|
الدهشة الفلسفية واليقظة الصوفية
أشرف الحزمري
الحوار المتمدن-العدد: 3667 - 2012 / 3 / 14 - 22:08
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في كلماتنا هذه نحاول أن نقارب بين مفهومين، فلسفي وهو "الدهشة"، والثاني صوفي وهو "اليقظة"، وكلنا يعلم أن العلاقة بين المجال الصوفي والمجال الفلسفي جوهرية، فـ "الصوفيا" التي هي الحكمة، قد تؤدي إلى التصوف الذي هو الصفاء، والتصوف بدوره يستلزم الحكمة، ولا نستبعد أن أصلهما وحدة مشتركة ظهرت في فلسفات الشرق، ثم دلفت إلى اليونان فحفظت وحدتها بعض الفلسفات، وآثرت فلسفات أخرى الفصل بينهما. وهذا الموضوع يحتاج إلى دراسات موسّعة ومعمقة ولا يمكن أن نقرر كل اجتهادنا في مقالة موجزة، لكننا أحببنا أن ندلي بانطباعات مبعثرة لا تحتكم إلى معيار منهجي ومنطقي، وكذلك لا يمكن أن ننسبها إلى الكتابة الشذرية التأملية، بل فيها من هذا وذاك، وهي أشبه بدعوة نطلب من خلالها النظر في هذه الضميمة واستيفاء حقها الفلسفي.
هناك نص للفيلسوف الظاهرياتي/الفينومينولوجي ادموند هوسرل من كتابه "تأملات ديكارتية" يقول فيه: «..إنّ كـل من يريد حقاً أن يصبح فيلسوفـاً، يجب عليه أن يعود إلى ذاته ولو مرّة واحدة في حياته، وأن يحاول في داخل ذاتِــه قلب جميع المعارف المسلّم بهــا إلى حدِّ الآن..»(1)
عندما نتأمل النص ونحلّله ونفككه إلى بنياته الدلالية الكبرى والصغرى التي تكوّنه قصد استخلاص تيمة محورية يحوم حولها النص، لا يمكننا إلا أن نخرج بمفهوم فلسفي أصيل، له جذور عميقة في تاريخ التفلسف، الا وهو "الدهشة". هذا المفهوم الذي كان له حضور شمولي في المشهد الفلسفي اليوناني باعتباره أصلاً يؤسس للطريق الفلسفي بداياته، ويزيح عن العقل نسيانه لذاته وأفعاله، ويحرر التفكير من سلطان العادة، يقول برتراند رسل : «..الفلسفة وإن كانت غير قادرة على أن تخبرنا بيقين عن الجواب الصحيح للشكوك التي تثيرها حياتنا، فإنها قادرة على اقتراح امكانات عديدة تُوسّع من آفــاق فكرنا وتُحرّر أفكارنا من سلطان العــادة...» (2)
فمفهوم الدهشة أو التفكير في التحرر من المألوف والعادي، أو دعوة الذات لإعادة النظر، نقرأ معناه في المفهوم الذي ظهر في التصوف الإسلامي، أعني به "اليقظة"، وقد ظهرت ملفوظة الدهشة نفسها في هذا الحقل، وتداولها المتصوفة فيما بينهم، ويسمونها (الدهش)، لكنها لا تفيد ما يفيده المصطلح الفلسفي، بل هذا الأخير أقرب إلى المفهوم الذي اخترناه وارتضيناه، إذن لنتأمل في هذا المفهوم الصوفي، الذي يحوي إجرائية تتجاوز وتفوق إجرائية المفهوم الفلسفي، سواء على المستوى النظري العقلي، أو الشعوري، أو السلوكي.
يقول الهروي عن اليقظة أنها قومة من «سنة الغفلة، والنهوض من ورطة الفترة، وهي أول ما يستنير قلب العبد بالحياة لرؤية نور التنبيه...» (3)، فاليقظة يعتبرها المتصوفة أول «درجة في البدايات»(4) تبدأ منها التجربة الروحية، فكل قاصد أو سالك يتوجب عليه أن يستيقظ من سِنة الغفلة، والغفلة هي حالة اللامبالاة والنسيان التي تطبع نفسية الإنسان داخل عالمه المرئي، إنها شكل من أشكال التماهي مع البداهات والحقائق المألوفة الثابتة والموروثة، إنها حالة من قبيل المعتقدات الباطلة التي قال عنها الفيلسوف فريدريك نيتشه : « ظلت تتوارث حتى كادت في نهاية الامر أن تعد كامنة في ماهية النوع الانساني، الاعتقاد بأن ثمت أشياء ثابتة، وبأن ثمت أشياء متماثلة، وبأن ثمت أشياء وجواهر وأجساما، وبأن الشيء يكون على النحو الذي يتبدى عليه..»(5)
إن منزلة اليقظة التي قال عنها الهروي بأنها تقوم كلها على «..خلع حجاب العادات.»(6)، قد نظّر لها المتصوفة معرفيا و ذوقيا وعمليا، وتعتبر مقاماً يقرر فيه المتصوفة مقتضيات عملية واستراتيجيات سلوكية يجب على النازل أن يتمثّلها ويراعيها ويمارسها حتى يحقّق الحال الموهوب أو الانطباع الاشراقي الذي ينبثق من جهده الذي حقّقَه وكسَـبه، وهذا الذي جعلنا نرى في اجرائيته عمقا يزيد على إجرائية المفهوم الفلسفي. مع أننا نعتبر الاختلاف بين المفهومين ونعيه، ولا ننكر ذلك ونتناساه، ولا يمكن أن نتعسّف في الخلط بين مجالين يتمايزان، ولا أننا نقوم بعملية اسقاط تأويلي تقوم على تفريغ المفهوم من معناه الاصلي وحمله على مفهوم آخر فقط لتشابه دلالي جزئي. لكننا نظرنا إلى المفهومين من زاوية منطق الفروق وتبيّن لنا أن لكل منهما خصوصية معنوية يتميز بها عن الآخر، لكن هذا التمايز لن يتجاوز جهازهما المفاهيمي المشترك الذي يستمدّ معنويته الكلّية من الذات الإنسانية في موقفها من العالم والأشياء والوقائع الاعتيادية وأحداث الحياة اليومية. وهنا نقف على التماثل صراحة ووضوحا ونوقن بحضوره الطاغي، ونرى أنّه لا يمكن أن ينكر ذلك إلا مكـابر.
ـــــــــــــــــــــ
(1) ـ E.Husserl : Méditations cartesiennes,1929.ed.vrin,p.15 (2) ـ مشاكل الفلسفة : برتراند رسل، بواسطة عبد الرحمن بدوي، مدخل جديد إلى الفلسفة، وكالة المطبوعات، بدون تاريخ، (ص/30) (3) ـ منازل السائرين : أبو إسماعيل الهروي، مطبعة البابي الحلبي، 1966، (ص/6) (4) ـ شرح منازل السائرين : عفيف الدين التلمساني، دار التركي للنشر، 1989، (ص/53) (5) ـ العلم المرح : نيتشه ، الفقرة 110 ، أصل المعرفة. (لهذا النص ترجمات عديدة، ونحن هنا اخترنا ترجمة فؤاد زكريا) (6) ـ منازل السائرين : أبو إسماعيل الهروي، مطبعة البابي الحلبي، 1966، (ص/6)
#أشرف_الحزمري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خاطرة في فلسفة -اليومي-
-
لماذا النبي محمد ليس شخصية تاريخية حقيقية ؟
-
هل النبي محمد شخصية تاريخية حقيقية ؟
-
خاطرة في تحليل الله
المزيد.....
-
-سبيس إكس- تطلق مجموعة أقمار صناعية للاتصال المباشر بالهواتف
...
-
صالات فارغة وطائرات مروحية مدمرة.. لقطات من مطار حلب الدولي
...
-
اكتشاف جديد قد يفتح آفاقا لعلاج مرض باركنسون
-
اجتماع ثلاثي في بغداد بشأن سوريا.. ومقتل 20 مدنيا بقصف جوي
-
كيف سيدعم العراق سوريا ضد -جبهة النصرة-؟
-
سكان كاليفورنيا يسجلون مشاهد لمياه مسابح تهتز بشدة بعد الزلز
...
-
-حماس-: تصريحات سموتريتش حول ضم الضفة الغربية انتهاك صارخ لل
...
-
ستيفن سيغال يتمنى للشعب الروسي النصر في العام الجديد
-
الأردن يدعو مواطنيه المتواجدين في سوريا إلى المغادرة في أقر
...
-
ماكرون يستقبل ترامب وزيلينسكي قبل افتتاح نوتردام
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|