أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح كنجي - سلام إبراهيم يُبدعُ مِنْ بَاطن الجحيم..!!















المزيد.....


سلام إبراهيم يُبدعُ مِنْ بَاطن الجحيم..!!


صباح كنجي

الحوار المتمدن-العدد: 3655 - 2012 / 3 / 2 - 17:29
المحور: الادب والفن
    


سلام إبراهيم يُبدعُ مِنْ بَاطن الجحيم..!!

قرأتُ في العدد 48 من مجلة الكلمة الرواية التسجيلية الموثقة (في باطن الجحيم) لسلام إبراهيم، التي تستندُ في بنائها على ثلاثة أركان لتكوين نسيجها، عبر توزيع محكم تنفرد به بين السرد والتحقيق والاستطراد التفصيلي لعذابات الناس تجمع بين حدثٍ وفن ووثيقة في توليفة درامية متوترة تمتزجُ بدم الوريد ونزف الروح تتابع خطوات العنف والدم والموت، وتفيض بالعواطف الإنسانية النبيلة لشاهد على فضائع وأهوال مَرة ً وسيرة شخصية تارة، أستمدَ وقائع أحداثها الحقيقية من معاناته ومشاهداته وهو ينتقل بين مدن استحكمَ بها الدكتاتور ورهطه بقوّةِ جيش شرس يقودُ الناس ليقذفهم في آتون محرقة الحرب، وأجهزة قمع تعتقل الأبرياء لتذيقهم أنواع العذاب وتغيّبهم في دهاليز معتقلاتها.
قبلَ أنْ يلتحق بالأنصار الحالمين بوطن خال من العسف والاضطهاد.. هذه الأحلام التي أجهضها الدكتاتور وقتل من حلمُ بها بكيماوي طائراته الحربية، ومدافعه العملاقة أسفرت عن أهوال كارثة إنسانية.. بحكم فداحة الخسائر وكثرة الإصابات وعمق الجراح.. وانعدام وسائل العلاج.. وجهل الأطباء وعدم معرفتهم بنوع السموم التي أصابت الجرحى..
مِنْ هذهِ اللحظات سَيسحبك وأنتَ تقرأ روايته لتغوص في باطن الجحيم، سيدخلك للعمق.. لتعيشَ تجليات الحدث يتتبعُ آثار ما خلفه صاروخ سقط بالقرب من أبي فؤاد العائد من رحلةِ علاج تسمم بالثاليوم، الموعود بلقاء زوجته وأبنائه المنتظرينَ لهُ بلهفةٍ تستغرق مسيرَ يوم بين مَقرَيْن للأنصار، زيوه في العمادية، الذي تعرض للقصف الكيماوي لمرتين وتحول إلى ساحة للموت، ومراني في الطرف الآخر لكاره.
يتابعُ سلام ما حلّ بالأنصار من تلك اللحظات، يركز الرؤى.. يلتقط مشهداً صغيراً، من ساحة وقوع الصاروخ، ليبدأ في نسج حكاية جريمة خطيرة حدثت، عبر تحولات ناشئة في، الوجوه، العيون، احتراق الجلود والبقع السوداء التي ظهرت بين الأرجل وتورم الأعضاء التناسلية، تضخم البلاعيم، وغيرها من التشوهات..
يستمدُ من معاناة أبو فؤاد في ساعاته الأخيرة وهو يُنقلُ للطبابة التي أفضت ملامح الدكتورة أم هندرين عن مشاعر ألم دفين لتعلن عجزها أمام هذا الهول وهي تذرفُ دمعاً وتطلق آهة، معَ مَنْ يُساعدها في نقل المصابين ومعالجتهم مثالاً يختزلُ الوجع ويكثفه للدخول في عمق الكارثة في مقر زيوة، الذي تحول إلى جحيم يئنُ فيه المعذبون من جرحى السلاح الكيماوي(أم هندرين التي بدت شديدة الارتباك.. لم تواجه مثل هذا الموقف من قبل .. ليس لديها اللوازم الطبية الكافية لمواجهة الوضع).
لا بل أنّ أبو رزكار المصاب الآخر بحروق بليغة قاتلة أبى أن يفارق أبو فؤاد.. كان يحضنه كما حضنت مريم المسيح..( لا أستطيع نسيان مشهداً .. كلما وقع بصري على لوحة لمريم في الكنائس .. أمام غرفة الطبابة جلس أبو رزكار متربعاً على الأرض واضعاً رأس أبو فؤاد في حضنه، ومنحنياً عليه، يهمسُ كأم تحنو على وليدها.. وقسمات أبو فؤاد بدأت تسودُ شيئاً فشيئاً كأنها حُرقت بفرن)..
يا لروعة سلام في توثيقه للمشهد المؤلم ليعيد تصويره للحدث عبر هذه الرواية، لا لنقله كحدث من تاريخٍ مَرَّ ومَضى.. بل لينقلنا لتلك الأجواء ويعيدنا للمكان، لنسمع معه صرخات وأنين جرحى الكيماوي نشارك أبو فؤاد عذابه من لحظة سقوط الصاروخ فيحترق وجهنا وجسدنا مع وجه وجسده.. لم يكن وحده جريحاً مصاباً بالغاز محترقاً يتأوهُ بل نحْنُ المحترقين نتأوه من شدة الألم.. نحن الجرحى والضحايا.. نحن المعذبين في أقبية الموت والمعتقلات التي مرّ فيها سلام وغُيّبَ فيها شقيقه كفاح..
انه لا يكتب الحدث وهو ينزفُ دماً وروحاً بل يعيد خلقه من جديد، يحيي الموتى.. يعيد صرخاتهم.. يُسمعنا آهاتهم.. يقربنا من لهاث عذابات ما قبل الموت بلحظاته الجليلة ونحن نسير في البرزخ الواهي الفاصل بين الحياة والغياب الأبدي..
لذلك تعاطفنا معه وهو يشاهد بفرح في الطرف الآخر من المشهد الدكتاتور وبطانته يحاكمون.. (مستمتعاً..كلما ظهر وجه صدام في لقطة مقربة منصتاً لسردِ الضحايا.. أرى نفسي في قمة الهرم وهو في أسفله).
يشاهدهم في القفص.. يشاهدُ الجلادين والقتلة وهذا النمط المعادي للإنسانية والبشر.. يتابع حركاتهم وردود فعلهم وصلافتهم.. يتابعُ عدم اكتراثهم بما ينزف به الشهود من الفلاحين الكرد وهم يسردون بعفوية ما حلّ بهم في تلك الأيام على يد من هم في داخل قفص المحكمة ..
هاهي النصيرة سعاد.. (بغتةً، ظهرت رفيقتي القديمة سعاد في مواجهة الطاغية.. أخذتني إلى تلك التجربة وهي تذكرني باسمي الحركي وقتها، أبو الطيب، كيف أصبت بشدة وأنا أهب مع رفيقين لإطفاء الحريق الذي شبَّ في المقبرة.. أخذتني إلى ذلك الغروب.. كان كل شيء هادئ في ذلك الوادي العميق على مجرى نهر الزاب الأعلى). تدلي بشاهدتها كضحية أصابها الكيماوي بالكثير من الأضرار.. أنها الآن سيدة الموقف.. سيدة المكان.. تروي بالدليل ما حلّ في ذلك اليوم .. تصفُ الطائرات.. تعددُ عدد المصابين الجرحى.. توجهُ أصابع الإدانة للرئيس المعتقل وتهينُ وزير دفاعه الذي حاولَ استعطافها، وتومئ نحوهم
ـ السفلة.. هم القتلة..
قالتها في وجوههم، مثل لبوة مستفزة كانت سعاد، وهي تدفع بشهادتها الحية عن الحدث/الجريمة مستذكرة ضحايا زيوة أبو فؤاد ..أبو رزكار والعشرات من المصابين..
يتراجعُ الرَيّسْ وينكمشُ.. يصغر ويصغر .. يعود لحجمه الحقيقي.. يتلاشى مع بطانته في القفص.. من أمام سلام وهو يقهقه في كوبنهاكن متابعاً جلسات محاكمة يديرها قاضي يساهمُ في دفعه للمزيد من الضحك وهو يطرد الرئيس.. أو يطلب من العاملين في المحكمة:
ـ جيبو .. جيبو.. خلي يدخل ..
يدخل الدكتاتور القفص ذليلاً بائساً يجلسُ في المكان المحدد له صاغياً للأوامر.. هذا المشهد يخففُ من معاناة الضحية والكارثة التي لحقت بغيره.. يقللُ من آلام الناس.. يخفف عذاباتهم.. يطببُ جراح أبو فؤاد وبقية المصابين ممن عجزت الدكتورة آم هندرين عن معالجتهم ودفنوا في تلك الأصقاع..
هاهم.. يعودون. يعودُ أبو فؤاد مع أم فؤاد في مشهدٍ وهي تزور قبره أعادَ تصويره سلام بصيغةٍ تعيدكَ لفصل آخر في جحيم الوطن الذي ينوءُ من هول وبشاعة الجرائم المرتكبة فيه.. مشهدُ الشجن والوفاء وهو يتابع مع الآخرين أم فؤاد.. خشوعها وهي تندبُ التراب وتعصرُ القبرَ كي ينهض ولو للحظة واحدة.. ثمة ما يمكن أن تقوله لهُ.. ثمة أشياء يستوجبُ سماعها.. أكيد انهُ سمعها.. سلام موقن أنّ أبو فؤاد سمعها تطلق من نزيف روحها صرختها الأخيرة تناديه متوسلة ً..انهض.. لا تخذلني جئت لزيارتك...
(لمحنا من المسلك الهابط من العمادية ثلاثة مسلحين وامرأة بثوبها الكردي الفضفاض .. مسرعين، تبين أنهم من الفوج الأول.. زوجة الشهيد أبو فؤاد.. جاءت.. سألتْ عن قبره. ارتبكت الوجوه.. كررت وثالثة، فهبطت قلوبنا إلى أسفل أقدامنا، ممعنين بالصمت.. إلى أن أنقذتنا بهار:
ـ سآخذك إليه!.
قادتها من ذراعها .. صوب المسلك الهابط جوار مجرى النبع.. سحبتها برفق من معصمها الناحل إلى.. القبرين. رأيتها تشير نحو كومة التراب المرتفعة قليلاً.
ـ هل كانت تخّلقه من جديد من ذاكرتها؟!. هذا ما بتُ متأكداً منه..هل كانت بصمتها الطويل الذي أربكنا ووتّرنا تمارس طقساً من طقوس الموت لدى الطائفة اليزيدية؟!.. لا ادري!. تلك اللحظات أشعرتني بفداحة الفقد المباغت لمحب حميم. لا أدري كم من الوقت ظلت ساكنةً كتمثالٍ من حجرٍ.. فزمن تلك اللحظات زمن مختلف لا يقاس.
تمتمت بصمت فيه جلال، وقليلاً قليلاً بدأ الصوت يظهر ضعيفاً مكسوراً أول الأمر، ثم شرع في التماسك شيئاً فشيئاً إلى أن بات واضحاً.. بدأت بسرد قصة حبهما وكأنه متجسدٌ أمامها. تقص وتعلق كأنها تسمع ما يقوله لها.. صرخت صرخةً واحدةً طويلةً حادةً أصابتنا بالكمد وارتمت على كومة التراب. غطتها مولولةً صارخةً باسمهِِ... أم فؤاد تناديه كي يقوم من جديد قابضةً على ذرات ترابه في حركة تشتدُ وتنبسط وكأنها تحاول خلقه من جديد. وحدها زوجتي بدت متماسكة منتظرة لحظة مناسبة كي تنتشلها من وهم عودته.. أحسستها .. تحاول الغور في التراب.)..
هذا المشهد المؤثر للزيارة قبل جحيم الأنفال الذي غيب أم فؤاد وأبنائها وبناتها مع الآلاف.. يستقدمهُ سلام إلى كوبنهاكن في الزمن الجديد وهو يتابع بشغفٍ جلسات المحكمة بحضور ومشاركة أبو فؤاد وأم فؤاد.. ينفي موتهم وغيابهم.. يعيدهم للوجود.. يحييهم ليتابعون ويشاهدون معاً جلسات المحاكمة التي تدفعُ بسلام ومن معه للمزيد من القهقهة والفرح..
الموتى الدكتاتور وبطانته في القفص المنكمشين على بعضهم.. يلتمسون بذل من رئيس المحكمة أشياء غير مهمة.. يتلعثمون عند الاستفسار عن اسم أو واقعة، أدلى شاهدٌ تفاصيلها، يحاول إنكارها مُتهم مُدان بينهم، وعندما يعرض المدعي العام وثيقة موقعة وتسجيلا صوتياً وفيلما موثقاً للجريمة تتجمدُ وجوههم.. أنذال منزوعي الضمير يفتقدُون للأحاسيس والعواطف.. لا بل موتى لا يستجيبون أو يتفاعلون مع ما يحيط بهم.. هم موتى إذن.. نحنُ الأحياء.. الدكتاتور هو الميت وأبو فؤاد حي يتبادلُ نخب النبيذ مع سلام..
هكذا تداورُ الرواية الأسماء ليتوسع حجم المشاهدين للمحكمة.. يأتي كفاح شقيقه يتبعه.. أبو رزكار.. أبو جواد.. ومهدي خريبط.. ميثم جواد و.. ينهضُ ضحايا القمع.. يقهقهون.. يرقصون.. يتهامسون.. تتحول المحكمة لميدان رقص وفرح وانتصار.. يتحول الألم إلى لذة ونشوة.. تقرع كؤوس النبيذ..
ليست هذه كل أحداث الرواية سلام عودنا على ما يمكن أن نوصفه بالفضاء المفتوح في الرواية.. لم يختار لها بطلاً محدداً أو مجموعة شخوص للبطولة، ترك ملامح الحدث ونسيج الرواية يمتدُ حيثما امتدّ القمع والإرهاب، لا يتوقف عند حدود العراق.. ولا يحصرُ التهمة ويقصرها في شلة القفص.. انه يسعى لتوثيق حجم الجريمة كما هي في تفاصيلها يتابع خفايا الحدث..
لا يكتفي بذكر الوقائع.. الأسماء.. الصور.. الوثائق التي تخص الضحايا والمتهمين.. يَسحبكَ من أجواء الحرب وأقبية التعذيب ومقرات الأنصار إلى أوربا "المتحضرة" لتسيرَ معهُ عِبْرَ محطاتٍ جديدة تفضي بواباتها الموصدة، إلى صالة تحقيقات دولية تتابعُ الشركات والأشخاص الذين دعموا الدكتاتور وقدموا له المواد الكيماوية التي استخدمها في جرائمه..
ليفاجئك أن البعض من الأنصار بينهم - كاتب السطور- الذي كانت عائلته من ضحايا الأنفال ما زال يكافحُ ويتابع الجريمة وذيولها في محاكم لاهاي عبر ملاحقة التاجر الهولندي- فرانس فان الذي مُنح الجنسية العراقية باسم (فارس) وبيتاً للسكن في شارع حيفا في بغداد بأمر من صدام.
يتقدم في المشهد يفاجئك ببراعة المبدع الذي يتقنُ حياكة نسيجه يسردُ لك تفاصيل لقاءه بصديق فارقه، شاءت الأحداث أن يكون شاهداً من داخل المؤسسة العسكرية على ما حلّ بالمفقودين لحظة تجميعهم في قلعة نزاركي في دهوك بينهم عوائل الشيوعيين ضمنهم عائلة أبو فؤاد وصباح كنجي، فصديقه يحي الأميري الشيوعي المجند من الفرقة11 يكلف مع تشكيل من كتيبة مدرعات حطين بحراسة الأسرى والمعتقلين يقدم تفاصيل مزعجة عن جريمة حدثت في القلعة يرويها في كوبنهاكن عبر سرده لبعض مِمَا مرّ عليه من أحداث في تلك الأيام المتوترة التي افترق فيها عنه..
يتذكرُ تتبعه لأثر الصاروخ من لحظة الانفجار وما أعقبها، يعود بذاكرته لمشهد في غاية الألم من موقع الجريمة إذ يرى أبو فؤاد ينقل على عجل من رفيقين له يسعيان بشق الأنفس للوصول إلى موقع الطبابة في محاولة لإنقاذه ، لكنه كان يرى شيئاً آخر يدفعه لليقين أن أبي فؤاد سائر نحو برزخ يؤدي للموت لا محالة هذه المرة بعد أن صمدت روحه أمام حالة تسمم وقاوم جسده الموت من جراء سم دُسّ في طعامه من قبل عميل للمخابرات اختير ليكون وسيطاً لقتله بالثاليوم..
في الأنفال بعد سنة من حادث القصف أي في الشهر الثامن من عام 1988 ستعتقل عائلة أبو فؤاد كلها وتضيع في المقابر الجماعية إلى الأبد...
أما الكاتب فكانت إصابته لا تقل خطورة وأدخلته هو الآخر في باطن الجحيم ليقترب من الموت.. كان موتاً بطيئاً يأتيه من مشاهداته لآلام الآخرين وصراخهم وما حل بهم، لم يكن أبي فؤاد إلا واحداً منهم والبقية كانوا في حكم الموتى يتمددون حوله في ذلك العراء وهو يعاني من آثار حالة خاصة لم تمر عليه حتى في ساحات الحرب، كانت أجزاء من جسده تفيض بما لا يطاق تحمله من عذابات تجعله يحسدُ سيزيف في معاناته ويتمنى الموت للخلاص وهي أمنية راودته في معتقلات الدكتاتورية التي في دهاليزها..
ويمر سلام بمراحل الفحص الطبي الأولية من بودقة طبيبين لا يكترثان لحاله فيتعقد وضعه، هما لا يفهمان معاناته ومحنته، كما لم يفهم الدكتاتور محنة ذلك الكردي الشاب الذي تشوه وجهه من جراء القصف وبات أولاده يخافون النظر إليه.. يستمر في التذكير بالمزيد من ضحايا القمع والعنف الذي رافق سيرته من صباه، هو عنف ينبتُ في الحارة وينمو في ساحات الحرب يمتد لضفاف نهر الزاب في زيوه، عنف يتواصل في كل الفصول وفي كل الأماكن، عنف يتسلسل ويتناسل بأشكال غريبة يتوالد في أقبية الموت ومؤسسات الدولة البوليسية وينتقل بواسطة القذائف في الفضاء ليخطف اعز ما عرفهم سلام في حياته بين الديوانية والحدود وحتى أقاصي شعاب الجبال في كردستان وما وراء الحدود في سجن أيفين الرهيب الذي روى حكايات الموت فيه النصير أبو جواد بصيغ مضحكة وساخرة عنف يمتد نحو الحدود مع الحشود الهاربة المذعورة وهي تسعى للخلاص في لحظة بؤس تترافق مع (صوت قصف يقتربُ سريعاً.. سريعاً.. مما جعل الجمع المحتشد أمام بوابة الحدود يصاب بالهلع.. هلع غير عقلي.. هلع غريزي ابتدأ لغطاً لكنه سرعان ما تحول إلى صراخ ينبعث من تزاحم كتلة بشرية هائلة متلاصقةٌ، مرصوصةٌ، ككتلة من الأسمنت الصلب الجاف، متأهبة لاقتحام لا خط الحدود الوهمي بل حتى خط السماء. كتلةٌ كقلبٍ صلبٍ .. فكلما ابتعدنا عن نقطة الحدود شعرنا بمزيدٍ من الأمان)..
أمه فجعت بابنها كفاح حينما أعدمه الطاغية وسيلحق به محمد ابن بنتها الكبيرة وداد بعد مشاركته في الانتفاضة عام1991 هذا في عائلته أما أصدقائه ورفاقه ممن روى عنهم حكايات الموت في زيوه (أبو رزكار كان مسلوخ الجلد، وجهه.. ظهره.. بطنه.. ذراعيه.. الجذع الأعلى العاري تتزاحم فيه الفقاعات. أعدت مرات عديدة شريط هذا الفلم، فوجدته يسرح بعينيه المفتوحتين عكس كل المصابين في عالم بدا غريباً عن عالمنا.. أيقنت وقتها أنه كان في البرزخ يمضي.. في ضيق ذاك الممر المحشود بالغرائب.) فقد غادروا بطرق غير مألوفة لا تمت للموت الطبيعي بصلة.. (أبو الوسن واقفاً بالمقلوب تماماً. يرتكز على رأسه، المحشور لصق ساق شجرة بلوط متينة، تحيط بها سيقان شجيرات أصغر وأعشاب أحاطت بالرأس والجسد، فحافظت على وضعه قائماً بالمقلوب)...
أبو الوسن وأبو سعد سينتحران بعد تعرضهم لغاز الأعصاب وسيدفنهم الكاتب على عجل.. (أول ما فكرنا فيه هو دفنهم والانسحاب على عجل، فبين لحظة وأخرى كنا نتوقع تجدد القصف، أو سيطرة الجيش على السلسة المحاذية للزاب فيقطع خط انسحابنا كنا نظن أن هذا الدفن مؤقت حفاظاً على أجسادهم من نهش الحيوانات ليلاً.. بربك أسرع.. لازم نغطيه زين حتى ما تأكله الحيوانات ولا تجرفه سيول الربيع.. أسرع حتى لا نرقد جواره.)
قذائف المدفعية أخذت تسقط تباعاً..أسفرت عن حالة جديدة (ضُربنا كيماوي.. ما ندري.. صارت بينا هستريا.. كل واحد ركض بصفحه. أحنه ركضنا باتجاه الزاب وسحبنا أبو سعد وعبرناه للجهة الثانية، لكن لما ركبنا التللفريك صرخ بنا.. لا تتركوني. تره أضرب رأسي بطلقة.. لا.. لا.. !.. أرجعوا.. أرجعوا!.
سلام لم يكتفِ بسرد ما حلّ برفاقه في تلك المحنة غاصَ في لجّة الحدث متقصياً مهموماً يستكمل الجزء المفقود غير المرئي منه، عبر صديق يحي الذي عثر عليه بعد عقدين من الزمن في أوربا يمارس العمل الصحفي عبر الانترنيت، كان شاهداً على ما حل بالذين يتذكرهم ويعرفهم الذين نقلوا ليحتجزوا في قلعة لبضعة أيام في دهوك إذ يقصُ على سلام مشاهداته من الطابق الثاني في القلعة التي تحولت إلى مكان للتعذيب..(توقف موتراً قامته القصيرة، ورمقني بنظرة عميقة وقال:
ـ هل تعتقد يا سلام أن الجندي العراقي المساق قسراً لأداء الخدمة العسكرية يقبل بما يجري في باحة القلعة؟!. لزمت الصمت: لا.. لا.. سوف لا أنسى ما حييت ذلك المشهد الذي جعلني أنحبُ بكتمان، وينتحب من حولي الجنود لائذين خلف أعمدة طارمة الطابق الثاني).. (يحيى يقص عليّ تفاصيل.. خط سير وحدته.. سألته ماذا صار بالعوائل والبشر التي لم تتمكن من الوصول إلى الحدود التركية؟!. جمّعوهم في قلعة رهيبة، قلعة قديمة لها بوابات هائلة تستوعب دخول دبابة..في أطراف دهوك قرب المنطقة الصناعية.. وحدات الفرقة11 تشغل المكان.. وحدتنا كتيبة مدرعات حطين ..تشغل الطابق الثاني، جمعوا في باحة القلعة الشاسعة الآلاف العوائل المتلاصقة حددوا لها مكاناً مسوراً بأسلاك شائكة تركوهم أياماً دون أغطية ولا طعام... سمعتُ ضجة وصراخ وشتائم وبكاء أطفال ونساء من باحة القلعة .. أسرعت بالخروج .. رأيت رجال أمنٍ بملابس مدنية يصرخون مطالبين بخروج جماعة خالد* لا أعرف ماذا تعني جماعة خالد حتى الآن، كانت الكتلة المحجوزة تتكتل ملتمة فتحولت إلى كتلة واحدة ..انهالوا على الكتلة ضرباً بالكبلات المحشوة بالحصو فتفتت الكتلة وسحبوا المطلوبين سحباُ. طرحوهم أرضا، ووضعوا على أجسادهم الناحلة إطارات قديمة لمدرعات وجلسوا عليها. راحوا يقفزون ضاغطين على الأجساد المختنقة وسط عويل أمهات وزوجات وأطفال من يُعصر ويُخنق تحت الإطارات... كان يرتجف كأنه يرى المشهد.. قتلوهم خنقاً تحت ضغط الإطارات أمام أعيننا. لحظة لفظ أنفاسهم ضجت الزوجات والأمهات بالعويل والنحيب، والندب بترديد ..رثاء باللغة الكردية...أستمع لرواية صديقي القديم مستعيداً وجوه وقامات العديد من المقاتلين الذين حينما خيروا بين ترك الأهل والاختفاء بأمل التسلل إلى دول الجوار اختاروا البقاء مع زوجاتهم وأطفالهم وهم من واجه عناء القتل والذل المضاعف. أشطح بذاكرتي إلى تلك الوجوه الكردية التي أحببتها والتي ضاع ذكرها إلى الأبد، كما هو الحال مع عوائل اليزيديين الأكراد ممن أسر في حملة الأنفال.
طوبى لكل من أختار البقاء والموت بين عائلته دون مرارة المنفى.
طوبى لأخي الشهيد كفاح الذي أدرك باكراً كذبة الدنيا وفنا ذاته لشرف الموقف وصار رمزاً..طوبى لالتباس الحال وأنا أنصت لصديق قديم يحدثني عن محنة الدنيا حيث يجد الإنسان نفسه في موقف يرثى له كحاله وهو يطل من حافة سياج طارمة طابق ثاني في قلعة دهوك، على مذبحة لم يدرك أحدٌ وقتها مقدار فداحتها).
طوبى لسلام الذي أنجزَ ما لم ينجزهُ من قبله الآخرون في عمل روائي هام سجّل وقائع مُرة مِمَا مَرّ به العراق، هذا الوطن الذي ما زالت تنمو فيه درنات القتل والإجرام عبر محطاتٍ جديدة من الانحطاط السياسي حولت المجرمين والقتلة المطلوبين للقضاء إلى سياسيين وقادة في برلمان أربيل وبغداد وبقية مؤسسات الدولة.. أنها رواية لا تدين الماضي فقط بل تدين الحاضر المنحط وتحذر من منح غطاء لمن ارتكب تلك الجرائم في كردستان والعراق..
صباح كنجي
ـــــــــــ
* نشرت المادة في الثقافة الجديدة العدد المزدوج 347/348
* سأخرج من نطاق النقد التقليدي لأعلق على ما جاءَ في هذه الفقرة فخالد الذي تحدث عنه يحي الأميري لسلام ليس خالداً، بل.. أبو خالد، وهو لقب سفر إسماعيل كجل الذي كان أمراً لمفرزة استخبارات تعمل مع المجرم رائد احمد، وقد زارَ سفر- أبو خالد المعتقلين في القلعة، وهددَ وتوعدَ الضحايا من أهالي دوغات بالقتل والفناء وهناك شهود عليه ممن شاهدوهُ يتردد على القلعة في تلك الأيام لأكثر من مرة.. وبعد سقوط النظام الدكتاتوري تعاون مع الإرهابيين واعتقل وحكم عليه في كردستان بخمسة عشر سنة، لكن الفساد السياسي والتدخلات العشائرية تدخلت لإنقاذه بعد ثلاثة سنوات من وجوده في السجن، وفي بداية عام2011 أفرج عنه من قبل محكمة استئناف صورية مازالت موضع استنكار الناس والضحايا..
* سلام إبراهيم.. قاص وروائي عراقي مقيم في الدنمرك، مواليد1954 الديوانية.. تعرض للاعتقال والسجون.. حشر في طاحونة حرب الدكتاتورية مع إيران كجندي شاهد أهوالها، مرّ بتجربة الثوار في الجبال وأصيب بالكيماوي..
بدأ بالكتابة والنشر من أوائل السبعينات صدرت له:
ـ رؤيا اليقين.. مجموعة قصصية دار الكنوز الأدبية بيروت 1994
ـ رؤيا الغائب.. رواية دار المدى دمشق 1996
ـ سرير الرمل.. مجموعة قصصية دار حوران دمشق 2000
ـ الإرسي.. رواية دار الدار القاهرة 2008
ـ الحياة لحظة.. رواية الدار المصرية اللبنانية القاهرة 2009



#صباح_كنجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سوريا معادلة ما قبل النهاية..
- مقدمة لكتاب خليل جندي الأيزيدية والامتحان الصعب..
- كريم أحمد في المسيرة من تاريخ لمذكرات ناقصة.. 2
- التلاشي في الزمن اللا مُجدي..
- هادي محمود يهينُ ماركس مُهادنة للدين!!
- الرعبُ الإسلامي.. فيديو يوثق اعتراف بالتخطيط للإجرام
- كريم أحمد في المسيرة من تاريخ لمذكرات ناقصة..
- الإسلام المُرعب.. تداعيات الموقف ونتائجه..
- حبيب تقي.. كثافة نصٍ يجمعُ بين جمالية اللغة والسخرية
- الإسلام المرعبُ.. والدعوة للإصلاح السياسي والاجتماعي في كردس ...
- الإسلام المُرعب وهشاشة الأوضاع في كردستان..
- الإسلام المرعب.. ديمقراطية بلا حرية!!
- وقفة تأمل.. تفضي لإعادة بناء.. من اجل تفعيل دور اليسار
- الإسلام المرعب في كردستان!!..
- سوريا .. الشعب الإرهابي وحكومة البعث الوديعة!
- ثالوث عفيفي رواية تحاكي العقل..
- نداء من الباحث نبيل فياض..
- مسار الدم المراق بين أرمينيا والعراق..
- ياسين ذكرى فراق من أجل لقاء في زمن الرعب والموت!..
- مهمة خاصة في زمن الحرب ..


المزيد.....




- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح كنجي - سلام إبراهيم يُبدعُ مِنْ بَاطن الجحيم..!!