أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - جواد بولس - خضر والتنين














المزيد.....

خضر والتنين


جواد بولس

الحوار المتمدن-العدد: 3626 - 2012 / 2 / 2 - 21:10
المحور: القضية الفلسطينية
    



مستلقيًا على كنبتي، مساءً، أحاول أن ألتقط بعض شوارد من ذاكرةِ يوم شلّها إعياء وعطّلها غضب.
السماء هنا، في القدس، ما زالت تبكي، دموعها لم تتوقف منذ زمن. والريح تصفر، تتراقص كابنة الأرض وكصاحبة المدى المدلَّلة.
رحلتي بدأت مع قرع جرس ساعة الخبز ولفتة من حارسة الوعد، فما شق نافذتي شعاع ولا هَمَس دوريٌّ على شبّاكي. تحيطني عتمة مغرية تشبه تلك التي نمتُ على خدّها. في الغرفة بقايا نوم ينسحب بوجع ودفء يوشّحه قلق أحلامنا المبعثرة.
كأنّه الصباح. بفائض تكاسل أنهي طقوسه وأودع حصني إلى حيث ميدان الخديعة وغرف الوهم والتخدير، إلى حيث منذ ثلاثة قرون أعيش القهر وأشهد على كيف ما زال "يوشع" يدكُّ أسوارَ المدائن، وبأمر الرب، يمحو كل أمل حي، فلا يبق لا زرعًا ولا ضرعًا ولا حتى للأحلام مخادع.
أتدثَّر بطبقات صوفية، فالبرد أقسى من زنزانة، والمطر ينهمر دموعًا أو بركة لن تجد حقلها، فهذا صار مستوطنة لثعالب الهضاب أو سجنًا ومحكمة عسكرية، هي وجهتي اليوم كما كانت وستبقى، يا لحسرتي، حتى بعدما سيرتاح المحارب.
تتغيّر مواقعها ولا يتغيّر وقعها. في كل مرة أدخلها يملأ الملح تجاويف فمي. في الهواء تزكمني رائحة الغطرسة وتضج أصوات غريبة عصيّة على الاستعذاب وكذلك على الاستساغة، لا تشبه صوتًا نألفه وتشكّل مزيجًا لا يذكّرك بصوت الملائكة ولا بالنباح.
أهرول. ألمطر يتلبسني، يغسل بقايا نعاس وشهوة الجسد للضياع. أصل كامل البلل جاهزًا للطام موج ومد يدٍ لغريق .
أدخل القاعة رقم (٦). قاعة صغيرة كبيت عقرب، بسيطة كبسمة أرملة، لكنّها تفي بما أعِدّت له ومن أجله، فهي الهياكل شيّدت كبيرة لتليق بمقام الرب، وعالية لتكون منصات أقرب للغيم وللسماء، أمّا المذابح جرّدت من أبّهة وبريق، فهي الحواصل تجمّع زفرات العذارى، والمحاقين تلتقط دموع نواطير الكرم، فرسان الوطن، أصحاب المنارة.
في المدخل كرسي متحرك أخلاه صاحبه. بجانبه سجّان من فرقة "نحشون" أعتقد أنه في عقده الثالث، حافظ على بسمة راوحت بين البَلَهِ والشماتة والإعجاب، جسمه كمصارع مصنّع ومعلّب، جاهز للانقضاض. في الصدر تجلس النائبة العسكريّة. وجهها من تلك الوجوه التي تنسى معالمها ما أن تدير رأسك عنها. لا تبتسم، لا تضحك، لا تعبس ولا تحنق، وجه معد للنسيان. لا أذكر إن كان جميلًا أو عاديًا فهناك لا طعم للجمال ولا رائحة للعاديّ. على يميني، في المكان المعد للمتهمين الفلسطينيين، يجلس "الخضر" بلباس يعلنه أسيرًا ومناضل حرية. لحيته طويلة ناعمة بلون "عين النمر"، صفرة مقلقة تعلو على ما بقي ظاهرًا من وجهه وجبينه. حيّا ببسمة متعَبة، لكنّها تفيض رقة وصدقًا. بصوت خفيض، يشع وضوحًا وإصرارًا وعزّة، حدَّثنا عن كيف تقهر كبرياءُ الحر غطرسةَ محتلٍ وكيف لقصة كفاح حية أن تهزم أساطير البرق والرعد من أيام يوشع إلى أيام يوشع.
أسمعه وزملائي المحامين، طاقم الدفاع. في وسط الدهشة، يعلن حاجب المحكمة عن دخول القاضية. تحيينا بصوت ألفناه من طول ممارسة. تطلب القاضية من موكّلنا أن يعرّف نفسه. خضر عدنان.. يقولها بصوت صارم وهو جالس لأنه لا يقوى على الوقوف. بجانبه زجاجة ماء يشرب منها على مهل، فالماء زاده ودواؤه، منذ أعلن إضرابه عن الطعام قبل خمسة وأربعين يومًا. اعتقله الاحتلال من بيته في عرابة جنين. حوّلوه للتحقيق لدى جهاز المخابرات العام كناشط في تنظيم الجهاد الإسلامي. بعد ساعات وخلال استجوابه بدأ المحققون يهينونه. بدأوا يتعمّدون استفزازه بالكلام النابي والمس بحرمات أعزّائه والغالين على قلبه. بوقفة حر، عزيز نفس محب لأم وزوجة وأبناء، أعلن لمحققيه أنّه لن يتعاطى مع أسئلتهم. توقف عن الكلام وأعلن إضرابًا مفتوحًا عن الطعام.
"إنّها كرامتي وعزتي، يا أستاذ، من أجلها أضربت. فليعرف العالم ذلك. لا لم أضرب من أجل الإفراج عنّي، فاعتقالهم باطل. لجأوا إلى اعتقالي إداريًا بعد إفلاسهم. فلا تهمة ضدي ولا بيّنات، ولكن ما طعم الحرية بدون كرامة وبدون عزّة؟". هكذا بصوت منهك أسمع "الخضر" قصّته منذ لحظات الاعتقال الأولى وحتى إحضاره إلى قاعة المحكمة. "يحاولون إذلالي. يحاولون إهانتي يريدون النيل من إنسانيتي وكرامتي ولكن لتعلمي وليعلم العالم، لن أركع ولن أقبل، أنا أحب الحياة وسأعيشها حرًا كريمًا وإلّا فلا أهلًا بالحياة".
القصة "خضر" وليست المحكمة. ألم يكن "الخضر" دائمًا الحكاية والعبرة، من يوم قضى على التنين وناصر الفقراء والبسطاء وأصحاب الحق، كان "الخضر" هو الحكاية وهو العبرة، وها هو يبقى. إنّي رأيته هناك يربكهم بإصراره الإنساني. يحرجهم بصموده. سمعته هناك، يدلي بشهادة تبكيني وتكاد تذهب بعقلي، فيصحيني صوته ويعيدني إلى العبرة والى عزيمتي. أتفرّس في وجوههم وأكاد ألقِّطُ بأطراف أصابعي هزيمتَهم تتهادى من حواف رموشهم وأرنبات أنوفهم.
في برد مقيت يتميّز به الاحتلال، وجو مفعم برائحة هزيمة ونصر، استمرت الجلسة ساعات طويلة، بعدها أعلنت القاضية عن رفع الجلسة كي تعاين ملف "الخضر" السري، (فالظلمة غطاء الظالم) بعدها ستعطي قرارها. من سينتظر قرارها .... ألم يعلمنا الراوي أن النصر لخضر. انسلت من مقعدها وغابت.
أعيد خضر إلى كرسي المقاومة، نظر إلينا فتواعدنا أن نلتقي عند منحنى الحرية. "إن عاش"، تمتم بعينيه ذاك السجان حينما حدّق بوجهي، فذكّرني أنّ من ولد من رحم دبابة لا يُجدي معه إنعاش ذاكرة... فالخضر هناك، راكبًا على نجمة الصبح، ورمحه، هكذا روى الراوي، سكن في حلق التنين.

[email protected]



#جواد_بولس (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نمورٌ وقطط
- لمن نكتب؟
- كلنا في العزاء سواء
- استكشاف
- ميلادٌ في كابول
- طريق نحلتين إلى السماء
- آية للرجال
- نسمةٌ أقل
- مزمور للنقب
- بسمة وعبسة
- -هيدرا- على الأبواب
- حديث غرناطة
- من نامَ لم يدرِ طالَ الليلُ أم قَصُر
- هنا أولا
- القابض على الماء...
- أتتكَ بحائنٍ رجلاهُ
- طوبى...
- رسالة وجواب
- كم أخشى هذا الأمل
- فجر أم عاصفة؟


المزيد.....




- لماذا أصبحت العلامات التجارية الفاخرة أغلى من أي وقت مضى؟
- مضيق هرمز.. هل يهدد التوتر الإقليمي إمدادات الطاقة العالمية؟ ...
- سفير إيران بفرنسا لفرانس24: -الضربات الأمريكية استهداف للكرا ...
- إسرائيل تكشف سبب قصفها طرق الوصول إلى منشأة فوردو الإيرانية ...
- رأي.. إردام أوزان يكتب: الشرق الأوسط في عصر الصراع المفتوح.. ...
- كيف تعيد إيران وإسرائيل النظر في استراتيجيتهما بعد الضربات ا ...
- مسؤول أردني: سقوط طائرة مسيرة في عمان ووقوع أضرار مادية
- القواعد الأمريكية في الخليج: ماذا نعرف عنها؟
- دعم ألماني مطلق.. ما موقف الاتحاد الأوروبي من الحرب الإسرائي ...
- السباق نحو التسلح: ما مدى تأثير التوترات في الشرق الأوسط على ...


المزيد.....

- 1918-1948واقع الاسرى والمعتقلين الفلسطينيين خلال فترة الانت ... / كمال احمد هماش
- في ذكرى الرحيل.. بأقلام من الجبهة الديمقراطية / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- الأونروا.. والصراع المستدام لإسقاط شرعيتها / محمود خلف
- الأونروا.. والصراع المستدام لإسقاط شرعيتها / فتحي الكليب
- سيناريوهات إعادة إعمار قطاع غزة بعد العدوان -دراسة استشرافية ... / سمير أبو مدللة
- تلخيص كتاب : دولة لليهود - تأليف : تيودور هرتزل / غازي الصوراني
- حرب إسرائيل على وكالة الغوث.. حرب على الحقوق الوطنية / فتحي كليب و محمود خلف
- اعمار قطاع غزة بعد 465 يوم من التدمير الصهيوني / غازي الصوراني
- دراسة تاريخية لكافة التطورات الفكرية والسياسية للجبهة منذ تأ ... / غازي الصوراني
- الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024 / فهد سليمانفهد سليمان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - جواد بولس - خضر والتنين