أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ميثم الجنابي - الأبعاد الجيوسياسية في الصراع الروسي - الأمريكي حول إيران وسوريا















المزيد.....


الأبعاد الجيوسياسية في الصراع الروسي - الأمريكي حول إيران وسوريا


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 3639 - 2012 / 2 / 15 - 17:06
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


إن احد الأمور الجلية للسياسة الأمريكية في منطقة المشرق العربي وبالأخص منطقة الهلال الخصيب والجزيرة العربية، وإيران وأفغانستان تقوم في محاولة الاستحواذ والسيطرة التامة المباشرة وغير المباشرة عليها وعلى مواردها الطبيعية (ومصادر الطاقة بشكل خاص). وهي المناطق المتاخمة للحدود السوفييتية سابقا، والروسية من حيث الكمون أو الواقع الحالي.
وإذا كان الاتحاد السوفيتي سابقا هو القوة المنافسة والرادعة والمواجهة والمناقضة للولايات المتحدة، فان انهياره في تسعينيات القرن الماضي قد جعل من الولايات المتحدة "الدولة العظمى الوحيدة" و"القطب الواحد" و"مركز القرار العالمي" مع ما استتبعه من أوهام أيديولوجية كبرى مثل "نهاية العالم" غير الأمريكي و"القرن الأمريكي" وغيرها. وتزاوج ذلك مع صعود نفسية الغطرسة والاستفراد والهيمنة والخروج على منطق القيم وقواعد الحدود القانونية التي جرى استغلال أحداث الحادي عشر من أيلول لتمريرها بطريقة "نموذجية". وبما انه نموذج موهوم، أو على الأقل يحتوي بقدر واحد على سوء النية وتجاهل منطق التاريخ، فانه سرعان ما كشف عن خوائه الروحي والمادي.
إلا أن ذلك لا يغير من الحقيقة القائلة، بان نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين تزامنت مع انتهاء مقدمات "الحرب الباردة". بمعنى انتهاء وجود نظم اجتماعية اقتصادية متصارعة وأيديولوجيات متناحرة. لكنها حقيقة لم تتحول إلى بديهية سياسية. والسبب العميق لذلك يقوم في أن انتهاء "التناحر" لا ينفي التنافس في شيء ولا يحول دون إمكانية اتخاذه أشكالا لا تقل عن أشكال الحرب الباردة. فتغير وتبدل النظم السياسية لا ينفي ولا يلغي تباين واختلاف وتعارض المصالح. ومع أفول القطبين تنوعت الاختلافات وازدادت. وهي مرحلة تاريخية معقدة يصعب التنبؤ بحدودها الزمنية، لكنها جزء من صراع كوني جديد. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن هذا التنافس الجديد كان وما يزال في اغلب مكوناته محكوما بنفسية وذهنية "الانتصار والهزيمة"، فانه يولد بالضرورة مشاعر "الأخذ بالثأر". بعبارة أخرى، إن نهاية مقدمات الحرب الباردة لم يصاحبها برودة في حرارة المصالح وهوس الدعاية. ولا يمكن فصل هذه الحالة عما هو متجذر في الرؤية الغربية (الأمريكية – الأطلسية) من أولوية المصالح النفعية الضيقة. مع ما يترتب عليه من ضمور للنزعة الإنسانية. وحالما تكون الرؤية العقلانية محكومة بالمصالح الضيقة، فإنها تؤدي إلى انعدام أو ضعف الحكمة السياسية. ومن تضافر النزعة النفعية الضيقة وضعف الحكمة السياسية تتقد شرارة الرياء المتنوع في التعامل مع ابسط القيم والمفاهيم. وفي هذا يكمن سر "تكرار" الأحداث وتشابهها، بما في ذلك صعود ما يسمى بالحرب الباردة من جديد. انه مؤشر على وجود الزمن وتكراره وليس تراكم التاريخ العقلاني.
فقد أدى "الفوز" في "الحرب الباردة" إلى تصنيع أوهام جديدة، كما كان يمكن رؤيتها في المفاهيم الأيديولوجية مثل "نهاية التاريخ" و"القطب الواحد" و" القرن الأمريكي" التي استتبعها مفهوم "صراع الحضارات". وهي سلسلة متراكمة من حلقات الوهم الأيديولوجي المميز لصعود الإمبراطوريات في ظل فقدان مقدماتها الضرورية. وليس مصادفة أن يظهر مصطلح "اكبر إمبراطورية ديمقراطية" ويجري إطلاقه على الولايات المتحدة الأمريكية. بمعنى عثورنا فيه على مكونات نزوع إمبراطوري وديمقراطي! وهو تناقض لا يمكن حله إلا على حساب احدهما. وقد كان الخيار الأمريكي هو "طريق الإمبراطورية" القديم، أي الهيمنة.
لقد سعت الولايات المتحدة إلى مصادرة التاريخ من خلال جعل تاريخها القصير نهاية التاريخ، ومن نفسها محور وجوده وقطبه الدائر، ومن المستقبل قرنها الخاص. بمعنى اختزالها وجود الأمم وتاريخ الدول والحضارات والثقافات بالشكل الذي يجعلها فيصل الأحكام النهائية والقاطعة. بحيث أعطت لنفسها تحديد الأعداء والأصدقاء بما في ذلك بمعايير الثقافة والحضارة (صدام الحضارات)، مع أن الثقافة والحضارة من حيث مرجعياتها هو المكان والأسلوب الوحيد لتذليل صراع الأمم. وهو مؤشر خفي على خلل الرؤية الأمريكية. وذلك لأنها كانت تفتعل وتصنع مقدمات "حرب باردة" بما في ذلك من خلال دعوى "الانتصار" فيها. وهو تناقض وجد انعكاسه أيضا في مساعيها "تعليم" الشعوب كل شيء بما في ذلك "الإصلاح" و"الديمقراطية" و"الحقوق". وهي نزعة إمبراطورية قديمة محكومة بالفشل. وقد يكون تجريبها في العراق نموذجا حيا وطازج في الذاكرة. فقد أدى احتلال الولايات المتحدة للعراق وإسقاطها للسلطة الدكتاتورية الصدامية (ولم يكن ذلك غرضها الجوهري، بقدر ما كان النتيجة المتراكمة في حلقات السلسلة العملية التي نفذتها الولايات المتحدة منذ "عاصفة الصحراء" والحصار التي حولت العراق إلى منطقة بائدة وخربة. بعبارة أخرى، لقد كانت نتيجة "تحرير" العراق من السلطة الصدامية في الوقت نفسه تدميرا للدولة من حيث الجوهر. أما النتيجة فقد كانت خراب في خراب. وهذه هي ليست المرة الأولى، لكنها الأخيرة. والقضية ليست فقط في انه لا يحل مشاكل الأمم غير الأمم نفسها بوصفه طريق تطورها التلقائي، بل ولان "فرضه بالقوة" هو انتهاك لأبسط الحقائق التاريخية. ومن بين أكثرها بساطة ووضوحا هو أن التاريخ لا يعرف التكرار. ومن ثم لا يمكن استعادة مقدمات القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين في ظروف القرن الحادي والعشرين! والشيء نفسه يمكن قوله عن مقدمات "الحرب الباردة". إذ لا يمكن الادعاء بالانتصار فيها وانتفاء مقدماتها والنظر والعمل بمقاييسها. فالتكرار هنا هو عين الجمود والسقوط. لاسيما وان العالم المعاصر يبحث عن حرارة معتدلة للعيش يتخطى بها حالة "الحرب الباردة". الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بان المشكلة ليست في وجود أو عدم وجود "حرب باردة"، بل في وجود وفاعلية "القانون الحديدي" القائل، بان موت الإمبراطوريات أمر حتمي. وبالتالي، فان المشكلة تقوم في أفول الإمبراطورية (الأمريكية) وليس في تصعيد روسيا للحرب الباردة كما كان يجري الحديث عنه قبل فترة وجيزة، ولا معارضة روسيا للديمقراطية والثورة و"الربيع العربي" كما يقال الآن.
إن غرابة هذا التصور والأحكام هي الوجه الآخر لانقلاب المفاهيم والقيم والرؤية. فعندما تأخذ الكلاب بالتغريد، والبلابل بالعواء، فان ذلك يعني أن تغيرا قد طرأ أما على الطبيعة الإنسانية (الأذن والسماع) أو طبائع الحيوان. فعندما تتحول الولايات المتحدة والغرب الأطلسي ودويلات الخليج شبه العربية (مملكة آل سعود وإمارة قطر) إلى "طليعة" الثورة العربية، فان ذلك يفترض بدوره مراجعة المفاهيم والمعنى والمضمون والغاية. وضمن هذا السياق ليس عواء البلابل الخليجية، وتغريد الكلاب الأطلسية فيما يتعلق بالموقف الروسي من سوريا ( وإيران) سوى الوجه الآخر لطبيعة موقفهم من "الثورة العربية".
غير أن هذه الحالة المثيرة للاندهاش والاستغراب ليست غريبة عن الحقيقة القائلة، بان للإمبراطورية اكتشافاتها الخاصة. وهي لا تميل بالطبع والطبيعة إلى الإقرار بما يعارضها. من هنا قدرتها الفائقة، حتى زمن الهزائم، على ابتداع كل ما يمكنه شحذ الوعي الاجتماعي (والجماهيري بشكل خاص) بأوهام العداوة والعدوان والاستعداء. وقد تكون الصيغة الأيديولوجية والدعائية والسياسية لفكرة "صدام الحضارات"من بين أكثرها بروزا. وفيها تتوازي أو تتعايش فكرة التوجس والتخوف من الإمكانيات الكامنة في القوى الحضارية المناهضة، التي جرى حصرها أساسا في الإسلامية والبوذية (الصينية) والأرثوذوكسية (الروسية). وهو مثلث استطاعت السياسة الأمريكية أن تفكك أضلاعه بصورة ملحوظة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. عندها تحولت روسيا، الوريثة الشرعية "لإمبراطورية الشر" وقطب "الحرب الباردة" إلى كيان أطرافي جرى استغلال نقاط الضعف الشديدة فيه آنذاك بحيث جرى التخلي عن كل المواعيد التي أعطيت له. وفي الوقت الذي كانت روسيا تائهة في مجرى دمارها الاقتصادي، وصراعاتها القومية والعرقية والاجتماعية، وإفساد نخبتها السياسية، وتخريب قيمها الاجتماعية والأخلاقية، فان السياسة الأمريكية كانت تلتهم دول المعسكر الاشتراكي لتدرجه في فلك الحلف الأطلسي. أي تستعيد بقوة مبطنة وسافرة كل نتائج الحرب الباردة لتجعلها أكثر برودة على جسد روسيا الملتهب!
وسواء كان ذلك من مفارقات التاريخ أو مصادفاته أو قوانينه الخفية أن تتزامن ذروة الضعف الروسي مع ذروة الهجوم "الإسلامي" غير العقلاني كما تجسد في الحادي عشر من أيلول، إلا انه كان أيضا "نموذجيا" بطريقته الخاصة. عندها تحول هذا الشبح المارد إلى قوة قادرة على أن تنطح بأجسادها العارية رموز الأبهة الأميركية وشموخها الحضاري والتكنولوجي. آنذاك أصبحت مفاهيم "الخطر الإسلامي" و"الإرهاب الإسلامي" و"العالم الإسلامي" شيئا واحدا يجسد النبوة الكاذبة "للصدام الحضاري" للحضارة الأمريكية مع احد غرمائها المحتملين (العالم الإسلامي)!
أما في الواقع، فان الهجمة الأمريكية الجديدة على العالم الإسلامي والتي تمثلت تقاليد الكولونيالية الأوربية بشقيها الانجلوسكسوني واللاتيني، كانت النتيجة الملازمة لفعل الإمبراطورية الصاعدة المستفردة من جهة، والسياسة العلنية للرؤية الإستراتيجية الخفية للولايات المتحدة للهيمنة والاستحواذ من جهة أخرى. وبالتالي، فان كل حوافز وبواطن السياسة الأمريكية وشعاراتها (أيا كانت) ينبغي فهمها ضمن سياق المصالح القومية.
إذ لم يعن "الخطر" الإسلامي والبوذي والأرثوذوكسي الكامن أمام الولايات المتحدة، سوى العوالم التي كانت تنخر الوعي الكولونيالي على امتداد قرون وتداعب خياله المغرم بالسطو والسيطرة والخداع والسرقة! كما أنها الأضلاع الثلاثة لمثلث العصيان الهائل أمام النزعة الغربية الكولونيالية. وليس مصادفة أن ترمي الولايات المتحدة بكامل ثقلها في العراق وأفغانستان في بداية القرن الحادي والعشرين، كما لو أنها تريد تحقيق فرضية "القرن الأمريكي". غير أن الغزو لم يكن في يوم ما من الأيام تحقيقا لحقيقة أو إرساء لفضيلة. من هنا تحول القرن الزمني إلى قرنين ناطحت بهما الولايات المتحدة العراق وأفغانستان، أي البلدين اللذين كانا آنذاك من بين أكثر بلدان العالم الإسلامي ضعفا وتحللا ونخرا وضعفا.
لقد نفذت الولايات المتحدة الشعار القائل بضرب رأس الجبان لكي يهلع لها قلب الشجاع! لكنها إطاحة بلا مبارزة! وشجعان اليوم ليسوا كشجعان الأمس. مع أن قلب الشجاع لا يصيبه الهلع. كما أن بقايا البطولة القديمة لا تصلح لتقاليد الارتزاق المستشرية في بنية القوات الأمريكية. والدعاية يمكنها إسدال الغشاوة على أعين المشاهدين البسطاء، لكنها لا تصنع ستارا واقيا من زوبعة الوجود الحي كما هو، أي بكل مظاهره الخشنة والقاسية. وقد يكون الخروج المتخفي للقوات الأمريكية من العراق مثالا حيا لهذه الخاتمة السخيفة. والشيء نفسه سيحدث في أفغانستان!
غير أن هذه الهزائم كانت في الوقت نفسه هزائم العالم الإسلامي والعربي بشكل خاص. قد استطاعت الولايات المتحدة المنهمكة بإعادة صنع العالم على هواها أن تدخل دهاليز الغلو الأيديولوجي والعماء السياسي. ومن ثم التحارب على أكثر من جهة وجبهة ومستوى. وهو ديدن الإمبراطورية الذي ينهك قواها الذاتية. فقد كان سقوط الولايات المتحدة في الوحل العراقي والأفغاني ومحاربة طواحين الهواء "الإسلامية"، قد ترك لروسيا (والصين) الفكاك النسبي من تحرشها. وفي الوقت نفسه قد ألهاها عن مهمة التأمل النقدي العميق لتجاربها ومواقفها السياسة تجاه العالم الإسلامي بشكل عام والعربي والإيراني بشكل خاص.
إن العالم الإسلامي هو الفاصل بين الولايات المتحدة والعالم الروسي (الأرثوذوكسي) والصيني (البوذي). وهي عوالم لم تعرف الصراع الحضاري والثقافي فيما بينها. على العكس. لقد كان تاريخها نموذجا للتفاعل والاحترام المتبادل. وذلك لأنه لم تفسد أذواقهم طعوم الكولونيالية الحديثة (والاستعمار الروسي كان جزء من التقاليد الإمبراطورية الآسيوية وليس الكولونيالية الأوربية. وهذه أشياء مختلفة تماما). أما في القرن العشرين (قرن الذروة الكولونيالية) فقد وحّدهم في جبهة الصراع ضدها. من هنا ترسخ وتعمق شعور العداء والكراهية للغرب في البداية لأوربا والآن لأمريكا، بوصفهما تركيبة غربية (غريبة) وحالة كولونيالية. وهو بعد يفعل فعله في المصالح الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية، تماما بالقدر الذي تفعل هذه المصالح المتصارعة على إذكاء قوة "الصدام الحضاري" الذي تحول إلى محرك خفي وراء نزوع وهواجس الرؤية الأيديولوجية الأمريكية. وقد بلغ ذلك ذروته في مرحلة صعود وهيمنة المحافظين الجدد، أي ذروة الصعود الأمريكي واحتلاله للعراق وأفغانستان بوصفهما ميدان تجريب هذه الرؤية. فقد كان "نجاح" هذه السياسة المنفردة والمستفردة التي وقفت آنذاك ضد العالم لوحدها من اجل "إعادة بناءه" على الطريقة الأمريكية، جعل من الدول الأخرى في مخيلتها مجرد قطع دومينو يمكن رميها بسهولة. وأصبح السؤال الوحيد الذي ينبغي أن يقلق الدول ورؤساءها هو "من القادم؟" بينما كان بإمكان الولايات المتحدة أن ترفع إصبعها تجاه أي كان لتقول له: "أنت القادم!". لقد بلغت نشوة الغرور في السياسة الأمريكية حدا بدت لنفسها كما لو أنها ساحر الوجود الأوحد، دون أن تستدرك استكماله البسيط القائل، بان السحر يمكن أن ينقلب على الساحر.
لقد فقدت الولايات المتحدة شعور الواقعية وإدراك الحدود الذاتية. من هنا تهورها وانهماكها ي دفع عجلة "السير إلى أمام" بلا توقف. بمعنى أنها لم تدرك بان المواقف ضرورية في كل شيء. ولكن ما هو الشيء الذي يمكنه أن يوقف الأعمى غير عثرات الطريق؟ وقد أخذت هذه العثرات بالازدياد ليس بسبب كثرتها فحسب، بل وبسبب سرعة الأعمى! فقد أرادت الولايات المتحد أن تقضم كل ما يقف أمام أسنانها: دول البلطيق، وأوربا الشرقية، والعمل من اجل إدخال اوكراينا لحلف الأطلسي، وكذلك جورجيا وأذربيجان ثم أفغانستان والعراق، وذلك دويلات الخليج شبه العربية التي كانت تحت هذه السيطرة والهيمنة منذ عقود. إننا نقف هنا أمام استعجال محموم بإحكام السيطرة على كل الطوق الغربي والجنوبي لروسيا. ولم يبق في الواقع سوى إيران وسوريا. فهما الموقعان والدولتان والنظامان السياسيان الوحيدان اللذان كانا يتمتعان باستقلال تام، ويقعان خارج التأثير الأمريكي، بل ومعاد له.
إننا نقف أمام خارطة جيوسياسية تكشف عن محاولات الولايات المتحدة التحكم بالعالم الإسلامي بوصفه مصدر الخطر الحالي الأكبر من بين العوالم الثلاثة الحضارية الكبرى "المعادية" للحضارة الغربية حسب المفهوم الأمريكي الجديد أي العوالم التي لا تقر ولا تريد الإقرار بالقرن الأمريكي ونهاية العوالم غير المنطوية تحت جناحه المنفوش! فقد كانت إيران تقف على طوال الخط د النهج الأمريكي منذ انتصار الثورة الإسلامية. أما بالنسبة لسوريا فأنها كانت تتراوح بين مواجهة تتسم بقدر كبير من المقاومة القومية وتذبذب سياسي تجاه دول الخليج (الأمريكية) والعراق. إلا انه تذبذب جزئي. من هنا لم يكن احتلال العراق وأفغانستان سوى الأسلوب الضروري لإحكام السيطرة الأمريكية على العالم الإسلامي. فقد كان احتلال أفغانستان والعراق يحتوي على محاولة محاصرة إيران من الشرق والغرب. وهي خطة كانت ترمي إلى إحكام العزل التام لإيران. فقد كانت محاطة من دول محتلة (أفغانستان وتركيا والعراق والخليج). إلا أن هذه الخطة السحرية كان لها مثالبها الجوهرية أيضا. أنها جعلت إيران في قلب المعركة. ومن ثم قدرتها على التأثير في كل هذه الجهات. بمعنى أنها جعلت الولايات المتحدة أيضا تحت مطرقة العوالم الثلاثة "المعادية" - الصين وروسيا وإيران (العالم الإسلامي). بعبارة أخرى أنها أرادت محاصرة هذه العوالم، فأصبحت هي المحاصرة بينها. ولم يكن ذلك حدسا بقدر ما انه كان هدفا مدركا من قبل الجميع. ولعل حلقات التقارب الروسي والصيني والهندي واسيا الوسطى (مجموعة شنغهاي) واجتذاب القوى الكبرى للقارات الكبرى (أمريكا اللاتينية - البرازيل) و(أفريقيا - جمهورية جنوب أفريقيا) وتشكيل (مجموعة بريكس) هي الحلقات الأولى لهذه العلمية المعقدة. وليست هذه بدورها سوى صيغة جديدة وأولية لمواجهة هيمنة "القطب الواحد" الذي تعرض لضربة أولية قوية في مجرى الحرب الابخازية – الجورجية. فقد وجهت روسيا ضربة أولية قوية لمحاولات تطويقها الجيوسياسي والعسكري. كما أن دعمها المتواصل للمشروع النووي السلمي الإيراني يهدف من الناحية الموضوعية إلى صنع توازن خفي من طراز خاص.
فالتجربة السياسية على مدار عقدين من الزمن (من 1991 حتى الآن) كشفت عن طبيعة وشكيمة الإرادة السياسية القومية والإسلامية للدولة الإيرانية. كما كشفت عن أن التحالف التقليدي الراسخ بينها وبين سوريا هو تحالف "دول الشر" المواجهة للشرير الأمريكي! بعبارة أخرى، إن كل ذلك كشف عن ثلاثة حقائق كبرى وهي: أن إيران وسوريا دولتان متحالفتان، وان حلفهما حلف مجرب، وأنهما يمثلان القوة التي كانت تخزن رغم كل المآخذ على طبيعة واختلاف نظمهما السياسية، وحدة المكونات الإسلامية (الثقافية) والقومية (العربية والفارسية الإيرانية).
وقد كانت حصيلة هذه المواجهة الانتصار النسبي لإيران وسوريا. أما خروج قوات الاحتلال الأمريكي من العراق، فقد أضاف قوة كامنة لتشكيل المحور العربي (العراقي السوري) الإيراني، أي القوة التي تفعل على المدى البعيد ضمن سياق نمو وتراكم البؤر الجديدة المعادية للهيمنة الأمريكية (المحور العربي الإيراني + محور مجموعة شنغهاي + بريكس، إضافة إلى الاحتمال الكامنة لتشكيلات مستقبلية جديدة). وهي عملية جيوسياسية واقتصادية وثقافية وأمنية بقدر واحد. أما الثورات العربية الجديدة فقد أضافت بعدا اجتماعيا قوميا عارما في هذا الاتجاه رغم كل الطابع الدرامي والمتناقض لها في مراحلها الأولية. أما الحصيلة فأنها تشير إلى أن السياسة الأمريكية تجاه العالم (وفي الحالة المعنية تجاه روسيا والعالم العربي والإسلامي) بعد ثلاثة عقود من الزمن وإحكام سيطرتها النسبية، قد بدأت بالتآكل. فقد حرجت إيران أقوى من السابق. وهنا بدأت تبرز قيمتها الجيوسياسية في معركة المصالح الكبرى والمحاور الآخذة في البروز والتنافس. أما العالم العربي، فان براكينه الداخلية لا يمكن التحكم بها. من هنا محاولات السطو لرمي ما يمكن رميه في فوهتها من اجل إطفائه أو جعل حرائقه مثيرة للخوف والقرف! وليست المحاولات الأمريكية والخليجية (والتنافس السعودي والقطري) للظهور بهيئة القوى "الطليعية" للثورة سوى احد مهازل التاريخية الكبرى الحديث والقديم على السواء. ومن ثم ليس الدفاع عن ا"الثورة السورية" سوى الأسلوب المناسب لحرف مسار الفيضان البركاني صوب المدن العربية لا صوب الربع الخالي من معنى الحرية والقومية والحق والشرعية!
وبالمقابل نرى التقاطع الروسي الأمريكي يبلغ درجته القصوى التي تجعل فيما يبدو من الصعب الرجوع إلى الطريقة "السلمية" السابقة، وبالأخص بعد بروز ووضوح أطر السياسة الإستراتيجية الأمريكية لتطويق روسيا بمنظومة الصواريخ الجديدة. وبما أنها من حيث الدعاية موجهة ضد إيران، من هنا أصبحت روسيا = إيران، وإيران = روسيا. والشيء نفسه يمكن قوله عن العلاقة الروسية - السورية.
***



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفيتو الروسي والقضية السورية
- رد على مقال الطيب تيزيني (دبلوماسية في خدمة الجريمة)
- الوحدة والتنوع في الظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطى
- -الإسلام السياسي- المعاصر في آسيا الوسطى
- إشكالية ومفارقة الظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطى
- الظاهرة الإسلامية المعاصرة في آسيا الوسطى
- هادي العلوي - شيوعية القيم
- هادي العلوي أديب الفكر الحر
- هادي العلوي ومنهج النقد المتمرد!
- هادي العلوي - شخصية إشكالية
- هادي العلوي –بقايا أبدية!
- الظاهرة الإسلامية في روسيا (6-6)
- الظاهرة الإسلامية في روسيا (5-6)
- الظاهرة الإسلامية في روسيا (4-6)
- الظاهرة الإسلامية في روسيا (3-6)
- الظاهرة الإسلامية في روسيا (2-6)
- الظاهرة الإسلامية في روسيا (1-6)
- الهاشمي أم الهامشي ومعضلة النخبة السياسية في العراق المعاصر
- (وصية) بليخانوف الأخيرة، أم آخر اختراعات -التكنولوجيا القذرة ...
- الفكرة الإصلاحية في (رسالة التوحيد) للشيخ محمد عبده


المزيد.....




- -الطلاب على استعداد لوضع حياتهم المهنية على المحكّ من أجل ف ...
- امتداد الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جدي ...
- توجيه الاتهام إلى خمسة مراهقين في أستراليا إثر عمليات لمكافح ...
- علييف: لن نزود كييف بالسلاح رغم مناشداتها
- بعد 48 ساعة من الحر الشديد.. الأرصاد المصرية تكشف تطورات مهم ...
- مشكلة فنية تؤدي إلى إغلاق المجال الجوي لجنوب النرويج وتأخير ...
- رئيس الأركان البريطاني: الضربات الروسية للأهداف البعيدة في أ ...
- تركيا.. أحكام بالسجن المطوّل على المدانين بالتسبب بحادث قطار ...
- عواصف رملية تضرب عدة مناطق في روسيا (فيديو)
- لوكاشينكو يحذر أوكرانيا من زوالها كدولة إن لم تقدم على التفا ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ميثم الجنابي - الأبعاد الجيوسياسية في الصراع الروسي - الأمريكي حول إيران وسوريا