليونين من السوريين في الداخل و200 ألف في البلدان المجاورة، فضلا عن أشكال متطرفة في قسوتها وفي عدائيتها من التعذيب.
ما يستخلص من هذه الوقائع المؤكدة هو أن النظام لا يعترف بكيان من يعترضون عليه، ويعمل على إباحتهم وتبديد كيانهم بكل ما يستطيع.
في أساس هذا الواقع النظام الذي بناه حافظ الأسد، وهو يقوم على إبادة السوريين سياسيا وأخلاقيا، ويؤسس لإبادتهم فيزيائيا حين يقتضي الأمر، أي حين يثورون عليه. قد لا يقتل الجميع، لكنه يقتل كثيرين بحيث يفهم الجميع أن القتل قريب منهم، وأن حياتهم استثناء من القتل. ومعلوم أن نظامه قتل عشرات الألوف فعلا. لكنه أباد جميع السوريين سياسيا وأخلاقيا.
المقصود بالإبادة السياسية إنكار الحق في الوجود النشط على أية مجموعات أو توجهات سياسية مستقلة عن النظام، فإن حصل ووجدت يجري تفكيكها وتحطيمها بالقوة، فإذا دافعت عن وجودها بالقوة تجري إبادتها جسديا.
وتمتد جذور نهج الإبادة السياسية في الفكر البعثي الذي يقوم على مبدأ ندرة الوطنية، أي أن الناس لا يكونون "وطنيين" إلا إذا طابقوا شروطا متعددة، تؤول محصلتها إلى جعلهم نسخا متشابهة من أصل وطني صحيح، هو ما يقرره الحزب، أو في العهد االأسدي، الرئيس. هذا بينما "الخيانة"، وهي المدخل إلى الإبادة السياسية، وفيرة وسهلة، ويمكن أن نسقط فيها في كل حين، بفعل الغفلة أو السذاجة أو المصلحة أو ضعف النفس. وهذا خلاف ما يفترض أن يكون الحال في أية نزعة وطنية سوية، حيث الناس وطنيون تلقائيا، بينما "الخيانة" هي النادرة، ولا يوصف بها أحد إلا إذا طابق سلوكه شروطا متعددة، تقررها هيئات مخصوصة (قضاء مستقل...). الجزاء المستحق للخيانة طبعا هو إباحة الحياة، وإلا يكون المرء مدينا بحياته للرئيس الذي "يعفو" عنه.
وتؤسس ندرة الوطنية لاحتكار الوطنيين النادرين للسلطة، ومراقبة الجموع المشكوك بوطنيتها والتشدد في معاملتها. ومعلوم أن الفكر البعثي تشكّل في مناخات تميزت بجاذبية نظم التفكير الشمولية، وكلها تشارك في مبدأ الندرة: ندرة العلم أو ندرة الخير أو ندرة السياسة الصحيحة. وتشترك هذه النظم في أنها تنصب حواجز عالية في وجه مشاركة الغير في المعرفة والأخلاق والسياسة، فلا يحوز أحد منها شيئا إلا إذا اعتنق نظم التفكير تلك وتصرف بمقتضاها. خارجها ليس غير الباطل والانحطاط والفساد والتلوث، وهو ما يبيح تحطيم هذا الخارج، على نحو ما نعلمه بخصوص النظم الشيوعية أيضا.
حافظ الأسد هو من صنع معادلا جهازيا لمبدأ ندرة الوطنية البعثي: المخابرات والسجون المخصصة لإبادة "الخونة". كان سجن تدمر تحديدا معمل الإبادة السياسية للسوريين طوال العقدين الأخيرين من حكم حافظ.
والرهان الجوهري للمخابرات هو ضمان الانكشاف التام للمجتمع السوري، أن يكون أمامها مثل كتاب مفتوح، تعرف عنه كل شيء، وتتحكم بتفاعلاته الداخلية، وتشل أية مقاومة محتملة من طرفه، وتحول دون تطويره أي تماسك ذاتي.
ولطالما كانت أجهزة المخابرات الإرهابية هي الأداة الفعالة لتفكيك أية مجموعات سياسية المستقلة، بكل ما يقتضيه ذلك من اعتقال وتعذيب وسجن وضغوط مستمرة لسنوات طويلة. وقد نجحت بالفعل في القضاء التام على أحزاب سياسية متعددة، أو ردتها إلى ما يشبه نبتات صحراوية قزمة، تبقى بالكاد على قيد الحياة بثمن قزامة دائمة.
على أن الإبادة السياسية قد تأخذ شكل تدجين لبعض الأحزاب، لا يلغي وجودها ذاته، لكنها يلغي استقلالها وقدرتها على المبادرة، ويحدد لها سقوفا واطئة فلا يمكنها العيش تحتها إلا منبطحة. وهو ما ينطبق على أحزاب "الجبهة الوطنية التقدمية".
وهناك صيغة وسيطة للإبادة السياسة، وتتمثل في ترك بعض الأحزاب "المعارضة" مطلقة السراح، على أن تبيح نفسها للنظام وتنكشف أمامه، ولا تمانعه في شيء، فإن حصل ضربها على يدها (اعتقل أعضاء منها أو ضيق على حركة زعمائها وأهانهم...). هذا حصل فعلا لأحزاب يفترض أنها معارضة، وكان مثمرا. فقد تولت هذه الأحزاب إبادة نفسها سياسيا بكفاءة لا بأس بها.
وما وقع للأحزاب وقع ما يماثله لمثقفين ومواطنين أرادوا القيام بأدوار عامة مستقلة.
النتيجة كانت الصمت، أو قول عموميات لا طائل من تحتها، أو الاضطرار للعيش خارج البلد. هل صاروا أحرارا هناك؟ لا قيمة للحرية في غير موطنها، أرض الكفاح من أجلها، ولا فرحة بها إلا كثمرة لهذا الكفاح.
وأكثر حتى من الإبادة السياسة تعرض المجتمع السوري للإبادة الأخلاقية. لا يستطيع سوري واحد التصرف كفاعل أخلاقي في المجال العام، أي أن يطابق سلوكه العلني ما في ضميره من مبادئ. الأساس في ذلك هو الحرمان الجذري من الحرية التي هي أساس المسؤولية الأخلاقية.
في "سورية الأسد" لم نكن محرومين من الحرية حرمانا بسيطا فقط، كأن نمنع من فعل ما نؤمن به، بل نعاني من حرمان مضاعف، ويفرض علينا كثيرا فعل ما لا نؤمن به كي تتيسر مصالحنا المشروعة، بل لمجرد أن ننجو من العقاب أحيانا.
وتتكثف الإبادتان السياسية والأخلاقية معا في حال المعتقلين السياسيين، الذين حرص نظام حافظ كل الحرص على إذلالهم، بحيث لا ينالون حريتهم إلا إذا تخلوا عن كرامتهم، ولا يصونون شيئا من كرامتهم إلا في السجن دون حرية. ولا يكاد يكون هناك سوري مر على أحد فروع المخابرات الكثيرة، والمجموع يكاد يساوي عدد السوريين البالغين جميعا، دون أن يساوم ليصير واشيا مقابل تيسير أموره الشرعية، أو الحصول على امتيازات، أو لمجرد اجتناب عقاب اعتباطي وقاس. وتصدر "المساومة" عن عقيدة مستقرة، تفيد بوفرة الخيانة، وبأنه يمكن لأي منا يسقط في حبائلها فيصبح عميلا للعدو، وهو لا ينجو إلا بالتعاون مع المخابرات، أي أن نتحول إلى مخبرين ووشاة بأهلنا وأصدقائنا.
تحويل المواطنين إلى مخبرين هو بمثابة إبادة أخلاقية.
وصناعة للخونة أيضا. ما الخائن غير من يتجسس على من يثقون به بدافع الخوف أو الطمع؟
ولذلك يمكن وصف أجهزة المخابرات السورية بأنها مصانع للخونة، وهذا سبب أكثر من وجيه للتحطيم التام لهذه الأجهزة الإجرامية التي حطمت حياة ما لا يحصى من السوريين.
وهنا أيضا ندر أن كان المثقفون ورجال الدين والمواطنون البارزين فاعلين أخلاقيين يقتدى بهم. مثل السياسيين، قلما أمكن للمثقفين "قول الحق في وجه السلطة"، أو التصريح بكلمة لا في المجال العام. والنفي أو الاعتراض هو أساس الحرية واستقلال الضمير. حصل أن فعل بعضهم، فكان أن نالهم ما ردع غيرهم. وينبغي القول هنا إن ما أصاب المثقفين متواضع قياسا إلى ما ناله عموم مواطنيهم، وعموم المعارضين السياسيين. غير قليل منهم تطوع لإبادة نفسه سياسيا (ابتعد عن كل ما هو سياسي)، وفضل البعض التلون (والأخلاق، أكثر من السياسة، لا تحتمل التلون)، أو الخنوع واستبطان أوامر السلطة ونواهيها.
وهناك طبعا الهجرة خارج البلد. هل صان المهاجرون ضميرهم هناك؟ الضمير لا يصان إلا في حيث يكون الالتزام الأخلاقي شاقا، أي في "الوطن"، موطن الإغراءات والخوف. موطن انشرح الصدر أيضا والفرح الأخلاقي.
ثم أنه طوال عقود كنا نعيش في ظل الخوف والاعتباط. الخوف يقضي على الثقة بين الناس، علما أن تفاعلات الناس فيما بينهم هي مجال السلوك الأخلاقي. أما الاعتباط فيحكم بامتناع التوقع والاحتساب والتخطيط. وفي مثل هذه الأحوال، لا يمتنع السلوك الأخلاقي وحده، بل يتعذر مجرد التحكم بالنفس والتوجه في العالم. وقد تكون الأشكال الأشد وسواسية من التدين ضربا من سيطرة وهمية على واقع متفلت، أو من الحاجة إلى تقليد يخفف الانصياع له من القلق والتخلخل النفسي. ولعل افتقارنا، عموم غير المتدينين، إلى تقليد حي هو ما يحول دون تشكلنا في نموذج، عام قادر على الهيمنة.
هذه الإبادة السياسة والأخلاقية المديدة خفضت من قيمة حياة السوريين، ردّتهم إلى كم بشري لا قيمة له، ولا قِيم تحمي حياته، وتاليا لا بأس بإبادته فيزيائيا إذا جُنّ وتمرد على شروط إعادة إنتاج الإبادة. هذا ما فعله السوريون اليوم، والإبادة الجسدية هي ما يواجههم بها وريث حافظ: إبادة البشر وبيئات الحياة.
الثورة اليوم لا تتمرد على هذه الإبادة الأخيرة، بل على الإبادة السياسية والأخلاقية المؤسسة لها. ما يحمي حياة السوريين في سورية ما بعد الأسدية هو أن يكونوا أحررا مؤهلين لاختيار وعيش ما يرتضون من حياة أخلاقية وحياة سياسية. وما يمكن أن يشكل مساهمة في حماية حياة السوريين من قبل المثقفين هو إظهار أسس الإبادة الفكرية والسياسية. اعتراضنا متهافت على القتل الجماعي لشعبنا بينما نحن نشارك النظام فلسفته السياسة والأخلاقية.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بخصوص الثورة السورية والأخلاق
- في الجذور الاجتماعية والثقافية للفاشية السورية
- الدولة الظاهرة والدولة الباطنة في سورية
- حلب
- حوار حول مشكلة الطائفية وسياسة الأقليات
- مشاهد سورية الجديدة وملامحها
- تكوين الثورة وعمليات تشكل سورية الجديدة
- حقوق الأقليات أم جمهورية المواطنين؟
- فصل رابع من الصراع السوري
- على درب القيامة الكبرى في دمشق
- لماذا، وضد من يثور السوريون؟
- الثورة السورية وظاهرة -الانشقاق-... أية سياسة؟
- في عالم انفعالات الثورة السورية
- الثورات العربية وصعود الإسلاميين السياسي
- إبطال وظيفة السجن... حوار حول كتاب -بالخلاص، يا شباب!-
- في جذور الحرب وامتناع السياسة...
- صعود العدمية المقاتلة في سورية
- ثلاثي الحرب السورية... دولتان قوميتان وطغمة
- أجساد سورية العميقة وأرواح سورية الظاهرة
- على مشارف الحرب السورية


المزيد.....




- هارفارد تنضم للجامعات الأميركية وطلابها ينصبون مخيما احتجاجي ...
- خليل الحية: بحر غزة وبرها فلسطيني خالص ونتنياهو سيلاقي في رف ...
- خبراء: سوريا قد تصبح ساحة مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران
- الحرب في قطاع غزة عبأت الجهاديين في الغرب
- قصة انكسار -مخلب النسر- الأمريكي في إيران!
- بلينكن يخوض سباق حواجز في الصين
- خبيرة تغذية تحدد الطعام المثالي لإنقاص الوزن
- أكثر هروب منحوس على الإطلاق.. مفاجأة بانتظار سجناء فروا عبر ...
- وسائل إعلام: تركيا ستستخدم الذكاء الاصطناعي في مكافحة التجسس ...
- قتلى وجرحى بقصف إسرائيلي على مناطق متفرقة في غزة (فيديو)


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - نظام الإبادة: من الإبادة السياسية والأخلاقية إلى القتل الجماعي