أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الطاهر المعز - عن المسار الثوري في تونس، انقضاض الماكرين على ثورة المحرومين















المزيد.....



عن المسار الثوري في تونس، انقضاض الماكرين على ثورة المحرومين


الطاهر المعز

الحوار المتمدن-العدد: 3782 - 2012 / 7 / 8 - 23:18
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


عن المسار الثوري في تونس: انقضاض الماكرين على ثورة المحرومين


من "سيدي بوزيد" إلى ساحة "محمد علي"...

كانت شعارات شباب "سيدي بوزيد" تعكس مشاغلهم وهمومهم: "الشغل استحقاق ياعصابة السراق"، "لا للطرابلسية اللي نهبوا الميزانية" (لا لآل الطرابلسي – عائلة زوجة بن علي- الذين نهبوا الميزانية)، إضافة إلى المطالبة باحترام كرامة البشر والوطن "شغل، حرية، كرامة وطنية"... كانت المظاهرات عفوية، لم يدع لها أو يشرف عليها حزب أو منظمة... بل كانت تعبيرا عن انفجار ولده الضغط الشديد الذي مارسه النظام طيلة عقود، معتمدا على أدواته العديدة: أجهزة شرطة منتوعة (حوالي 150 ألف شرطي) وحزب حاكم منتشر في كل قرية وحي، وشبكة من الوشاة والمخبرين وحوالي 10 آلاف "موظف متفرغ" للعمل لفائدة الحزب الحاكم وتسدد الدولة والقطاع العام رواتبهم، إضافة إلى "الشعب المهنية" وهي خلايا حزبية داخل المؤسسات، مهمتها مساندة أرباب العمل ومعارضة الحركة النقابية وإفشال النضالات المطلبية...
انتشر خبر المظاهرات والإحتجاجات بواسطة النقابيين من أبناء المنطقة وموظفي المستشفيات التي نقل إليها الجرحى والمصابون، وعمت الإحتجاجات ولاية (محافظة) سيدي بوزيد خلال أسبوع، ثم توسعت إلى ولايات "القصرين" و "قفصة"، والقيروان وصفاقس بعد ذلك... وكانت مقرات نقابة الأجراء "الإتحاد العام التونسي للشغل"، ملجأ للقاء والتشاور الخ. وبعد أحد عشر يوما، تجمع بعض المحامين والمدافعين عن حقوق الإنسان في العاصمة تونس، رافعين شعارات ذات صبغة ديمقراطية، تعكس هموم ورغبات الشرائح العليا من البرجوازية الصغيرة، التي لا تعاني أساسا من البطالة أو انعدام الموارد المالية، وإنما من خنق ومصادرة الحريات الفردية والجماعية، كما اعتصم النقابيون في "ساحة محمد علي" (مؤسس أول نقابة عمالية سنة 1924)، أمام مقر الإتحاد العام التونسي للشغل، دون إذن القيادة (المكتب التنفيذي) أو استشارتها أو مشاركتها... كانت تلك بداية العمل الجماعي والمنظم، الذي أطاح برأس النظام والرموز المفضوحة، الأكثر فسادا في منظومة لم تتنح رموزها ولم تبتعد أبدا عن الحكم، بل "تكيفت" مع الوضع الجديد، وأصبحت تتكلم باسم "حماية الثورة"... ونحن مهددون اليوم "بالإختيار" بين من حكموا البلاد منذ 1955، ومن حكموها منذ 2011، بين الرجعية التقليدية والرجعية الدينية الممولة خليجيا والمسنودة أمريكيا، وهو ما حدث في مصر والمغرب واليمن...

بين غبار المناجم وعطر الياسمين:

أطلقت الصحافة الأوروبية والأمريكية اسم "ثورة الياسمين" على انتفاضة الفقراء والمحرومين في تونس، تيمنا بالأحداث المشبوهة التي أعدتها المخابرات الأمريكية، في بلدان أخرى ومنحتها صفات وألوانا وأشكالا رومانسية، توهم المستمع بالتحليق في فضاء الأحلام الوردية، والبنفسجية والبرتقالية...
انطلقت ثورة المحرومين من مدينة "سيدي بوزيد" (بعيدا عن مدينة "سيدي بوسعيد" السياحية، حيث الياسمين والورود)، من شوارعها الملآى حفرا وترابا وغبارا، يوم 17/12/2010، وقادها شبابها المحروم من العمل، بمشاركة اهالي المدينة، نساء ورجالا، شيبا وشبانا....إنها صيحة غضب عالية، قاحلة وجافة ومرة... لا ياسمين فيها ولا ورود، ولا أزهار... دفع محمد البوعزيزي حياته، قهرا وغضبا والتحق به شوقي الحيدري ومحمد العمري وحسين ناجي... وحوالي 350 شابا، حسب الأمم المتحدة، بعد شهرين ونصف من بداية انتفاضة الغضب... دفعت مدن منزل بوزيان وتالة والقصرين، وغيرها، الثمن غاليا، وهي مناطق محرومة، بعيدة عن السواحل، والمطارات والموانئ، وعن المقومات التي تستهوي المستثمرين، وليس لشبابها مايخسره، غير القيود...
لقد استدان الآباء ليتعلم أبناؤهم في الجامعات، أملا في ارتقاء بعض درجات السلم الإجتماعي، وتحسين الوضع المادي للعائلة، لكن الوضع تغير منذ أكثر من عشرين سنة، ووقعت خصخصة القطاع العام، وقلت الوظائف الحكومية، وأغلق باب الهجرة، وتكاثر عدد المتخرجين الجامعيين، العاطلين عن العمل، وبقي مصعد الإرتقاء الإجتماعي معطلا في الطابق السفي... تضم مناطق الوسط والجنوب الغربي أكبر نسبة من الخريجين الجامعيين العاطلين عن العمل، وأكبر نسبة من الأميين وأكبر نسبة من الفقراء (ثلاثة أضعاف المعدل الوطني) وأكبر نسبة من وفيات الأطفال ومن وفيات الأمهات أثناء الولادة الخ
ركز المتظاهرون، طيلة الأيام الأولى لمظاهرات مناطق الوسط الغربي، والجنوب الغربي، على شعارات مثل "الشغل استحقاق، ياعصابة السراق" وأخرى ضد الحزب الحاكم، منددة بالرشوة والمحسوبية والزبونية، والإثراء السريع لبعض المقربين من القصر الرئاسي ... و يسيطر الحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي) على الإدارة والإقتصاد وكل أجهزة الدولة، منذ عهد الحبيب بورقيبة (1956 – 1987)، ومما زاد الطين بلة، استحواذ أفراد عائلتي الرئيس زين العابدين بن علي وزوجته ليلى الطرابلسي على أهم القطاعات الإقتصادية، (اتصالات، نقل، عقارات، مصارف، تجارة، توريد وتصدير...)، مستفيدين من خصخصة المؤسسات العمومية، ومن إزالة ما تبقى من حواجز جمركية أمام الرساميل والسلع الأجنبية... ولما استحوذت "العشيرة" على دواليب الإقتصاد، وأصبحت ترفض تقاسم السوق، تضررت فئات اجتماعية ميسورة (لم تكن تعبر عن قلقها وتذمرها)، من مستثمرين وأرباب عمل وأصحاب مصانع أو مصالح اقتصادية... أضافة إلى الخنق الكامل للحريات، والقمع الممنهج لكل صوت نشاز مهما كان مصدره، أو "اعتداله"... لذلك تركزت الشعارات في الأيام الأخيرة للإنتفاضة على ضرورة إقصاء الحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي) ورموزه، من الحكومة الإنتقالية... وخفت شعار "الشغل استحقاق ياعصابة السراق"... لقد التحقت بأفواج الغاضبين فئات اجتماعية، لها موقع وسطي في المجتمع، فكانت عامل قوة للحركة، غذتها بأعداد كبيرة من المتظاهرين، في مختلف مدن ومناطق البلاد، ومثلت كذلك وفي نفس الوقت، عامل ضعف، إذ انتقل مركز الثقل إلى العاصمة والمدن الكبرى ووتحولت الشعارات من المطالبة بالشغل وتوزيع الثروات إلى حرية التعبير والتنظم والإجتماع... وأهمل الأسباب الحقيقية التي انتفض من أجلها الشباب المحروم والمهمش في المدن الداخلية الفقيرة... وحسمت مشاركة الإتحاد العام التونسي للشغل، والطبقة العاملة الموقف إثر إعلان 3 أيام من الإضرابات العامة الجهوية، أيام 12 و 13 و 14 كانون الثاني 2011... ويبدو أن الإمبريالية الأمريكية بدأت تهيء البديل قبل بضعة أيام...

ملخص للوقائع:
احرق "محمد البوعزيزي" نفسه في ساحة عامة، قرب الولاية (المحافظة)، وهي مركز السلطة، في وضح النهار، أمام الملأ، يوم السابع عشر من شهر كانون الأول سنة 2010، احتجاجا على منعه من محاولة كسب قوته، بطرق مشروعة، وإهانته ومنعه من قبل أعوان التظلم... وانطلقت بذلك الشرارة الأولى للتظاهرات والإحتجاجات، وعمت أرجاء الولاية يوم 19 من نفس الشهر، واطلقت الشرطة النار فقتلت شابين، في "منزل بوزيان"، وانتشرت المظاهرات شيئا فشيئا في مدن وقرى المحافظة، ثم في المحافظات المجاورة، "القصرين" وقفصة، وغيرها إلى أن عمت مناطق الجنوب والوسط الغربيين للبلاد... ومنذ البداية، شارك النقابيون (المحليون) والمدرسون والأطباء والمحامون... في فك الحصار الإعلامي وتنظيم المساندة للمتظاهرين وللمتضررين والمجروحين في المستشفيات الخ... يوم السابع والعشرين من كانون الأول، فرض النقابيون لأول مرة تجمعا، في العاصمة (تحول إلى مظاهرة)، أمام مقر نقابات الأجراء "الإتحاد العام التونسي للشغل"، وتكلم عضو المكتب النتفيذي، "عبيد البريكي" (الذي كان محسوبا على اليسار، قبل 25 سنة)، معلنا أن "الإتحاد" لا يمكنه أن يتجاهل ما يحصل في جنوب وغرب ووسط البلاد... وفي نفس اليوم تجمع المحامون، ورفعوا شعارات تطالب (لأول مرة) زين العابدين بن علي بالرحيل، وبدأ الصحافيون والمحامون والفنانون، وغيرهم (من الفئات الوسطى) يتجمعون، في وسط العاصمة، رغم القمع الشديد، وبدأ موقف "الإتحاد العام التونسي للشغل" أكثر التصاقا بشعارات المتظاهرين... وأحصى مرصد الحريات النقابية مظاهرات في 23 مدينة في نفس اليوم، وكان المتظاهرون يطالبون بحقهم في العمل، وينددون بالثراء الفاحش لبعض المقربين من السلطة... وتكلم زين العابدين بن علي، من خلال التلفزيون، يوم الثامن والعشرين من كانون الأول، لتهدئة الأوضاع، مع تهديد مقنع، وراء ادعائه بأنه تسلم الرسالة وفهم محتواها... وزار محمد البوعزيزي في مستشفى معالجة الحروق الخطيرة في مدينة "بن عروس" (الضواحي الجنوبية للعاصمة)، واستقبل عائلته... (توفي محمد يوم 4 كانون الثاني 2011 متأثرا بحروقه)... ولكن المظاهرات لم تنقطع بل شملت كافة أرجاء البلاد وضمت فئات اجتماعية جديدة (الشرائح الوسطى)، وأصبحت الشعارات مناهضة للنظام ككل، بعد أن كانت تستهدف رأسه.... تدخل الرئيس المخلوع مرة ثانية من خلال شاشة التلفزيون، يوم العاشر من يناير 2011، ليعلن أن إرهابيين ملثمين، عملاء للخارج، يقومون بأعمال عنف ويعتدون على أملاك المواطنين وعلى المؤسسات والمصالح العمومية... والحقيقة أنه أطلق العنان لوحدات الشرطة الخاصة، التي تخضع مباشرة لأوامره، إضافة إلى مليشيا الحزب الحاكم، الذي يتحكم في كافة دواليب الدولة... قامت هذه العصابات المسلحة بالإعتداء على المواطنين، وسرقة المحلات التجارية والمصارف، وإحراق بعض المؤسسات الإدارية، تحت أنظار الشرطة، خصوصا في مناطق الوسط والجنوب الغربيين، والضواحي الفقيرة للعاصمة... كانت هذه الأعمال الهمجية حافزا للمواطنين لتنظيم أنفسهم من خلال لجان شعبية لحماية الأحياء التي يقطنوها، وتنظيم شؤون الحياة اليومية، وهي تجربة غيرت نوعية العلاقات بين المواطنين، وأثبتت قدرتهم على الإبداع والإبتكار، حين يفسح لهم المجال... وبعد أربعة أيام فقط رحل الرئيس السابق وغادر البلاد، باحثا عن ملجأ يؤويه، هربا من الشعب الذي حكمه لمدة 23 سنة بالحديد والنار، إضافة إلى السنوات السابقة التي كان خلالها مسؤولا عن الأمن في عهد سلفه الحبيب بورقيبة.... وليس صدفة أن يلجأ إلى السعودية، حيث يحكم رموز الرجعية العربية والعمالة للإمبريالية...
مثلت الأيام الأخيرة من شهر كانون الثاني (يناير) 2011 منعرجا هاما، إذ أرسلت الإمبريالية الأمريكية مبعوثها "جيفري فلتمان"، الذي كان مقررا أن يبقى في تونس يوم 24 وجزءا من يوم 25 كانون الثاني، ويذهب إلى مصر، لكنه بقي في تونس حتى يوم 26 وذهب من تونس إلى باريس ليبحث مع شركائه الفرنسيين في الرئاسة ووزارة الخارجية، الوضع في تونس... ولم يذهب إلى مصر، إذ انطلقت يوم 25 كانون الثاني مظاهرة ضخمة، فتحول إلى القاهرة سياسيون من الوزن الثقيل (جون كيري، وفرنك جي وسنر)، وإن كان لجيفري فلتمان باع طويل في التخطيط لتدمير الدول، كما فعل في لبنان، قبل سنوات... ووضعت أمريكا كل ثقلها (بالتشاور مع الدول الأوروبية) لتلافي الحل الأسوأ بالنسبة لها، وضحت برأس النظام، للمحافظة على جوهره الرجعي، واستفادت من العلاقات الودية التي نسجتها منذ سنوات مع أعلب مكونات "18 اكتوبر" و"المجلس الوطني للحريات" وبعض قيادات المجتمع المدني والأحزاب (من مختلف الأطياف منها "النهضة" الذي أصبح "حزبا حاكما" و"الديمقراطي التقدمي"، الذي شارك في الحكومة المؤقتة، ثم أصبح معارضا)
اتسعت رقعة المظاهرات، رغم إعلان حالة الطوارئ ومنع الجولان، وأصبح المتظاهرون يجوبون شوارع العاصمة نهارا، والضواحي الغربية، الآهلة بالسكان، ليلا (حي التضامن، حي الإنطلاقة، المنيهلة...)، وأطلق النظام العنان لمنحرفيه من الحزب الحاكم ومن فرق ووحدات الشرطة ليعيثوا فسادا ونخريبا وسرقة، في ضواحي العاصمة وفي المدن الداخلية، تحت أنظار الشرطة... وأعلن رئيسهم (زين العابدين بن علي) أنهم إرهابيون، ملثمون (وهذا صحيح)، من المتظاهرين (وهذا كذب)... ولم ينفع التهديد والوعيد، إذ عمت المظاهرات اليومية كافة المدن والقرى، وأصبحت المناداة برحيل الجنرال بن علي وحزبه مطلبا عاما، رغم محاولة الإلتفاف على بعض المطالب، مثل الوعد بتحقيق 300 ألف وطيفة (إضافة إلى 50 ألف أخرى وعد القطاع الخاص بتوفيرها)، وتغيير بعض الوزراء، والوعد بالكف عن إطلاق النار على المتظاهرين الخ... كان المنعرج الأخير، يوم 13 كانون الثاني، عندما رفض قائد جيش البر، إطلاق النار على المتظاهرين (رغم وفاة العديد من الشهداء برصاص أفراد الجيش)...
تزامن تواجد "جيفري فلتمان" في تونس مع بعض التصريحات والمناورات، من قبل بعض الرموز والأحزاب، فقدم "الحزب الديمقراطي التقدمي" (قبل المشاركة في الحكومة المؤقتة) عدة مقترحات للحكومة للخروج من "ورطة الشارع" الغاضب، وكذا فعلت بعض منظمات "المجتمع المدني" التي تشاورت مع الوزير الأول محمد الغنوشي، وقدمت له مقترحات، وشاركت رموز تعيش في المهجر، أو مرتبطة مع المؤسسات الأوروبية، في حملة إنقاذ الحكومة (التي يطالب الشعب بإسقاطها)، ودعا البعض السياح والمستثمرين الأوروبيين إلى العودة إلى البلاد... أما قيادة الإتحاد العام التونسي للشغل (نقابات الأجراء)، فبقيت في "منزلة بين المنزلتين"، إذ حافظت على علاقاتها الطيبة ومشاوراتها مع الحكومة، وحاولت في نفس الوقت تضييق الفجوة التي تفصلها عن قواعدها وكوادرها الوسطى...

مقدمات الإنتفاضة:
عرفت البلاد عددا هاما من الهزات والإنتفاضات، أهمها المقاومة المسلحة ضد جناح بورقيبة في حزب الدستور، وضد طبيعة اتفاقية "الإستقلال" (20 آذار 1956)، التي تكرس التبعية لفرنسا، حسب معارضيها، وكان بورقيبة يعلن موالاته الصريحة لأمريكا و"العالم الحر"، فساند تدخل قوات المارينز الأمريكية في لبنان سنة 1958 (لمساندة كميل شمعون ضد فؤاد شهاب)، وعارض عبد الناصر، وساند أمريكا في حربها العدوانية على فيتنام... ومنع بورقيبة الأحزاب سنة 1962 (متذرعا بمحاولة انقلابية، أعدم المتهمين بتدبيرها) بما فيها الأحزاب التي كانت موجودة منذ الإحتلال المباشر (الحزب الشيوعي مثلا)... وانتفض الفلاحون سنة 1969، ضد التجميع القسري للملكية، الذي استفاد منه كبار ملاكي الأرض... وفي كانون الثاني/يناير 1978، نظم "الإتحاد العام التونسي للشغل" إضرابا عاما، احتجاجا على السياسة الإقتصادية اللبرالية، التي فتحت الأبواب على مصراعيها أمام رأسمال الأجنبي، وشرعت الإستغلال الفاحش للعمال ولموارد البلاد، وتدخل الجيش وقتل عشرات المتظاهرين (وكان زين العابدين بن علي مساعدا لوزير الداخلية)، وتدخل الجيش ثانية لقتل المتظاهرين ضد غلاء الأسعار وضد إلغاء الدعم للمواد الأساسية، خلال الأيام الأخيرة من 1983 والأيام الأولى من 1984، عرفت لدى التونسيين تحت اسم "انتفاضة الخبز"، وكان بن علي ثاني مسؤول في وزارة الداخلية...
أما الأحداث التي مهدت مباشرة للانتفاضة الأخيرة فهي هبة الحوض المنجمي (منطقة "قفصة"، في الجنوب الغربي)، التي دامت أكثر من 6 أشهر وشارك فيها كل المواطنين، وخصوصا النساء والشباب، نظرا للوضع المتردي للمنطقة التي أصبح مواطنوها يعانون الفقر والخصاصة، منذ انخفضت كمية الفوسفاط المستخرج من المناجم، إضافة إلى إدخال الآلات الحديثة لاستغلاله، وكان المواطنون يتوارثون مهنة العمل المنجمي أبا عن جد، رغم المخاطر والحوادث القاتلة العديدة، ومنذ غلق أبواب الهجرة إلى أوروبا، وخصخصة المؤسسات العمومية وانعدام فرص العمل في الوظيفة العمومية أو القطاع العام (وغياب الإستثمار الخاص خارج المناطق الساحلية المطلة على البحر)، أصبح أهالي المنطقة يعيشون وضعا مأسويا... لكن النظام تمكن من محاصرة حركة احتجاج الحوض المنجمي ومن قمعها بشدة، وسجن الشباب وبعض النقابيين (الذين تبرأت منهم القيادة المركزية النقابية) ولم تكن حركة المساندة في مستوى الحدث... وجرت بعض الإنتفاضات المحلية وبقي تأثيرها محصورا في أماكن اندلاعها، بين 2008 و 2010 (الصخيرة، جبنيانة، بن قردان...)، وكان القاسم المشترك لكل هذه الأحداث، المطالبة بالشغل والكرامة...

أسباب الإنتفاضة:
أ - الوضع الإقتصادي:
قبل رحيل "زين العابدين بن علي" كان 10 بالمائة من التونسيين يملكون 32 بالمائة من ثروة البلاد ويملك 60 بالمائة من المواطنين حوالي 30 بالمائة من الثروة ، وكان 75 بالمائة من الأجراء ينفقون رواتبهم الشهرية، خلال أسبوعين، ثم يلجؤون إلى الإقتراض من العائلة أو الأصدقاء أو المصارف أو من المشغل (اقتراض راتب شهر أو شهرين، بفائض ضعيف) حسب تقرير صادر عن البنك العالمي (2009)... كان القطاع العام يشغل 750 ألف عاملا وموظفا، من مجموع 3,750 مليون من "قوة العمل" (من جملة حوالي 10 مليون نسمة)... تشغل الفلاحة 18,3 بالمائة من العاملين والصناعة 31,9 بالمائة والخدمات 49,8 بالمائة، وتساهم الفلاحة بنسبة 10,9 بالمائة من المنتوج الداخلي الخام والصناعة بنسبة 35 بالمائة والخدمات 54,1 بالمائة ولا تساهم السياحة سوى ب 6 بالمائة من المنتوج الداخلي الخام (رغم الضجيج الذي أقيم حول الأهمية الإقتصادية للسياحة)، ويزور تونس أكثر من 2,5 مليون سائح من الجيران (الجزائر وليبيا)، ويفوق معدل إنفاقهم السائح الأوروبي، ويساهمون في إنعاش الدورة الإقتصادية المحلية... يتميز الإقتصاد التونسي بالتبعية المطلقة للإقتصاد الأوروبي (بنسبة 80 بالمائة)، وخصوصا للإقتصاد الفرنسي، حيث كانت توجد 1280 مؤسسة فرنسية في تونس سنة 2010، تشغل 110 آلاف عاملا، تليها إيطاليا وألمانيا وبلجيكا... تصدر تونس نحو أوروبا مواد أولية (نفط، فوسفاط) و منتوجات فلاحية (غير مصنعة) ومنتوجات صناعية ذات قيمة مضافة ضعيفة كالنسيج والمعدات الكهربائية والميكانيكية التي تصنعها شركات أجنبية في تونس، مستغلة الإمتيازات الضريبية وضعف الأجور (130 يورو شهريا)، والموقع الجغرافي لتونس (قريبا من السوق الأوروبية)... مثلت الهجرة نحو أوروبا (وخصوصا فرنسا وإيطاليا) متنفسا للنظام وللشبان الباحثين عن العمل، ولعائلاتهم، إلى أن أغلق باب الهجرة نهائيا، بعد انهيار الإتحاد السوفياتي وتوسع المجموعة الأوروبية (الإتحاد الأوروبي لاحقا) نحو أوروبا الشرقية والوسطى (بعد انضمام البرتغال وأسبانيا واليونان)، وتضييق الخناق على مواطني جنوب المتوسط (أي العرب) وافريقيا، إضافة إلى اتفاقيات الشراكة (بداية من 1995) التي تفتح حدود بلدان المغرب العربي ومصر والأردن أمام رأس المال والمنتوجات الأوروبية، وتحويل بلدان المغرب العربي إلى تكنات شرطة تحرس حدود أوروبا، لوقايتها "من الهجرة غير النظامية والإرهاب"، وزادت اتفاقيات منظمة التجارة العالمية الطين بلة، إذ مول البنك العالمي دراسة (قامت بها الوكالة الفرنسية للتنمية) أواخر سنة 2006، مباشرة قبل أزمة الغذاء، تضمنت نتائجها "نصائح" غير سديدة للحكومة التونسية، منها تقويض القطاع الفلاحي والكف عن إنتاج الحبوب والخضار والبطاطا واللحوم والألبان... واستيرادها، بدعوى أن استيرادها (توريد المنتوجات الغذائية) أقل تكلفة من إنتاجها (تشغل الفلاحة أكثر من 350 ألف عاملا ثابتا وحوالي 200 ألف عامل موسمي)، وفي نفس الوقت وضعت اوروبا شروطا تعجيزية أمام المنتوجات التونسية، لدخول أسواقها، واستفادت المؤسسات الأوروبية لاستكمال هيمنتها على السوق التونسية، بما في ذلك قطاعات الخدمات وتجارة التفصيل (المفرق)... ويمول ويدعم الإتحاد الأوروبي وأمريكا الفلاحة والصناعة، ويمنعان ذلك على الدول الفقيرة... وتقتضي علاقات "الشراكة" فرض مواصفات معينة لقبول المنتوجات التونسية في الأسواق الأوروبية، مما يقضي على النسيج الفلاحي المحلي وعلى البذور وأنواع عديد من الخضار والفواكه والباكورات والحبوب الخ، وتستفيد مؤسسات أوروبية من عملية "تأهيل" المؤسسات التونسية التي أفلست المئات منها بسبب عدم مواكبتها لهذه المواصفات، وتسببت في تفاقم البطالة، وكانت علاقات "الشراكة" عاملا إضافيا لتدهور الوضع الإقتصادي والإجتماعي، وغزو السوق المحلية وغلق باب الهجرة...
إضافة إلى هذه العوامل الخارجية، كانت العائلتان المتصاهرتان (بن علي والطرابلسي) تقومان بنهب الموارد وعدم احترام قوانين رأس المال، فهما لا تنحدران من البرجوازية التقليدية، وفرضتا قواعد جديدة (ذات صبغة مافياوية) تتمثل في تقاسم أو افتكاك كل القطاعات المربحة في البلاد وفرض "أتاوات" على الرأسماليين والشركات، واحتكرتا تمثيل الشركات الأجنبية وفرضت رشاوى على كل من يرغب في الإستثمار في تونس سواء كان رأسماليا محليا أو أجنبيا، واستعملت العائلتان جهاز الدولة (الشرطة ومصلحة الضرائب) لترهيب من لم يستجب لطلباتهما المجحفة، وهرب أفرادها أموالا طائلة إلى الخارج، قد تساوي مبلغ ديون البلاد الخارجية ... مما خلق تململا في أوساط قسم من الرجوازية التونسية والأجنبية، ونشر البنك العالمي والإتحاد الأوروبي دراسات وتقارير عن ظروف الإستثمار وما أسمتة بالشفافية (بخصوص القروض التي استفاد منها المقربون من النظام، ولم تسترجعها البنوك)، تعبر عن شيء من الإستياء، ومولت أمريكا والإتحاد الأوروبي منطمات "غير حكومية"، تدق ناقوس الخطر من حين لآخر حول "التجاوزات" وتطالب بتصويب الأمور، واحترام حقوق الملكية الخاصة، وحقوق الإنسان (الفرد)، وتوفير ضمانات لرأس المال... واستفادت العائلتان من خصخصة مؤسسات القطاع العام (اتصالات، طاقة، مصارف، أراضي خصبة...) لنهب موارد البلاد، بمساعدة الشركات الرأسمالية الأوروبية وبعض أثرياء الخليج، والإستثمار في قطاعات غير منتجة ووفيرة الربح (سياحة، توريد، عقارات، نقل...)
بلغ المنتوج الداخلي الخام 51,8 مليار دولارا سنة 2010، وبلغت نسبة الديون حوالي 20 مليار دولارا أو 2000 دولار لكل تونسي، وبلغت نسبة البطالة الرسمية 14,7 بالمائة من القادرين على العمل، و 25 بالمائة لدى الشباب و 30 بالمائة لدى خريجي الجامعات ( أما النسب الحقيقية فهي أعلى من ذلك بكثير)... ومثلت الديون الخارجية (ثلاثة أرباع الديون) عبئا ثقيلا على ميزانية البلاد، التي سددت معدل 2,5 دولارا عن كل دولار وقع اقتراضه بين سنتي 1970 و 2009، ولا زالت الفوائض ومبالغ "خدمة الديون" تقتطع من ميزانية الصحة والتعليم والخدمات الإجتماعية...
ساهمت هذه العوامل مجتمعة في تعميق التبعية الإقتصادية، واختناق الوضع الإقتصادي وعدم قدرة النظام على السيطرة على الوضع، ولم يعد بإمكانه إلقاء بعض الفتات لإسكات الأصوات المحتجة، ولم تساعده الرجعية العربية التي تفضل توريد المهاجرين من باكستان والهند وبنغلاداش والفلبين، وغيره، وتشغيلهم في ظروف أقرب إلى العبودية أو القنانة، منها إلى العمل المأجور ورفض تشغيل العمال العرب، وحل مشاكل "زملائهم"، حكام أنظمة تونس ومصر والمغرب واليمن...

ب - الوضع السياسي:
كان يوجد في تونس 9 أحزاب مرخص لها، سنة 2010، ولكن الحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي، وريث الحزب الدستوري الجديد الذي تأسس سنة 1934، وهو أيضا وريث الحزب الدستوري القديم الذي تأسس حوالي 1920) يهيمن على الحياة السياسية وعلى جهاز الدولة وعلى كل دواليب سير المجتمع، ويضطر أغلب المواطنين للإنتساب للحزب الحاكم لقضاء شؤونهم الإدارية والقضائية أو للعثور على وظيفة، وتلاقي الأحزاب القانونية صعوبات كبيرة لطبع وتوزيع صحفها وعقد اجتماعات عمومية أو اجتماعات مضيقة في محلاتها التي تحاصرها الشرطة وتمنع المواطنين من دخولها، ويختار الحزب الحاكم (بواسطة أجهزة الدولة) مترشحي المعارضة ويقرر مسبقا نسبة وعدد الفائزين في الإنتخابات المزيفة، حسب قواعد تتغير قبل كل دورة انتخابية... وتوجد في تونس حوالي 12500 جمعية هيمن الحزب الحاكم عليها جميعا، باستثناء بعضها التي تقل عن العشرة، منها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وجمعية النساء الديمقراطيات وجمعية النساء من أجل البحث والتنمية والمجلس الوطني للحريات... ونقابة الأجراء "الإتحاد العام التونسي للشغل"، التي بقيت القوة المنظمة الوحيدة القادرة على تجنيد منخرطيها وفتح أبواب مقراتها لاحتضان التحركات والإحتجاجات، رغم مهادنة القيادة للنظام وتآمرها أحيانا ضد مصالح الشغالين والشعب...
تواجد داخل "الإتحاد العام التونسي للشغل" نقابيون من مختلف الإنتماءات السياسية، وبقي اليسار يمثل ثقلا داخل الهياكل الدنيا والوسطى، رغم مناورات القيادة التي نجحت في إبعاد العناصر اليسارية (والنساء) من أعلى هيئة (المكتب التنفيذي)، لذا لا غرابة في تفاعل القيادات النقابية المحلية (الصحة، التعليم، النقل، البريد...) مع المحتجين والمتظاهرين، لكنهم فعلوا ذلك كأفراد وليس كمجموعات تنتمي لأحزاب أو منظمات يسارية...
قبل الإنتفاضة كانت الشرطة قادرة على منع اللقاءات والتظاهرات، فتغلق منافذ المدن والأحياء وتحاصر المناضلين في منازلهم، وإذا أفلت أحدهم من مراقبتها فإنها تبحث عنه ولما تلقي القبض عليه تعيده إلى منزله، وساهمت الإنتفاضة وتوسع رقعة الإحتجاجات في كسر حاجز الخوف وفي إبطال مفعول الرقابة، وتراخي القبضة الأمنية، بفعل تكاثر عدد المحتجين وبالتالي عدم تمكن الشرطة من ملاحقة كل المشاركين...
لعبت النقابة العمالية دورا يتجاوز دور النقابات عادة، نظرا لغياب الأحزاب المنحازة للفقراء والكادحين، ونظرا لتواجد العديد من مناضلي اليسار المنحازين طبقيا للفقراء، وبداية من يوم 28/12/2010، اضطر جزء من قيادة الإتحاد العام التونسي للشغل إلى الإنظمام إلى بقية المتظاهرين "من أجل الشغل والحرية والكرامة"، ولم تفد تراجعات زين العابدين بن علي، وإقالة وزير الداخلية ووزير الإعلام، بل أعلن الإتحاد العام التونسي للشغل تنظيم إضرابات عامة في الجهات بداية من يوم 12 كانون الثاني، وكان التتويج في العاصمة يوم 14 كانون الثاني (يوم رحيل بن علي)، حيث تظاهر مئات الآلاف في شوارع تونس والمدن الأخرى...
لم تكن الأحزاب السياسية مهيأة لمواكبة الإنتفاضة، التي فاجأت الجميع (بما فيها أحزاب اليسار، بل وخصوصا أحزاب اليسار)، ولذلك يصعب العثور على مواقف وبيانات الأحزاب خلال الأسابيع الثلاثة الأولى للإنتفاضة، وإن صدرت بيانات فهي مقتضبة وعامة ولا ترقى لمستوى الحدث، التي لم تكن مهيأة لفهمه ومجاراته، فضلا عن تأطيره وقيادته... لقد كان اليسار مقموعا ومدجنا في عهد بورقيبة وبن علي، ولم يكن يسمح له بالعمل السياسي أو بالتوجه إلى المواطنين الخ، لكن هناك دروس لم يقع استخلاصها من الماضي البعيد (الإضراب العام 26/01/1978، وانتفاضة أواخر 1983 وبداية 1984، ضد ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وإلغاء صندوق الدعم) والقريب (انتفاضة الحوض المنجمي وما تبعها لمدة سنتين)، ولم تكن مسألة تغيير نظام الحكم مطروحة في جدول أعمال اليسار التونسي، بسبب بعده عن هموم الفقراء والكادحين وعدم اندماجه داخل الفئات التي يفترض أنه يمثل مصالحها وطموحاتها، وكان يطالب بإصلاحات بالتحالف مع اللبراليين والإسلام السياسي (تحالف 18 اكتوبر) أو مع قوى ترفض تجاوز المنظومة المسموح بها من قبل النظام (الإئتلاف الديمقراطي)، أو بعض المجموعات الصغيرة الأخرى التي لم تطرح بدورها خطة للتغيير الثوري... ولما حانت الفرصة، لم تستطع هذه القوى اللحاق بالركب، لأنها لم تتجاوز الصيغة المطلبية الإصلاحية وبقيت إلى آخر لحظة تطالب النظام المتهاوي ببعض الإصلاحات، وواصلت ذلك بعد سقوط رأس النظام، وتعويضه برموز أقل انكشافا، ودخل بعضها في مساومات مشينة مع حكومات "محمد الغنوشي" الأولى والثانية وحكومة "الباجي قائد السبسي"، ولم تعمر "جبهة 14 جانفي" طويلا بسبب انتهازية البعض بدعوى "معارضة سياسة المقاطعة أو الكرسي الفارغ" وبسبب محاولة قوى أخرى الهيمنة واحتلال مواقع أكبر من حجمها الحقيقي...

عوامل نجاح المرحلة الأولى للإنتفاضة:
أفضت المثابرة واتساع رقعة الإحتجاجات إلى الإطاحة برأس النظام، ومن أهم العوامل التي أتاحت ذلك :
- إصرار الشباب العاطل عن العمل على المضي قدما في المطالبة بالحد الأدنى من الحقوق
- التحاق جزء هام من مواطني الوسط والجنوب الغربي بأبنائهم، وتوسع رقعة الإحتجاجات
- دور القيادات النقابية المحلية وعمال الصحة والإتصالات والبريد والتعليم في مساندة التحركات
- مشاركة مناضلي اليسار بكثافة في عمليات المساندة وتنظيمها وتسييرها في بعض المناطق
- التحاق جزء من الشرائح العليا للبرجوازية الصغيرة والفئات الوسطى بالحركة الإحتجاجية
- استغلال مختلف الشبكات الإخبارية المهنية والشخصية لنشر وتعميم الأخبار
- انقسام أجهزة القمع إزاء ممارسات ميليشيا الحزب الحاكم والأجهزة التابعة للقصر الرئاسي
- تذمر فئات من البرجوازية من تجاوزات "العائلات الحاكمة" وتحكمها "دون وجه حق" في قوانين اللعبة
- تجاوب القيادة النقابية مع الحركة الإحتجاجية، بداية من 28/12/2011، بضغط من قواعدها
- تخلي الإمبريالية عن الرئيس المخلوع، بعد عجزه عن إخماد نار الإحتجاجات لمدة 3 أسابيع كاملة، وعن احتواء الحركة الإحتجاجية، رغم محاولة المزج بين القمع والتنازلات

وإذا كانت "العفوية" أو غياب القيادة المركزية، من العوامل التي ساهمت في توسيع رقعة الإحتجاجات في بدايتها، فإنها شكلت نقطة ضعف قاتلة عندما حان وقت التغيير وطرح البديل وتنفيذه، وتحويل المطالب أو الشعارات إلى فعل أو سلطة مضادة...
يذهب بعض الأصدقاء والرفاق إلى القول بأن الإمبريالية هي التي كانت تمسك بخيوط الحركات الإحتجاجية سواء في تونس أو في مصر... والواقع أن الإمبريالية فوجئت كما فوجئ النظام وأحزاب "الديكور" والمعارضة بكافة أشكالها، بما فيها مناضلو اليسار، واستطاعت الإمبريالية استعادة زمام المبادرة في تونس، بعد قرارها التخلي عن زين العابدين بن علي للمحافظة على مصالحها، وتغيير رأس النظام... وما كانت تستطيع ذلك لو كانت موازين القوى تصب في صالح قوى التغيير الجذري، لقيادة المرحلة والمضي قدما نحو تغيير حقيقي لصالح العمال والفقراء ومنتجي الثروة في البلاد... لقد استغلت أمريكا وأوروبا الفراغ السياسي ونصبت رموز النظام "باسم الثورة"، لكن الغضب الشعبي لم يهدأ وطالب المتظاهرون بحل الحزب الحاكم، الذي بقي محافظا على أهم وزارات السيادة، مع تطعيم الحكومة بعناصر من المعارضة الإنتهازية، حليفة قوى اليسار بالأمس القريب... ويذهب فريق آخر من اليسار إلى اعتبار كل نقد لأطروحاته (أطروحاتنا) وممارساته (ممارساتنا) بمثابة "تلقين دروس هو في غنى عنها"، والواقع أن النقد ومحاولة الوقوف على الأخطاء موجهة لكل من ينتمي إلى اليسار والتيار الإشتراكي والشيوعي والقومي العربي، وفي دراستها واستنتاج العبر منها قوة لكل من آمن بدور النقد في إصلاح الأخطاء من أجل التقدم خطوة إلى الأمام، ولا أحد منا معصوم من الخطأ...

استطاعت أوروبا وأمريكا ركوب الموجة ودفعت إلى الواجهة برموز من "المجتمع المدني" أو من الأحزاب "المهذبة" (المتحضرة) وضمت الحكومات المؤقتة عددا منهم (كان 6 وزراء يحملون الجنسية الفرنسية)، في حين دعا البعض الآخر إلى "وضع حد لحالة التسيب والفوضى والعودة إلى العمل، لكي يعود المستثمرون والسياح..."، بينما كانت قوات القمع (الشرطة والجيش) تقتل المواطنين وتمنع التجمعات... وكان هؤلاء بالأمس القريب يدعون أن الشعب لن يثور ولن يستطيع تغيير نظام الحكم، وبالتالي لا بد من الإستعانة بالإمبريالية لفرض "حقوق الإنسان والحريات الفردية وحرية التعبير..." ، ولما تجاوزت مطالب الفئات الشعبية هذه الحدود، (التي رسمتها المنظمات غير الحكومية والبرلمان الأوروبي وبرنامج ميبي الأمريكي) طالب هؤلاء بالهدوء "من أجل مصلحة الوطن"... وماذا تعني "مصلحة الوطن"، لمن لا يجد في وطنه عملا أو كرامة أو حرية؟ أو بالنسبة لمن يستغله ويهينه المستثمر أو السائح الأجنبي (أو حتى المحلي)؟ أو لمن يضطر للمخاطرة بحياته، أملا في العثور على عمل في أوروبا؟ وهل يمكن أن تلتقي "مصالح الوطن" مع مصالح الإمبريالية؟

سرقة موصوفة:
تميزت الشعارات التي رفعها المتظاهرون الفقراء والمحرومون والعاطلون عن العمل بطابعها الطبقي، وابتدع أبناء الشعب الكادح أشكالا نضالية مكنته من الصمود في وجه آلة القمع رغم عدد الضحايا الذي قارب 350 وآلاف الجرحى، والمساجين الذين عانوا من التعذيب والإهانة... وبعد سقوط رأس النظام، بقي الحزب الذي حكم لمدة 55 سنة مهيمنا على جهاز الدولة وعلى الحكومة والشرطة والجيش والقضاء الخ... لذا احتل المواطنون "ساحة القصبة"، حيث مقر رئاسة الحكومة وبعض الوزارات الأخرى (المالية، التربية، العدل...)، وطالبوا بحل هذا الحزب ومحاكمة مسؤوليه وإبعادهم عن مراكز القرار... كان مناضلو وأحزاب اليسار حاضرين بكثافة، لكن بدون برنامج خاص بهم وبدون مطالب أو برامج عمل ترتقي بالمطالب الجزئية لتصوغ منها برنامجا شاملا، وتتجاوز الإصلاحات إلى تغيير طبيعة النظام والسيطرة على أجهزة الإعلام ووسائل الإنتاج والإدارات المحلية ودواليب الدولة... ومع ذلك تمكن الأجراء، بفضل خبرة هؤلاء المناضلين اليساريين والنقابيين، من الحصول على عدد من المكاسب أهمها تثبيت العمال المؤقتين ومنع المناولة (التعاقد من الباطن) في القطاع العام، وتمكن نقابيو القطاع العام للإعلام وبعض الوزارات والمؤسسات المالية من فرض انتخاب طاقم لتسيير المؤسسات... وتمكن موظفو وزارة الخارجية من طرد الوزير الذي بالغ في التذلل لوزيرة الخارجية الفرنسية، التي كانت لها مصالح مادية واستثمارات في تونس واقترحت إرسال فيالق شرطة فرنسية متمرسة على قمع أبناء المهاجرين، لمساعدة النظام التونسي على إخماد الإنتفاضة (استقدمت الشرطة الفرنسية خبراء صهاينة لمساعدتها أثناء انتفاضة الشباب في ضواحي المدن الفرنسية خلال تشرين 2005)...
استثمر الإتحاد الأوروبي في "المجتمع المدني" (خصوصا منذ مسار برشلونة سنة 1995) واستثمرت أمريكا في تدريب وتأهيل "قادة المستقبل"، بواسطة الدورات التكوينية المختلفة ل"ناشطي المجتمع المدني"، وبرنامج "ميبي" الذي توجد مكاتبه الرئيسية في تونس، واستثمرت هاتان القوتان الإمبرياليتان في ميدان "حقوق الإنسان" بإصدار "الشبكة الأورو متوسطية لحقوق الإنسان" أو "هيومن رايتس واتش" (وتوابعها أو فروعها المحلية) لبعض التقارير عن النواقص في مجال الحريات الفردية، رغم الرضى النسبي عن "الإنفتاح الإقتصادي" واللبرالية الإقتصادية... وظهرت نتائج هذا الإستثمار منذ تكوين الحكومة الأولى بعد رحيل "بن علي"، حيث انفرطت التحالفات السابقة للمعارضة، وشارك بعضها في حكومة شكلها قادة الحزب الحاكم (حزب بن علي وبورقيبة) وبقيت وزارات السيادة فيها بين أيديهم...
في هذا المناخ عاد الإسلام السياسي للظهور، بعد أن طبق لمدة سنوات عديدة "تعاليم" راشد الغنوشي، التي وجهها إلى منتسبي "النهضة" أثناء اشتداد القمع: "احن ظهرك إلى أن تمر العاصفة"، وبعد أن عاشت كوادر حركة "النهضة" في أوروبا والخليج، في ظروف مادية فوق المتوسطة، واستطاعت قيادات "النهضة" شراء المحلات التجارية والعقارات السكنية بعد مدة وجيزة من حصولها على "اللجوء السياسي" في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وسويسرا... كان المتظاهرون يحاولون اجتياح المقر الرئيسي للحزب الحاكم، يوم 13/01/2011، قبل رحيل رئيسه بيوم واحد، وحاول أحد قادة الإخوان المسلمين (النهضة) استغلال الفرصة وجر الجمهور للقيام بصلاة جماعية، ولم يتبعه سوى إثنان، وهو ثالثهم... ولم يردد المتظاهرون في أي بقعة من البلاد شعارات دينية ولم يسجل أي حضور لحركة النهضة وأخواتها من "سلفيين" أو "أصوليين"، لا باسم الإسلام السياسي "المعتدل" ولا "المتطرف"، ولكن كانت الأموال تنفق بغير حساب لكراء وشراء المحلات الشاغرة في المدن والضواحي، لتصبح بعد أيام إما مكاتب لحزب "النهضة" أو "مدارس قرآنية"، وتأسست مئات الجمعيات "الإسلامية"، وأصبح بعض المواطنين الذكور يعتدون على البنات والنساء في الشوارع بدعوى أنهن "سافرات"، وأصبح طول اللحية مقياسا للورع عند البعض، ومعيارا للمواطنة عند البعض الآخر... واستغلت حركات الإسلام السياسي غضب المصلين ضد أيمة المساجد الذين عينهم الحزب الحاكم، لتعويضهم بأيمة مساندين لهم، واستعملوا المساجد منبرا للدعاية السياسية لصالحهم وحث المصلين على اختيار "من يخافون الله، ضد الملحدين والعلمانيين والشيوعيين..." (ويخلطون عمدا بين الإلحاد والعلمانية والشيوعية، أو الداعين إلى فصل الدين عن الدولة...)
أما الحكومتان المؤقتتان اللتين قادهما "محمد الغنوشي" فقد قمعتا بعنف شديد المظاهرات والإعتصامات (القصبة 1 و 2) والإضرابات، ولا بد من التذكير بأن محمد الغنوشي كان مسؤولا عن التخطيط الإقتصادي للنظام منذ 1975، وكان وزيرا للمالية منذ عهد الحبيب بورقيبة ثم رئيسا للحكومة لمدة فاقت العشر سنوات في عهد "بن علي"، أما "الباجي قائد السبسي" الذي خلفه (وهو شيخ تجاوزت سنه الخامسة والثمانين) فهو وزير داخلية سابق وهو مؤسس "الشرطة السياسية"، وتولى عددا من المناصب الوزارية الهامة، لأكثر من 50 سنة، وترأس "مجلس النواب" (غير المنتخب) في عهد "بن علي"، إضافة إلى اتصافه بالتعالي واحتقار الخصوم وبالتشويه المستمر لليسار، وإيمانه بالقمع السافر لوضع حد للإحتجاجات (لا ننسى أنه وزير داخلية سابق)... وإضافة إلى قمع المتظاهرين والمضربين، أغرقت الحكومات المؤقتة الثلاثة البلاد بالديون وضاعفت من تبعيتها للإمبريالية والمؤسسات المالية... وتمكنت من تأسيس هياكل موازية لتلك التي فرضتها المعارضة خلال الأسابيع الأولى من الإنتفاضة، وشق صفوفها، وتشتيتها... وتورطت قيادة الإتحاد العام التونسي للشغل في فض اعتصام "القصبة 2"، قبل القمع الشديد الذي تعرض له المعتصمون، الذين جاؤوا من المدن الداخلية ومن المناطق الفقيرة للتأكيد على مطالبهم في "الشغل والكرامة" وحل هياكل الحزب الحاكم وأجهزة القمع الخ، وفي هذا المجال كانت الحركة الشعبية متقدمة بأشواط على الحركة التقدمية واليسارية، التي لم تتمكن من مواكبتها ولم تكن مهيأة أصلا لتصور واستيعاب حركة شعبية واسعة، بهذا الحجم، وبالتالي لم تتمكن من خلق ميزان قوى يصب في الإتجاه الثوري واكتفت بالمطالب ذات الطابع الديمقراطي (الذي لم يتجاوز مستوى الحريات)، بينما كان شعار المواطنين "الشعب يريد إسقاط النظام"، وبثت أوهاما حول الشرعية والعمل القانوني (الإنتخابات وما تبعها من إرهاق وإهدار طاقات وأموال...) عوض التأكيد على الشرعية الثورية وميزان القوى الذي فرضه الشارع، أي الفقراء والمحرومون والعاملون في المصانع والحقول... وأظهرت الإنتخابات أن "المال قوام الأعمال"، وأن "النهضة" تتقن هذه اللعبة (وقد فعلت ذلك سنة 1989، حيث يصعب إحصاء الأموال التي أنفقتها أثناء الحملة الإنتخابية)... أما الإسلام السياسي الحاكم (النهضة)، إثر فوزه بأغلبية نسبية، فقد عين عددا من المسؤولين المفضوحين لنظام "زين العابدين بن علي" في مناصب حساسة (الإعلام، القضاء، الداخلية، الإقتصاد...)، وعقد صفقات مع رموز النظام للمحافظة على التحالف الطبقي السابق، مع توسيعه قليلا ليشمل قيادات وكوادر النهضة، وأبقى على محافظ البنك المركزي في منصبه رغم تورطه في إغراق البلاد بالديون وتعميق تبعيتها، وبدفاعه المستميت عن دكتاتورية السوق المالية (البورصة) وعن اللبرالية المفرطة، تحت غطاء "استقلالية البنك المركزي" (أي أن الحكومة لن تتدخل في الإختيارات المالية وفي تحديد الأسعار، مثلا)... وحاول رموز "النهضة" تقديم أكثر ما يمكن من الضمانات حول "احترام كافة الإتفاقيات الدولية" التي أبرمتها تونس والإلتزام بإرجاع الديون وعدم طرح علاقات تونس مع الحلف الأطلسي أو مقاطعة الكيان الصهيوني للنقاش الخ، والتذكير بمناسبة أو بدونها أن المثال التركي هو النموذج الذي يجب الإقتداء به، وفي تركيا توجد أهم قواعد الحلف الأطلسي (قاعدة إنشرليك)، ولا تزال العلاقات العسكرية والإقتصادية مع الكيان الصهيوني متطورة رغم الخلافات بينهما حول الدور المنوط بكل منهما للهيمنة على الوطن العربي...

فرصة ضائعة، وفرص قادمة:
نجح الإسلام السياسي في الفوز بالإنتخابات التي أعقبت سقوط رموز النطام التونسي والمصري، دون أن يقدم أي برنامج بديل للأنظمة القائمة، ولا يمكنه أن يكون بديلا لاعتبارات عدة أهمها:
- اعتماد الإسلام السياسي على أموال الدول النفطية الأكثر رجعية في تاريخ العرب، واستغلال الفقر والإحتياج لإرشاء الناخبين، ومخاطبة معداتهم عوض مخاطبة عقولهم
- استغلال عواطف المؤمنين لتجنيد الفقراء ضد مصالحهم، وتحويل وجهة المطالب الإجتماعية
- تأكيد الولاء للإمبريالية والصهيونية ( تصريحات راشد الغنوشي في "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" بتاريخ 30/11/2011 وامتداحه لمواقف أمريكا، وإعلان "حياده" تجاه الكيان الصهيوني، وتصريحات مسؤولي الإخوان وحزب "النور" في مصر لوسائل الإعلام الصهيونية)
- الإلتزام بقواعد النظام الإمبريالي العالمي بخصوص الديون والإتفاقيات المجحفة وعلاقات التبعية...
- إجهاز الإسلام السياسي على مكسب الحريات الفردية وحرية الإعلام، التي فرضتها الإنتفاضة
- ممارسة القمع كوسيلة لحل القضايا العالقة (شهداء الإنتفاضة، الصحافيين، النقابيين، النساء، الفنانين...)
- الإلتزام بالإتفاقيات المعادية لمصالح الشعب والوطن (الديون، الشراكة مع الإتحاد الأوروبي، الخصخصة)، والتنكر لاتفاقات وقعتها الحكومة المؤقتة السابقة مع الإتحاد العام التونسي للشغل حول رفع الرواتب
- استعمال مليشيات تقمع المتظاهرين والمحتجين، إلى جانب قوات القمع التقليدية (الشرطة)، واستعمال "السلفيين" كفزاعة، كي تبدو "النهضة" في صورة حركة سياسية معتدلة وعقلانية مقارنة بممارسات "السلفيين"
- الإدعاء بأن سوء الوضع الإقتصادي تانج عن مطالبة العمال والمواطنين بحقوقهم (إضرابات، اعتصامات...)، وليس نتيجة اختيارات خاطئة تركز فيها الإستثمار في مجالات غير منتجة، وغير مستوعبة للعمال (وردد المنصف المرزوقي هذا الإدعاء)
- نسخ ممارسات الحزب الحاكم قبل 14/01/2011، وتأسيس ميليشيا، وتشويه المعارضين، واحتقار المتحالفين معه، وتعيين موالين في مناصب حساسة، مع الإدعاء بأن انتخابات 23/10/2011 تسمح لهم بالتصرف كحكومة ثابتة وليست مؤقتة محدودة المهام ...
- التصدي للإضرابات (إضراب عمال النظافة والبلديات)، ومهاجمة وحرق وتخريب مقر النقابات العمالية في عدد من المدن (وفي نفس اليوم) وإلقاء النفايات أمامها...
- استغلال ثلث الميزانية التكميلية لسنة 2012 لتعويض قدماء مساجين "النهضة"، وقمع عائلات شهداء وجرحى انتفاضة 17/12/2010 – 14/01/2011 يوم 9 نيسان 2012 (بعد قمع العاطلين عن العمل)
- تشريع تدخل الرجعية العربية (وغيرها) في تركيبة الحكومة (قطر، الإمارات...)
- عدم السعي لاسترجاع الأموال المنهوبة والمهربة، بل والتهديد بمزيد من الخصخصة (قطاع الإعلام)
- المساومة (على حساب الشعب) مع رموز النظام السابق وتقاسم النفوذ معهم (الداخلية، القضاء، الإعلام) ومهاجمة مؤسسات التعليم وقمع النقابيين، مباشرة أو بواسطة الميليشيات ( نهضوية أو سلفية)
- حياد مريب للحكومة وأجهزتها القمعية تجاه الحركات الأكثر رجعية كاعتصام "السلفيين" (لمدة 50 يوم)، أمام مقر التلفزة الوطنية، بحجة أنها "بؤرة شيوعية وقومية"، واحتلال ذوي اللحي الطويلة (من غير الطلبة) لكلية الآداب والعلوم الإنسانية، لمدة شهرين، وتعطيل الدروس والإمتحانات وتعنيف الأساتذة والطلبة، من أجل فرض مطالبهم بالسماح للمنقبات "النكرات" بالمشاركة في الإمتحانات بنقابهن...
وساهمت كل هذه الأحداث المدبرة والمخططة في تحويل وجهة المطالب والإهتمامات، وفرضت "جدول أعمال" بعيد عن اهتمامات الفئات الكادحة والفقيرة من الشعب، وبعيدة عن مطالب شباب وأهالي سيدي بوزيد وقفصة والحوض المنجمي والقصرين، الذين مات أبناؤهم أو جرحوا برصاص الشرطة والجيش والقناصة، أو سجنوا وعذبوا بتهم ملفقة...

كشف الإسلام السياسي طبيعته الرجعية المفضوحة والموالية للإمبريالية و"المحايدة" تجاه الصهيونية (وقضية فلسطين)، وهاجم كل رموز التغيير (وقد وصل السلطة بفضل تضحياتها)، في ظرف وجيز، وتصرف كأي نظام رجعي عربي، على الصعيد الداخلي أو الخارجي، في مجالات الحريات الفردية والجماعية، في مجالات السياسة والإقتصاد والقضاء والإعلام الخ... لكن نجح الإسلام السياسي في جر القوى القومية واليسار إلى نقاشات هامشية حول العلمانية ومكانة الدين في المجتمع الخ، ونجح في الإبتعاد عن القضايا الأساسية التي مثلت الشرارة الأولى لاندلاع الإنتفاضة، أي الحياة اليومية والشغل والكرامة والحريات الفردية والجماعية، ومستقبل البلاد المرهونة بالديون (التي ارتفعت منذ رحيل بن علي)... إن المشاغل اليومية للمنتجين والكادحين والفقراء والمضطهدين والمستغلين، في تونس والوطن العربي والعالم هي مشاغل القوى التقدمية واليسار والإشتراكيين والشيوعيين، ومن يحيد عنها يفقد هويته، ويجب أن نحافظ على هويتنا، التي تتضمن المساواة الكاملة بين البشر، وفصل الشأن الخاص (العقيدة الدينية) عن الشأن العام (السياسة)، والعمل من أجل تحقيق العدالة الإجتماعية...

لقد تداركت الإمبريالية الأوروبية والأمريكية الأمر بسرعة، بعد صدمة المفاجأة، وتحركت إما مباشرة بواسطة ممثليها، أو بواسطة الرجعية العربية وممثليها المحليين (التجمع الدستوري الديمقراطي والإسلام السياسي)، مما مكنها من ربح المعركة في هذه المرحلة، والتضحية برأس النظام، وبعض الرموز، للمحافظة على النظام ككل للإبقاء على مصالحها، بل واستثمرت بعض التقارير السابقة التي وجهت من خلالها نقدا للنظام، لاستعمالها كحجة على مساندتها للديمقراطية والحريات... وعلى القوى التقدمية أن تتدارك الأخطاء في إطار تقييم شامل وواسع للأحداث ومسبباتها ونتائجها، والآفاق الممكنة... ويبقى انتصار العمال والفلاحين والفقراء رهينا بدرجة التصدي للقوى الرجعية الحاكمة في تونس (والوطن العربي)،ومن يقف وراءها (أي الإمبريالية، وهو الجانب الذي أهمل زمن الإنتفاضة في تونس)، والإنتقال من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم، لإكمال المسار الثوري وانتصار قيم العدالة والمساواة، الآن وهنا، والإعتماد على القوى الذاتية، واستخلاص الدروس من التجارب الماضية والحالية، المحلية والدولية... وإذا كان لا بد من البحث عن حلفاء على الصعيد العالمي فإن ذلك لن يكون إلا ضمن القوى التقدمية، والنقابات والأحزاب والقوى المناهضة للهيمنة وللإستعمار والصهيونية، ولا يمكن أن تكون أجهزة الإتحاد الأوروبي أو الإدارة الأمريكية (مهما تخفت هذه الأجهزة أو الأدوات وراء المنظمات غير الحكومية والدفاع عن حقوق الإنسان وعن الحريات...) حليفا للشعوب وللأنظمة وللصهيونية في نفس الوقت، فهل يعقل أن تساند أمريكا الإستعمار الإستيطاني الصهيوني في فلسطين، وتساند نضالات الشعب التونسي أو المصري أو أي شعب آخر ضد الدكتاتورية؟ وهل يعقل أن تقتل الإمبريالية نساء وأطفال العراق وأفغانستان وتساند نساء تونس من أجل المساواة و"التمكين"؟ وهل يمكن أن تمول الدول الإمبريالية منظمات "غير حكومية" كي تناقض سياساتها وأهدافها؟... إذا أنفق الرأسمالي فلسا فذلك من باب الإستثمار، لا غير...

إنه لمن الخطر أن ينحصر الإختيار في قوتين رجعيتين تتنافسان على السلطة (على حساب الشهداء والمجروحين والمساجين...) هما الحزب الحاكم سابقا والحزب الحاكم حاليا...

إن ما يدعو إلى التفاؤل في تونس (وفي مصر) هو وجود مقاومة مستمرة في المصانع وفي المدارس وفي الشوارع، وتمارسها فئات عديدة (نساء، مثقفين، نقابيين، شباب معطل عن العمل، فنانين...)، ويصعب على أي حكومة، في المستقبل المنظور، العودة إلى ممارسة الدكتاتورية المفضوحة التي سادت مدة 55 سنة في تونس، لكن هذه المقاومة تفتقر إلى مقومات تحولها من حركة مقاومة (غير متجانسة) إلى اكتساح مواقع، قبل أن تتحول إلى قوة "مهيمنة" اجتماعيا وثقافيا (بمفهوم أنطونيو غرامشي)، في صالح الأغلبية المستغلة (بفتح الغين) والمضطهدة (بفتح الهاء)... أما الصراع الإيديولوجي، الذي فرضه الإسلام السياسي بالطريقة التي اختارها، فمن المفروض أن ينطلق من مطالب ومصالح الفئات التي تقاوم، وبذلك لن يكون مسقطا ومصطنعا، وبعيدا عن اهتمامات فئات الشعب الكادح...
**********************************
راجع "تضامن دولي أم استقواء بالأجنبي" الطاهر المعز - تموز 2010
" الحركة الأصولية والموقف من الأسلام السياسي" الطاهر المعز - تشرين الثاني 2008



#الطاهر_المعز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -بزنس الرياضة-
- الحركة الأصولية والإسلام السياسي
- حول الديموقراطية
- المسألة الفلسطينية: مساهمة في نقاش -نداء الى الأحزاب والقوى ...
- مساهمة في نقاش -نداء الى القوى والأحزاب الماركسية في الوطن ا ...
- الحركة النقابية في تونس بين ارادة الاستقلال ومحاولات الاحتوا ...


المزيد.....




- سلمان رشدي لـCNN: المهاجم لم يقرأ -آيات شيطانية-.. وكان كافي ...
- مصر: قتل واعتداء جنسي على رضيعة سودانية -جريمة عابرة للجنسي ...
- بهذه السيارة الكهربائية تريد فولكس فاغن كسب الشباب الصيني!
- النرويج بصدد الاعتراف بدولة فلسطين
- نجمة داوود الحمراء تجدد نداءها للتبرع بالدم
- الخارجية الروسية تنفي نيتها وقف إصدار الوثائق للروس في الخار ...
- ماكرون: قواعد اللعبة تغيرت وأوروبا قد تموت
- بالفيديو.. غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة عيتا الشعب جن ...
- روسيا تختبر غواصة صاروخية جديدة
- أطعمة تضر المفاصل


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الطاهر المعز - عن المسار الثوري في تونس، انقضاض الماكرين على ثورة المحرومين