أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - الدفاع عن شعب الفصل الاول / ه- الدولة الراسمالية والمجتمع الراسمالي ، ازمة الحضارة















المزيد.....



الدفاع عن شعب الفصل الاول / ه- الدولة الراسمالية والمجتمع الراسمالي ، ازمة الحضارة


عبدالله اوجلان

الحوار المتمدن-العدد: 1078 - 2005 / 1 / 14 - 10:04
المحور: القضية الكردية
    


ه ـ الدولة الرأسمالية والمجتمع الرأسمالي، أزمة الحضارة

كان لينين محقاً عندما قال: "الدولة والثورة هما المسألة الأساسية في مراحل الأزمة العامة". كان منتَظَراً منه القيام بصياغة تعريف صحيح للدولة والمجتمع، حيث اعتقدت به كل الشرائح المسحوقة والمستعمَرة في القرن العشرين، ورأته كانطلاقة نبي. كان صادقاً في أفكاره وعملياته. كان قديراً ماهراً. وكان قد دنا كثيراً من التعريف الصحيح لهما. ولكن الدولة مرة أخرى عرفت كيف تواصل نفسها، لدى لينين أيضاً، كوجود سحري مستحيل التعريف، لتُفرِغ جهوده من محتواها. لقد تبدت الدولة كحالة أشبه بـ"ثنائية كوانتوم" بالنسبة لكل الأنبياء والحكماء والفلاسفة ورجالات العلم في راهننا.
هذه هي الثنائية التي مفادها: "إنْ عرفتَ مكان الظاهرة، فلن تعرف زمانها. وإنْ عرفتَ زمانها، فلن تعرف مكانها". بعض الفلاسفة يسمونها "مبدأ الغموض". قد يكون مبدأً من أجل "المعرفة"، كأكثر أنواع الإدراك رقياً. وأنا أيضاً أؤمن، أو أعرف، بأن "المرء يتكون في لحظة المعرفة". أي، ولأن المعرفة والتكون يحصلان في ذات اللحظة، فإنني لم أجد سبيلاً للخلاص من نصف المعرفة، رغم انشغالي بها كثيراً. ولكنها ثنائة تجري في الحدود الأصغرية والأعظمية للكون، وهي تُشعِرنا بوجودها في الكيانات (التكوينات) الخارقة للكون. لا أعتقد بأن الدولة ظاهرة كهذه. ومثلما نوَّه أنجلز بحدسه الداهية، فـ"الدولة" لا يمكن أن تكون شيئاً عدا إحدى لوازم التحف القديمة، التي سيأتي يوم وترمى فيه في مزبلة التاريخ، كأداة مهترئة لا نفع منها (çıkrık). ويكمن سوء الطالع بأكمله في صعوبة فهمها وإدراكها، وذلك بسبب الجهل بهوية صاحبها الحقيقي، وأين وكيف تكونت – وهذا من دواعي مضمونها – وحتى إن برز صاحبها، فهي تتحول إلى حقيقة مختلفة كل الاختلاف. وهكذا يسود منظر، وكأنها "ثنائية كوانتوم".
إننا نعيش الرأسمالية. وأمريكا، القوة المحركة للرأسمالية، لا تتوانى عن شن حرب التقزيم على الدولة، على الصعيد الكوني. فعندما يضيع الخاتم في فيلم "سيد الخواتم"، الذي نوهنا إليه سابقاً، إنما تكون بذلك – في الحقيقة – انتقدَت السلطة المفرطة المتحولة إلى عائق حقيقي. ولكنها من جانب آخر، لا تتورع عن لف العالم واستيعابه (احتضانه) كدولة. وهذا ما يفضي إلى أن الظاهرة المشكلة مستمرة في ذروة المجتمع الفوقي أيضاً، وبكل حدة. وأظن أن حالة الدول الأخرى، التي يجب أن تكون على شكل ولايات منفردة بذاتها، لم تُحلَّل بشكل برَّاق أكثر. يكاد يكون ما من حكومة لم تفكر بالإصلاحات في موضوع الدولة. ولكن الغريب في الأمر أن كل إصلاح لا يسفر سوى عن تأزيم الأزمة أكثر. فهدف المجازفة الشرق أوسطية الأخيرة، إنما هو "مشروع الشرق الأوسط الكبير الإصلاحي". إنه حديث الساعة في العالم أجمع. ولكن، هل المسافة المقطوعة فيه هي نحو الأمام أم الخلف؟ هل هو الحل أم تجذير للعقم واللاحل؟ هذا ما لم يُجزَم به بعد.
وحسب قناعتي، فإن كل هذه التحديدات والغموض، إنما تتأتى أساساً من ذات المشكلة، ألا وهي عدم تجاسرنا على تعريف الدولة. فحال علماء الاجتماع، الذي يجب عليهم صياغة ذاك التعريف، ليس أكثر تقدمية من حال الرهبان السومريين الساعين لمعرفة قدر الإنسان من خلال تحركات النجوم. فبينما تضاهي إحصائيات القرن العشرين بمفرده ما هي عليه إحصائيات الحروب والعنف على طول التاريخ البشري أضعافاً مضاعفة، فإنهم لا يتخلفون عن كتابة المجلدات المليئة بالكذب والرياء والمصففة حول "إرهابية الفرد والتنظيم"، اللذين ليسا سوى ثمرة جانبية من النظام ذاته. وكأن كل ما يفعلونه، كعنف منظَّم، هو تأمين عدم فهم الدولة أو إدراكها. وحتى ذوو النوايا الحسنة منهم، فإن تعاريفهم لا تتعدى في مستواها مسألة تعريف الفيل عبر شعر جلده! وقد مزَّقوا الواقع الظاهراتي المتكامل إلى أشلاء متناثرة، تحت اسم الأسلوب، لدرجة لم يعد بالإمكان معرفته أو قراءته. ومن ثم يتصرفون وكأنهم غير عالمين بما اقترفت أيديهم بهذا الشأن.
والغريب في الأمر هو، وكأن عدم التعريف الصحيح للدولة أصبح بلاء مسلَّطاً عليها هي أيضاً. لقد غدت الدولة تشكل الأزمة المجتمعية الأساسية، بمواراة ذاتها حيناً، وبجاذبيتها أحياناً أخرى، وبإخافتها وترويعها ومعاقبتها الغير في أغلب الأحيان؛ بحيث جعلت من ذاتها حالة مبهمة يكتنفها الغموض. وغير وارد ألا نرى ماهيتها هذه في كل زاوية وبقعة من العالم. فالمجريات الحاصلة حالياً في ميزوبوتاميا السفلى، مهد ولادة الدولة، هي بحد ذاتها كافية لنراها وكأنها تنتقم لذاتها من ماضٍ لعين. تماماً كيفما تلدغ الأفعى الطويلة جداً ذنَبَها هي. أو كما قيل بلغة الكتاب المقدس: مثل حيوان اللوياثان الذي يعض على ذنَبه في نفس مكان ولادته، ليقضي هو بذاته على حياته، ويصارع لإنهائها بيده.
ومثلما جرى في كل نظام مجتمعي قمعي واستعماري، فولادة الرأسمالية أيضاً لا تكون بدون الدولة. كانت دوغمائية النظام الإقطاعي ذات نوعية دينية، في حين كانت ميثولوجية في العبودية البِدْئِيّة. وبينما تجسَّد الإله في إحداهما في شخص المَلك وسلالته بالذات، كان الإله في اللاحقة منهما يمثل ذاته في الوجود المجرد للدولة، بمواراة ذاته وتستره. فعصور الذهنية البشرية كانت تستلزم ذلك.
ولدى وصولنا إلى نهايات القرن الثاني عشر الميلادي، نلاحظ في البنية الذهنية للدين الإسلامي، أن العلم والفلسفة سينهزمان أمام الدوغمائية الدينية. حيث ستُغلَق أبواب الاجتهاد رسمياً، لتلف القوالب الدوغمائية ذهنية المجتمع الشرق أوسطي كشِباك الجهالة. في حين أنه في القرن الثاني عشر الميلادي، وفي أوروبا، ستبدأ مرحلة وضع اللبنات الأساسية لثورة ذهنية تاريخية، عبر جمعهم بين الميراثين الشرقي والإغريقي وتهجينهما. ورغم كافة الجوانب القمعية للديانة المسيحية آنذاك، إلا إنها لم تتوانَ عن استثارة وتحريض فضولها في المعرفة، بجانب من جوانبها. لذا، إن تجاوز الدوغمائيات المنفتحة بأبعاد واسعة أمام التفسير في الديانة المسيحية، من خلال ذكريات المجتمع الطبيعي وبقاياه المتبقية، والتي لا تزال تنبض بالحياة والحيوية؛ لن يكون أصعب مما هو عليه لدى الأمة الإسلامية. فمثلما لم تنهزم الذكريات الغضة والطازجة للمجتمع الطبيعي – في وقت من الأوقات – أمام الإمبراطورية الرومانية، فإنها لن تنهزم أمام دوغمائية الديانة المسيحية أيضاً. بل وستبلغ وجهة نظر الطبيعة النابضة بالحياة والأمل، تجاه مفهوم المادة الميتة السائد في المسيحية بصدد مفهومها إزاء الطبيعة.
ثمة نظريات كثيرة تتداول دوافع بلوغ الرأسمالية النصر المظفر في أوروبا الغربية. ولكن الدافع الرئيسي لذلك، حسب قناعتي، هو عدم تجذر الدوغمائية فيها، وعدم السماح لها بالتوطد بقدر ما هي الحال عليه في الشرق الأوسط. لقد عاقبت محاكم التفتيش الكاثوليكية (engizisyon) ثلاث شرائح: الهراطقة (المنشقون عن المذهب)، الكيميائيون (رواد العلم)، والساحرات الجِنِّيّات (بقايا النساء الحكيمات). فوجود ثلاثتهم هو ترياق الدوغمائية، وعلاجها الناجع. وفيما بعد كان مقدراً أن تتولد الذهنية النهضوية من رماد آلاف الجثث المحروقة من هؤلاء.
لم يكن ميلاد نظام المجتمع الرأسمالي قدراً محتوماً، ولم تشتمل الإطلاقيةُ موضوعَ الرأسمالية في هذه المرحلة التي شهدت إحدى أعظم الثورات الذهنية. ولكن، كيف حصل أن صارت النظامَ المهيمنَ بالانتفاع من هذه الثورة؟
إن الطراز الفكري والعقائدي الذي يستوجب التركيز فيه بإمعان ودقة، هو تأسيس الأواصر القطعية ورسم الخطوط المستقيمة بين الثورات الذهنية والأنظمة الاجتماعية البارزة على مر التاريخ. إنه الشكل المنعكس على التفكير العلمي لمفهوم "اللوح المحفوظ" الموجود في الكتاب المقدس. والمعتقد الدوغمائي الذي يقول "ما هو مكتوب على الجبين، سوف تراه العين"، على حد التعبير الشعبي، إنما يشير إلى مدى تفشي مثل هذا الطراز من التفكير والمعتقدات. والنقطة التي نوهنا إليها بكل عناية ضمن التحليلات التي سعينا لطرحها، هي الروابط الكامنة بين هذا المفهوم والمفهوم الإدارية للإرادة الهرمية الدولتية.
إنه تقرب يتخذ من إقناع المجتمع بكون نظام "الأوامر" هو قانون إلهي، أساساً له، ويفرض التفكير فيه كقانون ومخطط للأحكام القانونية. وتتبدى تقاليد آلاف السنين من هنا "من العصر الذهبي"، لترسم سياقاً من التطور المستقيم المنتهي باصطلاحات "المحشر" و"الجنة والنار". وفكرة القدَرية أيضاً هي من دواعي هذا المفهوم. إنه جدل محتدم بين أصحاب مذهب الاعتزال، وأصحاب مذهب اللوح المحفوظ، في العالم الإسلامي. وأساس هذا المفهوم، الذي لا يرى أي معنى في ضرورة النقاش الحر أو في ترجيح وتفضيل الإرادة الحرة ذات الخيارات المتعددة؛ إنما هو أكثر قِدَماً. حيث يمتد ليصل حتى العصور الميثولوجية المعتقدة بأن الآلهة الفَوطَبيعية (فوق الطبيعية) هي التي خلقت كل الحوادث والمجريات، وهي تدير شؤونها؛ ليواصل وجوده مع المثالية الفلسفية. في حين أن شكله المبتدئ مع عصر النهضة في الحضارة الأوروبية، والمستمر حتى راهننا، إنما هو مفهوم ذو سياق تقدمي مستقيم الخط. هذا ويرتكز الإيمان القوي بـ"التقدم"، والسائد في المرحلة التنويرية، وكذلك المعتقد القائل بـ"ضرورة التوجه صوب الشيوعية" في الماركسية؛ في جذورهما إلى هذا الطراز الفكري الدوغمائي.
لقد حَطَّمَت الظواهر التي برهن عليها الجزيء الأصغر من الذرّة، أي فيزياء كوانتوم، القوةَ التي تميز بها هذا التفكير. ذلك أن إحدى أعظم الثورات الفكرية التي تظهر أمامنا تشير إلى الحقيقة القائلة بأن التطور الطبيعي والمجتمعي لا يحصل في خط مستقيم متواصل، بل في مساحات الفوضى البينية، وفي عالم الجزيء ما تحت الذرّة، وعلى نحو منفتح لتفضيلات وانتقاءات متعددة ذات اختيارات حرة. وبالأصل، يمكننا بلوغ هذا الطراز الفكري من الطريق الحدسي والتصوري، دون الحاجة إلى اللجوء إلى فيزياء الجزيء الأصغر من الذرّة. حيث لا يمكننا تعليل النتيجة الظاهرة للعيان، والمتمثلة في التنوع اللامحدود للكون والطبيعة، من دون وجود قوة التطور التي تترك المجال مفتوحاً أمام الاختيار (الانتقاء) الحر في عالم كافة الظواهر والحوادث الموجودة. ذلك أن التنوعية تستلزم الحرية. في حين أن التقرب بخط مستقيم يفرض التطابق، وبالتالي اللااختيار.
ولأجل تأمين إمكانية التقرب بخلاقية وإبداع، نلجأ إلى هذا التفكير العلمي الفلسفي، وإلى المرحلة المتسارعة بوتيرة أكثر اعتباراً من القرن الخامس عشر، والمنتهية بانتصار الرأسمالية المظفر. وباقتضاب، كان من الممكن ألا يكون انتصار الرأسمالية قدراً محتوماً. يجب تداول بواعث انتصار الرأسمالية على نحو أقرب إلى الصحة. إن الماركسية التي أثرت علينا كثيراً، وبإعلاناه أن الرأسمالية وكافة أشكال المجتمع الطبقي السابقة لها هي "الخط الاضطراري والضروري لتقدم التاريخ"؛ إنما قدمت بذلك أعظم مساهمة منها – دون أن تعلم، وخلافاً لمعتقداتها وآمالها وطموحاتها – إلى الرأسمالية، التي طالما كافحت ضدها بحدة.
يكمن في صُلب الأفكار التي ذكرتُها في هذه المرافعة، قناعية التي تشير إلى أنه "لا وجود لمبدأ الضرورة والاضطرار في أنظمة المجتمع، مثلما قالت به أشكال الفكر الأساسية، بما فيها الماركسية". أي أن المزاعم القائلة بـ"التطور الضروري والاضطراري"، سواء بالنسبة لأشكال المجتمع الفوقي أو الدولة؛ إنما تحل آثار الدعايات الرسمية الممتدة على طول آلاف السنين. وبمعنى آخر، فمفهوم "القدر" القديم، متواصل في راهننا تحت غطاء علمي، وباسم "قوانين المجتمع الضرورية والاضطرارية".
تعمل ديناميكيات التحول المجتمعي بشكل مغاير، بحيث لا يمكن تعليلها بالاعتماد على البنى الفوقية والتحتية فحسب. ذلك أن التحولات تحدث بتأثير عوامل متشابكة ومعقدة. ونخص بالذكر هنا أن التفسير الدوغمائي للمادية الدياليكتيكية المؤثرة على قسم كبير من المتنورين المعاصرين، ومثلما بُرهِن عليه في انهيار الاشتراكية المشيدة، بدا غير واقعي، بل وتسبب في خيبات الأمل الكبرى لكل من عقدوا آمالهم عليه.
إن ربط الأنظمة التاريخية للمجتمع بطراز النضال المتبع في السلوكيات الأيديولوجية والسياسية والأخلاقية للمراحل، سيكون تحليلياً أكثر من ربطها بمحصلة القوانين الضرورية الاضطرارية. فالقانونية في ظاهرتَي الفرد الإنسان والمجتمع الإنساني، إنما هي مرنة للغاية، وتتسم بخاصيات تخولها لإحداث التحولات السريعة. أما القانونية الصلبة المشاهدة في الظواهر الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية، فهي سارية المفعول ضمن حدود الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا فحسب. وما يتبقى، فتحدِّده بنية العقل لدى الإنسان، وظاهرة المجتمع. لهذا الغرض، يستحوذ عدم ربط الإنسان والمجتمع بالمفاهيم القدرية على أهمية قصوى، من حيث إمكانيات وفرص التحرر. وسواء كانت الأحكام المسبقة، أو الأحكام القدرية، فهي تطلي ديناميكيات الإبداع الحر بالنشاء. وعندما يكون علم الاجتماع هو موضوع الحديث، فعلينا أن نضع نصب العين، في كل زمان ومكان، أن القسم الساحق مما قيل ويقال فيه يعود إلى الأنظمة الاجتماعية المهيمنة والمتسللة منذ آلاف السنين متخفية وراء أقنعة متغايرة في كل مرحلة. وأنه يلعب دوراً انحيازياً في يومنا الراهن، تحت غطاء العلمية.
إن دراسة العلاقة القائمة بين المجتمع الرأسمالي والثورة الذهنية النهضوية المتسارعة والمتجذرة بنسبة كبرى اعتباراً من القرن الخامس عشر، ضمن هذا الإطار؛ سيكون منوِّراً أكثر. لقد أثرت خاصيتان في ميلاد الذهنية النهضوية في مجتمع أوروبا الغربية. فضُعف وهزل ثقافة الدولة من ناحية، والذكريات الطازجة الحية لذهنية المجتمع الطبيعي من ناحية ثانية، كوَّنتا الأرضية الخصبة لظهور الفكر الحر الخلاق. وقد عجزت دوغمائيات الديانة المسيحية الصلبة عن صد تكوُّن شروط هذه الأرضية. ولدى التحام التأثير المشترك لثقافة المعلومات المتأتية من الشرق الأوسط حصيلة الحروب الصليبية من جهة، والثقافة الإغريقية الرومانية من جهة ثانية، مع تلك الشروط المساعدة؛ بات بالإمكان تخطي دوغمائية المسيحية. وتلعب مرحلة التمذهب (المذهبية) في الديانة المسيحية في القرن الثالث عشر، دور السبب والنتيجة على السواء في هذه المستجدات. إن المذهب الدومينيكاني والمذهب الفرنسيسكاني يُعَدان تطورات تستحق الالتفات إليها.
وقد قُمِعَت مذاهب مشابهة في الديانة الإسلامية في هذه المرحلة، من قبيل المعتزلة، والإشراقيوم. وهنا تبرز أهمية المساهمات التي قدمتها الاكتشافات الجغرافية، بما أمَّنَته من مراقبات وترصدات عالمية جديدة. هذه المستجدات الثنائية الاتجاه، أي، ضعف ثقافة الدولة، وذكريات المجتمع الطبيعي من جهة، والميراث الإيجابي للديانتين الإسلامية والمسيحية – الموسوية هنا مؤثرة كثقافة أكثر جذرية – والثقافة الإغريقية الرومانية، والكشوفات الجغرافية من الجهة الأخرى؛ هذه التركيبة الجديدة، إنما أسفرت عن ولادة الذهنية النهضوية. يمكننا النظر إلى عصر النهضة بأنه القوة الإدراكية الثالثة الكبرى في التاريخ البشري. ذلك أن القوة الأولى هي حقبة الذهنية النيوليتية، التي بلغت أَوجَها في الحوض الداخلي لسلسلة جبال طوروس وزاغروس في أعوام الألف الرابع (4000ق.م) قبل الميلاد. حيث نشاهد أن كل الآلاف التقنية اللازمة لانتقال الإنسانية إلى الحضارة، قد تشكلت في هذه المرحلة. فالعجلة، آلة الحياكة، آلات الحراثة المزدوجة، القرى الضخمة، اللغات البارزة، البنى الإثنية، والملاحم البطولية؛ كلها تخلق المعجزات والخوارق الملتفة حول القوة الإبداعية العظمى للمرأة الأم. وما دين الإلهة الأنثى في حقيقة الأمر سوى سمو عظيم بالذهنية، وتقديس لإنتاجية المرأة. وكل اللُّقى المتبقية من هذه الحقبة تؤكد صحة هذه الحقيقة. فكلمة "ستار" التي لا تزال تعني "النجمة"، تعني في اللغة الآرامية – التي كانت اللغة والثقافة المهيمنة في ذاك العصر – الإلهة الأنثى. والأهمية التي تتميز بها كلمة "يا ستار" في راهننا أيضاً في اللغة الكردية – لغة الوطن الأم – والتي تعني "يا الله"، إنما تعبر عن الحيرة والعظمة والقوة العقائدية الكبرى. هذه الكلمة هي إيجاد غائر القِدَم، لدرجة أنها تواصل وجودها في كافة اللغات ذات الأصول الآرية، وإن بأشكال متغايرة. يمكننا القول أن جنة الدنيا قد خُلِقَت أولاً في هذا الحوض. حيث تشهد البشرية المئات من "البدايات" في الإنتاج والحياة الاجتماعية على حد سواء. فقوالب الموسيقا وضوابطها وآلاتها المخترعة في تلك الحقبة، لا تزال آثارها تبعث فينا القشعريرة وتهزنا من الصميم، لتعانق أرواحنا وتحاصرها. وتشير البحوثات الجارية إلى أن هذه الثقافة، ولدى انتشارها صوب الحوض السفلي لنهرَي دجلة والفرات ووادي النيل ووادي البينجاب، أسفرت عن ظهور الحضارتين السومرية والمصرية، لتبدأ بذلك سلسلة عصور الحضارات المتتالية.
أما مرحلة الذهنية العظمى الثانية، فتحققت في الأعوام ما بين (600 إلى 300ق.م) على ضفاف بحر إيجة. إنها المرحلة التي حققت فيها ذهنية الفلسفة والعلم وثبة عظمى تجاه الميثولوجيا العبودية. وتسمى أيضاً بـ"قرون الحِكَم". وبلاد غرب الأناضول آنذاك كانت كأوروبا الغربية في راهننا، حيث شكلت انعكاس الموجة الحضارية في الشرق على ضفاف بحر إيجة. وما لعبته الديانة المسيحية من دور في أوروبا، إنما لعبته الحضارات الحثية والميدية والمصرية والكريتية آنذاك مجمعة. وهنا أيضاً شكَّل عدم تجذر تقاليد الدولة، الوجود الرصين لثقافة المجتمع الطبيعي، الجغرافيا الرائعة المعطاءة، ووجود البحار والجزر الخارقة؛ شكّل مجموع العوامل المؤثرة في ولادة الذهنية الجديدة. ولا شك أن التجارة الشرقية – الغربية الكبرى أيضاً كانت عاملاً اقتصادياً مهماً فيها، حسب ما نستوعبه من بقايا طروادة.
تكمن هاتان النهضتان أولاً في أساس النهضة في أوروبا الغربية. وإذا لم نفهم النهضة الحاصلة في حواف جبال طوروس وزاغروس، فلن نفهم النهضة الحاصلة على ضفاف بحر إيجة. وإذا لم نفهم هذه الأخيرة، فلن نفهم النهضة في أوروبا. وإذا ما توغلنا أكثر؛ لو لم يحدث انتشار الثورة النيوليتية الآرية المتكونة في الحوض نفسه – وكذلك ثقافتها ولغتها – في أعوام (5000 – 4000ق.م) من الصين إلى أوروبا، ومن أفريقيا الشمالية نحو القفقاس؛ لا يمكننا فهم كيفية تشكُّل الحضارات اللاحقة في هذه المناطق مع المجتمعات النيوليتية. ويتميز فهم تدفق السياق التاريخي في هذا الاتجاه بأهمية قصوى من أجل فهم الثورات الذهنية الكبرى والأديان والبنى الاجتماعية. إنني أبين هذه النقاط لأن كل إنسان أوروبي، وأحفاده، عندما يقال له "الحضارة"، فأكثر ما يخطر بباله هو النهضة الإغريقية الرومانية. وكذلك الديانة المسيحية. بيد أن هذه التطورات الحاصلة في تلك المناطق ليست سوى محطات منفردة بذاتها ضمن النهر المقدس المتدفق، وهو يحفر ويحفر في قاع العصور الحضارية المتدة على طول آلاف السنين، ويوسع ويوسع أطرافها، ويفتح يفتح أمامها، ويُعلي يُعلي أعلاها، دون كلل أو ملل.
أهم المزايا البارزة في الذهنية النهضوية هي، إعادة اكتساب الروح الإنسانية التي كانت أفنتها العصور الوسطى، العودة إلى الدنيا والطبيعة التي كانت محفوفة بغطاء من السوء والبغض، الانقطاع عن الدوغمائيات، والثقة بعقل الإنسان. فموهبة المعرفة كانت احتكرتها الدولة منذ أيام الرهبان السومريين، لتجعلها إحدى أهم الوسائل لتعزيز نفسها وترسيخها. لا يقتصر الأمر على الإنتاج الفائض وأدوات الإنتاج المتطورة، بل حتى المعلومات الأكثر فائدة تُحال مع أصحابها، وعلى الفور، إلى مؤسسة الدولة. حيث لا يُسمَح للعلم الجديد أن يخلق المساحات الحرة. ذلك أن مساحة العلم الحر تعني مجتمعاً جديداً. ومن دواعي طبيعة الدولة العبودية أنها ترى مثل هذه الكيانات خطراً يهدد وجودها، فلا مناص حينئذ من الهجوم عليها، إما بالاستيلاء عليها، أو بإزالتها من الوجود.
إن لتفعيل الكنسية لمحاكم التفتيش في هذه المرحلة معانيه البارزة. فالفرد عندما يكتسب الروح يتحرر. وأكثر من حوكِم بالانحراف عن المذهب هم ذوو الفكر الحر تجاه دوغمائية الدين. أما النساء المنعوتات بالجِنّيّات الساحرات، فيُحاكَمن لأنهن يحملن هويات غير هاضمة للمسيحية. في حين أن الكيميائيين هم الباحثون عن المعلومات المغايرة لما هو موجود منها. وهذه التيارات الثلاثة تتميز بماهية قادرة على إحداث الثغرات في الدوغمائية. وبينما تعكس التيارات الفنية الحياة بما فيها من روعة وجمال، يتم تخطي ذهنية الطبيعة الميتة والمادة الجامدة. وتتشكل روح الفرد من جديد عبر آداب الرسم والموسيقا والمعمار، شكلاً ومضموناً. والفرد المكتسب للروح والفكر الجديدين، هو الإنسان الذي ينضح بالحيوية، بحيث يضيق عليه حتى جلده. وبهذا الفرد، لا يُسعى لفتح (اكتساب) الأراضي الجغرافية فحسب، بل والطبيعة أيضاً.
والمرحلة في الوقت ذاته مثيرة ومحفِّزة لتَصَوُّر اليوتوبيات الجديدة، حيث باتت الألبسة القديمة ضيقة عليها. لكن، وبسبب عدم مواءمة الشروط المادية لذلك، أُسِّسَت اليوتوبيات المنتظمة فحسب. لم يَعُد ثمة رغبة إطلاقاً للعودة إلى أجواء الدنيا المضجِرة القديمة. ولكن، لم يُجزَم بعد تماماً بكيفية شَرع الأبواب أمام الدنيا الجديدة المرتقبة.
هذه البحوثات ستحث على البحوثات في العلم والفلسفة. فبقدر الانقطاع عن العالم القديم، سيتم الانفتاح نحو العالم الجديد. ولدى الانفتاح بالانتقال من الدين الكوسوموسي (cusomus) نحو الفلسفة، فُتِح الباب أمام الثورة العلمية الكوبرنيكية (Kopernik: الكوبرنيكي هو كل ما له علاقة بكوبرنيكوس، أو مؤمن به. وكوبرنيكوس هو فلكي بولندي، وهو القائل بأن الأرض والكواكب السيارة تدور حول الشمس – المترجم). وخطا ديكارت خطوته الأساسية نحو الثورة الفلسفية دون أن يُدخِل ثنائية "المادة – الروح" والإله في صُلب الأمر. وبإقحام "غاليليو غاليلي" المعاييرَ على العلم، قدّم أعظم مساهمة وأقواها لمرحلة سلسلة الثورات المتوالية. ومع "نيوتن" يغدو الكون مستقلاً عن الإله، ليكتسب قدرته على الحركة والسير بموجب قوانينه هو. أما الفترة المتراوحة بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر، فقد شهدت مرحلة تجذر الثورات الفلسفية والعلمية والفنية. وأَلحَقَت البروتستانتية بذلك ضربةً قاصمة بالكنيسة المتصلبة ودوغمائيتها المتحجرة، رغم دوران عجلة محاكم التفتيش التي لا تعرف التوقف؛ ليحوز الدين بحرية العقيدة الفردية. إن الانقطاع عن الكنيسة هو في مضمونه انقطاع عن سلطة الدولة. فالكنيسة الكاثوليكية هي الدولة بحد ذاتها، وهي الدرع الحصين الحامي للدولة الإقطاعية، والمحيط بها في نفس الوقت. إذ لا يمكن التفكير في دولة بلا كنيسة. والكنيسة بالأصل إنما تحارب باسم الدولة.
إن تحرير الثورة الذهنية للفرد تعني انهيار عبادة الدولة. وحتى لو حصل ذلك بمظهر مذهب مختلف، فالمنهار هو مشروعية الدولة الإقطاعية. يشكل التطور الحاصل في القرن الثامن عشر تطور الأساس الركن لجماهير النهضة، حيث خرجَت الثورة الذهنية من كونها الفكر والأمل والروح الجديدة لحفنة من الناس، لتكتسب قاعدة جماهيرية واسعة وبلغتها، تماماً كما الدين الجديد (الديانة المسيحية أو الإسلامية). وغدا وجود هذا الكم من الجماهير الحرة في كل بلد من بلدان أوروبا الغربية يشكل تهديداً حقيقياً، سواء بالنسبة لدولة (رهبان) الكنيسة الكاثوليكية، أو للدول المَلَكية. وبات من الصعب التحكم بشؤون هذه الجماهير وتسييرها عبر محاكم التفتيش. وثمة حاجة للحرب. وما حروب المائة عام، والورود، والثلاثة عقود، سوى تعبير عن هذه الحقيقة. والمغلوب على أمره إزاء بلدان أوروبا المستيقظة، سيكون الكنيسة الكاثوليكية والنظم المَلَكية. ومع اندلاع الثورات الإنكليزية في عام 1640، والأمريكية 1776، والفرنسية 1789، بدأ عصر انتصار المذاهب والدول القومية.
تحظى إعادة النظر في تعاريف الثورة بأهمية ملحوظة من أجل تحليل مراحل الأزمات لصالح التيارات الديمقراطية البارزة. فتقييم الثورات الأوروبية عموماً بأنها "ثورات بورجوازية"، إنما هو ثمرة التقرب الطبقي المحدود للماركسية. وكأنه هدية موهوبة للبورجوازية، تحت ذريعة التشبث بالبروليتارية. ولا جدال في وجود التأثير الأعظمي للتعليل الدوغمائي للمادية الدياليكتيكية في ذلك. وإذا ما اعتبرناه الشكلَ المنعكس على العصر الجديد من العقيدة القدرية التي تفترض تطور السياق التاريخي ضمن خط مستقيم، مثلما قُرِّر به في مفهوم "اللوح المحفوظ"؛ سنكون قد دنونا من الحقيقة المرئية أكثر فأكثر. وبدون تخطي هذه الدوغمائية، التي عانيتُ أنا أيضاً من تأثيرها البليغ، لن نتمكن من تحليل المضمون الخارق في الغنى للحقيقة القائمة.
ما من كِتاب من الكتب الطبقية الرأسمالية يتداول فكرة أو نظرية أو برنامجاً معيناً بصدد الثورات الإنكليزية والأمريكية والفرنسية. فالذين لعبوا أدوارهم في هذه الثورات لم يعلنوا أنفسهم كممثلين للطبقة البورجوازية. فالجماهير المنخرطة في صفوف هذه الثورات، كانت الغالبية الساحقة منها من الفقراء المطالبين أساساً بالحرية والمساواة. كذلك، فالزعم بأن الحركات النهضوية والإصلاحية والتنويرية السابقة لها، اتخذت الطبقة البورجوازية أساساً لها، إنما هو مبالغة مفرطة. فالبورجوازية عندما كانت تتنامى وتتصاعد كطبقة – بكل جهودها المبذولة – لم تكن تفكر أو تهتم بأي شيء سوى تراكم وادخار رأس المال المعتمد على الربح والمنفعة. وما من جدل في أنها كانت تعي تماماً الروابط القائمة بين الدرب المؤدية إلى الربح وبين وظيفة الدولة. لقد كانت تبذل جهودها في سبيل التأثير على السلطة والاستحواذ بها للاستيلاء عليها. ولكنها لم تكن تملك بين يديها نظرية وبرنامجاً ثورياً بشكل خاص. إن الشروط الموضوعية الكامنة في أسس الثورات، إنما كانت حصيلة التطور الطبيعي الطويل الأمد للتاريخ. لم يكن المفكرون والناشطون السياسيون – كأعضاء ذاتيين – يمتلكون برنامجاً، أو حتى حزباً ثورياً بورجوازياً خاصاً بهم. لقد كانوا يشكلون تيارات مدعومة بحماية بعض الرجال الأغنياء، الذين كانوا في غالبيتهم من ذوي السمات الإقطاعية، ومن المعنيين بالعلم والفن. أما المطاليب البارزة في الصدارة، فكانت الحنين إلى عالم إنساني مثالي، حر ومتساوٍ.
كل اليوتوبيات المكتوبة كانت مناقضة للرأسمالية. إذن، والحال هذه، كيف صار واعتُبِر هؤلاء المفكرون والمناضلون أناساً بورجوازيين، وغدت الثورات ثورات بورجوازية؟ كلنا نعلم أن البورجوازية خلال هذه الفترة، قامت كطبقة جديدة بما تقوم به كل قوة تسعى إلى بسط نفوذها، لتستولي على دفة الحكم والسلطة، كلياً أو نسبياً. وقد نجحت في ذلك. يجب الإدراك يقيناً أن جميع القوى الهرمية والدولتية اعتمدت على ضرورات الفن المسمى بـ" السياسة"، لتستلم دفة الحكم وتُخلَع منه آلاف المرات وأن هذه الأداة المساعدة على السلب والنهب والاستغلال، استمرت في وجودها دون انقطاع؛ وأن القوة الأخيرة المتسامية والمستحوذة عليها – والشبيهة لسابقاتها – لن تتصرف بشكل مغاير أبداً.
جميع الثورات هي ثمرات الشعوب. وقد تنضم بين الفينة والأخرى القوى القديمة أو الهرمية الدولتية إلى عمليات الشعوب. خاصة وأنها – أي تلك القوى – تتميز بعقلانيتها ومغامرتها في أيام ازدهار الثورة وانتصارها. إنها خبيرة ماهرة في استثمار مطاليب المسحوقين لصالحها هي. ولا تتناقص مثل هذه المحاولات أبداً في جميع الثورات، سواء أحرزت النصر أم لا. فعلى سبيل المثال؛ عندما خطط سيدنا عيسى لعمليته وتعمق فيها، لم يكن يفكر بها في سبيل تأسيس الإمبراطورية البيزنطية. بل وكان في جوهره ضد قوة الإمبراطورية. ولكن الحركة التي أسفر عنها، لم تنجُ من أن تكون آلة بيد هذا الشكل من الدولة، والذي كان الساحة الموائمة لأكثر الأباطرة مكراً وخبثاً. وسيدنا محمد (ص) أيضاً لم ينجُ من أن يكون أداة لبناء الإمبراطورية (الأموية)، عبر تغلبه الساحق على أرستقراطية مكة المكرمة بفكره وعمليته، بل وبإبادته "أهل البيت". لا يستطيع أحد الزعم بأن سيدنا محمد (ص) خطط لإمبراطورية إقطاعية. وهكذا، يمكن سرد المئات من الأمثلة المشابهة.
قد يقال: "إذن، والحال هذه، ما من ثورة قامت بها الشعوب وأفلحت". سننوه هنا إلى ضرورة التحليل المغاير لهذه الظاهرة، مع التذكير بأننا سنعالج هذا الموضوع بشمولية في الفصل اللاحق. لذا، سنكتفي هنا بالقول: "لا محاولات الشعوب ذهبت سدى، ولا مشكلة السلطة تم تحليلها". والغرض الأولي من هذه المرافعة هو تفتيت هذه العقدة الكأداء وتفكيكها. والدرس الأهم الواجب استنباطه أيضاً هنا، هو الإدراك بأن تفجر الأيديولوجية التسلطية وخرقُها هو الدرع المجتمعي الأكثر رصانة وحصانة.
تتطابق مضامين المطاليب في "الحرية، الأخوّة، المساواة"، والتي تعد السمات العامة للثورات الأوروبية، مع المطاليب المنادى بها تجاه التسلطية والاستعمارية منذ تأسيس الهرمية. فكيفما أبدت سلطة الدولة تطوراً متتالياً كحلقات السلسلة المتعاقبة، فحركات الشعوب أيضاً تتميز إزاء ذلك بسياق تطورها التاريخي الخاص بها. وكلا الظاهرتين الجدليتين تؤثران وتتأثران ببعضهما البعض بعلاقاتهما وتناقضاتهما. من العصيب جداً إدراك وتفهم التحولات المجتمعية الأساسية، وفي مقدمتها مراحل الثورة، عبر تعميمات مجردة، دون رؤية هذه الثنائية للدياليكتيك المجتمعي بخاصياتها وعمومياتها، ضمن مرحلة التطور التاريخي.
إلى جانب كون القومية والمجتمع الرأسمالي على علاقة ببعضهما كصياغات أساسية للحضارة الخاصة بأوروبا، فإن وجود أحدهما لا يشترط الثاني بالضرورة. فتكوُّن القومية وتشكُّل المجتمع الرأسمالي، كل منهما يتميز بمنطق مغاير للآخر. وتشكُّلهما في ذات المرحلة لا يشير إلى امتلاكهما ذات المنطق. هذا وإظهار البورجوازية نفسها كقوة رائدة للقومية، إنما يرتبط عن كثب بمآربها الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية. يُعبَّر عن هذه الروابط في اللغة الأيديولوجية باصطلاح "القوموية"، وفي السياسة والاقتصاد باصطلاح "الليبرالية". إنها أسلحة مثلى للتأثير على الدولة والشعب في آن واحد. فكلاهما ظاهرتان تَصَوُّرِيّتان و….. (fiktif)، وأداتان دعائيتان قويتان. وكلنا نعلم علم اليقين أن البورجوازية تسامت إلى السلطة بالأرجح عبر هذه الوسائل، لتؤمِّن سيرورتها. تحتل هذه الأدوات الشعاراتية حيزاً محدوداً في حركات النهضة والإصلاح والتنوير، التي جعلت أوروبا تغدو "أوروبا". ولكن، حينما نصل القرنين التاسع عشر والعشرين، نرى أنها ستضرم الأجواء وتؤججها. ونرى أن مصطلحَي "البروليتاريا، الشيوعية" اللذين نادت بهما الشرائح المسحوقة والمستعمَرة، سيُستخدَمان على نحو مشابه. لكنهما، وانطلاقاً من دواعي مضمونهما، لن يُظهِروا القدرة على إحراز النصر عينه في فن السلطة.
أود التنويه بدقة فائقة إلى النقطة التالية: لا يمكن إدراك الثورات، التي تتميز بلحظات مهمة من الانكسارات وإعادة البناء في التحولات المجتمعية، بشكل موضوعي عبر بنى المنطق اليساري واليميني السائدة في القرنين التاسع عشر والعشرين. لا يزال التعريف الصحيح لحركات التضحية العظمى باسم الإنسانية يحافظ على أهميته وأولويته. فبمجرد النظر إلى طرازك انهيار السوفييتات والنتائج المسفرة عنها، يمكن تفهم أهمية الحاجة الماسة لإعادة التعريف للتضحيات الجسام التي قدمها الملايين في سبيل الثورة السوفييتية. لقد دخلت مواضيع السلطة والعنف وأدوات التمويه الأيديولوجي دائرة الجدل والنقاش، ولو بشكل محدود، بعد ظهور هذا الكم الهائل من الآلام الأليمة والعنف وإراقة بحور من الدماء باسم الحداثة في القرنين الأخيرين؛ وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وما تركته من آثار مروِّعة.
من الضروري استيعاب حقيقة البورجوازية، الشكل الطبقي الأساسي للرأسمالية، ضمن هذا الإطار. ذلك أن الاكتفاء بنعتها بالطبقة القمعية والاستعمارية الجديدة، لا يشير إلى الجوانب الخاصة فيها. بل يشيد بسمة عامة تشمل كافة طبقات السلطة والاقتدار. تكمن خاصية الطبقة البورجوازية في استخدامها الفردية والذكاء التحليلي تجاه المجتمعية بشكل أعظمي، لتنجح بالتالي في تفتيت وتشتيت النسيج الأخلاقي المحيط بالمجتمع، بما لم تقدر عليه أي طبقة من الطبقات السلطوية الأخرى. المجتمع الطبيعي أيضاً كان في بدايات انهياره مناهضاً، وبحدة، لتراكم القيم على حساب المجتمع. لذا، كان يَعتَبر الموزِّع الأكثر لهذه القيم المتراكمة، هو الفرد الأنبل والأقدر. لقد كان متنبهاً تماماً لخطر تراكم القيم. ولم يكن هذا الأمر ممكناً إلا بعد المرور إلى المجتمع والدولة الهرميَّين. وهذا بدوره لم يكن ممكناً إلا بوجود قوة السلطة الخاصة. فالتراكم والتكديس أدى إلى تكوُّن هذه القوة من جهة، وإلى بدء تكوين هذه القيمة إياه أيضاً من الجهة الثانية. وهكذا برزت إلى الوجود سلسلة المنطق الاتكاسي الرجعي. حيث كان أكثر المدخرين للقيم هم أكثر الحائزين على قوى السلطة. وإذا ما تمعنا في الأمر عن كثب أكثر، نجد أن الادخار والتكديس نوع من السلب والنهب من المجتمع. لقد كان هكذا، باعتبار أنه من المستحيل التفكير بالقيمة بلا مجتمع. من هنا، فالإدراك الصحيح والسليم للمجتمع الطبيعي، إنما يؤول إلى تحديد أهم مبدأ أخلاقي على الإطلاق. فما دام المُعَيِّن لجميع القيم هو المجتمع، إذن، والحال هذه، لا يمكن حصول التراكمات، الفردية منها أو المجموعاتية، دون رضاه وقبوله، أي خارج نطاق مصالحه ومنافعه.
في الحقيقة، إن ما شوهد في جميع الحروب من سلب ونهب وغنائم، ليس إلا تعبيراً عن تفسخ وتردي هذا المفهوم، ولا أخلاقيته في المجتمع الطبقي. فأصحاب السلطة، ولكي يُضعِفوا من قوة بعضهم البعض، جعلوا من تجريد بعضهم البعض من القيم المتراكمة مبدأً أساسياً لهم. إنهم لا يخطئون أبداً في موضوع تحديد المصدر الأس للقوة. فرغم وجود شرائح التجار والحِرَفيين منذ بدايات الحضارة، كنموذج مصغّر عن نمط الطبقة البورجوازية، إلا إنها أُدرِجَت دوماً في دائرة المراقبة والتحكم، باعتبارها خطر مهدِّد. لقد كانت المراقبة عليهم مستمرة، بحيث لا يتخلصون أبداً من التعرض للنهب والسلب الكثيفين. كذلك هي حال قوة الدولة العبودية والإقطاعية المعتمدة على مُلكية الأرض. حيث نظرت بعين الشك دائماً إلى تشكُّل شريحة ثالثة عدا العبيد والأقنان، مما حفّزها ذلك على عدم إنقاص مراقبتها إطلاقاً. فالتاريخ الحضاري يرى في تشكل كيان آخر عدا طبقة العبيد أمراً منافياً للطبيعة. وثمة أخلاق ووجهة نظر عالمية مترسخة على هذا النحو ضمن هذا النظام المستمر حتى الحضارة المرتكزة إلى واقع الطبقة البورجوازية. وهناك أحكام وقواعد أساسية للغاية بشأن الحرب والسلطة. فالتوازن المؤسَّس في داخلها، كان متسماً بقدرته على مواصلة ذاته على مر آلاف السنين. حيث يتميز بأفق تطبيقي محدود في إدارة شؤون المجتمع، إلى جانب لجوئه إلى العنف والقانون في ذلك. إن ما أمَّن ثبات المجتمع وصموده أساساً، هو النسيج الأخلاقي، الذي عرف كيف يصون مزيته هذه، رغم محاولات قوة السلطة المتواصلة لتعريته وإفنائه. وكون هذه القوة تشكل حفنة أقلية نسبةً إلى ضخامة المجتمع، إنما منح الأرضية المساعدة على تحقيق ذلك.
وبولادة الطبقة البورجوازية انهدم هذا التوازن العظيم وتحطم. إنها طبقة متضخمة في حجمها، بحيث لا يطيق المجتمع تحملها، سواء كقوة سلطة وتسلط، أو كقوة استعمار واستغلال. ذلك أنها كانت مرغمة على استثمار المجتمع برمته في سبيل تحقيق سلطتها واستعمارها. ولهذا السبب كانت الماركسية أعلنتها – عن حق – كآخر طبقة سلطوية واستعمارية. فتجطورها وتناميها كطبقة، يستلزم دائماً بعثرة المجتمع وتشتيته. وهذا ما يتطلب أولاً، وقبل كل شيء، تمزيق الأخلاق شر تمزيق، باعتبارها النسيج الأساسي المحصن للمجتمع والحامي إياه. أي أنه، وبدون تمزيق وإزالة الأخلاق، التي ما هي في أساسها سوى عاطفة الحرية والمساواة للمجتمع الطبيعي؛ يستحيل أن يتشكل المجتمع الرأسمالي. إلى جانب صحة مقولة ماركس الملفتة للأنظار في تعبيرها في "البيان الشيوعي"، والتي يقول فيها: "لقد مَسَحت البورجوازية وكَنسَت كل ما له علاقة بالماضي"؛ إلا إن هذه العملية ليست عملية ثورية، بل مدمِّرة ومناهضة للمجتمع. فعزل المجتمع من أدوات حمايته لذاته وتجريده منها، ليس بحركة ثورية. بل هو، بأقل تقدير، حركة مناوئة للإنسانية، لا غير. إن البورجوازية المستحوذة على قوة السلطة والاستعمار، تُعتَبَر مرضاً سرطانياً خبيثاً تسلل إلى رحم المجتمع. ولا داعي لأن يكون المرء رجل علم حتى يتمكن من تحديد الروابط القائمة بين أمراض السرطان الخبيث والأيدز وغيرها من الآفات المستعصية من جهة، وبين ذاك السرطان الاجتماعي. عندما يُعرِّف "هوبز Hobbes" الحاجة إلى السلطة (الدولة) في شروط ولادة المجتمع الرأسمالي، يقول فيها بأنها "لإعاقة تَحَوُّل الناس إلى ذئاب تنهش بعضها". إنه تثبيت صحيح، ولكن معكوس. أي أن الرأسمالية تؤسس سلطتها بغرض تحويل الإناس إلى ذئاب تنهش في بعضها. ففي الواقع الحديث، لم يصبح الإنسان ذئب أخيه الإنسان فحسب، بل هو ذئب مسلَّط على الطبيعة بأكملها. فهذه الطبقةالهارعة وراء التراكم والربح الأعظمي، وبعد أن تستولي على عرش السلطة المفرطة من القوة والمغالية فيها؛ ما الذي ستُبقي عليه في المجتمع والطبيعة وتدعه وشأنه، في سبيل استغلالها واستثمارها؟
سيكون من الناجع أكثر – تعليمياً – فهم آلية المصطلحات التي حللتها الماركسية بإسهاب داخل الرأسمالية، ضمن هذا الإطار؛ من قبيل القيمة، الربح، الكدح، المشاطرة، الإمبريالية، الحرب، وغيرها. ويتماشى تعبير "سيأتي الدّجّال" (وهو مخلوق شرير يُزعَم بظهوره قُبَيل يوم الحشر – المترجم) القريب من يوم الحشر، والمذكور في الكتب الدينية؛ بشكل كبير مع حقيقة هذه الطبقة. ذلك أنه ما من نظام مجتمعي آخر حاكم امتلك كل هذه القوة الهجومية والمدمِّرة تجاه دعائم المجتمع وبيئته الطبيعية. لقد بلغ واقع الطبقة البورجوازية، الذي ولّد الفاشية والقوموية العِرقية من الظاهرة القومية، والكوارثَ الأيكولوجية من ظاهرة التحكم في الطبيعة، وولّد كذلك البطالة المتفاقمة من ظاهرة الربح والمنفعة؛ بلغ مرحلة سيلتهم فيها نفسه بنفسه. فهذه الطبقة تفقد ماهياتها الذاتية مع مرور كل يوم، لتتجه نحو الزوال. أي أن الثورة المضادة لها لا تقوم بها البروليتاريا، بل هي بذاتها. ولن يكون بمستطاع الزمان المجتمعي الجديد أن يكوِّن ذاته إلا عندما تستعصي مواصلة وجود هذا الواقع الطبقي، وبالتالي عندما ينهار ويتفكك.
باعتبار أن مرافعتنا هذه تتسم بماهية الأطروحة، فهي غير مخولة لدراسة ومعالجة المراحل الأساسية للرأسمالية، وفي مقدمتها كيفية إلحاق الرأسمالية لكل الأنظمة السابقة لها بذاتها، تدوُّلها، ربطها العلم والفن بالسلطة وإتباعهما بها، انتقالها إلى المرحلة الإمبريالية، تطورها المختل، وحروبها. المهم هنا هو تفعيل المنطق الأساسي لهذه المراحل، التي تُعتبَر كل واحدة مها موضوعاً يتطلب تدوين كتب عديدة ومختلفة لدراستها ومعالجتها.
يمكننا تطوير تعريفنا للطبقة بأبعاد أخرى. فما نجم عنها من انهيار للاشتراكية المشيدة، وتحويلها الحركات (والدول) التحررية الوطنية إلى قوة احتياطية، وتسخيرها الديمقراطيين الاجتماعيين لمآربها؛ إنما هي آليات هامة. ومن مهارات واقعنا الطبقي المهيمن الجديد، بدءاً من العلم والتكنولوجيا وحتى المجتمع الإنساني، إنتاجُه الربح لذاته عبر الدعايات حتى فيما يتعلق بأتفه المواضيع، واستخدامه النشاطات الرياضية والفنية بدور مخدِّر، إخراج البروليتاريا والمتنورين من كونهم متمردين تجاهه، وإدخاله إياهم في حالة يرتجون فيها منه العمل، إفراغ محتويات كل ما هو موجود باسم القدسية، وإخلاؤه تصورات العالم الناضح بالحيوية والنشاط للنهضة لتحل محلها وجهة النظر الآلية (الروبوتية) الجامدة.
يتصدر عمق الماهية المؤسساتية للرأسمالية قائمة التحديثات التي أدخلتها على بنية السلطة. حيث تم الانتقال من السلطة المرتبطة بالشخص إلى نظام السطلة التي تربط الأشخاص والأحزاب، بل وحتى المجتمعات، بها. لقد تطورت الماهية المجردة والمستترة للسلطة، ذات الآليات المكونة من طوابق الأيديولوجيا والسياسة والاقتصاد. وانطلاقاً من مفهوم القومية، أَقنَعَت الجميع بامتلاكها للسلطة القومية بأكملها، عبر النزعة القوموية المبتدَعة، والتي تتضمن الاعتقاد القائل باستحالة كون السلطة مُلكاً للقومية بتاتاً. بل إن المجموعات الإثنية والسلالات وشرائح الأقليات القومية، هي الصاحبة الحقيقية للسلطة، في كل زمان، وفي كل مكان. لكن، وبالمقابل، يُخلَق نظام يجعل كل فرد – حتى الفرد المسحوق القابع في القاع – يرى نفسه (بمعنى من المعاني) صاحب السلطة. بالتالي، يمكن، وبكل سهولة، مشاهدة زوج يؤدي دور "الإمبراطور الصغير" تجاه زوجته، مهما كان فقيراً، ومهما كانت العائلة قابعة في قعر النظام. وبشكل متسلسل، تلعب الزوجة بدورها هذا الدور إزاء أطفالها. والأطفال؟ ماذا عساهم فاعلين عدا تكرار النظام نفسه عندما يكبرون؟ إن تأسيس سلسلة التسلط على هذه الشاكلة هو خاصية من خواص النظام القائم.
والأحزاب أيضاً أُسِّست حسب السلطة، مثلما هي حال الأفراد. والآلية الأساسية هي، نقل الدولة إلى المجتمع، والمجتمع إلى الدولة. لقد بات المجتمع بذاته مُلكاً للدولة. والدولية ممتطية على رأس المجتمع، وعلى كل طرف فيه، كالإله المستتر. وربما كانت ذهنية السلطة التي خلقتها الأيديولوجيا، هي أعظم كذاب ومخادع. أما آلية فن السياسة في المجتمع، فهي على النحو المذكور، باعتقاد المرء أنه صاحب الدولة، وقناعته بضرورة خدمتها؛ والتي تمنح بمضمونها هذا أرقى أشكال الديماغوجيات السياسية. فالسياسة ليست – كما يُظَن – وسيلة الاقتدار والتسلط، بل إنها أداة لحماية السلطة، ونشرها وترسيخها. ونخص بالذكر هنا دور السياسة على هذا المنوال تجاه الديمقراطية. إذ من العصيب الحديث عن ظاهرة أخرى تحث على إنكار الديمقراطية بقدر فن السياسة. ومنذ أيام إمبراطورية أثينا، معلوم أن السياسة تعني إنكار الديمقراطية. والاقتصاد التحم بالسلطة أكثر من أي وقت مضى. وإدارة الاقتصاد هي في الوقت عينه اقتصاد سياسي. إننا في عصر، ما من فرد أو مجموعة يستعصي جذبها إلى المستوى المطلوب، عبر سلاح الاقتصاد. والشعار الضارب للعين في هذا العصر هو: "ما من قيمة يستعصي على النقد (المال) تفكيكها أو استئصالها، وما من قوة لا يمكنه الاستحواذ عليها".
يمكننا توسيع نطاق التعريف المتعلق بمضمون السلطوية أكثر فأكثر، فيما يخص الدولة القومية. فالدولة القومية هي الشكل المعاصر لتسميات الدولة الرهبانية، السلالاتية، والدينية المتبقية من العصور الغابرة. إنها الطوابع المختومة على جوهر السلطة. وهي الحدود المحفوفة باللغة والتقاليد المشتركة في مرحلة تنامي الرأسمالية، وكذلك التوسعات والتضخمات الجغرافية المفضلة من أجل تراكم مثالي. أي أن الأساس هنا ليس مفهوم الوطن، بل مصطلح ساحة الربح والتراكم المساعد. فهذه الساحة المنغلقة في وجه المبارزين الخارجيين، هي الساحة المثلى من أجل ضمان تراكم رأس المال، وتعزيز السلطة وتوطيدها. وولادة النزعة القوموية هي حصيلة لهذا التطور المادي. فتقهقر الذهنية الدينية مع ظهور العلمانية (استيعاب العالم برمته)، إنما يشير إلى الحاجة لغطاء أيديولوجي جديد. وهنا تحرز الأيديولوجية القوموية تطوراً سريعاً، نظراً لارتباطها بظاهرة القومية. هذه النزعة القوموية، التي كان يجب التفكير بها – مضموناً – بأنها الشكل الأكثر تطوراً للعواطف والمشاعر الإثنية (العشائرية) القديمة؛ أظهرت نفسها كعقيدة خادمة، حلت محل الدين والعواطف الإثنية المشتركة. ولدى بدء ممارسة القمع والاستغلال إزاء الإثنيات والمذاهب والأديان وما شابهها من العناصر الأيديولوجية في الداخل، وإزاء الظواهر والأنظمة الاجتماعية المشابهة لها في الخارج؛ تحولت القوموية إلى مفهوم عِرقي أسمى. وترك مفهوم "الدين الأسمى"، الذي ساد في وقت من الأوقات، مكانه لمفهوم العِرق القومي الأسمى. وابتدأت القوموية مجدداً بتقييم المجتمع – كما الدين – الذي كانت الذهنية العلمية نوَّرَته. ولعبت الذهنية المشحونة بالنزعة القوموية في القرنين التاسع عشر والعشرين، دور الأداة المشروعة الأكثر ملاءمة لتحفيز المجتمعات على الانخراط في كل أنواع العنف والحروب، تماماً كمفهوم الحرب المقدسة. وكيفما شهد القرنان السابع عشر والثامن عشر أعوام ولادة القوميات بكثافة، كان القرنان التاسع عشر والعشرون أيضاً المرحلة التي تصاعدت فيها النزعة القوموية وتأججت. وغدا عصر النعرة القوموية، الذي بلغ ذروة سلطة الدولة في الحرب العالمية الثانية، بداية آخر وأشمل أزمة تمر بها الرأسمالية، من خلال التخريبات والدمار الناجم عن تلك الحروب. وأُدرِك استحالة تماشي النعرة القوموية مع الإنسانية إطلاقاً. إن ولوج النظام القائم عصر الأزمة مبكراً، لا يعني افتقاده لقوته فحسب، بل وينمُّ عن خطر ضرب كل القواعد والأحكام عرض الحائط، والإفراط في الاستعارة والطيش الجنوني.
تُعَد انتفاضات 1968 أكبر انتقاد وأشمله للنظام الموجود. وهكذا كانت برهنت تلك الانتفاضات استحالة مواصلة الرأسمالية ذاتها، بعد بلوغها مفهوم السلطة التوتاليتارية، سواء بشكلها الاشتراكي المشيد أو الفاشي. واستحالة التواصل، تعني الأزمة. وهذا ما شهدته الإنسانية. هذه المرحلة التي يمكننا تسميتها أيضاً بـ"الفوضى"، إنما هي مغايرة للنهضة. فبينما كانت النهضة مخرجاً من أزمة المجتمع الإقطاعي، فإن المرحلة التي ولجتها الرأسمالية في السبعينات هي الفوضى. وماهية التحديثات والفوارق التي ستسفر عنها، إنما ستحددها قوة ونوعية النضال الذي سيُخاض خلالها. وما يجب الانتباه إليه هنا، هو التغيرات التي أضفتها هذه المرحلة على وجهة النظر (البراديغما) العالمية الأساسية. إن النتائج المتمخضة عن انهيار كافة القيم الأخلاقية الموجودة في البنية الداخلية للمجتمع، وغسل النعرة القومية جميع الذهنيات وملئها إياها، والتخريبات الأيكولوجية من الخارج؛ تؤدي إلى تفشي وجهة نظر عالمية ذات تطابق روبوتي (آلي)، رمادية اللون، باهتة، عديمة النكهة والطعم، مفتقرة إلى الأمل والطموح والمعتقدات، وعديمة الأهداف. أما القلق والإجهاد، الحدة، النقمة والنفور، العنف، الغرائزية الشهوانية، الوحدة والعزلة الفردية، انعدام القيمة الاجتماعية، سيادة منطق العلاقات المتطلعة إلى المصالح الشخصية، انعدام الوفاء والإخلاص، عدم الاهتمام بالفلسفة الإنسانية المثالية، الأنانية المفرطة، وافتقار الحياة تدريجياً لمعناها المقدس؛ إنما تشكل جميعها النفسية المهيمنة والجو الاجتماعي السائد في الأزمة. والبحوثات والتطلعات الجديدة الجذرية، لا تنمو إلا في أوساط كهذه. حيث أن الماهية الدائمية للأزمة الخانقة تستلزم ذلك.
ولأول مرة في التاريخ، يبلغ نظام الإمبريالية والقمع القومي والطبقي للسلطة الرأسمالية هذه الضخامة التي تمكِّنه من استيعاب العالم بأكمله وتطويقه إياه، بحيث لم يبقَ مكان لم يحتله. لقد ترسخت هذه الحقيقة في نهايات القرن التاسع عشر، بحيث وصل التسلط والتحكم والصهر، بل وحتى الـ…… (jenosit) القومي والطبقي والإثني والديني والجنسي، المرحلةَ الأكثر تفشياً وانتشاراً في التاريخ. إنه العصر الذي غدا فيه الناس ذئاباً تنهش في أبناء جنسها أكثر من أي عصر آخر. وإذا ما نظرنا من زاوية التطبيق العملي للإمبراطورية أيضاً، فسنجد أنها وصلت مع أمريكا إلى مرحلتها النهائية. إننا في آخر عصر إمبراطوري. ومن الناحية النظرية، فهذه الإدارة تسري أمورها على النحو التالي: تخطي سلطة الدولة لحدود مدينة أو وطن أو قومية ما، تَرَكُّزُها في شخص واحد، التوسع المستمر الدؤوب، التوقف ومن ثم الجزْر والتقهقر، وأخيراً مرحلة الانهيار. إن استيطانها في نظام المجتمع يولِّد تأثيرات متتالية. فكل سلطة جديدة تضطر لتصبح إمبراطورية تحذو حذو سابقتها، وتسير على أثرها. هذه الاستمرارية التاريخية المبتدئة من السلالة الأكادية لدى السومريين في أعوام 2350ق.م (أي في التاريخ المدوَّن، حسب ما نعلم)؛ تتواصل في راهننا مع سلالة "بوش" في الدولة الأمريكية. والغريب في الأمر أن الإمبراطورية الأخيرة تشهد اشتباكات محتدمة في نفس المنطقة التي ولدت فيها الإمبراطورية الأولى. إذن، يمكننا هنا التفكير في مبدأ حماية النباتات وجودَها اعتماداً على جذورها.
لا مكان للدولة أو القومية أو المجتمع المستقل كلياً في واقع الإمبراطورية. أو بالأحرى، قد يُهدَف إلى الاستقلال التام، ولكنه يتسم بتطبيق عملي نادر جداً. أما الحقيقة المهيمنة، فهي التبعية ضمن نطاق الإمبراطورية الحاكمة. قد تختلف مستويات التبعية، ولكنها لا تغير شيئاً من الشكل المهيمن للحقيقة الواقعة. ففي الإمبراطورية المؤثرة في البنى الاجتماعية قرابة 4350 عاماً، تكون العديد من مجموعات السلطة، الصغيرة منها والضخمة، بدءاً من أقرب الحلفاء للدولة المهيمنة وحتى أتفه الدول الزائفة والشكلية، والتابعة لتلك الدولة المهيمنة سواء بشكل مباشر أو ملتوٍ؛ إنما هي في حالة تبعية ضمن الحدود القائمة. هذه الحقيقة سارية المفعول بشكل أكبر حتى في العصر الذي يدّعي بسيادة الدولة القومية – هي في الحقيقة الأقلية في القومية – المستقلة كلياً. إن الاستقلالية التامة عن القوة المهيمنة هي من بُدَع النعرة القوموية وألاعيبها ومزاعمها السياسية للتأثير على مجتمع ما. فأن تكون مهيمناً، يعني أن تمتلك أقوى ذهنية وسلطة، وأحصن بنية اجتماعية واقتصادية، وأعتى قوة عسكرية، وأفضل وسائل العلم والتقنيات. ولأن الوجود الأمريكي يحاكي هذا التعريف، فهو يمثل القوة المهيمنة الأولى في يومنا الحاضر. ولكن كل أبعاد أزمة النظام القائم، وطراز إدارته، ونهايته الحتمية؛ هي أيضاً تتصدر الجوانب المستعصية والمتأزمة فيه.
يتميز تحليل الخصائص الاجتماعية للنظام ضمن واقع المرأة بالأرجح، بقيمة تعليمية عليا. ومنذ البداية علينا التنويه إلى أن التدقيق في أي ظاهرة اجتماعية بشكل منفرد ضمن التصنيفات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها؛ إنما يتضمن مخاطر حقيقية. فكل أنظمة البنى الفوقية والتحتية للمجتمعات التي تعيش التكون المستمر ضمن تكامل تاريخي متواصل؛ تعمل ككل متكامل، كما أجزاء الساعة. إن مرض التقسيم المفرط إلى أجزاء، يتأتى من خاصية افتقار العلم الغربي لتكامل الظاهرة. ومن المهم بمكان عدم غض النظر عن التكامل من الناحية العلمية، لدى اللجوء إلى هذا السلوك، الذي يعقّد إدراك الحقيقة بنسبة لا يستهان بها.
يتوجب رؤية المرأة كاختزال للنظام القائم برمته، وتحليلها وفقاً لذلك. فكيفما يكون المجتمع الرأسمالي امتداداً لكافة المجتمعات الاستغلالية القديمة، ويشكل ذروتها؛ فإن المرأة أيضاً تعيش ذروة التأثير الاستعبادي لكل هذه الأنظمة. وبدون فهم المرأة المتشكلة ضمن الطوق الخنّاق لقمع واستعمار المجتمع الهرمي والدولتي الأقدم والأكثر كثافة على الإطلاق؛ لا يمكننا تعريف المجتمع على نحو صحيح وصائب. كذلك، فالفهم الصحيح للعبودية الإثنية والقومية والطبقية، يمر من تعريف المرأة. وبينما يكاد علم الاجتماع لا يسع في عِدْل (جوالق) المزراق، فإن البحوثات والدراسات المتعلقة بالمرأة، والتي سعى لجعلها موضوعاً بسيطاً وصغيراً جداً للعلم؛ إنما تعود للربع الأخير من القرن العشرين. لقد بدأت الحركات الفامينية، والمعنية بالبيئة، وكذلك الدمار المروِّع الناجم عن الحروب والسلطة؛ بتحويل السمة الجنسوية للتاريخ والهيمنة. تشير هذه النقطة إلى السمة الجنسوية لكل البنى العلمية، بما فيها علوم الاجتماع التي يجب أن تكون الأكثر موضوعية. إنها جنسوية العلم.
وبينما أدع تفسير حالة المرأة إيجابياً إلى الفصل اللاحق، لننظر معاً إلى ما أضفَتْه الرأسمالية على العبودية التقليدية. علينا التحديد يقيناً أن جلب الرأسمالية للحرية أولاً، هو أمر مناقض لجوهر النظام القائم. إن الزعم القائل بأن القيود المكبِّلة للمرأة تكسرت بسبب تمزيق الرأسمالية للتقاليد الموجودة، هو تضليل يغلب عليه الخداع.
تتمثل علاقة الأنظمة التحكمية المتسلطة مع الحرية في تحديد الأساليب الأدق أو الأغلظ، الواجب اتباعها لتأمين سيرورتها هي. فالمرأة التي تُنَظَّم باسمها ملاحمُ العشق وتُرتَّب بكثرة، تماثل في حالتها المرأةَ المتعرضة لأشد أنواع العبودية فظاظة وقبحاً. فالمرأة كطائر الكناري الموضوع في القفص (البيت الذي يهيمن عليه الرجل). قد تكون محبوبة، ولكنها أسيرة. وكيفما إذا أطلقنا سراح العصفور من القفص، فسيخرج منه محلِّقاً دون أن يلتفت وراءه، فإذا ما وَعَت المرأة – ولو قليلاً – وأدركت أن هناك مكان حر يمكنها الذهاب إليه، لن يبقى حينها بيت أو قصر أو غنى أو قوة أو إنسان ولن تهرب منه. ثمة طاقة كامنة لديها تخولها للفرار من كل ذلك. حيث ما من موجود أو كائن تعرَّض للأسر كالمرأة، وذلك بقمع أو إزالة الشروط الموضوعية والذاتية لتطورها الحر. وثمة علاقة لعدم ثبات صحة التحليلات الاجتماعية كلها وعدم توطدها، وعدم إدراج المخططات والبرامج المعَدَّة حيز التنفيذ، وظهور التطورات الخارجة عن نطاق الإنسانية؛ بمستوى عبودية المرأة. من هنا، وبدون تأمين الحلول المرجوة للمرأة وتحقيق حريتها ومساواتها، لا يمكن تحقيق الحلول القديرة لأي ظاهرة اجتماعية أخرى، أو تأمين حريتها أو مساواتها.
وبإضافة الرأسمالية إلى حلقة النظام السائد، فإن النظر إلى مظهر المرأة بمستوى التبضُّع والسلعية، سيُدْنينا من الحقيقة أكثر. كلنا على علم تماماً ببيع المرأة وشرائها في أسواق النخاسة في عهد العبودية الكلاسيكية، أكثر من غيرها. واستمرت هذه الحال واتسع نطاقها في العبودية الإقطاعية على شكل جاريات. وما يتم بيعه هنا هو المرأة بكاملها. وما المهر والسمسرة السياسية عليها، سوى أشكال لانعكاس هذا النظام حتى داخل العائلة. أما في الرأسمالية، فأُضيفَ إلى ذلك عناصر جديدة، بحيث يُحدَّد سِعر كل طرف فيها، تماماً كما يمزق القَصّاب اللحم إلى أجزاء ليحدد أسعارها. بدءاً من شعرها وحتى عُقب قَدَمها، من ثدييها وحتى وُركها، من بطنها وحتى عضوها الجنسي، من كتفيها وحتى ركبتيها، من ظهرها وحتى ساقيها، من عينيها وحتى شفتيها، من خديها وحتى طولها. وباختصار، يكاد لا يتبقى فيها أي مكان إلا ويُجزَّأ وتُحدَّد قيمته وثمنه. لكن، ومع الأسف، لا يخطر على البال السؤال: هل لها روح أم لا؟ وإن وُجدَت، فكم تساوي روحها؟ أما من ناحية العقل، فهي "ناقصة العقل" منذ الأزل. إنها السلعة المانحة للذة في دُور الدعارة وفي المنازل الخاصة. وهي آلة لإنجاب الأطفال. ولكن لا تُعد عملية الإنجاب هذه من أنواع الكدح، رغم أنها أصعب عمل. علاوة على أن تنشئة الطفل، التي تُعتبَر عملاً شاقاً للغاية، لا أجر لها أبداً. أما مكانة المرأة في كافة المؤسسات الهامة، الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية والعسكرية، فهي رمزية لا غير. في حين أنها الأداة التي لا غنى عنها في الدعايات. بالإضافة إلى أنها الوجود الفريد من نوعه، المعروض للسوق بعد تحويل جنسيتها إلى سلعة باهظة الثمن بالأرجح. كما أنها موضوع الشتم والسب والضرب بالأغلب. وأكثر من يكون أداة ووسيلة لخداع العشق وريائه. ويتم التدخل في كل شيء فيها. إنها الهوية التي يتم تشكيلها بعناية ودقة، لتتكلم بطريقة أنثوية، ويُضبَط صوتها ولغتها ولسانها وكلامها بموجب ذلك. هي الإنسان الذي يستحيل مصادقته كإنسان. هي الإنسان الذي لا يتخلى أكثر الرجال اعتداداً بنفسه عن عاطفة الهجوم والتهكم عليها. لقد غدت المرأة المادةَ الشيء الذي اعتقد كل رجل نفسه إمبراطوراً عليها.
يمكننا إغناء التعريف أكثر. ولكن الغريب في الأمر هو اعتقاد المتمع الذكوري المهيمن بإمكانية عيشه براحة وطمأنينة تجاه هذه الهوية المزينة بهذا الكم من الخواص السلبية. إذن، هذا ما يفضي إلى الاعتقاد بأنها عبد هادئ ومطيع للغاية. في الحقيقة، إن الحياة المشتركة مع ظاهرة منظمة بهذا القدر صوب السلبيات، تُعتبَر بالنسبة للرجل الإنسان صاحب الكرامة، شاقة جداً ومخادعة. رغم النقد الموجَّه إلى أفلاطون لتهميشه المرأة كلياً وإبعاده إياها خارج دائرة الدولة والمجتمع، إلا إن هذه الخاصيات المُحِطّة من القدْر بارزة ومؤثرة في سلوكه. يجب قراءة هذه النقطة الموجودة في شخص فيلسوف بعين سليمة وصائبة. فعلى سبيل المثال: تُعَد الحياة المشتركة مع هذه الخصائص لدى "نيتشه" مخرِّبة للشخص ومُفسِدة إياه. إذن، والحال هذه، لماذا يتميز عجز المرأة واعتلالها بقوته في المجتمعات؟ لأن هذه المجتمعات ذاتها أصبحت عاجزة ومعتلة. لأن الرجل نفسه غدا عاجزاً ومعتلاً. وهذا بدوره يأتي من خاصية التداخل (geçişken) للعبودية. فالعبد المفيد بهذا القدر، سيكون الشريك المرغوب بالأكثر – بالطبع – بالنسبة للأناس المعتادين على العبودية. وبالتالين فالمرأة الغاصّة والغارقة تعني مجتمعاً غاصّاً، ورجلاً عاجزاً معتلاً. "هذا المشط لذاك الرأس". باقتضاب، من دون تسليط الضوء بكفاءة ومهارة على ظاهرة الأنوثة، وبدون توحيد أنوثة المرأة الأم الحرة للمجتمع الطبيعي مع أنوثة المرأة الواعية الحرة للحضارة الطبقية؛ يستحيل خلق شريك الحياة بشكل متوازن. وبدون تكوين الذكورة على نحو مماثل مجدداً، لا يمكن تحقيق الوحدة بين الجنسين.
بمقدورنا ملاحظة طراز تكوُّن الرأسمالية وإدارتها للشؤون في الساحة الاجتماعية من خلال العديد من الظواهر، وخاصة في الرجل، الأسرة، العمل والموظفية، والعديد من الميادين الأخرى كالميدان التعليمي، الصحي، والقانوني وغيره. وإذا ما قمنا بصياغة تعريف موجز للأسرة، فإنها الحُجْرة (الخلية) وأصغر جزيء في هذا النظام البؤرة الذي يعد المؤسسة الأولية للمجتمع الهرمي والدولتي. فالإمبراطور المتربع في القمة، ينعكس على الأسرة على شكل "إمبراطور صغير". إنها – الأسرة – طاولة العمليات (tezgah) التي تنعكس عليها العبودية المتفشية في المجتمع. ذلك أن العبودية التي في الأسرة، هي صمّام الأمان، والضمان الأس للعبودية المجتمعية. وكأن النظام يتم خلقه في العائلة، في كل يوم، بل وكل ساعة. والعائلة تنوء تحت عبئه الثقيل الوطأة. فالعائلة هي الحمار الهادئ المطيع للمجتمع الهرمي والدولتي، بحيث يمكن امتطاؤه على الدوام، بل وتحمليه العبء أيضاً. وبشكل عام، فإن انعكاس إسقاط النظام الرأسمالي المتبعثر والمتفسخ على العائلة بشكل ضارب للعين، ينبع من هذه الأواصر الكثيفة فيما بينهما.
لا داعي أبداً للحديث عن اقتصاد الرأسمالية. ذلك أن الرأسمالي بذاته هو لُبّ الاقتصاد. إنه بالأساس النظام الذي يضع كل شيء نصب عينيه ويقوم به من أجل الربح والمنفعة. وهو الاستغلالي الأكبر، والمبارِز الوحشي الأعظم. ما من ظاهرة في المجتمع ولم يتم تبضيعها وتحويلها إلى سلعة. المجتمع المتبضّع هو المجتمع المراد إنهاء شأنه. ومجتمع كهذا، إنما يعني النظام الذي أكمل عمره، وبالتالي يستوجب إنهاءه.
يبذل النظام السائد محاولات دؤوبة مضنية وخارقة في سبيل إطالة عمره، عبر العلم والفن. ليس – كما يُظَن – من أجل تطوير العلم والفن (بما فيهما التقنية أيضاً)، بل في سبيل مواصلة حالته الفانية بقوة العلم والفن المتطورة بشكل مذهل. إنه يستذكرنا بالعناية المشددة التي يُلجَأ إليها بوساطة كل الوسائل العلمية والتقنية، بغرض معالجة مريض أصبح على شفا حفرة من الموت. حيث يلعب الفن والعلم دوراً مصيرياً لا استغناء عنه في هذه المراحل من سياق الأنظمة، أي في فترات الأزمات الخانقة، للتمكن من إعادة البناء ثانية وتكوين أنظمة جديدة يمكن إحياؤها والعيش فيها.
تتأتى مكانة الرأسمالية ومنزلتها في التاريخ من كونها آخر النظم التسلطية المتحكمة. إن انتفاع هذا النظام المليء بالثغرات والمسامات المفتوحة منذ عهد المجتمع الهرمي، من أجواء الحرية الناجمة عن النهضة ليحتل بذلك منزلة الصدارة؛ إنما يؤدي في الوقت نفسه عن كشف النقاب عن كل طاقاته الكامنة وتفجيرها. وما من احتمال وارد في إمكانية تطوره أكثر من ذلك، سواء شكلاً أو مضموناً. إذ لم يتبقَّ جانب أو زاوية إلا واستُثمِرت واستُغِلت في المجتمع والطبيعة على السواء. وكل ما تم عمله، لم يتجاوز الناحية الكمية. وتَحَمُّل المجتمع لهذا التلاعب المفرط به يتأتى من تطبيق العنف عليه بأبعاد لا مثيل لها، لدرجة تؤدي إلى تفجير الذرّة إذا ما طُبِّقت عليها. ولم يحصل أن سار نظام آخر بهذا الكم من التداخل بين العنف والحرب. فالمجتمع والفرد يتحركان كمن يمتطي حصان "الرُّدَيو" في مباريات السباق. إذ ما من تقدم محرَز، بل ثمة هبوط وصعود فحسب. وإذا لم يتم تجاوز هذه الشروط الاجتماعية المهيمنة في الفرد أيضاً، فسيستمر هذا الانسداد والعقم فيه من حيث البحث عن الجديد، تحديد وجهة السير، وامتلاك الكفاءات والمهارات الخلاقة. إن مواطَنة الدولة في هذا النظام القائم تعاني حالة انهيار وتفسخ، سواء من ناحية المعنى أو البنية.
من الناحية الظاهرية، ما من أراضٍ أو مجتمعات جديدة يمكنها تجاوز الرأسمالية بزعامتها الأمريكية. فأوروبا تمر الآن بمرحلة النقد الذاتي إزاء التخريبات العظمى التي تسبب بها النظام الراهن. وهي مضطرة للاستمرار في هذا المنحى حتى الأخير. وفي أمريكا اللاتينية لا تتواجد الشروط التاريخية ولا الاجتماعية لتكون كأمريكا الثانية. لذا فمصيرها مرتبط بعاقبة أمريكا النهائية. وأفريقيا تعيش حالة مشابهة، ولكن على نحو أكثر تخلفاً. أما غربي شواطئ الأوقيانوس (المحيط)، أي الصين واليابان، فبمقدورهما – بالأرجح – مساعدة أمريكا في تأمين سيرورة النظام. إذ لا تهدفان ولا تطمحان إلى رأسمالية خلاقة جديدة، ولا تمتلكان إمكانيات ذلك. لذا، فيمكنهما أن تكونا المطبِّقتين لها بالشكل الأمثل. وروسيا معترفة بأن هزيمة السوفييتات ذات بُعد استراتيجي، لذا فهي اضطرت لقبول التقدم بمساندة أمريكا لها، كسياسة جديدة.
ولا يتبقى سوى الشرق الأوسط، البلاء. ليس مصادفة أن يكون الشرق الأوسط البلاءَ المسلَّطَ على النظام القائم، بجغرافيته وثقافته. ذلك أن الحُجرات والخلايا النواة للمجتمع تكمن هنا. هنا تستتر جذور بادئي الحضارة ومداوميها. وآلهتهم من هنا. لذا، وسواء عاجلاً أم آجلاً، سيعود الابن إلى بؤرة أبيه، ليقوموا بحسابات المنزل مرة أخرى. هذا الدور الذي يليق بمنزلة أمريكا، دخل حيز التنفيذ مع مشروع الشرق الأوسط الكبير. هذه العلاقات والتناقضات التي ستتكاثف مع الزمن، ستحدِّد ما ستُفرزه الفوضى السائدة. ما يمكننا قوله منذ الآن، هو أن المستجدات الجارية في منطقة الشرق الأوسط معنية ومرتبطة بتوجه النظام القائم نحو الانهيار والزوال، ولكن من الأخير. لهذا الغرض، فهي تستوجب تحليلات صائبة وسليمة، بحيث تتميز بدرجة قصوى من الأهمية. ونقاط الانكسار في التناقضات القائمة هي الساحات التي تتكثف فيها الفوضى وتتركز. وتلعب هذه الساحات بالأرجح دور المهد ووظيفة الرحم الحامل بالجديد. هل ستصبح بقايا معابد الرهبان السومريين، التي شهدت سلفاً ولادة الحضارة، قبراً لها في هذه المرة؟



#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدفاع عن الشعب الفصل الاول د- المجتمع الدولتي الاقطاعي ومجت ...
- الدفاع عن شعب الفصل الاول ج- المجتمع الدولتي وتكون المجتمع ا ...
- الدفاع عن شعب-الفصل الاول ب – المجتمع الهرمي الدولتي – ولادة ...
- الدفاع عن شعب -الفصل الاول آ – المجتمع الطبقي
- الدفاع عن شعب -الفصل الاول
- الدفاع عن شعب


المزيد.....




- نتنياهو قلق من صدور مذكرة اعتقال بحقه
- إيطاليا .. العشرات يؤدون التحية الفاشية في ذكرى إعدام موسولي ...
- بريطانيا - هل بدأ تفعيل مبادرة ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا ...
- أونروا تستهجن حصول الفرد من النازحين الفلسطينيين بغزة على لت ...
- اجتياح رفح أم صفقة الأسرى.. خيارات إسرائيل للميدان والتفاوض ...
- احتجاجات الجامعات الأميركية تتواصل واعتقال مئات الطلاب
- الأونروا: وفاة طفلين بسبب الحر في غزة
- لوموند تتحدث عن الأثر العكسي لاعتداء إسرائيل على الأونروا
- لازاريني: لن يتم حل الأونروا إلا عندما تصبح فلسطين دولة كامل ...
- مميزات كتييير..استعلام كارت الخدمات بالرقم القومي لذوي الاحت ...


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - الدفاع عن شعب الفصل الاول / ه- الدولة الراسمالية والمجتمع الراسمالي ، ازمة الحضارة