أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية والديمقراطية في المجتمع -6















المزيد.....


الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية والديمقراطية في المجتمع -6


عبدالله اوجلان

الحوار المتمدن-العدد: 1091 - 2005 / 1 / 27 - 10:44
المحور: القضية الكردية
    


التعميم المفرط هو المفهوم الواجب عدم الوقوع فيه في دراسات النظام الاجتماعي. على سبيل المثال، فالمآل إلى نتيجة، وكأن الرأسمالية هي كل شيء بالنسبة للمجتمع، أو حتى أنها هي المجتمع ذاته لدى تعريفها؛ أمر خاطئ إلى أبعد الحدود. إذ، ما من نظام مهيمن يشكل كل المجتمع. وهذا أمر منافٍ لحقيقة الثنائية الجدلية أيضاً. فالتطورات الأحادية الجانب، والتي لا تطوِّر مضاداتها؛ ليست سوى تقرباً مثالياً، لا حقيقة ظاهراتية له. وعلى خلاف ما يُظَن، ثمة مساحة اجتماعية شاسعة خارج إطار النظم الحاكمة. وهي تحتوي على حيثيات النظم العتيقة، مضادات النظام الحاكم، وبدائله المستقبلية بشكل متداخل. فالمجتمع يتميز في داخله بآلية قصوى من الحيوية، بحيث يؤمِّن سيرورة تغيره بتطويره القوانين الكثيفة على التوالي. إن تمثيل النظم بخطوط بيانية، يفيد في تسهيل المعاني، ولكنه قد يتسبب أيضاً في إبداء العديد من التقربات الدوغمائية المشحونة بمخاطر عدم وضع كافة الحقائق في أمكنتها المناسبة. بالتالي، من اللازم مطابَقة التمثيل البياني مع بنية الحقيقة القائمة، والمعقدة إلى أبعد الحدود.
ما هو معمول به بالنسبة للرأسمالية أيضاً، ليس سوى رسماً بيانياً، فيه العديد من النقاط البعيدة كل البعد عن تكامل الحقيقة. وقد يكون ثمة جوانب مبالَغ فيها ضمنه. لهذا الغرض ركّزنا بكثافة على مسألة التعريف. من المهم الانتباه إلى عدم دراسة مراحل تطور النظام بشكل كثير النقصان، ولا كثير المبالغة؛ من أجل الحصول على معالجات موضوعية. فمثلما أن نموذج التطور بالقدرية أمر غير صحيح، فمن غير الممكن أيضاً الجزم بالمستقبل عبر التكهن بنتائج، وكأنه لا مفر منها.
المساحة البينية للقوانين الاجتماعية قصيرة. ومن الممكن حصول تغيُّر المعاني، وبالتالي ظهور البنى بكثافة فيها. علاوة على ذلك، فتناول النظم ضمن ديناميكياتها الذاتية دون اللجوء إلى القدرية أو الكهانة، وتحديد معانيها بناء على الواقع الملموس؛ إنما هو مزية المعلومة العلمية، ومن أفضلياتها. لكن، ربما تساهم الفلسفة، بالاشتراك مع الميثولوجيا، في إغناء المعاني أيضاً. جلي جلاء النهار عدم قدرتنا على تعريف ظاهرة محمَّلة في أحشائها بمسار التطور الطبيعي برمته – كالمجتمع – بأنها مجرد قوانين فيزيائية. ولكوننا جزء قريب من هذه الظاهرة، فإن عدم قدرتنا على التهرب من الكثير من الغموض، هو حقيقة أثبتتها فيزياء الكوانتوم أيضاً.
لم تؤخذ القيم الحاملة للنظام الرأسمالي فحسب من دائرة النهضة البينية. بل ومن بين الاحتمالات الواردة أيضاً العثور على قوة المعنى اللازمة من أجل بنى المجتمع الجماعي، من بين لوازمها الشديدة الغنى. فالطوباويون الأوائل، من أمثال "كامبانيلله Campanella" توماس مور Thomas Moore" (توماس مور: السير توماس: عاش بين 1477 و1535م. سياسي وكاتب إنكليزي. وهو صاحب كتاب "المدينة الفاضلة" الصادر عام 1516 – المترجم)، و"فرانسيس باكوين Francis Bacon" ومن بعدهم "فوريير Fourier"، و"روبرت أووين Robert Owen" (روبرت أووين: اشتراكي ومصلح اجتماعي بريطاني، عاش ما بين 1771 و1858م. كان رائداً في تأسيس الجمعيات التعاونية – المترجم)، و"برودون Proudhon"؛ كانوا يرسمون مخططات أعداد كثيرة من النظم الاجتماعية المشاعية. بل ويحاولون تنظيمها في بعض الأحيان. بالإضافة إلى أن العديد من الفلاسفة في المرحلة التنويرية، يُرهِقون عقولهم في تحديد نوعيات المجتمع الجديد المرتقَب بناؤه. والثورات المتصدرة في القائمة، كانت تتميز دوماً بجانب منفتح لليسار، وغير متناهٍ.
أما النظام الرأسمالي بحالته الراسخة، فلم يتكون كموضوع تخطيطي لأي من المفكرين البارزين. فاليوتوبيات الاجتماعية التي هرع المفكرون الجديون وراءها، ذات سمات جماعية، وتولي الأخلاق دوراً بارزاً فيها. مع ذلك فقد أثرت العديد من الدوافع الموضوعية في نجاح الرأسمالية وانتصارها، من قبيل قوة قدرة الدولة، الوزن الثقيل للأرستقراطية القديمة، وتطور الطبقة البورجوازية بما يناقض ماهيتها بالأكثر.
من هنا يمكن تفهم الاستثمار السهل للمنشغلين الجدد بأمور المجتمع، والمشحونين بكثافة ملحوظة بآثار المجتمع الحاكم القديم. فأي صراع تجاه السلطة، إذا لم يحتوِ برنامجاً منهجياً بنّاءاً، وقوة فكرية قادرة على تخطي نظام سلطة الدولة؛ لن يعبِّر عن شيء أكثر من كونه انتزاع زاوية منها وفق منطق "أنا بدلاً منك". أهم العناصر الأساسية التي حوَّلت الربح وتراكم رأس المال الموجودَين أصلاً في جوهر النظام القائم، إلى ركائز هيمنة للنظام كانت؛ الهرع وراء الغنائم ذات الأسس التاريخية، الثروات العظمى التي أمَّنتها الاكتشافات الجغرافية، العبور من المانيفاكتورة إلى الثورة الصناعية عبر الاختراعات العلمية، الصعود من الثورة السياسية إلى عرش السلطة، والتحول من الدولتية المَركَنْتِلِيّة (التجارية) إلى التربع في مركز قوة الدولة القومية (Mercantilism: التجارية: وهي نظام اقتصادي نشأ في أوروبا خلال تفسخ الإقطاعية لتعزيز ثروة الدولة من طريق التنظيم الحكومي الصارم لكامل الاقتصاد الوطني، وانتهاج سياسات تهدف إلى تطوير الزراعة والصناعة وإنشاء الاحتكارات التجارية الخارجية – المترجم). إن تنسيق وتنظيم رأس المال بالثورة الصناعية، والذي خَيَّب آمال الطوباويين في القرن التاسع عشر، كان يستدعي الحاجة لكفاح سياسي وانطلاقة نظرية أكثر تجذراً ورسوخاً ومعقولية. في هذه الفترة تبدأ نبوة كل من كارل ماركس وفريدريك أنجلز بالظهور.
يمكن نعت القرن التاسع عشر الذي حسمت فيه الرأسمالية انتصارها في النظام الحضاري، بمرحلة تطور الفكرة المضادة لها أيضاً، وتحولها إلى العملية السياسية. وفي أساس كلا الحركتين تكمن النهضة والتنوير والثورة الصناعية. لقد فقدت وجهة النظر الدينية حاكميتها، واكتسب الرأي العالمي العلماني ثقله. أما تيارات الثورة العلمية والفن الحديث، فكانت مؤهلة، وبكل سهولة، للاستلهام من المقاييس والإرشادات اللازمة لإحداث مثل تلك التطورات.
أما التيار المتصاعد طرداً من داخل الأفكار المناوئة للنظام، فكان الماركسية. لقد كان كارل ماركس وفريدريك أنجلز يُسمِّيان التيارات المعارضة السابقة لبنيتهما الفكرية بـ"الاشتراكيين الخياليين". ويبينان أن عدم وصول الرأسمالية نقطة الشكل الإنتاجي المهيمن، لعب دوراً أساسياً في ذلك. ويوضحان الفارق الكامن بين نظاميهما الفكري وأنظمة الآخرين ارتباطاً بالنظرية الاقتصادية الحتمية الصلبة (Determinism: النظرية الحتمية: مذهب يقول بأن أفعال المرء والتغيرات الاجتماعية و…الخ هي ثمرة عوامل لا سلطة للمرء عليها. أي إنها تحدث قضاء وقدراً – المترجم). وإلى جانب اعتمادهما نظام "هيغل" في الفكر الدياليكتيكي، إلا إنهما يزعمان أنهما أوقفاه على قدميه، بعد أن كان واقفاً على رأسه. ويحدِّدان السياسة الاقتصادية الإنكليزية والاشتراكية الطوباوية الفرنسية كمصدرين إلهاميين أساسيين آخرين لهما. بالطبع، فما كان من نصيب ألمانيا هو الإلهام الفلسفي. ساطع كلياً أنهما توصلا إلى تركيبة جديدة وطيدة من أجل زمانهما. فتكوين معارضة منتظمة ومنظمة لهذه الدرجة، في الحين الذي شهد فيه المجتمع المنظم مقابلهم أيام نصره وظفره؛ إنما ينمّ عن رؤية مستقبلية ثاقبة ونشاط مفعم بروح المسؤولية الحقة. وأول ثمرة لنشاطاتهما هو "البيان الشيوعي". وكأنه منهاج حزبي. بالأصل، يُعلَن عنه خلال فترة وجيزة كبرنامج للشيوعية (لحزبها). ولأجل تمييز كل من كارل ماركس وفريدريك أنجلز عن غيرهما من الاشتراكيين، يتم نعتهما بـ"الاشتراكيين العلميين".
جلي تماماً أنهما أبديا أكثر المواقف واقعية في زمانهما، بشأن تعريف الرأسمالية. وبالإمكان اعتبار "الرأسمال" – الأثر الأولي لماركس – بأنه تعريف للرأسمالية العملاقة. وفي أثر "أصول العائلة، المُلكية الخاصة والدولة" أيضاً يقوم فريدريك أنجلز بالتحليل التاريخي للمجتمع بأوسع أبعاده، سعياً منه لإتمام النظم الفكرية. إن نتائج الاشتراكية ذات الجذور الماركسية، ومنذ عام 1850 تقريبياً وحتى يومنا الراهن؛ كشفت النقاب بما فيه الكفاية عن إيجابيات تحليل النظام، إلى جانب أخطائه ونواقصه.
للوصول إلى التعريف الأمثل لتحليلات النظام الاجتماعي، سيكون من المفيد والمعلم قياسها بشبيهاتها التاريخية. فأول مانيفستو، حسب ما تَمكَّنا من معرفته من المصادر المكتوبة، هو نظام "الأوامر العشر". إنه يصوغ خروج سيدنا موسى من النظام العبودي المصري في العصور الأولى. من المعلوم إنه تأثر بـ"اليهوذاوية Yah – Weh" (نسبة إلى يهوذا) دين الأسلاف، بقدر استيحائه من مذهب الإله الواحد للفرعون أخناتون (إله الشمس). ويسعى إلى إمداد مجتمعه – القبيلة العبرية – بالنظام عبر الأوامر العشر. معروف مدى التأثرات الكبرى الحاصلة من هذا المانيفستو – حتى يومنا الراهن – الذي يُعتَقَد بالتصريح به في أعوام 1300ق.م. والفصل الأول من الكتاب المقدس "العهد القديم" إنما هو شمولية كلية متطورة مع الأوامر العشر. يصل هذا "العهد القديم"، الذي يمكن تقسيم مضمونه إلى عدة فصول بينية، خلال الأوقات الحرجة، حتى عهد سيدنا عيسى بشكل كلي، مع بيانات (مانيفستو) الأنبياء الظاهرين طبعاً.
بمستطاعنا تناول "الإنجيل" كمانيفستو ثانٍ أكبر. فهذه العادة المرتكزة إلى سيدنا عيسى، هي في مضمونها وثيقة منشورة – مطوَّرة – باسم كافة الفقراء والعاطلين عن العمل، إزاء روما العبودية التي أبقت عليهم تحت القمع والكبت. ولربما كانت أول وثيقة تُنشَر باسم المسحوقين. النتائج التي نمَّت عنها المسيحية – باسمها العام – ذات تأثير بيِّن في راهننا، مثلما كانت عليه عبر التاريخ بأقل تقدير. إنها تحتوي تقاليد "القدّيسين والقدّيسات" بقدر تقاليد الأنبياء. ثمة العديد العديد من الدروس التي يمكن تلقُّنها من القديسين والقديسات، بقدر أولياء الإسلام.
المانيسفتو الثالث الأكبر هو "القرآن". هذا الأثر المنبثق من توحيد ملاحظات سيدنا محمد (ص) بصدد المجتمع العربي العشائري والقبلي في تلك الأزمان، مع كتاب "العهد القديم" وتفسير "الإنجيل"؛ إنما هو ضرب من بيان "شروط" المجتمع الإقطاعي في العصور الوسطى. وبينما تتشارط أوروبا بالإنجيل، يسعى الشرق الأوسط للاشتراط بالقرآن. من الواقعي تعريف هذه الأمثلة بالحلول والمانيفستوهات الاجتماعية، رغم كونها ذات حِبكة (ذهنية) دينية.
النقطة الأهم الممكن سؤالها بشأن "الرأسمال" هو السؤال: هل حطّم هذا الأثر الرأسماليةَ أم عزَّزها؟. السؤال سارٍ على مانيفستوهات النظم المشابهة أيضاً. ولأجل إنارة الموضوع أكثر، من الضروري جعل مرحلة الأطروحة والأطروحة المضادة والتركيبة الجديدة، التي هي دعامة الفكر الدياليكتيكي، مفهومة. فمثلما بيَّنْتُ في البداية، فالخاصية الثنائية في النظام الكوني هي انشطار الواحد إلى اثنين. وكأن الواحد (1) في علاقة الطاقة – المادة أمر مبرهَن. والمعادلة "E=mc2" (أي الطاقة = جزيئين من المادة – المترجم) تدلنا على الطريق بشكل مكمل. حيث تحدِّد الطاقة كعنصر محرِّك ومغيِّر للمادة. ويمكن تعريفها بأنها الجوهر الأكثر طلاقة. و"الفوتون" – جزيء المادة في حالة سرعة الضوء – هو في مضمونه الطاقة المنقطعة من المادة. وتَحَوُّل كل المادة إلى "فوتونات" يعني تحولها إلى حالة الضوء. والنشاط الإشعاعي (الفاعلية الإشعاعية radioactivity) يمثل هذه المرحلة. لكن، ومع ذلك، فثنائية الطاقة – المادة هي حقيقة واقعة. فالتطابق في المضمون لا يعيق التحول إلى ثنائية. لكن اللغز الأصلي هنا هو: لماذا، أو كيف دُفِع الواحد (1) إلى الانشطار وتكوين الثنائية؟ وما هي ميول "التثنية" بحد ذاتها، وكيف تتكون؟ الاحتمال الأكبر هو أن ما يجري داخل الذرّة هو الذي يصبغ شكل كافة التنوعات والتحركات. يتبين من البحوثات المجراة مؤخراً أن تكوُّن وتحوُّل الجزيء خلال مدة صغيرة للغاية وسريعة للغاية وقصيرة للغاية – والذي يستعصي على المرء حتى التفكير فيها – هو الذي يحدِّد مرحلة التحول إلى ذرّة. وأنه قد برزت إلى الميدان جزيئات الذرّات، واتحادات (مجمَّعات) الجزيئات، وبالتالي العناصر المختلفة واتحاداتها. ويُخمَّن أن الأوساط المغناطيسية المختلفة أيضاً تلعب دورها في ذلك.
لا مناص من تطبيق هذه المرحلة القائمة في الطبيعة على المجتمع، وأقلمتها معه. فإلى جانب كون شرائع المجتمع شديدة الاختلاف، إلا أنه من المنتظَر إلحاقها بذات النظام. فنحن على علم بأن تحولات النظام الاجتماعي أيضاً تكاثرت، بخطوطها العريضة، من الواحد (1)، أي من الكلان. ونحن على علم تام أيضاً بأن المجتمع الهرمي انبثق من الكلان، ومنه انبثق المجتمع الدولتي الذي أفضى إلى الرأسمالية، وهكذا برزت بعض الأشكال المألوفة.
إذا ما فسرنا مصطلح التضاد في الدياليكتيك بأنه تحميل أحد عنصرَي الثنائية للعنصر الآخر، وتحولهما بالتالي إلى كيان أرقى مختلف؛ بدلاً من تفسيره بأنه إفناء أحد العنصرَين العنصرَ الأخر؛ فستزداد إمكانيات فهمنا للظواهر بشكل ملحوظ. لكن الأهم في هذا الموضوع هو حقيقة أن التحول لا يتم على خط مستقيم. فتحول المتضادات ليس كمعادلة (ب×حـ = ب حـ). قد تكون معادلة المنطق الكلاسيكي هذه سارية في مساحة بينية محدودة للغاية. فالتحول الجاري في عالم الظواهر هو بالأرجح متعرج، حلزوني، مهدَّب، سريع حيناً وبطيء أحياناً أخر. وقد يتسم بخصائص من قبيل الآنية – اللانهاية، أكثر من كونه لا بداية له ولا نهاية. ويمكن الافتراض باحتوائه الخاصيات المختلفة حسب المساحات البينية للفوضى، بدءاً من الاستقامة وحتى الكروية.
إذن، والحال هذه، إذا ما بانَ مضاد الرأسمالية، فإن إفناده إياها ضمن خط مستقيم، ليصل بالتالي إلى المجتمع المصوَّر – أي الاشتراكية – قد يكون افتراضاً تجريدياً لا غير. أما الحقيقة ذاتها، فهي شديدة الاختلاف. وتكويناتها تجري على خلاف أكبر من ذلك. قد يذوِّب النظام الرئيسي ضده ويصهره، قد يَستعمِره، أو يشاركه بالتكافؤ. أو قد يُحدِث تطوراً طبيعياً بخسران كمٍّ ضئيل من الطاقة، وعبر تحول طويل المدد. وقد يصبح لازمة للنظام الجديد بتعرضه لانكسار قاسٍ.
الخاصية الهامة الممكن ذكرها بشأن التطورات ضمن المسار الماركسي، هي أن النطرية والعملية لم ينجوا من الذوبان في بوتقة الرأسمالية. والذوبان حصل من ثلاثة سبل: الديمقراطية الاجتماعية، الاشتراكية المشيدة، والتحرر الوطني. لا يمكن القول بأن الرأسمالية لم تتغير إطلاقاً من هذه السبل أو الظواهر الثلاث. بل حدثت متغيرات مهمة، حيث شوهدت تغيرات ليبرالية كثيفة. لكن النظام فلح في إطالة عمره أكثر، بفضل هذه السبل الثلاثة. إن تعليل ذلك بالثورات المضادة لا يروي الظمأ. فالموضوع أكثر غوراً من ذلك. وهو منوط بالماهيات الأساسية الموجودة في مفهوم الاشتراكية المقبول به.
يكمن التفريق بين الرأسمالي والعامل في أساس الأخطاء والنواقص المرتكَبة. فهذا التفريق لا يختلف، من حيث المضمون، عن التفريق بين السيد والعبد، الذي كان سائداً في الأراضي الحرة لروما العبودية. والتشبيه سارٍ على علاقة القن والآغا أيضاً. إذا ما قابلنا بين شكل تنظيم الرجل ومقوماته في عائلة أبوية (بطرياركية) ما، وبين شكل تنظيم المرأة التابعة ومقوماتها؛ فالغالب في أي صراع هو أمر بيِّن منذ البداية. وفيما عدا الحالات الاستثنائية، فالرجل الغالب في شجار ما، يواصل وجوده أكثر تعززاً من المرأة المُساء معاملتها، لتغدو المرأة مُلكاً للرجل بدرجة أكبر. التناقض موجود مرة أخرى. لكنه، وبقدر تحوله، يذوب خطوة أخرى داخل النظام الذكوري الحاكم. يمكننا تعميم هذا المثال على كافة النظام الاجتماعي. فصياغة نظرية ما، ورسم خطها العملي بما يتواءم والشروط التي تعاني خلالها المرأة من هيمنة الرجل وتقييده إياها بألف غِل وغِل ضمن حضارة المجتمع الطبقي – بل وما قبلها، أي داخل المجتمع الهرمي – ومن ثم انتظار التحرر منها؛ إنما هو أبعد من الخيالية، ولا يُشيد بأي شيء سوى بالقول للمرأة "تَلَقِّ الضرب أكثر، تقيَّدي أكثر". ومنذ اللحظة التي تقبل فيها المرأة الأنوثة الزائفة، تكون قد أُودِعَت بالأصل للخسران والهزيمة. كَم ستفلح الشاة التي بين يدي القصّاب، في إنقاذ نفسها إذا ما كَدَّت؟ إن فرصة الشاة في الحياة منوطة بإنصاف القصّاب ورحمته، وبمنفعته. قد ينتفع من حليبها وصوفها، وقد يذبحها أيضاً.
على عكس ما يُظَن، فالعامل مقابل الرأسمالي، لا يندرج ضمن التناقض المسمى بالخصم. وإذا ما نظرنا إلى الرأسمالية الراهنة، نجد أن العامل المتميز بعمل حسن وأجر جيد، يُدرَج في شريحة عصارة المجتمع وخُلاصته. في حين أن المتلقين الضربةَ الحقيقيةَ من النظام، هم الجيش المتعاظم من العاطلين عن العمل، الشعوب المستعمَرة، المجموعات الإثنية والدينية، والقطاع الساحق للمرأة. هذا علاوة على أن حالة الأطفال والشبيبة، الشيخوخة، التناقضات الداخلية لنظام البيئة الأيكولوجية، التناقضات المتدرجة في شِبَاك المنفعة داخل المجتمع الرأسمالي، القرية – المدينة، المدينة العملاقة – المدينة الصغيرة، العلم – السلطة، الأخلاق – النظام السائد، الجندي – السياسة، وغيرها من المئات من بؤر التناقض؛ هي جميعها التي تحدِّد النظام. وفي حال لم نعتمد كل هذه الظواهر أساساً، فسيمكن لنا أن نميز عبر مفهوم مجتمعٍ عميق، أنه ما من فرصة أمام نظرية الثورة والتغيير المعتمدة على العامل ذي الامتيازات. حيث بإمكان النظام القائم أن يوجهها كما يشاء، وبكل سهولة.
ثمة نواقص أكثر أولوية في التقرب الماركسي. حيث إنه لم يحلل الحضارة ككل متكامل. فتجربة أنجلز محدودة للغاية. وهو يَعتَبِر أن التناقض الأولي الكامن بين المجتمع الطبقي والمجتمع الطبيعي الجماعي قد تم تخطيه منذ زمن غابر، ويَعُدُّه شكلاً متخلفاً أيضاً. بيد أن تعريفنا التاريخي الشامل أظهر أنه ثمة صراع دائم وشامل بين الموقف المشاعي الديمقراطي والموقف الهرمي الدولتي. ناهيك عن أن تكون القيم المشاعية الديمقراطية رجعية أو فانية، بل تتميز بدور "ديناميكي" بارز في كافة تكوينات النظام القائم، بما فيها الرأسمالية. فالتناقضات الأكثر فاعلية في نشوء وتطور النظام الرأسمالي، وفي أزمة انهياره، هي تلك المتعلقة بالقيم المشاعية الديمقراطية. قد يُبقي النظام على الكثير من الشرائح داخله – كالعامل والقروي وغيرهما – ويدير شؤونها. بل وحتى قد يجعلها حليفاً حسناً له. وقد يواري إدارته أكثر باستثارة الفردية، ليؤمِّن سيرورته. لكنه لا يستطيع بتاتاً إخراج المجتمع ذاته من كونه مجتمعاً. فالمجتمع بالأساس مشاعي وديمقراطي. ولأن الرأسمالية تعي ذلك، فإنها تقوم بإنعاش الفردية على حساب المجتمع، وتؤجج الغرائز وتحرضها. هذا وتُحَوِّل المجتمع البشري، وبحالة معكوسة، إلى مجتمع من الثدييات البدائية _ أي تحويل المجتمع إلى مجتمع قِرَدة – في كثير من النواحي. ولدى مقاومة المجتمع، ومآله إلى الانهيار كلياً في آخر المطاف؛ تتولد فرصة بروز مجتمع جديد إلى الميدان. لا يمكن أن تحظى مشروعات التحول الاجتماعي بفرصة النجاح، إلا إذا انتبهت أولاً إلى هذه الجوانب الأساسية في التناقضات الموجودة.
ارتباطاً بذلك، إنْ لم تؤخذ الحِبكة الأخلاقية، التي دمرتها الرأسمالية بشكل منظم، أساساً؛ فلن يجد أي تناقض فرصته في الحل من الجهة التقنية. فبدون الأخلاق الاجتماعية لن يكون بمقدور أية أساليب قانونية أو سياسية أو فنية أو اقتصادية، أن تدير شؤون أي مجتمع كان، أو تغير أحواله. يجب إدراك الأخلاق بأنها شكل الوجود التلقائي للمجتمع. إنني لا أتكلم هنا عن الأخلاق التقليدية الضيقة، بل أُعرِّفها بأنها ضمير وفؤاد تسيير المجتمع لذاته. فالمجتمع المفتقد لضميره مجتمع فانٍ ومنتهٍ. ثمة معنى لكون الرأسمالية هي النظام المخرب للأخلاق بأعمق الأشكال. فكونها النظام الأخير يجعلنا نعي دوافع إفسادها للضمير الاجتماعي. التعبير المرئي لفناء الطاقة الكامنة لنظام القمع والاستعمار، إنما يعني إفساد الأخلاق بشكل منظم. إذن، والحال هذه، فالصراع مع الرأسمالية يستدعي نضالاً وكفاحاً أخلاقياً واعياً، كضرورة لا مهرب منها. والصراع المفتقر إلى ذلك هو صراع فاشل منذ بدايته.
تَعتَبر الماركسية أن الشخصية تعيش داخل قيم الحياة الرأسمالية ككل متكامل. وتغلب عليها المدينية. الإيجاز الغالب على طراز حياة المدينة يربط الفرد بالنظام الرأسمالي بألف قيد وقيد. ومن الضروري الإدراك أن ماركس بذاته كان يعيش ضمن النظام القائم مكبَّلاً بآلاف القيود. فحتى أولئك الأشخاص الذين انقطعوا عن النظام السائد، وانزووا على أنفسهم عشرات من السنين في الأديرة والكنائس في الديانتين الإسلامية والمسيحية؛ لم يتمخض انزواؤهم ذاك سوى عن تأثير محدود. وأغلبية الناشطين الماركسيين لم يكونوا متيقظين حتى لوجود كيان أخلاقي في هذا الاتجاه. بل كانوا يعتقدون أنهم سيظفرون بالنتائج المرجوة بالعيش بهذا الشكل أو ذاك من أشكال الرأسمالية، والصراع تجاهها نظرياً وعملياً.
أما أطروحات النظرية الماركسية بشأن الثورة السياسية وما بعدها، فهي تتسم بخصائص هرمية ودولتية أكثر خطورة. وتكاد تكون الحرب، ديكتاتورية البروليتاريا، والدولتية مصطلحات مقدسة. مع أن السلطة والاقتدار، الحرب والجيش ليست سوى ثمار حضارة المجتمع الطبقي، وأجهزة مصيرية مطلقة لا غنى عنها بالنسبة للشريحة الاستعمارية المهيمنة. ووضع هذه الوسائل في حوزة البروليتاريا يعني تقرير التشبه بتلك الشريحة منذ البداية. بيد أن كل هذه الوسائل استُخدِمت على أكمل وجه في الاشتراكية المشيدة. وحازت على النصر. لكن، وبعد مرور سبعين عاماً، أُدرِك أن ما تم تشييده هو الشكل النهّاب والسلاّب للرأسمالية، وكأن رأسمالية أوروبا الغربية – قياساً به – قد طُهِّرت بسبعة مياه. إنه الشكل الرأسمالي الأكثر توتاليتارية ومناهضة للديمقراطية. يكمن مفهوم الدولة خلف هذه الظاهرة. فالدولة التي قال أنجلز بصددها "يجب إخمادها رويداً رويداً"، بلغت أقوى مراحلها وأوطدها مع الاشتراكية المشيدة. لا معنى للبحث هنا عن النوايا الضامرة أو الثورة المضادة. فالوسائل المتبعة تفضي إلى الرأسمالية، لا الاشتراكية؛ حتى ولو استُولِي على الدولة بكل كمال. تستلزم الاشتراكيةُ الوسائلَ الاشتراكية، التي هي بدورها – من أولها إلى آخرها – آليات للديمقراطية، وحركة البيئة، وحركة المرأة، وحقوق الإنسان، والدفاع الذاتي عن المجتمع.
انطلاقاً من ذلك، سيكون بالمقدور إضافة الحزب، النقابة، السلام، حركات الجبهة التحررية الوطنية، السياسة، وغيرها من العديد من الظواهر التي لم يتم تخطي النظام الرسمي فيها؛ كمؤثرات في حدوث الفشل. وبسبب عدم النظر إلى هذه الوسائل بعين ديمقراطية وأيكولوجية ضمن مسار استراتيجي وفلسفي عام، فلن تنجو من اللحاق بالنظام القائم في آخر المطاف، مهما استُخدِمت كوسائل نضالية في الصراع.
الانتقاد الآخر الذي يمكن توجيهه إلى الماركسية معني بالأزمة القائمة آنذاك. فالرأسمالية شهدت مرحلة النضوج في عهد ماركس. لكن النتيجة التي خَلُص إليها ماركس وأنجلز من ذلك هي أنه لا مفر من الرأسمالية. وكأن الرأسمالية تلعب دور جرَّافة تشق الطريق أمام الاشتراكية. وإذا ما عمّمنا أكثر، فإنهما يريان في حضارة المجتمع الطبقي تقدماً لا مناص منه، ويؤمنان بضرورة المرور بهذه المراحل، من أجل تأسيس نظامهما الذي يرميان إليه.



#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني اللب التاريخي للقيم المشاعية والد ...
- الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ - اللب التاريخي للقيم المشاعية ...
- الدفاع عن شعب الفصل الاول / ه- الدولة الراسمالية والمجتمع ال ...
- الدفاع عن الشعب الفصل الاول د- المجتمع الدولتي الاقطاعي ومجت ...
- الدفاع عن شعب الفصل الاول ج- المجتمع الدولتي وتكون المجتمع ا ...
- الدفاع عن شعب-الفصل الاول ب – المجتمع الهرمي الدولتي – ولادة ...
- الدفاع عن شعب -الفصل الاول آ – المجتمع الطبقي
- الدفاع عن شعب -الفصل الاول
- الدفاع عن شعب


المزيد.....




- الآلاف يتظاهرون في جورجيا من أجل -أوروبا- وضد مشروع قانون -ا ...
- مسؤولون إسرائيليون: نعتقد أن الجنائية الدولية تجهز مذكرات اع ...
- نتنياهو قلق من صدور مذكرة اعتقال بحقه
- إيطاليا .. العشرات يؤدون التحية الفاشية في ذكرى إعدام موسولي ...
- بريطانيا - هل بدأ تفعيل مبادرة ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا ...
- أونروا تستهجن حصول الفرد من النازحين الفلسطينيين بغزة على لت ...
- اجتياح رفح أم صفقة الأسرى.. خيارات إسرائيل للميدان والتفاوض ...
- احتجاجات الجامعات الأميركية تتواصل واعتقال مئات الطلاب
- الأونروا: وفاة طفلين بسبب الحر في غزة
- لوموند تتحدث عن الأثر العكسي لاعتداء إسرائيل على الأونروا


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية والديمقراطية في المجتمع -6