أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أبو الحسن سلام - - أيقونة العشوائي - ومعمار البنية السردية















المزيد.....



- أيقونة العشوائي - ومعمار البنية السردية


أبو الحسن سلام

الحوار المتمدن-العدد: 3592 - 2011 / 12 / 30 - 11:09
المحور: الادب والفن
    


" أيقونة العشوائي" ومعمار# نوستالجيا الإنسان بين الفعل ورد الفعل : البنية السردية
- دراسة نقدية للمجموعة القصصية للقاصّة سعدية عبد الحليم-
هذه هي الدراسة النقدية الثانية التي قدمت بها المجموعة القصصية الثانية للأديبة السكندرية سعدية عبد الحليم ، وهية حالة من الخروج عن إطار التخصص المسرحي الدقيق إلى مجال النقد القصصي والروائي ، واعترف أنها لم تكن حالة الخروج الأولي لي ، في مجال نقد الرواية ، فلقد كتبت دراساتين نقديتين سابقتين غير منشورتين لأعمال روائية وقصصية ؛ وهذا الخروج فيما أرى يشكل لونا من ألوان الحنين للنقد الأدبي ، من ناحية باعتباري كاتبا مسرحيا قبل أن أكون مخرجا مسرحيا وأستاذا لمناهج الإخراج لطلاب الدراسات العليا بقسم المسرح بجامعة الإسكندرية .. ومن ناحية ثانية لاعتقادي بأن هذه المجموعة القصصية التي تحتوي على ما يزيد على عشر قصص ، كسابقتها في المجموعة القصصية الأولى للقاصة نفسها المنشورة والصادرة عن دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر تحت عنوان : ( وشم الهناجر ) لونا من ألوان حنين الطبقة المهمشة في مصر إلى العدالة والإحساس بآدميتهم. هكذا أحسست وأنا أقرأ القصة الأولى في هذه المجموعة بأن
الحنين إلى الذكريات الأسرية الحميمة لا يزال فاعلا في هذه المجموعة القصصية أيضا ؛ حيث يشكل الحنين إلى مواقف وصور الموطن الأول العاطفة الحاكمة في فعل الشخصية في هذه القصة ؛ سواء أكانت شخصية المتحدث في الهاتف العمومي أو المتابع لحركة شفتيه مؤولا ما لم يصل مطلقا إلى سمعه من مجمل كلمات ذلك الذي سلم فمه وإحدى أذنيه لسماعة الهاتف العمومي أم كانت شخصية المتابع بالعين عن بعد ما خمن من مجمل الكلام. على أن براعة القص هنا لا تكمن في فعل المتحدث عبر الهاتف العمومي ؛ ولا في طريقة تعبيره المستفزة من محادثه المجهول – للمتلقي- على الطرف الآخر – المعلوم/ البديل الافتراضي - للمتابع لطريقة حديث القابض على سماعة الهاتف العمومي يفرغ في جوفها جام غضبه دون أن أن تتذمر ؛ بل تظل وديعة ؛ طيّعة ؛ أمينة في نقل كل حرف وكل نبر وكل آهة بإيقاعاتها بحيدة تامة لم تخلق لبشر. براعة القص هنا تتبدى في مراوغة القاصة نفسها ؛ إذ تعوض المتلقي عن غياب رد فعل من هو على الطرف الآخر من عملية الاتصال الهاتفي بما يصدر عن شخصية المتابع لطريقة تعبيرات صاحب المكالمة الهاتفية الخاصة والذاتية ؛ بتحويلها إلى مكالمة عامة – على الأقل بالنسبة للمتابع لها – والمتلقي هنا ليس نحن فحسب ؛ بل المتابع لما يشاهد بمرأى العين عن بعد تعبيرات شخصية السائق الذي أوقف السيارة فجأة بالقرب من صندوق الهاتف العمومي وحملّ أسلاكه عناء الاهتزاز بنقل غليظ نبراته الصارخة . كما تتجلى براعة فن المراوغة القصصية في رسم بديل لرد الفعل الغائب للمستمع المتابع على الطرف المقابل لعملية الاتصال ؛ حيث حملّها للمتابع الحاضر ؛ المتابع لتعبيرات السائق الغاضبة على غائب مجهول في نهاية طرف أسلاك هاتف بعيد ؛ فنرى نحن رد الفعل على هيئة نوستالجيا البعاد أو التحنان إلى الأوطان ؛ إلى ما كان من فعل شبه يومي أو شبه أسبوعي صدر عنه ؛ حيث يتخيل على شاشة ذهنه نفسه وهو يهاتف ابنه أو بعض أهله عن بعد ؛ ليسمع منهم ذلك الذي يسمعه السائق الذي يعتصر بقبضة يده على سماعة الهاتف ؛ كما لو كانت ممسكا بخناق من يحادثه عن بعد. وهنا نرى نحن تعبيرات الآخر الغائب في حضور رد الفعل الافتراضي المتصور ؛ من خلال إعادة إنتاج ذلك المتابع الحضر لصورة رد فعل المتابع الغائب – الطرف الثاني في عملية الاتصال – وهنا يمكننا ملاحظة أن عملية الاتصال الهاتفي لم تقتصر على طرفين عبر أسلاك الهواتف – أحدهما حاضر والآخر غائب - بل هم أطراف أربعة : المتصل على الهاتف – كل متصل - ومتابعه الغائب –كل متابع للاتصال - ومتابعه الحاضر من وراء الزجاج وسماعة الهاتف !! طرف حامل لفعل الكلام وطرف يعيد إنتاج دلالته عن بعد ؛ بتأويل حركة شفتي حامل فعل الكلام – وكلاهما حاضران فعلا أصليا ؛ وفي المقابل رد فعل افتراضي لمحاكاة بديلة لرد فعل متابع غائب – أما الطرفان الآخران فأحدهما حامل محايد لموضوع الاتصال ( السماعة) والآخر المتابع للمكالمة على الطرف الآخر – وكلاهما غائب فعله ؛ محذوف أو هو مقدّر-
وتلك لعمري براعة فنون المراوغة في الكتابة القصصية ؛ حيث التوحد المتابع بالحضور والترجمة التأويلية الافتراضية لما يتابعه مع المتحدث على الهاتف ؛ الذي لا تجزم الصورة القصصية بأنه شخص واحد ؛ وإنما تعطي إيحاء قويا بأنهم كثير وهم متوحدو الفعل بإزاء الطرف الآخر الغائب المجهول على هاتف آخر مجهول الموقع وهم أيضا متوحدون مع الهواتف البعيدة على الرغم من اختلاف شخوصهم – على اعتبار أن الهاتف هو وسيلة تواصلهم في محاولات متكررة للتوحد عن بعد مع الأهل والأحباب - ففعلهم المتوحد الحاضر؛ دون أن يعرف أحد منهم الآخر باعثه نوستالجيا البعاد ؛ وهو فعل يعيد بعث حالة التحنان عبر تصور المتابع من وراء الحاجز الزجاجي الشفاف ؛ فيعبر عن توحده معهم حيث يتناظر وجع البعاد عند الجميع في حالة الغربة وحالات الاغتراب مهما تختلف ملابساتها وتجلياتها .

# من الضحك ما قتل:
هل قتلته صدفه أم قتل بالصدفة ؟
تذكرني هذه القصة بقصة لبديع القص العالمي " تشيخوف " ترجمتها العربية : ( من العطس ما قتل ) مع أن الضحكة القاتلة لبطل قصة "صدفة " هو ضحك استعلاء على أرباب نعمة البطل المهمش المتطفل على موائد أبناء شريحة من الطبقة الجديدة طبقة الوسطاء وتجار الشنطة المتعاملين في كل شيء وهي الشريحة الطفيلية التي ترعرعت وأزدهر نشاطها المشبوه على إثر ما عرف بالانفتاح الاقتصادي - الاستهلاكي في الواقع بعد حرب أكتوبر 1973 – تلك الشريحة التي احتضنها نظام السادات في مصر . البطل يجد نفسه ولأول مرة في حاجة ماسة لأن يظهر تفوقه على سادته الذين أرتضى وهو صاغر مكره ؛ بسبب غياب العدالة في بلده – وإن كان يظهر لهم السعادة والامتنان لتنازلهم أن قبلوه خادما لنزواتهم ، ومضحكا في سهراتهم ؛ لأول مرة يحس برغبته في إلحاق الهزيمة بهم ؛ برفض طلب لهم ؛ يتمنع ويصر على رفض الطلب ؛ لأول مرة يظهر كينونته بوصفه إنسانا ؛ إنسانا أكثر رقيا وتحضرا من أولئك الذين صنع منهم نظام ما بعد انتصار 73 لأن المسألة تتعلق بكرامته !! هو معدم .. نعم ؛ مهمش نعم !! يعيش من أجل سد رمق أسرته المعدمة هذا حق !! لكن على الرغم من ذلك كله ؛ يثور من أجل كرامته ، من أجل صون شرف فقيرة معدمة أحبها ، ورفض أن يجعل من حكاية حبه لها مهزلة أو قصة مبتذلة يتسلى بها سادته شريحة الطفيلية لطبقة التجار السماسرة الذين يطلقون على أنفسهم رجال الأعمال – وهم مجرد سماسرة ، مجرد وسطاء بين مصانع وشركات أجنبية والمستهلك المصري – بعد أن باع نظام مبارك مصانع الشعب المصري ومؤسساته وجرف أراضي مصر وزراعاتها ولم يترك شيئا قابلا للبيع إلاّ وباعه بأرخص الأثمان للأجانب في شراكة مشبوهة مع لأصحاب رؤوس أموال أوروبية وأمريكية – غالبا ما كانوا صهاينة
رفض بطلنا إذن تلويث سمعة محبوبته الفقيرة ( صدفه) على ألسنة حثالة أصحاب رؤوس المال سماسرة بيع الوطن - أرضا وعرضا- وبذلك ينتصر ولأول مرة على رموز الشريحة الطفيلية للطبقة الرأسمالية الجديدة الرثة ، أنتصر بالاستعلاء عليهم ضحكا ، هو استعلاء تلقائي ؛ لم يكن استعلاؤه ضحكا ؛ تبعا لنظرية الفيلسوف الفرنسي ( هنري برجسون ) الذي رأى أن الضحك باعثه الرغبة في الاستعلاء على الآخر ؛ للإحساس بتدنيه أو لإدراك دناءته ، هو استعلاء يسد فجوة الشعور بالنقص ؛ وبأن من نواجهه هو أعلى قدرا منّا ، وما كان ضحكنا بإزاء تلك الحالة سوى رفض لذلك الإحساس أو الشعور بالانتقاص ، أو بأننا أقل شأنا ممن نواجهه أو يواجهنا .. هكذا كان الوضع بالنسبة لبطل قصتنا (صابر أو سالم ) أيا ما كان اسمه لذلك انفجر في وجوه من تعامل معهم بوصفه خادما لهم متحملا إهاناتهم وسخريتهم وتعاليهم حتى في حالات ترديهم في تعاطي المخدرات والتطوح في الأركان مخمورين ؛ لم يكن يضحك محاكاة لضحكاتهم الماجنة الخبيثة بقصد الهزء به بالقطع ؛ إنما كان ضحكه على ما كان من إنصياعه لهم مستمرئين إذلاله ممعنين في إشعاره بتدني طبقته ؛ التي هم منها في الأصل قبل الانفتاح الساداتي الاستهلاكي
كانت ضحكته ضحكة استعلاء عليهم وعلى ماضيه معهم ، وما أبهظ الثمن الذي دفعه في مقابل ضحكة الاستعلاء تلك .. لقد مات حقا بسبب ضحكة الاستعلاء تلك ؛ لكن ضحكة استعلائه تلك على تدني ماضيه في خدمة شريحة من حثالة الرأسماليين الكومبرادور ( الوسطاء) هي فعل استعلاء للطبقات المصرية الكادحة التي عاشت مهمشة بعد أن حاربت واستشهدت من رجالها الآلاف من الأبطال حتى تحقق نصر أكتوبر ؛ ولم يجني هم أو أبناءهم وربما أحفادهم أيضا ثمرة النصر ؛ التي أسقطها نظام السادات في سلة حفنة من السماسرة واللصوص الذين تغولوا بعد ذلك بدعم زعيمهم المخلوع بفضل ثورة شباب 25 يناير ومن خلفهم شعب مصر الذي خرج ضد نظام المخلوع عن بكرة أبيه فأقتلعه وألقى به داخل قفص الاتهام مذموما مدحورا .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أحوال إنسانية
تيت ...تيت ...تووووت....صوت إغلاق الخط يصدر من السماعة المعلقة للهاتف العمومي المعلق المحبوس في صندوق مرفوع على حامل عند مفترق الطرق ، الهاتف يحمل كل هموم الدنيا، تلقى في جرابه شكاوى الناس، ترى هل يئن أو يحتج أو يبكي؟ لا أحد يدري ، منذ دقائق توقف سائق الحافلة الفقير ونزل أمام الصندوق حاملاً الهاتف ، دفع ببطاقة كرتونية إلى فتحة إلكترونية ورفع السماعة ناظراً إلى شاشة توضح عدات الدقائق والثواني وجزء من الثانية، تحدث لغته المحلية ، علا صوته ، مكرراً لفظاً ، لوح بيده مرات وكأنّ أحدهم يراه من الطرف الآخر ، على القرب كان هناك متابع خلف زجاج النافذة ، ممسكاً بفنجان شاي العصر، بدا المتابع شارداً حاملاً هموماً خاصة، يغلفها فنجان الشاي بشجن اللحظة ، علا صوت المتحدث على السماعة، قطع شرود الواقف خلف الزجاج، انتبه وتفاعل حتى صار جزءاً من المشهد، تدافع الكلام من فم المتحدث دون أن يعلم متابعه معنى قوله، لكن بالحاسة هو ينفي مرة ويثبت مرة ويعود ليكرر اللفظ أكثر من مرة وفجأة إحتدّ وتذمّر ورمى بسماعة الهاتف، ثم ركب حافلته ومضى ، توووووووووووووت مر طفل يعبث ، رأى السماعة تتعلق بسلك لولبي ،جذبها شغله صوت الخط المشغول وضع السماعة ثم رفعها، كررفعلته ، لم يوقفه سوى صوت خشن يعنّف ، أنطلق الطفل راكباً دراجته بمحاذاة الرصيف ،بينما توقف صاحب الصوت الخشن ،وضع بطاقة إلكترونية ،طلب رقماً ، انتظر لحظات بدا متكدر المزاج ومكتئبا ، انتبه على إجابة الطلب رد :
- ألو ، نعم ، لا ، نعم ، لا س

تحدث بالإيجاب والنفي وكأنه يقوم بحل أسئلة مسابقة تحتاج إجابة مقتضبة نعم أم لا، لكنه فجأة مالبث أن علا صوته غاضبا ،سب ولعن، هذه المرة الحديث مفهوم للمتابع، وربما يستطيع أن يخمن أقوال الطرف الآخر في الناحية البعيدة الأخرى ، فاضت كلماته بالغضب تارة ،وبالأسى تارة أخرى ، وعلى الجهة الأخرى فإن المتابع للحديث لابد أن يفهم، أن المال طرف في الموضوع ، رحلت ذاكرة المتابع بعيدا حيث الوطن ، وحيث الحاجة وبدائلها ، البقاء والرحيل ، لا تزال عينا المتابع تلتصق بالنافذة، لكن المشاهد تتوالى من فتحة عدسة أخرى، تحمل أحداثاً أخرى، رآها أكثر من مرة ، ضغوط العمل وفقدان الأمل وإحساس الدونية، وطول انتظار للفرج، قلق وصبر ثم قلق ، الذات تتضائل ، وتعود لتئن ، لا مكان لموضع قدم ، احتل التذمر محل الرومانسية والحب، بات وجه الحبيب كرب يذكر بالفشل ، مشاهد تتكرر ملل ثم ملل، يتغير المشهد، طرقة سندان تفصل ماكان وما سيكون ، ورحلة إلى مجهول بات معلوماً، وتتبدل الوقائع بوقائع أخرى، تحلو في بدايتها كونها جديدة ، التحويلات، النفقات ، العمل ، الأحاديث عن بعد، الشوق ، الرغبة في التباهي بالذات ، أسواق المشتريات ، تمضي السنوات ، يجتاح الملل كل الأشياء وتموت الرغبات ، وتكبر الاحتياجات حين تتضاءل أمامها القدرات ، تتكشف وجوه الأشياء الكدرة ، كفيل ، تصريح خروج ، معاش لا يكفي ، غربة لا تنتهي ، حسابات الوقت والمال والعمر ، غاب المتابع عن وعي الخارج ، انتبه على رسالة بالهاتف المحمول أكملت المشهد
- يا أبي كل الطلاب يتعاطون دروساً خاصة تحتاج مبالغ كبيرة.

تبعتها رسالة أخرى :
- أشتاقك جداً ،الأيام طويلة والليالي باردة... الأولاد ينهكون الميزانية بالدروس الخصوصية نحتاج مزيداً من المال .

ألقى الهاتف بعيداً حتى اصطدم بزجاج النافذة فكسره ، ارتفع الصوت القادم من أمام الهاتف العمومي ،صار شجاراً ، المتابع لا يدري هل كان نفس الرجل أم تغير وجاء رجل آخر أثناء إنشغاله بالرسائل ، لم يعد للمتابع عقل يعي ،بينما ترتفع وتيرة التشاحن على خط الهاتف العمومي ، ثم أغلق الخط ،سقط الرجل أمام الهاتف غائباً عن الوعي ،تاركاً السماعة تتأرجح ، عاد الطفل بدرّاجته بعد أن ابتاع حاجيات من دكان قريب ، وجد الرجل ملقى رفع السماعة وضعها ثم أعاد فتحها، طلب أرقاما ،لا يعلم لمن تحدث، أبلغ عن هذا الرجل الغائب عن الوعي ، ثم سار بمحاذاة الرصيف عائداً يحمل أشياءه وهو لا يدري عن المتابع القابع خلف جدران البيت .

ــــــــــــــــــــــــــــــ
صدفة
مات من الضحك ... حقاً هذا ما حدث، وصلت الأخبار إلى أهله وجاءت تبعات الحدث.
- مات من الضحك ؟؟؟ يا خبر !!!
البعض حاسدون طرافة الخاتمة ، والبعض مندهشون ، كيف وجد سبيله إلى ضحكة تأخذه حتى النهاية ، الضحك عزيز نادر وتلك أيام سود ، الضحك فيها شر بلية ، لكن المؤكد أن أهله حزانى حائرون ، لاعنون تلك الضحكات التي لم تجد إليهم سبيلاً إلا كي تفقدهم السند الهزيل .
مات طاوياً تحت جوانحه سر موتته النادرة ، العبد الفقير صابر الذي يجوب الشوارع والميادين ممتهناً أعمالاً شتى ، يجمع منها قوت يومه وقوت أمه ،وبعض الأخوة الذين نخرت مؤخراتهم مسامير مقاعد الدراسة في مدارس الأحياء الفقيرة ، صابر الجوكه هكذا يسميه أهل الحي ، وهي تحول لكلمة جوكر على لسان العامة من أهالي حيه الفقير، وقد لا يدرك الكثير منهم معنى كلمة جوكر، ولماذا التصقت باسمه ، لكنهم في النهاية ينادونه جوكر ، ويختصرونها بكلمة جوكه، أما أنصاف المتعلمين فقد فسروا اللقب لكون صابر متعدد المهن ، كلها في النهاية مهن فقيرة ، مرسال بين أصحاب المصالح المشتركة ، يحمل هاتفا نقالا متهالكك ، منحه إياه واحد من أصحاب المصالح حتى يستطيع أن يتواصل معه ، لا يستطيع صابر إجراء مكالمات شخصية، وليس لديه من الشخصيات من يرغب في مهاتفته، لكنه يستقبل طلبات الكبار ويلبيها ، يغيب نهاره يتنقل بين بيت فلان ومصنع فلان ومقهى علّان وورشة ترتان ...يعمل بين يدي هذه الطبقة من محدثي النعمة أصحاب الأعمال الصغيرة ، بخلاء معه مع أنهم يستهلكون طاقاته ويقترون عليه في الهبات .
عند المساء حين يجلسون يتسامرون ويشربون ويحششون، يكون صابر بينهم يحمل طلباتهم، ويحكي لهم حكايات من الشارع ،ويجلب لهم بعض الطرائف والنكات البذيئة ، حينها تعلو ضحكاتهم ،ويظهر أثر فعل الحشيش عليهم .
مساطيل ومخمورون والليل سلطان . يعرفون أن صابر يصلي أحيانا ،ويذكر الله في كثير من الأحيان ، ويخشى العقاب ، يضحكون !! فما الجنة بالنسبة لهم سوى ما ينغمسون فيه، لكنهم لا يطلبون منه أن يمس خمورهم ، الحشيش فقط ، يكرّس ويرص ويشد الأنفاس الأولى للتسليك ،ويقدم الشيشة جاهزة ،مع نفحات الضحك الأولى حين تدور الرؤوس .
الجوكر لم ينل حظاً من التعليم، حين توقفت مسيرة تعليمه عند المرحلة الإعدادية بموت رب الأسرة وعائلها تاركاً له أمر الإعالة ، وهو يعيش الحياة كما هي، لا يحقد على مخدوميه ، ويراهم كرماء إذ يمنحونه بعضاً من ملابسهم حين تضيق بهم، ويضيقون بها،وبقايا أطعمتهم، ونقوداً نظير خدماته لهم .
يعود إلى الحي العشوائي ليلاً ، ضيفا حتى الظهيرة ،في طريق عودته بين دهاليز الحي تصله أصوات الليل المؤرقة ، وتنهدات الفراشات الفقيرة ، وتمنعات النساء الفقيرات الجائعات حين يغلبهن الفقر والمرض، وغضبات النساء الأصحاوات من طول هجر الرجال المكدودين .
أسرار الليالي الفقيرة المكدودة في حيه العشوائي تلقى في جراب حكاياه، وهو عائد من سهرة بطلها البذخ والرياء والنفاق والتفاهات، وموائدها حكايات مضحكة تكشف عورات الناس الفقراء، وتمطرها بالسخرية المضحكة، لتشبع هذيان المسطولين وفورات المخمورين ، يصل بيته وعلى مائدة أمه يجلس مرغما ، وقد تلاشت ضحكاته وبدا عابساً إذ كيف يأكل طعاما بلا طعم بعد أن رأى ما لذ وطاب يلقى بلا حساب ، يأكل لقيمات ويفر إلى النوم، ليعود إلى يومه المشرد نهاراً، وأولياء نعمته ليلاً يجتهد ليسامرهم بالحكايات ولا يرى الضحك إلا معهم.
ليلته الأخيرة كانت مختلفة ، اختلط فيها الحزن بالضحك ، وتصادمت المشاعر وفارت حتى تحولت إلى عصف ضاحك ، حكى الجوكر عن نساء الحي الفقير ودلالهن الفقير وحكى عن رجال الحي وخيباتهم المسائية، وجلساتهم مهمومين أمام أبواب البيوت ليلا ، طلب أحد مخدوميه أن يحكي عن "صدفة ".
تلك التي جاء ذكرها ذات مرة صدفة ،حين داعب الحشيش عقله وسلطنه فدندن " صدفة، كان يوم حبك أجمل صدفة ، لما قابلتك مرة صدفة " وأشتعلت الجلسة وقام أحدهم مسطولا يدندن معه ويرقص وهاجت الجلسة وماجت ، وكان هو نجمها وشعارها كانت الصدفة . مال أحدهم ليعرف الخبر ، وفي غفلة الحشيش حكا عن هذه المحبوبة التي يرغبها ويتعجل الزمن لتكون له .
" صدفة " ابنة الحي العشوائي التي كانت تفر من صهد الفراش المزدحم بالنائمين والنائمات من إخوة وإخوات ، لتقف أمام النافذة الضيقة تنظر الطريق ، وتفكر في الخلاص من صهد الزحام وكبت الرغبة ، فيمر الجوكر يلقي إليها نظرة ،ما لبثت أن تطورت إلى كلمة ،فتحية مساء وبسمة ، ثم همسة ، ثم موعد في الخلاء البعيد فلمسة وقبلة ، استعر لها قلب " صابر" وما عاد يطيق صبراً .
توسل إلى سادته أن يمنحه أحدهم عشا فقيرا في أحد منازله؛ فقط تكفيه غرفة ، وأستغلوه هم لقاء وعود لم توف ، حتى كانت تلك الليلة ، كل النكات قيلت واستهلك الضحك وما شبع المتخمون هزلاً ولا سخرية ضحكوا حتى اهتزت كروشهم وما قنعوا ، ما بقي غير نكات عن صدفة ، قاموا هم مخمورون ومسطولون ورقصوا ودندوا بأصوات بشعة أغنية صدفة ، أمسكه أحدهم وجنون يستعر في جوفه ، طلب أن يحكي عن صدفة بعضاً من أسرار اللقاءات أو يصف منها ما يثير اللذات ، أو يضحك ، تمنع صابر لأول مرة ، عنفه ولي النعمة ، هو موجود ليحكي ويسامر ويضحك ، مهرج هو، مضحك الجلسة .. كيف يحكي عن صدفة؟؟؟ كيف يضحكهم ويؤلف عنها نوادر ؟ تسمر يفكر ، لكنهم لم يمهلوه فراحوا يمطرونه بالسخرية والنكات وخيالات من هتك الأسرار بطلتها الفقيرة أبنة الحي العشوائي صدفة ، ضحك المحششون ضحكات مبتذلة وأوجم هو لايدري ماذا يفعل ؟ ناوشه أحدهم إغتصب من داخله ضحكة ما لبثت أن تعالت وتواصلت وطالت .
آه ... ماذا يحدث ؟؟؟ مساطيل هم . وماذا عنه هو ؟؟؟
مسطول بفعل الضباب الأزرق الذي خيم على الجلسة ، مسطول على الريحة ، نعم مسطول على الريحة ،أعجبته الفكرة بل أضحكته ضحكات بدت مُرة، وأستعذب مرارتها فواصل الضحك ، عصف ضاحك إنتاب الجلسة لم يوقفه إلا الدهشة .
سقط سالم غائبا عن الوعي والجلسة ولم يعد إليها مرة أخرى .

# من الضحك ما قتل:
تذكرني هذه القصة بقصة لبديع القص العالمي " تشيخوف " ترجمتها العربية : ( من العطس ما قتل ) مع أن الضحكة القاتلة لبطل قصة "صدفة " هو ضحك استعلاء على أرباب نعمة البطل المهمش المتطفل على موائد أبناء شريحة من الطبقة الجديدة طبقة الوسطاء وتجار الشنطة المتعاملين في كل شيء وهي الشريحة الطفيلية التي ترعرعت وأزدهر نشاطها المشبوه على إثر ما عرف بالانفتاح الاقتصادي - الاستهلاكي في الواقع بعد حرب أكتوبر 1973 – تلك الشريحة التي احتضنها نظام السادات في مصر . البطل يجد نفسه ولأول مرة في حاجة ماسة لأن يظهر تفوقه على سادته الذين أرتضى وهو صاغر مكره ؛ بسبب غياب العدالة في بلده – وإن كان يظهر لهم السعادة والامتنان لتنازلهم أن قبلوه خادما لنزواتهم ، ومضحكا في سهراتهم ؛ لأول مرة يحس برغبته في إلحاق الهزيمة بهم ؛ برفض طلب لهم ؛ يتمنع ويصر على رفض الطلب ؛ لأول مرة يظهر كينونته بوصفه إنسانا ؛ إنسانا أكثر رقيا وتحضرا من أولئك الذين صنع منهم نظام ما بعد انتصار 73 لأن المسألة تتعلق بكرامته !! هو معدم .. نعم ؛ مهمش نعم !! يعيش من أجل سد رمق أسرته المعدمة هذا حق !! لكن على الرغم من ذلك كله ؛ يثور من أجل كرامته ، من أجل صون شرف فقيرة معدمة أحبها ، ورفض أن يجعل من حكاية حبه لها مهزلة أو قصة مبتذلة يتسلى بها سادته شريحة الطفيلية لطبقة التجار السماسرة الذين يطلقون على أنفسهم رجال الأعمال – وهم مجرد سماسرة ، مجرد وسطاء بين مصانع وشركات أجنبية والمستهلك المصري – بعد أن باع نظام مبارك مصانع الشعب المصري ومؤسساته وجرف أراضي مصر وزراعاتها ولم يترك شيئا قابلا للبيع إلاّ وباعه بأرخص الأثمان للأجانب في شراكة مشبوهة مع لأصحاب رؤوس أموال أوروبية وأمريكية – غالبا ما كانوا صهاينة
رفض بطلنا إذن تلويث سمعة محبوبته الفقيرة ( صدفه) على ألسنة حثالة أصحاب رؤوس المال سماسرة بيع الوطن - أرضا وعرضا- وبذلك ينتصر ولأول مرة على رموز الشريحة الطفيلية للطبقة الرأسمالية الجديدة الرثة ، أنتصر بالاستعلاء عليهم ضحكا ، هو استعلاء تلقائي ؛ لم يكن استعلاؤه ضحكا ؛ تبعا لنظرية الفيلسوف الفرنسي ( هنري برجسون ) الذي رأى أن الضحك باعثه الرغبة في الاستعلاء على الآخر ؛ للإحساس بتدنيه أو لإدراك دناءته ، هو استعلاء يسد فجوة الشعور بالنقص ؛ وبأن من نواجهه هو أعلى قدرا منّا ، وما كان ضحكنا بإزاء تلك الحالة سوى رفض لذلك الإحساس أو الشعور بالانتقاص ، أو بأننا أقل شأنا ممن نواجهه أو يواجهنا .. هكذا كان الوضع بالنسبة لبطل قصتنا (صابر أو سالم ) أيا ما كان اسمه لذلك انفجر في وجوه من تعامل معهم بوصفه خادما لهم متحملا إهاناتهم وسخريتهم وتعاليهم حتى في حالات ترديهم في تعاطي المخدرات والتطوح في الأركان مخمورين ؛ لم يكن يضحك محاكاة لضحكاتهم الماجنة الخبيثة بقصد الهزء به بالقطع ؛ إنما كان ضحكه على ما كان من إنصياعه لهم مستمرئين إذلاله ممعنين في إشعاره بتدني طبقته ؛ التي هم منها في الأصل قبل الانفتاح الساداتي الاستهلاكي
كانت ضحكته ضحكة استعلاء عليهم وعلى ماضيه معهم ، وما أبهظ الثمن الذي دفعه في مقابل ضحكة الاستعلاء تلك .. لقد مات حقا بسبب ضحكة الاستعلاء تلك ؛ لكن ضحكة استعلائه تلك على تدني ماضيه في خدمة شريحة من حثالة الرأسماليين الكمبرادور ( الوسطاء) هي فعل استعلاء للطبقات المصرية الكادحة التي عاشت مهمشة بعد أن حاربت واستشهدت من رجالها الآلاف من الأبطال حتى تحقق نصر أكتوبر ؛ ولم يجني هم أو أبناءهم وربما أحفادهم أيضا ثمرة النصر ؛ التي أسقطها نظام السادات في سلة حفنة من السماسرة واللصوص الذين تغولوا بعد ذلك بدعم زعيمهم المخلوع بفضل ثورة شباب 25 يناير ومن خلفهم شعب مصر الذي خرج ضد نظام المخلوع عن بكرة أبيه فأقتلعه وألقى به داخل قفص الاتهام مذموما مدحورا .

# ثلاثية عزة وتيشو :
التصوير بارع وكأنك كنت في الميدان .. يسكن المهمشون بداخلك ويسكنونك وجدانا نابضا .. فضلا على براعة القص وحرفية الكتابة ، فلئن قرأت عزة في البداية فهي في موضعها مفتتحا للقص ولو قرأت على تيشو أولا فهي في موضعها مفتتحا للثلاثية ولئن كانت بداية القراءة ورد النيل فهي في مكانها من نسق بناء الثلاثية ، بدل مواضع كل منها كيفما شئت أو شاء مزاج قراءتك فلسوف تجدها في موضعها من النسق الحكائي لبنية هذه الثلاثية .. هذا فضلا على براعة التصوير وجماليات الصورة .

ـــــــــــــــــــــــــــ
سابق ولا حق
قلق وتوتر وترقب والجميع قد تحولوا إلى كتل متفرقة في أرجاء المكان ، همهمات وهمسات ونقاشات متناثرة، أخبار تتسرب من هنا وهناك، كلها مجرد احتمالات ، بدون تصريحات علنية ، توقفت معظم الأنشطة والزيارات في انتظار ما قد يحدث ، وفي ظل حالة الركود المتوترة راودته الهواجس والمخاوف ،ماذا لو سحب البساط من تحت قدميه، فلا بساط ولا تشريفات ، ولا استقبالات ، دار بين المجموعات المتناثرة وسمع الهمهمات والأخبار والهمسات ، وجد نفسه وحيداً دون جماعة ينضم إليها ،،،كل الكتل المترابطة ذات مصالح متشابكة، هل هناك من هو في مثل حالته ، وجد البعض فرادى على شاكلته ، يهيمون بين التجمعات دون ان ينضموا لأي منها ، إنها حالة التغيير ، كان يعلم منذ أول يوم أن هناك يوم أخير ، لكن بريق اللقب ومتعة السلطة لا يقاومان ، مرت أيام
فاحت روائح التبديل والتعديل وتوجس كل من في المجلس خوفاً من أن يشمله التبديل، ذات مساء أُعلن الخبر فأصبح يقيناً، تجاوزه التشكيل الجديد، ورغم أن الأمر كان متوقعاً، إلا أنه قد يحتاج لبعض الوقت كي يتماسك.
في بيته كان صامتاً ولم يناقشه أحد فيما حدث، أرجع ذلك إلى أن الكل لديه ما يشغله، فكر أنهم منشغلون عنه لا يشعرون بما يعاني.
كانت الزوجة التي حولتها مشاغله وطموحاته إلى تمثال من الشمع ترقد إلى جواره ساكنة ، هو يعلم أنها تتظاهر بالنوم ، قام تاركاً مخدعه حيث يعانده النوم ليقضي الليلة جالساً على مكتبه ، كانت لديه مشروعاته الخاصة ، مجموعة اقتصادية كبيرة ، مسجلة بأسماء أبنائه وزوجته لظروف المنصب ، عزّى نفسه بالتفرغ لأعماله، حيث كانت تشغله سلطاته ومنصبه ، كانت ذاته تحاور شخصه ، تلك الذات التي تضخمت كثيراً بفعل السلطة ، في مواجهة شخصه الذي بدا متسلقاً حتى ارتفع، واستغل كل السلطات لصالحه ، صارت ذاته وشخصه وجهان لعملة واحدة هي اسمه ، خرج من دائرة توتره وقلقه وبدأ يعد ذاته لأيامها المقبلة ، في صبيحة يومه الأول بعد إنتزاع اللقب ، استيقظ كعادته مارس كل طقوسه اليومية بعدها قرر أن ينفض عن نفسه ثقل المنصب وقالبه، في محاولات للتأقلم مع وضعه الجديد ، ارتدى سترة رياضية واستقل سيارته متوجها إلى ناديه المفضل ، عند دخوله من البوابة حياه الحارس تحية عادية ، وكأنه قد نسي كل الألقاب الشرفية التي كان يلصقها باسمه ، أثارت تلك التحية غضبه لكنه تماسك تلك أولى تجاربه بعد زوال المنصب ، مارس رياضة المشي و رياضات أخرى خفيفة تعب بعدها، فقرر التوقف والعودة إلى بيته ، الحياة من حوله تهدر ، وهو قد توقف عند الذات والسلطة واللقب ، نغّص عليه التوتر يومه ، وكما كان يفعل كلما حاصرته الضغوط ، هناك وسائل التغييب وهي كما الخمر إذ تغيبه عن الواقع بمتعة ولذة ، فلم لا يعيد حلم التصابي، ماذا لو يعيد لليالي رونقها ، كدر حلمه صورة زوجته التي ترقد إلى جواره دوما كتمثال من الشمع ، كانت مشاغل المنصب وهمومه وحرصه على البقاء بالكرسي تشغله عن تفاصيل حياتية هامة ، فكر فيما كان يفعل مع زوجته من قبل ، منذ أصبح الصعود همه حتى اعتلى الكرسي فأصبح لذته ، وندر اعتلائه للذات الأخري، مرت سنوات كان يضاجعها بالصدفة حتى سئمت المرأة وأراحته بالتظاهر بالنوم قبل دخوله فاعتادت الأمر ونامت، وتفرغ هو لمعاركه ومشاغله الوصولية، وشغلت هي نفسها بالعمل والصالونات الاجتماعية ،بينما صار لسيادته نزواته الخاصة بين الحين والآخر والتي تنتهي دائما بمصالح متشابكة، لقاءات ودية ذات رونق خاص ، مالبثت أن حوصرت بفعل رونق المنصب و الحرص على السلطة ، حينما واجه شخصه ذاته عند تلك النقطة كان لذاته مبرراتها وواجهته بأسى قالت ذاته : أنا لم أجرب الحب الذي اسمع عنه لقد تزوجت زواجاً تقليديا، زواج صالونات وارتباط عائلات ، كان غطاء الزخرف الاجتماعي يخفي تحته فراغاً عاطفياً ، لكنه ظل دوماً بحاجة لهذا الغطاء ، حتى الآن و بعد زوال السلطة لازال يشعر بحاجة إليه .
عندما زار طبيبه في المساء كانت نصيحة الطبيب أن يهدأ أياماً بعد عناء المنصب يستطيع بعدها أن يعيد للحياة رونقها، قرر أن يقضي أيام راحته وهدوئه بعد المنصب بأحد المنتجعات التي تزخر بالمشهيات والمغريات ، يعود بعدها لترتيب أوراقه وممارسة سلطاته بشكل جديد ، طوال إقامته بالمنتجع كان مؤرقا رغم ما يحيط به من استرخاء ، بقي أيامه الثلاثة هناك متوتراً فشل في كل محاولات الاستمتاع الميسرة له ، قرر أن يعود ، في طريق عودته إلى العاصمة ابتاع عددا من الجرائد اليومية طالعته صورته معرفة بكلمة سابق قبل اللقب ، كدره التعريف فلم يهتم بالتواصل مع ما جاء ذكره بالجريدة ، عند المساء في بيته فشلت كل محاولات إعادة التواصل مع زوجته، عاد لزيارة الطبيب الذي أكد أنه لا توجد أيه مشاكل عضوية فقط هو الحب الذي يمكن أن يضفي على الحياة رونقها وبريقها ، تاركاً موضوع الحب لوقت آخر، بدأ يرسم لنفسه دوراً ، لم يكن قد تحدث مع أبنائه وزوجته فيما يمكن عمله ، لكنه قرر زيارة مجموعته الاقتصادية والتي يرأسها أحد أبنائه ، كانت المجموعة الاقتصادية الكبيرة قد تبلورت كل آليات العمل بها وفق مصالح متشابكة ، وقد ترابطت حلقاتها وفق منظومة معقدة، وجد نفسه غارقاً في محاولاته لتتبع خيوطها ، كان يعود في نهاية يومه منهك الذهن دون أن يصل إلى دور يستقر عنده ، عندها أقنعه ولده أن تلك آليات السوق ،وعليه أن يكتفي بكونه مالكاً للكيان الذي يدر المال ، لكن ذاته الموجعة الباحثة عن مصدر قوة كانت دائماً في جدال مع شخصه الذي بدا قانعاً بدور المالك مكتفياً بقدرته على الاستمتاع بما تدره ممتلكاته ، حين قرر شخصه أن يتصالح مع ذاته بدأ مشروعاً جديداً مؤسسة كبيرة يملكها مستعيناً فيها برؤوس الخبرة ، يخططون له كياناً كبيراً متصاعداً،منحته صفته السابقة وعلاقاته الكثيرة من التسهيلات ، عندما اكتمل الكيان بدا نجمه ساطعاً في عالم المال والأعمال ، لم تكن ذاته راضية تماما بعد كل الإنجازات ، كان هناك شئ دائماً ما يؤرقه من حين لآخر، شئ ما لا يمتلكه ،عاد لزيارة طبيبه وعلى استحياء أفاده الطبيب أن عليه أن يفكر إن كان بحاجة لزيارة طبيب نفسي . تلك نصيحة أغضبته ، لذا قرر أن يمتلك ما يحتاج إليه ، الأصدقاء ، الحب ، وحين وضع قراره موضع التنفيذ اختار بطانة من المحيطين وحاشية من المنتفعين ، يتحركون باسمه لفتح الأبواب المغلقة ، تفرعت مشروعاته وتشابكت علاقاته ومصالحه شعر أن سلطاته تعود إليه بوجه جديد سطع نجمه في عالم المال والأعمال ، لكنه مالبث أن شعر بنقص لا يدري ماهو شئ ما كان لسحر السلطة وألق المنصب ، شئ يتألق عندما يظهر بين المجتمعات العامة ، هو يعلم أن الحب ليس طرفاً في السلطة ، الحب ترف لا يقوى عليه أصحاب السلطة، اختيار صعب .
ذات صباح قرأ النعي ، مات أحد معارضيه في المجلس، ذاك الذي طالما أمطره استجوابات ، شعر براحة رغم إنتفاء السبب ، قرر أن يحضر مراسم العزاء ، سيكون للموقف وقع خاص ، وربما تحدثت وسائل الإعلام ، هكذا وسوست ذاته لشخصه.
في سرادق العزاء ظهر الجميع حاليين وسابقين ، أنقلب العزاء إلى ندوة ومحادثات ، أحاديث جابت كل الاهتمامات وتفرعت بأحاديث سرية وأحاديث شخصية ، وهو وجد مرة أخرى دوراً ووجهاً ، راح يجامل ويعارض وينافق ويكابر ، في ركن قصي كان هناك صحفي خبيث يتابع ، يعلم أن سرادقات العزاء للكبار ماهي سوى مجالس مصغرة ، اقترب الصحفي بجانبه حدثه ، أعجبه فكر الصحفي المتابع ، خرج من سرداق العزاء ومراسم الدفن بمستشار إعلامي ينسق له دوره ، اعتادت سرادقات العزاء من يومها ظهور المسؤول وتردد الصحفي ، واعتاد مشاهدي الفضائيات وجود المسؤول نجماً وضيفاً دائماً متنقلاً من قناة لقناة ، بينما كان في زوايا الناس من لا يزال يدير المحطة بجهاز التحكم عندما يطالع وجه المسؤول .
عاد لناديه بلقب عثماني لم يسبغه عليه سوى المال ، الدنيا من حوله سرادق كبير ، وهو يواصل الصعود في عالم المال بشراكة الكبار ، حينها عرف أن المنصب ما كان سوى حجر عثرة في سبيل الصعود ...وظلت زياراته لسرادقات العزاء الكبيرة متواصلة ودائمة .
صباح غائم من يناير دقات الهاتف لا تكف ، أحاديث ومشاورات ، توترات ، ومشاجرات ، حركة دائبة في البيت حقائب تحزم ، خرجت الزوجة بصحبة الشابين وبسند الأموال المهربة إلى الخارج ، قامت الدنيا ولم تقعد ،ركضت الأيام بحساباته سريعاً بينما كانت ثقيلة الوطأة على من يدفعونها لتمضي .
غاب الكبار عن المشهد بينما كان هو يقبع مرتديا زياً رياضياً أبيض ، يتابع جولات المحاكمات وتلال أمواله العاملة تكفيه شراء ذمم وتدفع عمولات ، من فتحة كوة كان يتابع المشهد ، جديدة هي اللعبة وجديد هو الدور .


ــــــــــــــــــــــــــــــ
بيضة الديك
تكسرت البيضة بين يديه وسال بياضها وصفارها على ثوبه الأنيق ، كان يحاول إفراغها مما فيها، ليصنع عليها تشكيلاته الفنية المدهشة ، تكدر مزاجه هذا المساء وانتابه شعور بجرح يجتاحه حتى النخاع ،هو الأنيق اللامع يجلس ملوث الثياب بالبيض ، لا يدري كم من الوقت مر وهو على حاله هذه حتى أفاق ،قرر أن يبدأ من جديد .
كمشاعر أنثى خانها رجلها تفكر في الانتقام ،قرر أن ينتقم ، أبعد الخواطر السيئة عن مخيلته ، واستدعى لذة الاستمتاع ، على حافة الجرح يجلس ، تحته قشور البيض المحطمة وعلى ملابسه ملوثاتها، وتراوده أفكار وصور شتى ، منذ بدأ الغواية ، حين كان وشريكه في مطلع الصبا، هو وابن خاله والغواية ، لا أحد من البشر يراهما ، صبيان... والصبيان لا يراقبون ، ولا يحاسبون.
كبرت الغواية وتجذرت ،و امتدت حتى سبحت ضمن كرات الدم ، ذاكرة الجسد تنزف ،تغزل خيوط اللعبة ، يغوص فيها ويتشرنق بها حتى تعميه .
لا يزال يجلس، يقرأ سطور الجسد من بقع الثوب ، يعاقر حزنه ،منذ بدأ يستشعر الحقيقة ، حين بدا رفيقه يتباطأ في زيارته ويتعلل ، حتى تباعدت أيام الخلوة ، علة أنه مشغول بفنه لا تقنع ، هو يقدر ويفعل، حين يقسم وقته بين غواية الفن بالتشكيل على قشور البيض وبين الغواية الأخرى ، يرى بفلسفته أن بينهما شعرة من صلة ، أما شريكه الفاعل فقد قرر فجأة أن تكون له شريكة أنثى ، تركه يبكي، كأنثى تعاني وجع الخيانة ،من ذكر كان في حياتها الأوحد ، لكن الآخر لا يتفهم ، أناني ، ككل الذكور ، متلاعب ، قال له في مجمل حواره المبرر : علاقتنا لن تتأثر ،سأكون معك بعض الوقت ...كلما أمكن ، لكني أود أن تكون لي شريكة وبيتا.
حفر شريكه الجرح بمسمار صدأ ،وملأه ملح ، تذكر كيف أغواه لأول مرة ،حين راوده عن نفسه بالحيلة حينا ،وبالعنف حينا ،حتى تملكه ، هاهو الآن يتخلى عنه، يرغب أن تكون له شريكة أنثى ، فكر وغمامة الجسد تعمى البصيرة ، ماذا ينقصه ليفعل هذا .
يأكله الحقد الآن على تلك الأنثى التي تنافسه حبيبه ، ود لو رآها وقتلها ، نفض القشور عن ثوبه وتحمم وتعطر ،عاش بعدها أياما يتجمل ليبدو أكثر إثارة ، ضاعت كل محاولاته لاستعادة الشريك سدى ، اكتأب أياماً ، نهشته الرغبة ، قرر أن يعيش وينتقم ، ككل أنثى خانها رجلها ، ترد الخيانة واحدة بعشرة ، لن يكتفي برفيق واحد ، الرجال كلهم خونة ، فلتبدأ مرحلة أخرى .
في كل مرة تتوقف عيون زائري المعرض، من الفنانين والإعلاميين والفضوليين من الزائرين الخبثاء ،عندما تطالع أعماله الغريبة والمدهشة ، ويبدأ الغمز واللمز، وفي جلسات النميمة يتندرون ويضحكون ،وعلى مستوى الفن لا يملك النقاد الحقيقيون والجادون إلا كلمة نقد حقيقية تقيم العمل .
بقعة ضوء مركزة فوق القطعة الرئيسية بالمعرض ، إنها تشكيل من بيضتين مشغولتين بشكل مدهش ، مر صحفيان خبيثان بالمعرض ، غمز له أحدهما .
- جميل هذا التشكيل رد الآخر
- حلم يتشكل بالفن
بدا فنان البيض رقيقا ناعما متأنقا يتمايل بين تشكيلاته البيضية ،وحين يبدأ بشرح أحد الأعمال تتفجر أطرافه بالتعبيرات، وتشير أصابعه إلى الأجزاء، ويتمايل جسده ميوعة ورقة ، وتلاحق عيناه الزوار فتتأملهم ،وتمسح نظراته أجسادهم ،وتقيم فحولتهم، فتثبت عند البعض لا يحركها إلا مرور آخرين يتابعون المعرض فيتبعهم .
المعرض فرصة سنوية للنشاط والحراك ،وهو يستعد للمناسبة بعد نهاية كل معرض، ليبدأ العمل للقادم .
يشتري المواد اللازمة من بيض وزخارف وألوان ولآلئ وأدوات العمل، وعلى جدران صومعته خزائن زجاجية يعرض فيها الأعمال القديمة .
عند المساء يرتدي جلبابه الحريري المطرز، ويعطر صومعته بالبخور، ويجالس بيضاته التي يشغلها وتشغله، يعاملها برفق ويتأملها ،حتى يعرف من أين يبدأ العمل عليها ،وما المواد التي سوف يستخدمها ، هو دون غيره يرى مواطن الجمال فيها ويبرزها ،حتى تبدو بشكل جديد مبهر .
يجلس ممسكا بيضة نعامة فارغة من بياضها وصفارها ، لم يقم هو بإفراغها فلديه العمال يلبون صغائر الأعمال وكبائرها ،حين يقومون بأدوار شتى داخل البيت يفعلونها في صمت ، تفريغ البيض ، الضيافة الدائمة للضيوف الغرباء والشواذ ،القيام على لزوميات الصومعة البيضية في الأمسيات و السهرات التي قد تخلو أحيانا من المريدين، فيضطر أحدهم للقيام بالدور الرئيسي في صمت ،بعد نهاية المعرض يسود السأم والملل والسكون بعد ضجيج المعرض ، وهو يجلس يمسك أكبر بيضة ، ويغيب في عالم آخر هلامي بلا معالم ،شارداً في اللاشئ المبهم ،حرك السكون ضجة وأصوات وضحكات مائعة، لكنه لم يتحرك ،احتفظ بوضعه المثير على الأريكة مسترخياً ، أوقفه دخول الزوار ، صحبة يتقدمهم كبير لهم له في المجتمع مكانة وحظوة ،عمت الرسميات بداية الجلسة، ثم تناثر جمع الزوار كل في مكان، بقي هو وصاحب الحظوة ،طالت السهرة، تلتها سهرات أخرى، غيبت فنان البيض عن معارض تالية، بيد أن صورته احتلت واجهات الصفحات الفنية، بأخبار عن جوائز ومعارض خارجية، وزيارات لأندية ومدارس ومراكز شباب


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أيام عتيقة
دقات معاول ، أصوات روافع ، ماكينات حفر . أيهم الأسبق لا تدري، حين أيقظتها الفوضى الصوتية ،سحبت جسدها على الفراش فجلست وضعت رأسها بين راحتيها ، سدت أذنيها ، لكنها لم تمنع وصول أصوات انهيار الجدار الأول ، فزعت ، قامت ، خرجت من عزلتها الإختيارية داخل غرفتها بالبيت العتيق ، دارت في البيت الذي خلا من كل الأحياء ، كبرت عزلتها . نزلت إلى الفناء ، لايزال كرسيها تحت السدرة العتيقة كما هو، وعلى الطاولة توجد دلة القهوة المرة، أعدتها خادمات الدار قبيل الانتقال ، صبت فنجاناً رشفت رشفة ، شعرت مرارة طعم القهوة ، صبت قطرات أخرى ، سمعت أصواتا بشرية تأتى من خلف السور بحثت عن منفذ يكشف ستر الخارج دون أن يراها أحد . سارت بمحاذاة السور ، الشمس ترسم ظلال فتحات نقوش الجبس على الأرض نقشا ، ألتفتت انحنت، وجهها خلف نقوش الجبس عيناها خلف الفتحات تتابع سير العمال إلى رأس الشارع ، جاءت سيارة ، صفت قرب جدارها ، نزلت فتيات بعباءاتهن المزركشات قالت إحداهن
- والله فريجنا الحين غير
- البيوت كلها تتحول عمارات
- أصحاب البيوت يكدون وايد بيزات.
تعرف هي وجهة هؤلاء النسوة ، تراهن بعين الخيال يدخلن معرضا للعباءات ذات الموديلات الحديثة ، تترحم على زمن مضى ، تواصل متابعتها من خلف فتحات نقوش الجبس ، السيارات تمضي في الشارع مسرعة ، اليوم سيحضرون سيارة تنقلها حيث بيتهم الجديد بعيداً عن زحام المدينة ، بيت حديث لن تكون هي سيدته الآمرة ، توقفت عن المتابعة لحظة تحاول أن تسجل تفاصيل البيت في ذاكرتها ، ليتها كانت تعرف لغة الحاسوب، لكان بوسعها أن تحتفظ بتفاصيل البيت ، طلبت من ولدها الأصغر أن يأتي بهؤلاء الذين يصنعون النماذج المصغرة ، ليصنعوا لها نموذجا للبيت، تعرف أن هناك من يستطيعون فعل هذا رأت نموذج المستشفى العام مصغراً عند المدخل ، لا تزال تقف خلف السور الشارع المزدحم بالتفاصيل يمر أمام عينيها الملتصقتين بفتحات نقوش الجبس ، تتقلب المشاهد ما بين المارة والآليات والحافلات ، إنه وجه المدينة يتلون ويعيد تشكيل نفسه مرات، يتوقف سيل المشاهد، تتبدل بيوت كبيرة وساحة لعب
( براحة ) أطفال يلهون ، فتحات النقوش ما عادت تنقل حالة الخارج ،لكنها الروح ترسم صورة أخرى، لبيوت ذوات نخيل وآبار ماء ودواعيس صغيرة ، عادت أصوات المعاول من جديد أعادها إلى الواقع طرقات على باب البيت تحركت ، فتحت .
دخلوا دون أن يلتفتوا لوجودها ، عادوا يلملمون ما تبقى من أجهزة حاسوب وأدوات مطبخ وتقنيات عصرية ، لم يتبق إلا حاجياتها ، وهي لا تزال تقف خلف السور، لا تبالي بما يحدث من حراك داخل البيت ، دوى صوت معول دق جسداً حياً ، أيقظ سكونها ، خفق قلبها ، التفتت ، صاحت
- وجف
كان الزراع المصري الذي جلبوه لقطع السدرة التي تتوسط الفناء، قد بدأ بضربة المعول الأولى مسببا جرحا في الجسد الغض
- وجف أجول لك وجف
نهرته المرأة فتوقف ، لايملك إلا أن يلبي وقد اعترته دهشة من طبائع هؤلاء البشر، لماذا أتوا به إذن؟ ولأي الأوامر سوف يمتثل ؟، جاء به سيد البيت ليقطع الشجرة فإذا بسيدة البيت تأمره أن يتوقف .
أطل الأبن البكر من أعلى صاح في العامل .
- أنت يا الخبل ليش توجف ، ترى أطردك وأشوف عامل غيرك ، وايد عمال
تحركت عتيقة من مكمنها عند السور، لم يكن ولدها قد رآها بعد ،وحين نزل يعنف العامل فوجئ بها آتية نحو الفناء
- أمي وين كنت؟
- إنطر... أشارت للعامل، في حين نهره ولدها مرة أخرى
- يلا خلص
علا صوتها
- إلا السدرة
الغضب كان يأكل الولد البكر، هذه السدرة تعطل استثمار الأرض، الساعات أموال تعد في حساب الثروة، لا يمكن أن يقوم بناء ضخم مع وجود السدرة ،بناء يضم سوقاً تجارياً في الأسفل، والدور الأول، وتحتل الشركات الأدوار الأخرى إنه الاستثمار، الدنيا تركض، ونحن نحتفظ ببيت عتيق وسدرة، قال من هذا الكلام وأكثر، حتى تقتنع العجوز بالفكرة، بينما هي تسير متكأة على عصا ،حتى وصلت إلى مقعدها المفضل تحت السدرة فأنهارت جالسة .
استند الإبن على جذع السدرة ،وفي عقله حسبة الأموال والاستثمار والبورصة غابا كليهما في غفوة ،والعامل يتعجب من فعل الناس على هذه البقعة مرت برهة ،عاد الإبن لوعيه، وقارب الأم ،أفاقت ...وقامت تحتضن الشجرة طالبة مهلة، تعجلها قبل أن ينفذ صبره .
طالبته أن يمهلها حتى الغد، وأن يرحل من ساعته ويتركها وحدها ، فعل وباتت هي ليلتها تحت الشجرة العتيقة، تسترضيها وتهدهدها، وتربت على الجذع العظيم وتحدثها .
- سامحينا حين تأخذنا الدنيا ...ولا نرى عزيز سوى أوراق النقد ...دون أوراق الشجر... كنت ظلاً للكبار، وثمراً للصغار، وستراً للأسرار .
قضت العجوز ليلتها ساهرة، وعند الصباح حملتها سيارة إلى أطراف المدينة وطوال الطريق ما رأت سوى العمائر الشاهقة ،واللافتات الكبيرة وعلى الجوانب آليات تحفر وتهدم وأخرى تشيد .
رفعت عينيها مع أرتفاع برج شاهق، لم تمهلها سرعة السيارة لبلوغ قمته .
وصلت البيت الجديد، هل كان هناك شجر وزرع ؟هل شمت رائحة عشب؟ ألف هل وكيف شكل البيت؟؟؟هي لم تعد تعرف سوى الصمت والسكون وآخر مشهد للمباني الشاهقة التي اغتالت الخضرة.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

نومة الأعزب
احترف الصمت منذ آخر مرة تحدث فيها، حين عرف طعم العذوبة في الحديث ، وحين تذوق سكر الحديث وليونة الحروف في لكنته الجافة ، كانت معه وكان يراها كما أيقونة فرعونية بوجه مصقول وجبين قمري ،وعينان واسعتان مرسومتان ، ظل يرقبها سنوات حتى استطاع أن يصلها ، ويشغلها ، حينها كانت السنوات تزحف ببطء وهو يتعجل أيامه ، ومرت ، حدثها آخر مرة وهما يتفقدان أيقونات المتحف .
- أترينها تشبهك
- من؟
- صاحبة الرأس والوجه الفرعوني أتعرفينها ؟؟؟
غاب يحدثها عن هذه الملكة صاحبة الرأس المعروض بالمتحف ، كم كانت محبوبة ومحبة ، كان يرغب أن يلمس هذا الوجه المصقول يتحسس تضاريس الملامح يلثم الفم المعقود ، كان يقف أمام التمثال الرأس مفتونا فاجأته
- أغار أنا من صاحبة الوجه
- ما أحببتها إلا لتمثلك بها
تضحك حين تتسرب يده لتلمس يدها على استيحاء ، هي ابنة المدينة وهو ابن الجنوب القادم من طيبة ، الباحث التاريخي الذي يتمثل محبوبته في وجه فرعوني.
-أتعلمين أنني أراك فيها
- ولكنني هنا معك
في الغد سأعود إلى الجنوب وسأفاتح جدي .
ودعته وغاب ولم يعد ولم تتلقى منه إشارة تذكر ، غابت وغاب وكانت سنوات الفرقة صمتاً احترفه ، بعد تصدي وجدل انتصر فيه قرار الجد .
للجنوب دساتيره التي لا تلين ولا تترفق ، فر منها لاجئاً إلى المدينة بزحامها وضجيجها .
صار مأمون الصعيدي القادم إلى القاهرة التي جاءها شاباً حديث التخرج متنقلاً بين مدارسها الحكومية ، يعمل مدرساً لمادة التاريخ ، وهي من المواد التي لا تجلب دخلاً ، حيث يدعي الآباء أنها مادة تقرأ وتحفظ لأداء الإختبارات ، وهو قد جاء محملاً بشهادة دراسية متخصصة في التاريخ، دون أدنى معلومات تاريخية تعرفه سوى لكنته الصعيدية .
بعد طول سكن في غرف مشتركة، تمكن من بيع قيراط من الأرض كان يرثه في بلدته ، ليشترى شقة متواضعة في هذا الحي الفقير.
غاب حياته لا يفعل شيئا سوى العمل، شاباً وأصبح كهلاً، وما رأى أحد له أسرة، أو زوجة أو ولد، لا أحد يدري أهو متزوج في الجنوب؟ حيث زياراته السنوية وقضاء إجازاته ، أم هو أعزب؟ ، لكن الفضوليين والمتطفلين من المحيطين كانوا يستريحون إلى حالته هذه ، حيث يزرونه ويقضون في بيته أوقاتاً ، أو ينعمون بجلسة معه على المقهى، دون أحاديث شيقة أو نقاش جاد ، ولم يكن المحيطين به من أهل مهنته، بل لغرابة حالته كان بلا أصدقاء عمل ، يقضي يومه في المدرسة بين صفوف التلاميذ ، ويتركها خلفه حين يعود، لا يربطه بها سوى أوراق إختبارات ، أو دفاتر يحملها إلى بيته ليصوبها أحياناً، حين يتعذر فعل هذا في المدرسة لضيق الوقت ، ورغم فصول التقوية في المعاهد والدروس الخصوصية فإن الأستاذ مأمون لم يكن يطمح لزيادة دخله عن طريقها .
جفنه علم الغزل... يدندن الأستاذ مأمون هذه الجملة دوما بينه وبين نفسه، ولا يفصح عن المزيد من جمل الغزل ، قال بعض الفضوليين من أهل الحي إنهم رأوا في بيته ملابس نسائية ، وحين تابعه بعض الراكضين وراء أسرار الناس لم يتوصلوا لشئ سوى رأس لتمثال فرعوني، لا أحد يدري أكانت قطعة أثرية أم مقلدة ، فأرجعوا ذلك إلى إنه ربما متزوج من امرأة من الجان ، وتطورت حكاية حورية الجان حتى وصفها البعض أنها فعلاً أجمل جميلات النساء، ويحسدونه هو الأسمر النحيل الصعيدي على حظه، الذي يغنيه عن نساء الدنيا اللحوحات النكدات، المسرفات ، المكلفات ، بامرأة جميلة بلا تكلفة .
و هو حين يجلس في نهاية يومه على مقهى مرارة عيناه ترقبان الفتيات من خلف نظارة ، كمن يبحث عن أوصاف بعينها ، وتدندن في خياله أغنية لا يمل ولا يكل من تكرارها ، جفنه علم الغزل .
وكان أن حدث ما أخرج الاستاذ عن صمته، وشوش عليه دندنته عن الجفون والغزل، حين كانت إحدى الفضائيات تقوم باستطلاع لرأي الشارع عن مجريات الأحداث ، نزلت مجموعة الإعلاميين لعمل سبق بالتسجيل في هذا الحي الفقير القريب من العشوائيات ، واقتربت فتاة الإعلام الشابة لتسأله ، وحين كان يطالع عينيها كالمفتون، وتتردد في خياله جملته ،حينها انطلق لسانه ، فتحدث وحلل وشرح واستفاض ، سئل فأجاب، وأستشرف ما يمكن أن يترتب على معطيات الواقع، ونتائج الأحداث.
في اليوم التالي ازدحمت مقهى مرارة بالمتابعين من أهل الحي، كان حوار الأستاذ مأمون مذاعا ، بينما كان هو بشحمه ولحمه يجلس صامتا بين المتفرجين ، إنتهى البرنامج والتف الجمع حول أستاذ التاريخ يسألونه ، هناك استفسارات تملأ الصدور،أما هو فكانت غاية حلمه أن تعود فتاة الإعلام صاحبة الوجه والعينين اللتان توقظان فيه حنين كامن .
صارت جلسته اليومية كما ندوة ، يلتف حوله البسطاء في محاولة لفهم مجريات الأحداث ، وآخرون يرغبون في سماع بعض من تفسيرات يقومون بترديدها في جلسات أخرى ، فيظهرون كما العارفين ، وغيرهم يقتلون الوقت ،وهاربون من إحباطات يومية يتطلعون لأمل قادم من خلال تحليلات تستشرف الغد وترسم الأمل، تعددت الأسباب وازدحمت الجلسة وكسرت صمت الاستاذ وروتين حياته ، وجد لنفسه دوراً لم ينعم به من قبل، وكان أن قام صاحب المقهى بإعفاء الأستاذ من دفع ثمن ما يطلب من شيشة أو شاي ، كونه أصبح مصدر جذب للزبائن .
ذات مساء متوتر بالأحداث ومشوش ، غاب نجم جلسة مقهى مرارة ، وكان لدى الكثيرين أسئلة شتى يبحثون لها عن تفسير ونقاش يكشف ما سوف تسفر عنه الأحداث .
أما هو فقد غرق في سحر العيون وغزل الجفون حين أتاه أحد مريدي الجلسة حاملاً رأساً ملفوفاً في قماش ، طالباً كتم سره بعد الاطلاع ومهدداً بفضيحة إن كشف سر الرأس الملفوف المستتر ، كشف الرجل عن رأس فرعوني بوجه مصقول وعيون واسعة وملامح تكاد تنطق ، سقط الاستاذ مغشياً عليه يدندن جملته الشهيرة جفنه علم الغزل يكررها لا يكل ولا يمل ، صار يهذي ،قال حامل الرأس
- أفدني ألست أستاذاً للتاريخ ، قل لي أهي فرعونية حقاً
يصمت الأستاذ مأمون متأملاً الوجه يلمسه بيده يتحسس تضاريس الوجه ويعود يدندن ، جفنه علم الغزل ، تختلط الرؤيا عند الأستاذ ويغيم الوجه ليتلبس وجه فتاة الإعلام التي فتحت له أبواب الحديث ، يراها بنفس الملامح ، ويلح الرجل حامل الرأس
- قل لي يا أستاذ أصلية أم مقلدة ؟؟؟
لكن الاستاذ لا يجيب سوى بجملته المكررة ، ويغيب حامل الرأس الفرعوني أياماً ويعود ليلقي أمام الأستاذ مبلغاً من المال نصيباً له من صفقة بيع الرأس كونه استنتج قيمتها من ولع الأستاذ بها.
- بعتها ؟؟؟
- نعم جاء من يقدرها ويعرف قيمتها بعتها .
يسقط الأستاذ على مقعده حزينا ، يدندن جملته بدموع عينيه ، تتراءى له فتاة الإعلام التي استضافته ، يخرج يهيم على وجهه حتى يصل إلى مبني التلفزيون ، الزحام هناك شديد ، وقفة إحتجاجية في الشارع بسبب حقوق طائفية ، ووقفة واعتصام بالداخل بسبب حقوق فئوية ، وهو بين الزحام يطالع الوجوه لعله يرى وجهها مرة أخرى ، ويعود ليطالع شاشة تلفاز بالمحطة ، تبث برنامجاً وثائقياً يتحدث عن قطع أثرية قد سرقت ، يطالعه الرأس ذو الوجه المصقول والعيون الواسعة والجفون المرسومة ، يصيح وسط الزحام
- هي إنها هي
وهناك في الشوارع البعيدة عن ذاك الحي الذي يعيش فيه لا أحد يعرفه ، ويشك المحيطين في قواه العقلية .
يغيب أياماً باحثاً ،يعود بعدها حاملاً وجهاً آخر لرأس آخر وعيون أخرى اشتراه من بازار لبيع القطع المقلدة للسائحين ، عاد يحتضن الرأس ذو الوجه المصقول يخفيه عن الأعين.
وحين عاده بعض الفضوليين للوقوف على سبب إنقطاعه عن جلسة مقهى مرارة، وجدوه ممدداً على سريره وبجانبه الرأس الفرعونية وقد ارتدت بعضاً من الملابس النسائية ، فعادوا ليؤكدوا ما سبق أن أشيع عن زواجه بجنية وأضافوا أنها جنية فرعونية .


ـــــــــــــــــــــــــــــــ
أيقونة العشوائي
عندما داهمت قوة الشرطة الحي العشوائي متخذة من المقهى المقام عند واجهة الحي هدفا لها، كانت الفوضى والضجيج تعم المقهى وما حوله إثر إشتباك دائر بين صديقين من مرتادي المقهى ،ازدحم المكان بالعاطلين والمتسكعين في محاولات لفض الإشتباك ، كان الشابان لتوهما قد خرجا من دهاليز الحي المتشابكة والمختنقة بساكنيها وروائح طعامهم النفاذة ، وفي داخل كل منهما رغبة بملاقاة الآخر لقاءً مختلفاً عما اعتادا عليه من قبل حين كانا صديقين ، توقفا أمام المقهى الذي اعتادا ارتياده من قبل انتظاراً لعمل يأتيهما ، فاجأ أحمد صديقه هشام بلكمة في وجهه فلم يرد هشام اللكمة ، وتوقف قبل أن يحسم أمره ، تقدم من صديقه بهدوء ما لبث أن تبدل حين أخبره أنه سيريحه وينهي كل ما تسبب في الخلافات بينهما، كان هشام قرر مصارحة صديقه بأمر علاقته بشقيقته ورغبته في الارتباط بها ، لكن أحد الجيران كان قد سبقه ووشى به لدى صديقه الذي تلقاه بالسباب واللعنات واللكمات نفذ بعدها صبر هشام فرد له الكيل وتشابكا بالأيدي وعمت الفوضى المكان الذي زاد من ضجيجه وصول سيارات الشرطة التي اعتادت زيارة هذه المنطقة ليلاً بحثاً عن هاربين أو لصوص ، وأحيانا يقوم ضباط الشرطة في وردية الليل بمداهمات القصد منها تمضية الليل، والتسلية بحجز بعض الشباب.
في هذه الليلة اقتادوا مجموعة من الشباب العاطلين الذين تواجدوا في المكان، كما اقتادوا الشابين المتناحرين إلى حيث يقضيا ليلة من ليالي الحجز في أقسام الشرطة حيث يقوم رجال الشرطة بواجبهم تجاه هؤلاء المشبوهين من البشر.
مضت ليلة الصديقين طويلة لم تتح لهما ظروف الحجز فرصة للنقاش فاكتفيا بتبادل نظرات غاضبة على وعد وتوعد بعد الخروج من الحجز.
- مش عايز أشوف وشك تاني
قالها أحمد بعنف عند باب قسم الشرطة وقت خروجهما ، متناسيا ما كان بينهما من روابط تحتل سنوات عمرهما ،جيرة وصداقة عمر وصحبة ، كان يرى أن ما فعله هشام يعد خيانة فقد ذهبت أقاويل الناس بكل فرص الصفح عند الصديق ، بدا أحمد متشدداً مهدداً ومتوعداً ، واجهه هشام بخجل أملاً في الحفاظ على ما تبقى بينهما من روابط .
ماشي ياصاحبي رددها هشام مرات وانصرف مبتعدا عن صديقه الذي كان وشريط الذاكرة يمتد أمامه يستعرض ما كان بينهما من روابط ، منذ أن تخرجا من أحد المعاهد الفنية، مضت الأيام بهما ثقيلة ، دارا سوياً للبحث عن عمل بلا وساطة ، دون جدوى ، امتهنا كثيراً من المهن كمساعدين لكونهما غير خبيرين بالمهن اليدوية (نقاش ، بناء ، حداد ) ، وفي كل مرة ينتهي عملهما بانتهاء المشروع المقرر إنجازه بعائد لا يكاد يسد حاجتهما .
المقهى ملتقاهم جميعا هؤلاء الباحثين عن فرص عمل بالصدفة ، يلتقون صباحا ويظل العاطلون منهم جالسين على أمل أن يأتيهم بعض من هؤلاء الذين يرغبون في أعمال لا علاقة لها بالخبرات التقنية ، يطول بهم الجلوس أحيانا حتى المساء ، يعود بعضهم بحصيلة قليلة، ويعود البعض خالي الوفاض ، لكنهم جميعا لهم داخل الصدور قلوب بعضها مرهف بالفطرة، وبعضها قاس بقدر قسوة حياتهم ، يتبادلون الأحاديث والحكايات ويقصون المغامرات التي تكون في معظمها من نسج الخيال ، قصص حب وقصص علاقات مشوهة ومشبوهة وتشابكات وأفعال قد لا تخطر على بال أحد ،يعرفون بنات الحي جميعهن واحدة واحدة ، وكل واحدة لها عندهم كنية يعرفونها بها من قبيل التستر رغم معرفة الجميع بصاحبة الكنية ، كما أن لهم مصطلحات يتبادلونها متوهمين أن لا أحد غيرهم يعرفها، يفرجون كروبهم بالنكات البذيئة والكلمات القبيحة وتبادل الشتائم دون حرج أو غضب ، وبحكم الظروف والمصير المشترك فقد غاص أنصاف المتعلمين من أبناء الحي العشوائي وكما يقول عنهم الآخرين ولاد المدارس ،غاص هؤلاء في ثقافة المجتمع والبيئة التي يعيشون فيها، متناسين ما كان من دراستهم، أحمد الأكبر في أسرته على ثلاثة أخوات أكتفين جميعهن من الدراسة بمؤهلات متوسطة ،وخرجن إلى سوق عمل تتوفر للفتيات دون الشباب، حيث يتقاضين أجوراً أقل ويقبلن بأعمال مختلفة بائعات ومروجات لسلع استهلاكية ، وقد يلتحقن بمحلات التجميل ليتعلمن المهنة وهن في النهاية يعدن بعائد يسد حاجتهن وبعضاً من حوائج الأسرة ، التي قد لا يسأل عائلها عن مصدر ما تأتي به الفتيات بحكم الحاجة ، حين يلتقي أبناء الحي العشوائي مساءً على المقهى يخوضون في حكايات البنات وعلاقتهن .
- إلا وفاء.... قالها هشام حين كان الشباب يتبادلون الأحاديث عن بنات الحي عندها غمز واحد من الجالسين لآخر
- إلا الأيقونة يا عم بلاش ديه... علم وقتها أن هذه كنية وفاء عند الشباب، رغم جهل الكثير منهم بمعنى الاسم الذي يبدو أنه جاء عن واحد من هؤلاء الذين نالوا حظا من التعليم ، ربما كان هذا هو بداية لفتت نظر المتسكعين العاطلين إلى موقف هشام من أيقونة العشوائي وفاء ، حيث تطوع أحدهم بمراقبتهما حسداً لحساب عدة منتفعين .
بعدها وشى لشقيق الأيقونة بما وشى، وكان ما كان من فراق الصديقين الذي اختفى هشام على أثره ولم يعد للحي العشوائي، ولم ير الأيقونة أو يرسل لها بخبر، سنوات مرت، ربما ثلاث ربما أكثر.
في غرفة الولادة بالمستشفى العام علا صياح التوأمين القادمين لتوهما إلى الحياة بعملية قيصرية ، كانت الأم الشابة لا تزال تحت تأثير التخدير، تهذي بكلمات غير مفهومة، وفي الخارج استقبل أهل الزوج الخبر بفرح ،بينما شغل أهل الزوجة بالسؤال عن صحة ابنتهم ، عندما خرج عليهم الطبيب يخبرهم بأن الأم تحتاج عناية مشددة .
وعلى المقهى كان التلفاز القديم يبث أخباراً لمشاهدين لا يلقون بالاً لأخبار تثقل واقعهم ، عاطلون مكدسون ينتظرون من يأتي لطلب عمل مؤقت ، والوقت يمر بطيئاً ، رفع أحد العاطلين رأسه متململاً من بغبغات التلفاز ، طالعه مشهد غرق أحد قوارب الهجرة غير الشرعية ، حين كان يفكر في اتخاذ طريق الفرار سبيلاً للخلاص ، أذاع التلفاز من واقع الغرقى والمفقودين أسماء شتى ، وحين أذاع أسم هشام لم يتمكن المتابع أن يعرف أكان هشام ضمن الغرقى أم المفقودين .
حين كانت برامج الحوار تناقش مشاكل الشباب ، وتتمحور حول الهجرة غير الشرعية وتفند الأسباب وتحلل ، كان الحي العشوائي يستقبل التوأمين القادمين بصحبة أيقونة الحي الشاحبة المنهكة.

# مساء العشوائيات : الأيقونة علامة شبه متحفية لا تفصح عن دلالة ما إلاّ إذا وظفت توظيفا خارج حالتها السكونية أو الثبوتية ، ومن الأمثلة التي تحضرني لتوضيح ذلك الموقف الذي يهجم فيه هاملت على أمه في فراشها ممسكا أيقونة بصدره بها صورة أبيه الملك المغدور وباليد الأخرى يمسك أيقونة على صدر أمه جرترود بها صورة عمه /زوج أمه المشكوك في قيامه بتدبير مؤامرة اغتيال أخيه والد هاملت ، ليقارن بين أبيه وعمه ، حاضا إياها على الحكم بأي الرجلين هو الأفضل أبيه أم عمه ، وهنا .. هنا فحسب تحولت الأيقونتان التي عليها صورة الملك المغدور والأخرى التي عليها صورة الملك القاتل /عمه تحولت إلى علامة تفصح عن دلالة مسكوت عنها فيها اتهام هاملت لأمه بأنها فرطت في الأفضل واختارت الأسوأ. وأيقونة الشاب العشوائي (هشام) هي تحفة البنات ، بمعنى أنها فتاة إطار لا نصيب لأحد فيها سوى النظر .. مجرد نظرة تطلع إلى بهائها ، تحفة ضد اللمس ، ضد التعليقات الصريحة ، أقصى ما يمكن أن يعلق به شاب من شباب الحي تعبيرا عن جمالها هو أن يهمس مجرد الهمس !! هي أيقونته هو وحده . ملكية رومانسية خاصة به هو وحده ، هي أيقونة لا يملك حل شفرتها غيره . لكن هذا لا يرضى غرور شباب الحي بالقطع ، لذا يحاول بعضهم حل شفرة العلاقة بين الأيقونة والمتيم بها ، وهذا لا يكلفهم سوى تتبع أحدهم لخطوط السير خفية للوقوع على لقطة يلتقطها بطرف عينيه عبر لقاء العشوائي بإيقونته . هنا تغيب الأيقونة عن المشهد ، لتحل لغة العشوائيات بين الصديق المتيم وصديقه شقيق الأيقونة ، تختفي لغة الهمس بالعيون لتحل محلها لغة الأيدي متلازمة مع لغة الشوارع والحارات .. تنتهي الصداقة ويختفي العشوائي المتيم بأيقونة الحي .. وفجأة تصدمنا القصة صدمة درامية عبر صورة في إطار أفق التوقعات ؛ حيث حالة ولادة امرأة تضع توأما .. لا نعرف من هي على وجه التحديد ، حيث تضعنا القاصة على شفا حفرة من أفق التوقعات في محاولة لاستشفاف من تكون تلك الأم الصغيرة ، وقبل أن يتحقق أفق توقعاتنا ؛ تصدمنا القاصة صدمة دراماتيكية ثانية على أجنحة أفق التوقعات أيضا ؛ عن طريق خبر عن وجود اسم العشوائي المتيم ( هشام) بين أسماء بعض الشبان الذين غرقت مركب هجرتهم غير الشرعية في البحر في اتجاه دولة أوروبية ؛ تتركنا القاصة متأرجحي الرأي حول إذا ما كان بطل العشوائيات من بين أولئك الغرقى أم لا .
ويبقى لي رأي حول مكانة هذه الأقصوصة التي شاءت سعدية أن تتوج بها مجموعتها القصصية هذي .. ففي رأيي أن تتويج سعدية لمجموعتها بوضع عنوان تلك الأقصوصة عنوانا عاما تتوج به المجموعة ليس في محله ، فثلاثية عزة وتيشو أكثر فنا ,أكثر دلالة على واقع العشوائيات وأثرها في حياة المهمشين في بلادنا ، وهي الأكثر تأثيرا أيضا من الناحية الدرامية ومن ناحية جمالية السرد.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

البرعي أستاذ تاريخ
هالها ما رأت وسط الزحام ، كان يمرق كما الشبح ،عينان زائغتان ووجه مكفهر وثياب رثة بالية ، وشعر أشعث وجبين مغبر وصبية يتبعونه يركضون خلفه ،فاجأها بريق عينيه وومض ما تحمله النظرات ،وحين حاولت إلتقاط النظرة الثانية للتمعن كان قد مر كما البرق وضاع وسط الزحام ،تحركت إلى حيث انفلت ، صدها سيل البشر المندفع نحو بؤرة الميدان ...وما عادت تدرك أكان حقيقة ما رأت أم وهم يترائي لها مجسداً ، جاهدت أن تبعد الطيف الأشعث الذي مر وتنشغل لما خرجت من أجله ، ولدها الوحيد الذي خرج ولم يعد .
منذ بدايات الغضب في الميادين و النهارات تتوالى مفعمة بالتوتر من يوم خروجه حتى لحظة قرارها بالخروج خلفه باحثة
خرج ولم يعد ، عبارة مطوية بين صفحات الجرائد تحت عنوان مفقودين ، تعود لتطفو على بحر حياتها المتقلب بالأنواء ، غاب الولد وغاب معه رفاقه الذين يمكن أن تسألهم عنه ، مر يوم .. يومان ...أسبوع ، لن تنتظر أكثر، خرجت تبحث ، تعرف أن هناك الثوار والثورة، وهناك بلطجية وهناك سلطة تتصدى، وطلقات وقتلى وشهداء ،قلبها ينفطر ، كان لابد أن تخرج معه منذ اليوم الأول ، لكنه منعها خوفا عليها ،يراها قد هرمت ، وربما لا تحتمل الزحام والشدة ، حاولت إقناعه أنها كانت لها أيام كما هذه الأيام، وشاركت الغاضبين غضبهم وكانت لها قصة ، لكنه خرج، وبقيت تنتظر، وتتابع الأخبار القادمة عبر الفضائيات ، وتشارك الثوار بالكلمة ، تكتبها على مواقع التواصل الاجتماعية عبر الشبكة العنكبوتية ، التي صار بعضها ثورياً،قضت أياماً أمام الشاشتين، تحملها موجات المد والجزر اليومي حيناً ،وتغيب أحياناً بين مقارنات أوجه الشبه والاختلاف ما بين اليوم والأمس ، تطفو على تشابكات الذاكرة حوادث الغضب الماضي وما أسقط عليه من كنيات ومسميات ، ويغوص الحدث ليلامس قرارة القلب ، في ذاك الماضي الذي يشابه اليوم ، فيعود يحمل وجه حبيب كان ، وبقايا انتظار طال لغائب خرج ولم يعد حتى الآن ...هو الرائد والمعلم وهو الحبيب العاشق ورفيق الدرب ، جمعهما الحب وعشق الوطن كما جمعتهما قصة رفض ، وكلمة لا في وجه الذل ، معاً كانا يحلمان بعشق وعش ويرسمان وجه المستقبل ، لا تزال تتذكر كم مرة غاب هو رهن الحبس وما وهن ولا وهنت ، تلك الأغنيات التي تسمعها الآن لا تبلى ولا تندثر لاتزال يتردد صداها الآن، ويعيد الغاضبون صقلها بإسقاطها على واقعهم ..الآن تسمعها جلية في الميدان ،تتحرك شفتاها ،تغنيها الآن همساً بعدما كان صوتها يملأ فضاءات الغناء الثوري،تسترجع معها نبض قصاصات رسائله التي كان يلقيها لها من بين فتحات الزنزانة ، حين كان يغيب رهن الحبس ، عادت الآن كل الصور تتماوج وما كان باستطاعتها أن توقفها، والتاريخ يسجل السابع عشر و الثامن عشر من يناير ويتوقف ويغيب الحبيب ولا تعلم له مكاناً أو مستقراً ...وتمضي السنوات تبحث وتكتب الرسائل وتنشر إعلان المفقودين، لعله يرجع، تطول سنواتها وتفقد السند ، فتنتحر بالارتباط بمن لا تحب، وتعيش كما تماثيل الشمع وتنجب الولد، فيهون عليها وحدة النفس ، وترى فيه وجه الحبيب الغائب الذي ليس من دمه ولا نسبه ، فتربيه كما شاء وشاءت أن يتربى ولدهما الذي لم يأت ، ويشب الفتى كما أحبت أن تراه ، ويحين موعد الوفاء بالوعد ، أيكون فلذة الكبد أيقونة الوفاء.
هي الآن في بؤرة الواقع أقرب، تبحث عن ولدها الأوحد ، موج البحر يتلاحم مع غضب الثوار ولا يزال تمثال الثائر القائم على الميدان يولي وجهه شطر البحر ، وبين الزحام لافتات وشعارات و أصوات وخطب ، وأشعار وأغان تحفظها من زمن الغضب الماضي ، مر الوجه كما البرق واختفى عادت لسنوات بعيدة ، ولنفس المكان ووجوه ثوار رحلوا ، عاد وجه الغائب من زمن يتماوج بين موجات الزحام ، صار الغائب غائبين ، وهي بين الزحام تبحث حيناً ويأخذها حماسها الثوري أحياناً تعيشها بصور الأمس ، الغائب اليوم تشابهه وجوه الثائرين تراه في عيونهم ، تسمعه في هتافاتهم ، تطمئن القلب ، هنا الكثيرون أمثاله تنتظرهم الكثيرات أمثالها ، تعود لقلق الأمس يعاودها طيف الغائب الذي لم يعد ، ولم تسمع عنه خبراً حتى رأته اليوم شبحاً يمرق كما البرق ، ولا تملك أن تفصل بين الحقيقة وخيالات الذاكرة الراجعة ، منذ يناير في العام السابع والسبعين بعد المائة من الألف الأولى للميلاد ، العمر الغض ،والقلب العامر بأمل في الغد وكان الحب وحصاد سنواته، وكان الغضب والإنتفاضة ...أهي على موعد مع يناير ؟ أم هو ذاك اليناير يقلب الصفحات فيستنسخ بعضاً من سطورها .
خرج ولم يعد، هكذا كتب في الجرائد حينها مصحوباً ببعض المواصفات ، أسمر اللون ، نحيل ، يرتدي قميص أزرق ، وتوج الإعلان بنداء ..عد أنا بانتظارك ، بينما تم كتابة اسم المعلن بالأحرف الأولى س ع ...لازالت قصاصات الجريدة بين طيات الكتب القديمة ، لازال هناك بعض من بقاياه ، وهذه بعض من أوراقه وسطور حبه المرتعشة كما إرتعاشة لمسة اليد لأول مرة ، كما ضمة أول قبلة ، كما حفيف الشجر في باكورة اللقاءات ، هنا طوت الصفحات الذكرى بغيابه ، وضاعت هي بين ضبابات الحياة بعد طول انتظار ، تتقلب بها الأيام وتومض من حين لحين ذكراه ويمر طيفه ، وهي لا تزال تحتفظ بآخر ومضة لبريق عينيه الذكيتين ، القادرتين على التقاط التفاصيل الدقيقة للمتغيرات ، اليوم يشابه الأمس في التاريخ والحدث ، وهي تسير بنفس الأماكن التي جمعتهما يوماً نفس الشوارع ونفس الميادين ، وإن تبدلت تفاصيل المكان ، واليوم يمرق كما البرق وميض العينين وإن تبدل الحال هل حقاً ما رأت ...هل هو وعي أم مجرد وهم ، تعبت حاولت الخروج من بين كتل الزحام ، كادت تقع ، ساعدها بعض من أشباه فلذة الكبد الغائب اليوم ..حتى وصلت إلى رصيف البحر ، قال الفتى
- هنا تجدين حافلات تقلك إلى البيت عودي ياأم نحن هنا من أجلك
أومأت ، وتركها الفتى وعاد إلى زحام الغضب، راحت تتحرك على رصيف البحر، وكما شعاع ممتد جاءتها نظرته فجأة عن قرب ، كانت عيناه تومض وسط حلقة من الصبية، يلتفون حوله وهو يجلس القرفصاء على رصيف البحر ناشراً بعض الكتب والأوراق والأطعمة للصبية يلتهمونها ، ركضت نحوه ، فابتعد وقفز نحو البحر ، الأحجار تفصل بينهما وسور البحر ، ولحظة جنون وبريق عين وذهول ، نادته باسمه
- ناجي ها أنا ذا
ولى وجهه شطر البحر ولم يأبه لصيحاتها ،إلتف الصبية حولها ، طوقوها بغضبهم ، ونهرها كبيرهم
- عايزة إيه منه خلاص كفاية اللي جرى له منكم ...انت تبع الحكومة مش كده؟؟؟
- لالا أنا....وتوقفت الكلمة على شفتيها فمن تكون هي بالنسبة له وكيف يفهمها هؤلاء المشردين ؟
نادته مرة أخرى ، صاح بها الصبيان
- يا ست روحي لحالك وسيبينا في حالنا ...أنت غلطانة مش هو ده اللي بتناديه
- ناجي
- ياست ناجي مين ده عم البرعي مربينا ومربي غيرنا كتير من سنين... يعني أبو المتشردين .
توقفت تتفحص الأوراق التي نشرت على سور البحر ، بعض من نشرات ثورية قديمة ، ووريقات من كتابات جمال حمدان ، وصوراً لجيفارا ورسائل أكلتها الرطوبة فلم تتبين منها حرفاً .
الآن تأكدت أنها أمامه هو، هي رائحته تنضح بها الأوراق .
أربع وثلاثون عاماً قد مرت منذ اختفائه أثر خنق الصوت الثوري ، وستة وعشرون عاما هي عمر الولد الغائب بين هدير الموج الثوري الآن ، وما بين السنوات عمر تغضن وسنوات قهر .
الآن ماذا تفعل ؟؟؟
أتقفز خلفه حيث الموج يهدر والبحر المتقلب ...ربما لو لامسها يتذكر ، فتحت حقيبتها ، أخرجت رسالة قديمة من رسائله قرأت بعض سطورها بصوت جهوري لعله يسمع ، لكنه سبح بعيدا ، فأغضب ثلة المشردين وجودها وتكاثروا لطردها .
الأيام تمضي بالثورة والثوار وهي تسكن الميدان باحثة عن غائب اليوم ، ومبقية على غائب الأمس تحت ومض العين حين يمرق كما البرق بين ثلة المشردين.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثلاثية ورد النيل

ورد
هبت مذعورة ، كابوس داهم بدايات لياليها الحزينة ، قفزت لتجده أمامها ، لملمت منديل رأسها أحكمت ربط عصابتها ، جلست مستنفرة القوة ، قرأت في عينيه الحمراوين شبقاً خائناً، قفزت ، دفعته بكفيها واندفعت تركض في ظلمة الليل ، تابعها ركضاً ، نفحات من القوة هبت في الساقين النحيلتين والجسد الهزيل ، اختصرت الدرج المنحدر في قفزات ، لفحها هواء الشارع الضيق وظلمته ، سمعت صوت سقوط ملاحقها على الدرج ، اختلطت لعناته وصيحاته وسبابه بنباح كلاب الحارة ، واصلت الركض ، خرجت من ضيق الحارة ، اعتمدت طرقاً ملتفة للهروب ، فتح النهار عيون الأسكندرية حين كانت ورد تدخل محطة السكة الحديد بقلب تتعالى دقاته ، صوت يعلن عن قيام قطار إكسبريس الدرجة الثالثة إلى القاهرة ، وفي ركن من القطار بجوار الباب كانت تجلس مستندة لكرسي خلفها ، القطار ينهب الطريق بعكس رؤيتها ، بدت كمن تودع مسقط رأسها لم تشأ أن تولي وجهها باتجاه المفر فانسحبت للخلف ، الباعة الجائلون ، أولاد وبنات يماثلونها بثياب رثة ، الركاب الواقفون والجالسون اعتادوا المشهد لم تشعر بالغربة إذ بدا لها معظم الراحلين وكأنهم جيران الحي وصحبة الفقر ، أمنت بتحرك القطار فنامت ، كم من الوقت مر حين وجدت نفسها تتخبط بأقدام الركاب المغادرين في محطة القاهرة ، هي لا تدري .
واجهت شمس الصباح عيون الزحام ، إحتكاكات وتصادمات ، عالم فوضوي متضارب ، أمواج البشر تتلاحق ، تدفعها للمسير ، تندفع مع التيار، دون تحديد وجهة المسار ، تنظر في كل اتجاه ، لا تدري إلى أين تذهب ، واجهها الشارع الممتد ، المظلل بالكوبري العلوي ، سلكته إلى وجهة غير معلومة، سارت ما شاءت لها قدماها وقوتها المنهكة .
لاحت في الأفق حديقة قصدتها ، جلست ، شردت حتى حد الأفق البعيد ...بالأمس القريب توفت أمها في ذاك البيت الكريه الذي غادرته هرباً من بين براثن زوج الأم ، مرت لياليها قبل الهروب نكدة وعسيرة ، تنام مفتوحة العينين ، تخشى الرجل الذي هددها إن لم تخضع له ، الآن هي في مأمن من الرجل ، بلا أمان من مجهول لا تعرفه.
رفعت عينيها عن العشب لتواجه الشارع تستكشف وجه المدينة ، إشارة المرور تتوقف وتعود لتفتح سيارات تمر وحافلات ، قفزت فتاة من الرصيف المواجه تحمل عقود الفل ، عبرت الشارع بجرأة وتفقدت السيارات ، تابعتها ورد بعينيها ولسان حالها يقول لربما أكون في الغد مثلك ، مالت تستتر، وضعت كفها في صدرها، أخرجت منديلا معقودا ، فتحته لأول مرة منذ وفاة الأم ، وجدتها ورقة من فئة المائة جنيه ، وبعض أوراق الجنيهات المعدودة ، هذا ما تركته الأم لها سراً عند احتضارها ، أوصتها ألا تفتحه إلا عند الحاجة ، عادت لتتابع بائعة الفل، وتغيب في أيامها الماضية .
ورد الفتاة ذات السبعة عشر ربيعا ، قضتها بلا لون ، فتحت عينيها على الدنيا لتعيش شظف العيش بين أبوين فقيرين ، تركت التعليم في بدايات المرحلة الإعدادية عند وفاة الأب، فلا مورد رزق لأب وافد من أقاصي الصعيد إلى الأسكندرية ليعمل عامل بناء باليومية ثم يموت تحت الأنقاض ، حتى الآن لم تتوغل داخل ذاتها ، مقهورة تعيش يوماً بيوم ، بلا مطلب سوى العيش الآمن ، وقد عزعند ظهور زوج الأم ، أحست منذ ظهوره بالخطر دون أن تملك قدرة تحدي الخطر، وكأن الانقاض التي دفنت الأب دفنت معه الإرادة والقوة ، وأحنت الرأس للقهر ، الذي ثقلت وطأته بمرض الأم ، الآن فقط تعرف أن بداخلها قوة ، استطاعت أن تفسح لها طريق المفر ، قبضت كفيها معاً كمن تختبر قوتهما ومالت مرة أخرى تستتر لتدس المنديل المعقود على رأس مالها في طيات صدرها ، رفعت عينيها تتابع سيل المشاهد أمامها، فتحت إشارة المرور فقزت الفتاة البائعة صوب الحديقة ، عبرت الحاجز الحديدي قفزاً ، جلست بالقرب منها تؤرجح قدميها ، تشابكت الأعين بتساؤلات عدة ، ما كان لها من جواب سوى التقارب ، ووجبة فقيرة جمعتهما وحكايات الهروب .
زحف الليل ،وفرض الشارع قانونه على ورد كما فرضه على عزة من قبل ، سارت بائعة الفل عزة رفيقة الدرب دلتها على مكان شراء عقود الفل ، وأفسحت لها مكاناً بين رفاق الشارع ، راحت تجوب الميادين والشوارع الواسعة ، تقفز عند الإشارات لتبيع عقود الفل للمحبين ، وتعود ليلاً لتشارك عزة سكن جحر أسفل درج إحدى البنايات المتواضعة ، هي القاهرة بضجيجها وتناقضات مشاهدها ، ألفت فيها حياة الشارع وحكايات عزة ، وصدقت مقولتها ، لو لم تكن قابلتها لضاعت في زحام القاهرة ، تضحك ورد ضحكة مرة ، بمرارة أيام البؤس وحياة الشارع ورفاقه وخبزهم الحاف ، تأكله ، فيأكل الأيام تباعاً ، سنة تمضي ، تحمل روابط وعلاقات ورفاق ، وقلوب تدق كما كل القلوب تنبض بالحب ، ينبض قلب الورد بالحب ، العاشق من نفس الدرب بائع علب وأكياس المناديل الورقية في إشارات المرور، علي تيشو .
تجوب القدمان الميادين ، تتجمع القروش فوق القروش ، الجنيهات فوق الجنيهات ، العيش زهيد والنهارات بائسة ، الشارع معلم مخضرم عتيق ، يسقيهم الخبرة ، في كاسات الشاي على المقهي الفقير بالحارة والمكني بطعم المر (قهوة مرارة ) جهاز التلفاز المعلق بالحائط العتيق ، ونظرات العيون تقتطف الفقرات ، أفلام رومانسية تارة ، وأحزان تارة ، ونشرات أخبار.
الثلاثاء صباحاً وهما تجلسان على مقاعد القش بمقهى مرارة ، كأسان من الشاي ولفافة خبز ، تقضم سأم الغموس المعتاد المتكرر ، وتطالع إعلان عن زبدة الطبخ وصور طعام فوق موائد تكتظ ، ووليمة أناس لامعون ولسان يتكلم بنفس اللون ، تواجه عزة التي تزدرد طعامها الفقير فتتحشرج، تناولها كوب الماء لتبلع، تضحكان من تناقض مشاهد التلفاز وواقعهما ،وتقفزان فجأة لتبدآن عمل اليوم .
- نتقابل الظهر عند كشري التحرير يا بت....قالتها عزة وهي تلاحق حافلة الأجرة الخارجة لموقف الركاب
- ماشي آني النهاردة على كوبري الأسدين هما خطوتين ونبقوا هناك.
- اسمه قصر النيل يا جاهلة
- قصر النيل قصر الباشا... الغريب أعمى
- طيب فتحوا شوفوا مين وراكوا... قالتها عزة ضاحكة من لكنة ورد الجامعة وركضت تلحق الحافلة .
إلتفت ورد ، كان علي تيشو يتابعها ليلحق بها، خرجا من ضيق الحارات إلى الطريق العام ، بدا تيشو صامتا على غير عادته هو الثرثار المتحدث بألف لسان ، لم يشأ أن يتحدث إليها سوى بالسؤال عن الحال ، علي تيشو يمثل الحماية لورد من تحرشات صحبة الشارع ، يعرفون أنها تخصه ، وهو ليس بالقوة التي يخشونها لكنهم يخشون رفاقه ، ورفاقه يشكلون قبضة بطش لمن يستعين بهم .
افترقا كل منهما في مسار ليبدأ يوماً من الكد لقاء قروش تقيم الأود.
مرت الظهيرة سيول من البشر تزحف على الطريق وعيون ورد ترصد الحال بدهشة الغريب ، قليلون هم من ابتاعوا في إشارة المرور عقود فل ، اليوم مزدحم بلا عمل ، تشق الزحام لتصل إلى مكان اللقاء مع عزة ، لكنها تتواجه وسيل البشر القادم يحملون لافتات ويرددون الشعارات تلتف قبل أن تقع لتسير بنفس التيار ، تتأبط ساعدها فتاة تهتف ، تجد نفسها تسير مع تيار البشر ، وحين تصل مع الجموع إلى الميدان يتوقفون فتقف ، لأول مرة ترى الغضب منظماً ، الغضب في حارات الإسكندرية لم تره سوى في مشاجرات النسوة على أسطح البيوت الفقيرة وبين داهليز الحارات لأسباب تافهة، وفي مناوشات البلطجية مع الباعة المساكين يهاجمون أسواقهم الفقيرة يفرضون الإتاوات وبين طوابير الخبز لاغتصاب الدور ، وفي مشقة الحصول على غاز الوقود رغم غلاء ثمنه ، الغضب تراه حين يهاجم أفراد الشرطة الأسواق الفقيرة مستعينين ببعض البلطجية يقلبون فرش السوق ويستولون على البضائع الفقيرة ، أو يجمعون الإتاوات ويتركون الباعة والزبائن الفقراء يسبون ويلعنون بأصوات تكاد تكون همساً ، الغضب في شوارع الإسكندرية رأته في صدامات سائقي الحافلات الفقيرة وصبية التُـكْـتُـكْ في الحارات يتشاجرون ويتقاذفون بالسباب والحجارة ثم يتفرقون أو تجمعهم الشرطة غالب ومغلوب والغضب رأته في زوج الأم فرد الشرطة السري الذي مثل سطوة بطش أذلتها وأمها زمناً ، رأته حين كان يعود ليلاً يرغي ويزبد ويهدر مباهياً بسلطته ، وما كان سوى مجرم إستمالته الشرطة فعاش في كنف رجالها وبطش بيدهم .
شاردة وسط الجموع ، تطالع الشعارات المحمولة ، تبدو مضطربة لا تدري ماذا تفعل ، الكثيرون حولها في مثل عمرها ، لا تزال الفتاة تمسك يدها ، وهاهي الشرطة تحاصر الميدان مدججة ، ضاعت عقود الفل من يدها وسط الزحام ، أغلق الميدان وتوقف السير ، لم يبق أمامها سوى هذا الجمع ،فكت يدها من صحبة الفتاة ورفعت عينيها تسألها :
_ ليه كده؟
وببساطة الموقف تجيب الفتاة
- علشان نعيش باحترام
سمعت الكلمة التي طالما غابت عن عالمها الفقير ، لا احترام للإنسان في الحي الفقير ، لا احترام لطفل في مدرسة فقيرة ،أصبحت مجانية التعليم فيها وهماً ،لم تشاهد هذا الإحترام ولا تعرف كنهه ، حيث الحي الفقير تلاحقه اللعنة في كل مطالب الحياة ، سباب يومي في طابور العيش ولعنات في طلب أنبوب الغاز ، وعراك في سوق الخضار ، وصدامات تفريغ الكرب بين الجيران .
- آه إزاي يعني تعلموا الناس يحترموا بعض ؟
- تسألها الفتاة: انت اسمك أيه ؟
- ورد ...ورد النيل
- إحنا عايزين نغير يا ورد عايزين المسؤولين يفهموا أن لنا مطالب انت مش لك مطالب برضوا ولّا أيه ؟بلدنا فيها خير يا ورد بس فيها ناس بتاخد وناس لأ
- صحيح
- طيب عايزين حقوقنا ، طالبين تغيير .وهنفضل واقفين لحد ما يحصل... معانا ولا ....؟
- معاكوا طبعا أنا ما عنديش حاجة أخاف عليها ، وناقصني كتير
حينها فتحت ورد أذنيها لما يتردد ،وجاهدت عقلها لتتفهم الحدث وتحاول أن تستخلص ذاتها من خصوصية واقعها لتواجه نفسها بالتناقض من حولها ، مرت بذهنها مشاهد التلفاز وإعلانات السلع ورفاهية لم ترها على الواقع ، أفاقت من مشاهدها على أصوات الطلقات من بنادق الشرطة ، أمسكت بيد مجاورتها لتمنحها القوة ، غيم الدخان الكثيف على المكان ، دمعت عيناها ، سعلت ، تدافعت الجموع بعيداً ، واندفعت وسطهم ، غابت عنها الفتاة التي صحبتها ، وتأرجحت بين أمواج البشر، قوة بطش تفرق الجموع ، وهي وحيدة تسير على قدميها لا تدري إلى أين ؟، قطعت الميدان وعبرت الشوارع الجانبية.
إنتصف الليل حين وصلت إلى موقف حافلات وصبية فقراء يعلنون وجهة الحافلة ،ألقت جسدها المنهك على مقعد وغابت في أحداث اليوم، توقفت الحافلة على أول الشارع في الحي الفقير، لا حظت توقف البعض على الرصيف المواجه للمقهى في طريق عودتهم من يوم شاق، يطالعون شاشة التلفاز ، رأت الجموع التي تركتها في الميدان مصورة على الشاشة .
بعد ليلة قضتها مؤرقة لم تشأ أن توقظ عزة وتسللت مبكراً ، عادت من حيث أتت ليلة الأمس ، عند الظهيرة كانت الجموع قد بدأت تتوافد على الميدان ، حاولت أن تبحث عن وجه مرافقة الأمس ، بدا لها أنهن متشابهات ، لم تجد لمرافقة الأمس علامة فارقة تميزها، فغابت وسط الجموع تتابع وتفعل ما يفعلون .
وتعود مشاهد الكر والفر ، رأتها من قبل في السوق البائس حين تهاجم الشرطة البائعين في السوق فيركضون حاملين أقفاصهم ، أو يدفعون عرباتهم ،وما ان تغيب عناصر الشرطة وبلطجيتهم حتى يعود الباعة إلى سابق حالهم ، وما كان للحي الفقير أن يعيش دون وجودهم ، يختلف الكر والفر الآن أمامها وتتبعه وتتفاعل معه ، قوة البطش تهاجم فيفر الجمع ثم يعودون ، وتشتد قبضة البطش يقع الضحايا ، وهي بين الزحام ، تساعد وتدفع الأذى ، وتدافع معهم ، لا تعرف عن الوقت شيئاً ، لا تتابع الزمن ، كم ليل وكم نهار فالزمن يتواصل ، يجلب معه أسماء المجاورين ويوطد الأواصر، تصبح الوجوه مألوفة في الدائرة المحيطة ، تعرفهم ويعرفونها يدعونها باسمها وتناديهم عند الحاجة باسمائهم، الآن تعرف أنها الثورة ، تعرف الكلمة ، إنها كلمة لا في وجه الظلم، تعرف الأخبار ، كما نشرة أخبار مستقلة تخص المكان ، وتوترات الحدث ، لا وقت للحزن حين تأتي الأخبار بوقوع الضحايا ، قويت صخرة القلب، هناك هدف ، تزداد قوة البطش ، ليست الشرطة وحدها ، هناك وجوه أخرى ، وجوه تعرف بعضها ، جاءتها بهم خبرة الشارع ، كانت تخشاهم في بدايات تلامسها مع الشارع ، إحتمت منهم بعلي تيشو
الان تراهم أمامها ، تلمح غدر عيونهم ، يندفعون نحو زحام الرفاق يقذفون الحجارة ، ويضربون ويدهسون ، وهي في زحام العراك يداً بيد مع الثوار ، ترفع المصابين ، وتحمل أدوات الدفاع تناول المدافعين ، تهتف هتافاتهم ، الآن تواجه البطش دون حماية علي تيشو ، اليوم جمعة مرت الصلاة مشحونة بالتوتر ، عاد الصياح والهتاف والهجوم والدفاع.
وسط الزحام برز لها وجه مرافقتها الأولى ركضت نحوها ، وتدافع بعض البلطجية يهاجمونها ، دفعتهم عنها ، ظهر وجه علي تيشو ، بعد ثلاثة أيام من غيابها ، ظهر تيشو في الميدان رأته في فوضى الاشتباك والدفاع ، لا تعرف مع من هو ، وحين اندفع نحوها كانت هي تفتدي صديقة الزحف الأولى ، جاءتها الطلقة ، من الخلف ، سقطت ورد عيناها معلقتان بوجه علي وزميلة الزحف الأولى تنزف دماً ، تسألها بصوت واهن
- إنتي اسمك أيه ؟؟؟
- شذى وانت ؟
- ورد ...قلت لك قبل كده ...ورد النيل
قالتها ورد و غابت في هدوء ممسكة بيد مرافقتها حيث يختلط الدم .
غاب ضوء النهار عن الميدان ، رفع الضحايا ، وأزداد الثوار قوة وإصراراً للوصول إلى الهدف ، كتب بعض الثوار عبارات ،رسم بعض الثوار أيقونات ، وسجل البعض أسماء الشهداء ، ورفعوها وسط الميدان ، أكان بينها اسم ورد ، أم كانت تسير وسط الجموع بدون بطاقة هوية .

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
علي تيشو
بقوة إلقاء الحجر سقط مهاجماً صفحة النهر فردت بدوائر تتسع فتوشم تجاعيد وجه الماء بالغضب ...وهو يجلس على حافة النهر يلقي الحجر تلو الحجر، حتى لا يهدأ الغضب ، يتراءى له وجهها وآخر نظرة لها ودماء قلبها النازف على أسفلت الشارع الذي داسته قدماها طوال عام ذهاباً وعودة ، أكانت عقود الفل بيدها ، أكانت نظرتها عاتبة ، أم كانت نظرة شوق ، أم كانت غاضبة ، أم تركت كل مشاعر الدنيا القاسية ، لتمضي لعالم أجمل ، يلقي حجراً أكبر، يشتد غضب الماء ، يتناثر بعض من كدره، يصيب وجهه ويسيل مع دموع تنساب على خده ، ،يفتح علبة مناديل ،يسحب منديلا ،يلقيه دون مبرر، ويترك أنهار الدمع لعلها تغسل حزنه البائس ، كم من الوقت مر وهو على حاله ، يسمع أحيانا صوتها
- علي ...علي ...علي يا تيشو
- نعم...نعم ...نعم يرددها مرات نعم
يتلفت حوله لا أحد، فيعود لصفحة النهر ..هذه حال علي تيشو منذ آخر يوم رآها .
ما عاد تيشو يجوب الميادين يبيع علب المناديل الورقية لراكبي السيارات يقفز بين الإشارات طوال نهاره ،وفي نهاية يومه يعود لحجرة فقيرة وسط عشوائيات القاهرة ، هذه المناطق التي لا تعرف أيادي ساكنيها نعومة هذه الرقائق حين تمسح عرق الجبين .
يمسك بحصاة صغيرة يلقيها على صفحة الماء فترسم دوائر ناعمة صغيرة كما وجهه الصبي حين قدم مع أبيه من طزاجة الريف إلى قلب المدينة ، أي الأقاليم كانت بلدته ، لم يعد يتذكر ، كل ما كان يربطه بالبلدة وجه أم باهت الملامح وصبيان وبنات وأسرة فقيرة وأب لا هو فلاح ولا هو من المدن، أب ينتقل من امتهان العمل البدني إلى امتهان النفس بذل السؤال ، لا يستقر وعائد لا يكفي إطعام الأسرة ، حتى يقرر والده النزوح إلى القاهرة لعله يجد الرزق في البيع والشراء أو كأجير يستعمله البعض ، يحمله الأب معه ليؤنس وحدته ويعينه ويستدر به العطف ،سكنا الشوارع وظلال الكباري بداية النزوح، حتى تمكنا من اللحاق بعالم العشوائيات يحتلان جحراً من جحوره ، حينها ألحقه أبوه بمدرسة إبتدائية ووقف على بابها يبيع بعض الحلوى الفقيرة لتلامذة فقراء مثله ، فعايره الصبية ، تقلبت الأيام والمهن وغدا الصبي مساعداً للأب وملبيا لبعض طلبات المحيطين لقاء مبالغ زهيدة أو وجبة طعام ، لا يدري متى تسرب من التعليم لكنه يعلم أنه ما كان يوماً ينتظم فلا هو يتعلم ولا هو متفرغ لعمل ، يومها قرر هو وفي الصغر أن يترك المدرسة بما فيها من زجر لا يرحم وقيود وفروض وصبية فقراء مثله ومقاعد قاسية وصفوف دراسية مملة ، يترك كل هذا الهم ويعول نفسه ويخف حمله ، كان قد بلغ العاشرة ، حينها عرض عليه أحد التجار أن يمده بالسند ، حمله العلب والأكياس ، وحذره من ضياعها أو سطو أبناء الشوارع وبلطجيته ، حذره أن يذكر أسمه لو وقع يوما بيد الشرطة ،واتهم بالتسول ، أخلص علي للوصية ، غاب مرات رهن الاحتجاز بيد الشرطة التي لا ترحم ، تعلم أن هناك ثمن يدفع لقاء تحذيره بموعد مداهمات الشرطة لأبناء الشوارع ،تركه أبوه للشارع ومات ، صار له رفاق مثله ، ذاب أسمه الحقيقي وتبخر تحت عجلات السيارات التي يلاحقها في الإشارات والتصق به ذلك اللقب الذي أحبه تيشو ، منذ ناداه أحد الشباب بالإشارة ليبتاع منه علبة مناديل ذاكراً اسمها بالإنجليزية، يومها عاد يردد الكلمة حتى لقبه الصبية بها ، لم يعد كثيرون يتذكرون اسمه ، لكنها كانت تعرفه تردده مصحوبا باللقب علي تيشو .
بضعة أيام فقط تلك التي تفصله عن آخر نبرات صوتها وحديثها ، كانها السنوات ، يوم تركها تمضي وسط الزحام وعاد كان في انتظاره من يبرم معه صفقة .
على المقهى في الحي العشوائي جلس وسط رفاق الشارع ، عرضوا عليه المشاركة ،ثمة من استأجرهم كما اعتادوا ، رأى الجنيهات بأيديهم ، أوراق النقد لها فعل السحر على من يعانون لكسب ودها ، وهو الآن يحتاجها كي يكبر يتأهل في عش فقير بين آلاف الأعشاش المكتظة بالأنفاس والأرواح الفقيرة ، جادل الرفاق وجادلوه ...لم يكن بعضهم يفهم سوى عمل الأجير حين يستأجر ...جاء من أقنعهم كان مهاباً وذو سطوة وقوة ،لأول مرة يجلس فتيان الشارع مع صاحب سلطة ، وكان في الجلسة بعض من وعود مغرية بسكن ولقمة عيش مضمونة، وبعض من وعيد يهدد تشردهم وخطاهم في شوارعهم وحتى أعشاشهم الفقيرة ربما تنسف ، حين يسكنون الزنازين المغلقة ،والتهم جاهزة ومحبوكة ومفصلة على واقعهم وملفقة ، ما بين تسول وتعاطي مخدرات،وإتجار ...إلى سرقة وسطو وتحرش وإغتصاب والمدعون بالحق جاهزون ، قبضة السطو قوية وعروض المنح مغرية ، قبلوا الصفقة فاستأجرهم وكان أن نال تيشو فتاتاً من الكعكة ،فخرج معهم ، الزحام يخنق الشوارع ، الميدان مغلق بالمعتصمين ، وهم مكلفون بعمليات محددة ، إستعمال القوة ، إحداث الشغب ، تفريق الصفوف ، إرهاب المعتصمين ، راودته نفسه فقبل وأرضى ضميره القلق قليلاً ، وهون رفاقه الأمر وخففوا من وطاته ، ربما بضعة مشاغبات ومشاحنات وتخويف وتهويش وينفض الزحام ويعود هؤلاء المتأففون إلى بيوتهم وتعود الحياة إلى ما كانت عليه ، كان في مؤخرة الركب حين داهم البلطجية الميدان ،رأى الميدان كما لو كان يوم الحشر، هو يعرف أن رفاقه أصحاب العضلات لا يفكرون ، ويفعلون لقاء الأجر ما يؤمرون ، فعل مثلما فعلوا إخترقوا الزحام بالقوة ،كانت هناك من أعلى قوة أكبر تضرب ، هو لا يدري مصدرها ، لكن طلقات الضرب تجزم بالسلطة، فمن يفعلها غير سلطة قادرة قابضة، تملك قوة الطلقات بديلا عن قوة العضلات والعصي والهراوات ، رأى فتية الإعتصام يتساقطون جرحى وقتلى رآهم وسط الميدان حين قرر أن يتوقف ، أن يعرف لماذا؟ حينها رآها تندفع لفداء فتاة فتاخذ الطلقة ، نعم، هي ورد تفتدي فتاة أخرى في مثل عمرها وعلى غير هيئتها ، لا يدري متى وكيف عرفتها ، الثواني تعد وجزيئات الثانية ما بين اندفاع ورد صاحبة القلب الذي أحبه، وبين اندفاع الطلقة نحو هذا القلب ، سقطت ورد حين كان هو أمامها ،عيناها تنظران إليه نظرة لم يستطلع حل لغزها .
- ورد
( ناداها بصوت حشرجته الدهشة والفزع والرهبة )
كان قلبها لا يزال ينبض لكنها لم ترد، اكتفت بالنظرة وغابت، ظل راكعاً أمامها، لا يدري متى رفعوا جثتها عن الأرض يتذكر أنه أفاق فنظر أمامه لم يجد سوى بقعة دماء وردية اللون.
ترك الميدان وهام على وجهه لا يدري إلى أين يمضي ، يدور ويعود لصفحة النيل يجلس أمامها يرمي الحجر تلو الحجر شارداً .


ـ ـــــــــــــــــــــــــــــــ

عزة
طلقة طلقتان ثلاث طلقات...تهب عزة من جلستها أمام التلفاز تطالع المشهد لكن اللقطات المشوشة تمر سريعاً.. ، والوجه الذي مر أمامها على الشاشة وسقط تعرفه جيداً ، يرجف قلبها من هول الحدث، فتكذب عينيها وتقنع نفسها بأنها خيالات من الوهم انتابتها ، وحيدة على مقعد مهترئ من القش بعد ملل الركض في الشوارع بلا جدوى ،تحدث نفسها وتحاور ظنها .
- لو يعيدون عرض المشهد ربما تتأكد.
لكن ما يعرض زخم من اللقطات المهتزة والمتوترة لمشاهد عنف وقتل وتظاهر وتزاحم ، لقطات مصورة عبر المحمول ومرسلة لإحدى الفضائيات ، تفاصيل إعلامية قد لا تدركها عزة التي لم تنل من التعليم سوى الأبجدية ، بينما قام الشارع بدور المعلم في حياتها ، أكسبها الوعي والخبرة كيفما تيسر، تعود من جلسة المقهى للوحدة في جحرها العشوائي ، التلفاز الفقير في الغرفة قلما يفتح ، وتملك هي كما كل العشوائيين وصلة لإلتقاط البث الفضائي ، جلبها لها أحد بلاطجة الحي خلسة ، حين تمكنت من شراء جهاز تلفاز صغير كي تتسلى وتشاهد أفلاما رومانسية، لكنها قلما تفتحه حين تعود منهكة من تعب اليوم المرهق بالتجول في الميادين ، الآن فتحته وجلست شاردة بين هواجس الوجه الذي رأته يسقط وسط الطلقات، ورغبتها في تكذيب رؤيتها ...لن تتحرك ولن تبدل القناة الفضائية التي بثت اللقطة، ولن تغمض عينيها ، ولن تبكي حتى تتأكد ، تراودها ذكريات حياتها ووحدتها وعشوائيتها، منذ وعت حتى بدد وحدتها وجود رفيقة ضياع وعشوائية مثلها ، هي لا تعرف لماذا أمنت لها؟ دون كل رفاق الشارع وأستأمنتها وجلبتها لتعيش معها ... ترى حياتها من قبل كيف كانت، منذ ذاك اليوم الذي وعت عزة على حياة فقر وكدر، ضمن أسرة لا تدري صلة قرابتها بهم، تعيش معهم على كثرتهم في غرفة صغيرة تحت درج إحدى العمارات ،حيث كان يعمل رب تلك الأسرة حارساً للعقار ... يقال أنه خالها هذا الحارس، وربما يمت لها بصلة قرابة من جهة الأم، التي ماتت عند ولادتها ،فتولى أبوها تربيتها وعاونته نسوة حراس العقارات المجاورة المرضعات، لكنها تتذكر طيف ذاك الأب، تتذكر مرضه الذي أقعده عن خدمة العقار ،ولا تزال ذاكرتها تحتفظ بقدوم من ادعى أنه الخال، وجاء لمعاونة الأب في مرضه، وحين رحل الأب ، أخذ الزائر مكانه حارساً للعقار ، لم تعش بين أسرته الكثيرة العدد طويلا ،ولم تستوعبها المرأة الزوجة بين أبنائها وبناتها ، هربت من قسوتهم وهامت على وجهها وسط رفاق الشارع ،حتى تبلورت مكانتها كواحدة من بنات الشارع ،لم تخضع لأحد ولم يستميلها أحد من رفاق الشارع ،ولم تأمنهم ، فظلت على حرصها بينهم وساعدتها قوتها البدنية وسرعة حركتها ، حتى كان أن تمكنت من سكن الجحر الذي تأوي إليه بعد يوم عمل شاق ، كان حلمها أن تسكن بين أربعة جدران كيفما كانت، وتغلق عليها الباب ليلا وتنام ، وتعود نهاراً لعيون الشارع المفتوحة ، وقد منحها الجحر الفقير عزة نفس وقوة ، يعود وعيها للحظة الآن ...يوم يومان ثلاثة ...الأيام لا تهدأ والضجيج لا يخف والزحام في وسط المدينة يغلق مداخل الميدان ...وغياب رفيقتها ورد يقلقها واختفاء علي تيشو يثير الشبهات ، وفي الشوارع العشوائية بلطجية يعيثون فساداً وهي تغيب نهارها تتجول وتعود دون جدوى ، تشاهد التلفاز في المقهى وتستمع إلى مقتطفات من تحليلات عشوائية لأناس بسطاء ...في جحرها تجلس وحيدة تعاتب نفسها لماذا تركتها في هذا اليوم؟؟؟ ، أمن أجل علي تيشو ؟الذي كان يتبعها كي يفضي إليها ببضعة كلمات، أمن أجلها هي ورد؟ كي تدخل على نفسها السرور بلقاء حبيب يمكن أن يلطف من غبن الوحدة والشدة وخشونة العيش ، هذا أمر تعرفه هي جيداً تعرف معنى أن تلتقي بنصف يكملها ويجمل الحياة بكلمة ود ولمسة حنان ، أمر تعرفه ولم تجربه ، عاشت تبحث عنه لكنه لم يأت بعد ، لذا كانت تجد سعادة في لقاء تيشو بورد ،ترى الحب يتحقق على تعرجات العشوائية وقبحها فيجملها ، طاف ذكر الجمال بها قامت من جلستها تنظر قطعة مرآة مثبتة على الحائط لأول مرة تنظر نصيبها في هذه الدنيا من الجمال، حين رأت عينين حمراوين من قلة النوم ،ووجه أسمر لفحته الشمس، وبشرة خشنة ، حاولت أن تبعد عينيها فاجاتها عبارة كتبتها ورد على المرآة بقلم كحل أسود .
- ممكن أغيب ياعزة ...خدي بالك من نفسك
متى كتبتها ورد على وجه كسرة المرآة ...لا تدري ، سالت دموعها وخبطت المرآة بكف يدها كسرتها وجرحت يدها ، سال الدم منها على شقوق المرآة وبين ثنايا عبارة ورد ، لفت يدها بقطعة قماش وخرجت تاركة مشاهد التلفاز ، هامت في شوارع الحي ، ركبت حافلة فقيرة تنقلها إلى وسط المدينة غير آبهة بالليل وحوادثه .
المدينة لاتنام ، الناس يتجولون والبعض يخرجون للانضمام للحشود ، وهي لا تعرف ماذا يجب أن تفعل ؟ الآن هي في وسط المدينة وقد قاربت الميدان، رأت الحشود والهتافات، توقفت حائرة ، وحين قررت الدخول وسط الحشد أوقفها بعض من الشباب ، قامت فتيات بتفتيشها وسؤالها ، لأول مرة ترى الميدان محكم الدخول، بعد ان كان مباحاً ، تجاوزت عن التفتيش ودخلت رآها أحد رفاق الشارع ورأته كان يحمل أعلاماً يبيعها في الميدان ، جاورته وسألت عن ورد وتيشو ، ناولها بضعة أعلام مشيراً لها أنها التجارة الرائجة الآن .
- سيبك من الفل والورد محدش فاضي لهم
- ما شفتش ورد ولا تيشو
- قلت لك الورد مش سوقه اليومين دول خدي أعلام وصور و يلا شوفي أكل عيشك ونتحاسب على قهوة مرارة بالليل.
حملت الأعلام وراحت تجوب الجموع تبيعها وماسألت الشارعي عن ثمن القطعة، تركتها لتقدير الشاري ، وراحت تتجول بها وتتفقد الوجوه لعلها تجد ضالتها بين مروجي الصور والأعلام ، أو حتى بائعي الوجبات وشندوتشات الفول الذين يخرجون من الميدان ويعودون محملين بها لتزويد المعتصمين بالوجبات ، يقارب يومها الإنتهاء ولا تزال غريبة عن الجمع المحتشد، تعبت قدماها فاختارت حجراً يشد أوتاد خيمة ،وجلست، غاب النهار أحست بأمان الزحام فافترشت العشب ونامت ، تعرف أن الأخبار تأتي من هذا الركن في عالمها، فما جدوى العودة إلى جحر ،وشاشة ولقطات سريعة ومشوشة وهنا سوف تدير ما معها من جنيهات ، وتقيم أودها بلقمة عيش تماثل من حولها ، تراهم اليوم يماثلونها هؤلاء المنمقين المتعلمين العارفين بما لا تعرف ،هي الآن تأكل مما يأكلون وتجلس كما يجلسون ، تمضي الأيام وتجارة الأعلام والصور المربحة تحولها إلى بائعة أعلام وصور للراحلين الشهداء ، يتسارع إيقاع الأحداث تراه على وجوه المعتصمين وتسمعه في كلماتهم حتى يقع الحدث المنتظر فيبدل الواقع ، رحل رئيس الدولة عن سدة الحكم ، فرح وزغاريد واحتفالات ولا تزال في الميدان على أمل لقاء ورد ، هدأت الجموع وقلت أعدادهم ، وما ظهرت ورد ، الآن تستطيع أن تتحرك إلى بقعة أخرى من عالمهم تبحث ، لعلها تجدهما ، راحت تجوب شوارع الكد الأولى على ضفاف النيل حيث كانت تبيع زهورها وعقود فل للمحبين المتسكعين ، تسير شاردة تقطع المسافة المتاحة طولاً وتعود لنفس موقعها ، تطل على وجه النيل تنزل فتفاجأ به جالسا يلقي الأحجار ، تناديه بصوتها الجهوري.
_ تيشووووووووو أنت هنا؟
لا يلتفت إليها فتنزل ، تجذبه من سترته البالية تهزه تسأله عن ورد ، تنسال دموعه ، ويلقي آخر حجر بيده ، أما هي فلا تنتظر سماع الرد .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثلاثية العبث

دقة نقص
توقف الغناء والزغاريد ودق الطبول في عرس كانت القرية تنتظره لفك الأحزان بعد طول أيام عزاء وسرداقات ومعزين ، مضت أيام الأحزان حين أمضت الأرامل عدتهن وخرجن واعتادت أكتاف الآباء الإنحناء إنكساراً وسلمت بالوضع وجفت مآقي الثكالى وابيضت منهن جدائل حتى سأمن الحياة وعشن كما تماثيل الشمع ، مضى الحزن وأخذ معه ما أخذ ،لكن القرية حين قررت الخروج من بوتقته إلى فرح جديد بزفاف البنت والولد ، جهزت العرس وأقتنع الرجال الحزانى والنساء الثكالى بأن الأحياء في الدنيا لهم حقوق وأن الشهداء في الجنة ينعمون ويرزقون ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون ، المفقودون في الآخرة زوجهم الله بحور العين فلم الحزن ،لنفرح بالباقين وليبارك ربنا لنا ويرزقنا على مسمى الراحلين منهم ذرية ، هكذا بدت مشاروات الزواج وترتيباته حين قرر الآباء إتمام زواج سعيد ووفاء .
هذا الزواج الذي يعيد للقرية فرحتها ، قامت التجهيزات على قدم وساق وتطوع لخدمة العروسين كل من له طاقة ، هي القرية المصرية بكل ما تحمله من تقلبات الطباع ، الطيبة والشدة ، الوفاء والخداع ،الحب والكره
الآن ليس سوى هذه الفرحة ، التي تعوضهم عن فرحة كانت ببشائر الثورة ،وتطيب جروح خلفها مفقودين ذهبوا فداء
خرجوا من أحزانهم وكأنهم يبحثون عما يشق ظلام الحزن عنهم ، وحلت الأفراح والليالي الملاح تطوي كل التجهيزات لتحل ليلة العرس التي توقفت فجأة حين كانت الفتيات يصدحن بالغناء ويتبارين في الرقص وحين كان الشباب في نشوة الفرح يغمزون ويلمزون ويختارون لكل منهم فتاة أحلام ، يتبارى أهل العروسين بالغناء كل حسب موقعه فيغني أهل العريس
- خدناها خدناه خدناها بالسيف الماضي وأبوها ما كانش راضي خدناها خدناها
وحين يرد أهل العروس
- أوعى لها ياواد أوعى لها الظابط يبقى خالها
ينفجر الجميع بالضحك على ما آل إليه هذا الافتخار من سخرية، وكأنه سوء اختيار لمناسبة الأغنية، وتتغير الأغنية، وإيقاع الطبل، لتغني الفتيات أغنية جديدة للعروسين من تفانين صديقات العروس اللاتي جذبنها بينهن لتراقصهن فيصدح الغناء بعد عودتها إلى جانب العريس
قاعدة على يمينه ...كلمها.. وناغشها... وشوشها ...طب قال لها إيه ؟؟؟ هييييييييييييييه وقالت له إيه ؟يوووووووه قعدت على شماله راح متغير حاله ..فرفشها... نعنشها... وهي عملت إيه ؟ ياااااااااااااه
سحر كانت الأغنية أطربت الصبايا ورقصن وسكرن بالفرحة والضحك ، الفرحة سحر ذاب وأسكر القرية فتواعد الرجال الذين كانوا قد سكنت منهم الرغبة ليفرحوا نسوتهم تلك الليلة ، والنسوة الاتي مللن الانتظار فاهملن زينتهن قمن بالتزين والاستعداد لتلك الليلة على شرف العرس، واستحضرت كل منهن ليالي عرسها وحاولن ابتكار وسائل التصابي ، أما الفتيات المنتظرات لفارس الاحلام ودت كل منهن الخروج الليلة بفتى من الفتيان واستعدت لإبراز زينتها وتحججن بالفرح كي يتبارين بالرقص ، وهن يعلمن أن العيون ترقب والشهوات تتحرك مع اهتزاز المفاتن ، فتدفع من يأخذه الشوق ولعله يأتي ، لكن المفاجأة أفسدت الليلة ، وأسكتت أصوات الفرح حين سمعت أصوات طلقات نارية ، وتسلل بعض من الرجال الذين كانوا يؤمون العرس واختفوا ليعودوا وسط تكبير وتهليل ، إحتفالاً بالعائد بعد طول غياب
علا صوت الرجال فأسكت الغناء، وأوقف الرقص وأمر من في العرس ليأتوا بدف، وطلب من العريس أن يأخذ عروسه ويذهب حيث عشه وكفى فجوراً وفسقاً.
سكتت الأصوات ،وغاب المحتفلون والمحتفلات في البيوت ، وخلف الأبواب سقطت أحلام النسوة ، وضلت أحلام الفتيات طريق التحقق .
أما القرية التي منيت بعودة غائب لم تكن في الحسبان ، فيبدو أن هناك من كان يدبر العودة ويقرر موعد إعلانها ، وكان الغائب من زمن لا يدرى إلى أين ذهب وأين اختفى طوال هذه السنوات ، وتواترت الحكايات والأقوال خلف غيابه ، الذي امتد إلى ما يقارب الربع قرن من الزمان ، قيل لقد سجنته السلطة ، وقيل لقد فر للجهاد في أفغانستان أو السودان أو الشيشان لا أحد يحدد ، ولا أحد يدري أي جهاد هذا دون فداء الوطن المغتصب من أيدي المحتلين ،وأي جهاد هذا الذي لا يفك الحصار عن الفلسطينين في الأرض المحتلة ، والشيخ حامد الغائب العائد ...يحكى عنه أنه كان فتى من فتيان القرية، ولا تزال محبوبته تعيش بها عجوزاً لم يمسسها بشر، بعد أن تركها وتزوج بأخرى، لم يكن يعرفها ولم يرها من قبل سوى ليلة الزفاف ،ولم يرها أحد غيره بعد أن تزوجها ،ونادرة هي المرات التي جاء بها إلى قريته مختفية تحت خيمة نقاب أسود ، ولم يعد أحد يعرف أين ذهبت بعد أن اختفى هو .
وهي القرية بكل تناقضاتها حين تعود لسابق عهدها، يوم كان يقيم فيها ويخطب في زاويتها خطبة الجمعة، ويفتح درس العشاء للشباب ، ويدعو لنقاب النساء وتشتد سلطته الدينية ، فيصبح المحلل المحرم في القرية ، يحولها إلى قلعة دينية ، فيهجرها الشباب الذين اختلفوا إلى المدينة لمن استطاع إليها سبيلا ، ولا تخرج فتيات للتعليم إلا بنقاب ، حينها جلست في البيت من جلست وأكملت من أكملت حتى ضمها بيت زوج وطويت تحت جناحه ، الأعوام التى عاشتها القرية تحت سطوته لم يكن أحد يعرف ممن يستمدها؟ وكانت قد فتحت له أبواب وسكك ربطته بمصالح مع الناس ، لكنه ذات ليلة اختفى وقيل سجن ، وطويت صفحته بمرور الزمن .وتراخت سلطته حتى ذابت وعادت للقرية هويتها .
ربع قرن حتى قامت الثورة ، وتغير الحال وتبدل وفتحت أبواب الصعب على مصراعيها والثورة لا تزال في المهد لم تبلغ الرشد .
عاد وفي هذه الليلة بالذات، ودخل القرية وفي هذه اللحظة بالذات، وكان حوله من يرتبطون به بمصالح يبدو أنهم رتبوا له العودة ، سكت الإحتفال وذهب العروسين إلى حيث تنتظرهم ليلتهم ، والأهل إلى ما ينتظرونه وينتظرهم من تداعيات الحدث ، وبقى العائد ومن يحيطون به .
فتح المقهى الصغير أبوابه بعد منتصف الليل ، وسكتت أصوات النساء ، بينما الرجال خرجوا مترفين متزينين معطرين ، تاركين صهد الجفاء يؤرق النساء وبقايا من وعود بليلة ليلاء قد تبخر مع إسكات أصوات الفرح
لا أحد يدري من أين عاد بهذه الوجاهة ليستعيد سلطته على القرية؟ ، رفاق الأمس الذين صاروا كهولا بعضهم سافر وبعضهم عاش مطحونا وبعضهم رحل ، وبقى القليلون الذين لم يكونوا من التابعين لكنهم وأمام كثرة المحيطين وسطوة الدين وحساسية الاختلاف... آثروا الابتعاد، وعادو بين جدران البيوت مؤرقين ، وعلى المقهى جئ بالعشاء الفاخر والولائم وافتتحت الحوارات تبعها جولات لتفقد البلدة ومطالعة ما طرأ عليها من تغيير وتدبر كيفية إستعادة ما كان من تغيير .
القرية الساكنة تحت أقدام المتجولين من أتباع العائد وثلته لا تدري كل فئة ما يحدث للآخرين خلف الأبواب المغلقة ،ومن خلف النوافذ عيون النساء ترقب الطريق ، وعلى باب العريس المنتظرون يقفون ، لإتمام الفرحة بتباشير ليلة العرس الذي توقف فجأة وتحول .

ـ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مربط الفرس
على باب القفص الزوجي الجديد تجمعت الأكف الغليظة تدق ، دقات قوية توحي بقوة عشاء العرس حاملين الهدايا وعشاء الاتفاق بعد ليلة يتمنون أن توافيهم بالبشارة ليكتمل الفرح ، يودون لو تغطي أصوات الدقات على أصوات الداخل ، بقي الداخل دون صوت ولا همس ، ولا خبر ، منذ آخر أصوات دقات طبول العرس وزغاريد النسوة ورقص الفتيات الذي انتهى فجأة ، منذ آخر طلقة ابتهاج أطلقها أحد الأقارب إحتفالاً ، منذ سكت العرس فجأة حين دبت أقدام العائد إلى القرية ، لتسكت كل الأصوات ويأخذ العريس عروسه بالأمر ويدخل إلى عشه في هدوء ، العرس الذي وافى القرية بعد عدة أحزان، كان قد راح ضحيتها شهداء في الثورة من أبناء القرية وجاء العرس ففتح لها كوة فرح في حائط الليل ، ورغم أن العروسين ليسا من أثرياء القرية ، لكنهما بعد طول عناء إقترنا ، لذا كان الإحتفال على مستوى الحدث ،فرقصت البنات وزغردت النسوة وغنى الرجال واستلهم كل شاب محبوبته في غنوة، حتى دبت أقدام العائد محاط بثلة من رفاقه، الذين كانوا يشاركون الإحتفال، و ما أن سمعوا حتى تسللوا من العرس خفيه، وعادوا معه ، كأن لم يكن بينهم وبين العرس والمحتفلين صلة ، كأن لم يغمز كبيرهم لواحدة من المدعوات ، كأن لم يحدث أن مر أحدهم محتكا بكتف امرأة ، كأن لم ينتهز واحد غفلة العرس فينتحي بامراة بين الزرع.
عاد الغائب الذي لا يعلم عنه من أين أتى؟ محاطاً بهم وأفسد بهجة العرس وطرب القرية.
تزداد الدقات على باب العرس بفعل تفريغ الكبت الذي حدث بإسكات الإحتفال بحثاً عن متعة أخرى في انتظار البشارة ، والبشارة ليست سوى منديل أبيض ملطخ بالدم ، يخرج من بين فتحات الباب الذي أرهقه الدق والخبط ، حتى الآن لا صوت ، تتوالى الدقات ويطول الإنتظار ، تهمس بالغناء فتاة صغيرة اندست بين الجمع تتفرج
- قولوا لأبوها إن كان جعان يتعشى ...قولوا لأبوها إن كان جعان.... يقطع صوتها زجرة من امرأة تسكتها ويعود الخبط والدق ولا مجيب.
داخل غرفة خلوة العرس ، عروس بلا ملابس عرس ترقد على سرير عيناها معلقتان بالسقف ووجهها تصبغه الحمرة ،وعريس يجلس على مقعد أمام السرير منهك القوة منكس الرأس .
ينفض الجمع بلا خبر ، يجرجرون القلق ويساورهم الظن ، يعودون فلا ينام أحد ، عند منتصف الليل نامت البلدة وخرج العريس من خلوته ، إلى بيت أخيه دق الباب ، كما لو كان الأخ بانتظاره استقبله .
-آني مربوط يا خضر ...قالها العريس لأخيه
- أنت مـتأكد يا سعيد
- متأكد من إيه باقول لك مربوط ..مش قادر ، زيي زيها الليلة
- يا سعيد أنت متأكد من روحك يعني عارف إنك يعني.....مش يعني كده قصدي... جربت قبل كده؟
-قصدك إيه؟؟؟ آني راجل
أومأ الأخ واجلس أخيه بجانبه
- كل عقدة وليها حلال ..تتحل باذن الله
قبيل أذان الفجر كان الأخوان هناك على حافة القرية عند غرفة الخوص والقصب ، دخلا بهدوء ، كان الشيطان العجوز يجلس على الأرض ، وحوله قصاصات ملابس وبعضا من أنياب في علبة ، وعظام لا يعرف أهي لحيوانات أو طيور أم آدمية ، كما لو كان يعرف موعد حضور العريس وينتظره .
- ألف جنيه للفك الليلة ولما يحصل المراد الحلاوة اتنين
- تلات تلاف يا شيخون؟ تلات تلاف؟
- عايزين فك ولا كتر كلام
- خد يا شيخون ألف جنيه أهي
- لو حصل المراد وماجتش الفدوة ينعاد الربط
ألقى الأخ الاكبر ألف جنيه في حجر الشيطان، وقبل أن يبدأ الرجل ، كان وفد العائد يدب بجوار الكوخ الخوص ، لمحهم الشيطان فراوغ ولملم نفسه، وقفز وسط ذهول العريس المربوط وأخيه حين اعتقدا أنه يقوم ببعض طقوس الفك ، فكانا وجها لوجه مع العائد ذو السطوة .
في العش كانت عروس الليلة الفائتة مسهدة وحيدة، وقد عاد إليها العريس ومزيداً من الانكسار والإحباط يقيد غرائز الرجولة فيه.
وفي ذات الليلة أحرق كوخ الساحر الذي اعتادت القرية أن تخشى بطشه بأبنائها في ليالي فرحهم حين يربط فرسانها الذين لا يدفعون له قبيل ليلة عرسهم.
كيف فاتتهم هذه الخطوة عند الإعداد للعرس ؟ هي وظيفة أهل العريس ، لكن الواقع الجديد كان قد أخذهم وأغفلهم عن هذا الشيطان القابع بينهم ، الأيام تمضي والقرية تتحول والناس فيها يأخذون مواقعهم ، والعريس لا يزال لم يدخل دنيا ، والعروس لا تزال تعيش ذهول الحدث ، قالت نسوة من أهل العريس كيف لا يكشف حتى الآن دليل العفة؟ هذه البنت تربت في القاهرة بين زحام بنات الجامعة .
تشعبت الأقاويل وانتشرت وتناقش الأهل ، لابد من حفظ ماء الوجه ، عيب أن تظل العروس أياما بكر ، أما أهل العروس فقد كانوا يخشون القيل والقال ويرغبون راحة بال تأتي من إثبات العفة ، ويتعلل العريس ويعلق على شماعة الوقت والتوافق ما يأمله أن يحدث ، وفي الكواليس كانت تدبر وقائع أخرى حسمت الموقف لتقدم دليل عفة للعروس وتحفظ ماء الوجه للعريس .
وقعت العروس بين يدي النسوة الكبار مقيدة حين دخل العريس عليها هاتكا بكارتها بأصابع القسوة التي غلفها بضعفه ووهنه وقلة حيلته .
حينها خرجت النسوة من أهل العروس ورقصن خلف باب الخلوة وأطلقت أعيرة نارية وعادت الصبية التي تراقب الحدث بعيون دامعة تغني بشجن
-قولوا لأبوها إن كان جعان يتعشى
تعشى أبو العروس وتعشى العائد على مائدة عامرة وحوله الأتباع ، وعلى باب غرفة الخلوة دقت نسوة يحملن عشاء الاتفاق للعروسين اللذين جلسا أمام طعام وحسرة ودموع على محاولة جديدة فشلت ، وحوار عيون دامعة دار وقرار حسم بقيام العروس في صمت وذهول، وشرود العريس الذي امتهن الصمت، لا يدري ماالذي يحدث معه ،وزيارات سرية متكرر لطبيب أمراض الذكورة لم تسفر عن حبة دواء أو علاج ، وطبيب حائر أمام حالة فريدة من الإنكسار، ونصائح متوالية ، وتوصيات وقائمة غذاء وتكرار محاولات يعقبها الحزن، ويبقى الوضع قائما تحت تواطوء واتفاق غير معلن على كتم السر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ختان
شهد بيت الزوجين دخول الطبيبة المستترة والتي فتحت عيادتها في البلدة بعد منع ذهاب النسوة للأطباء من الرجال ، أصبح دورالطبيبة حيوي ووجودها ضروري في البلدة في تلك المرحلة، ولا يدري أحد كيف وصلت؟ لكنهم أصبحوا ذات صباح ليجدوا عيادتها.
وليجدوا دوما من يصفها لهم عند الإحتياج للعلاج ، شهور مضت بعد الثورة وأصبح وجود هذه الطبيبة ضرورة ، ولم تكن تتقاضى أجراً مبالغاً فيه لقاء الزيارات الطبية ، تصف العلاج للنسوة ، ولا أحد يعرف إلى أين تذهب بعد نهاية وقت بقائها بعيادتها أو عطلاتها ، ولا من أين تأتي ؟؟؟
بعد أشهر من زواج لم يكتمل ولم يتحقق ، ولم يباشر ومض الأقمار حين تتفتت شظاياها وردية كي تلتم وتتبعثر ، كان قد استقر عقد التواطوء بين العروسين وفاء وسعيد أن يتوج السكوت العش وتستر العلل وتزيف الحقائق لتبدو للأعين بحالتها الطبيعية ، حلت غيمة الصمت الغافي شهور على العش ، لم يخرقه جديد سوى ما يطرأ على العروس من بعض المنغصات والألم ، تأتيهم الطبيبة ، ويحسبها من يراها تدخل أنه ربما هناك حدث سعيد منتظر ، وهو توقع يروج له من قبل أهل العريس لحفظ ماء الوجه .
كانت العروس تعاني من وعكة صحية وألم في البطن ، عاودتها الطبيبة فيه عدة مرات، ولم تفلح في وصف علاج يشفيها ، هذه المرة وبعد طول مشاورات وسرد تاريخ ومسببات وعلل ،عادت الطبيبة مصحوبة بتفسير للحالة من واقع ما سرد ، ربما في نصفه بعض الصواب ، كشفت العلة كما رأتها وفسرت للنسوة ، أن المرض جموح رغبة وظمأ جسد لم يختن ، لابد من بتر مسببات العلة كي تشفى وتهدأ ، وحازت المؤامرة موافقة المتآمرين ، ووضعت موضع التنفيذ .
غلقت الأبواب والنوافذ ، والتفت زبانية النسوة حول سرير وفاء ، لم تفلح مقاومة واهنة في صد مؤامرة أحكمت ، حملنها وشددن وثاقها ، وهي بين جنون المفاجاة وعصف اللحظة ، مقيدة ، تصرخ ولا قلب يرق لها ، كلهن مررن بنفس اللحظة ، وكانه الانتقام يمدهن بقوة ظالمة ليصوب على ذات مظلومة ، وتبدل وجه الطبيبة رأت معالمه لأول مرة ،رأت عينيها الجاحظتين تبرقان بالتشفي، ويديها تتشوقان للقبض وأصابعها تتحفزان للقنص ،رأت زبانية يعدون شفرات وأدوات ووزجاجات ، وما أن طرحنها أرضا ، حتى أمتدت الأيدي تكشف سترها ، وتجتث منها مواطن الخصب لتبور الأرض وينضب شعاع الومض ، حينها ظللتها غيمة رمادية ، وصعق وعواصف وهدير رعد ، أعقبه ومض اصطدام الكتل الرمادية وشرارة برق ، سالت دماؤها خيوطاً ، رسمت تعاريج القسوة ، وما لبثت حتى تلوت ترسم الوجوه البشعة .
أنهت المدعية بالطب مهمتها وخرجت ، غابت وفاء في إغماءة رأت فيها كل وقائع ما حدث كما مزيج الأحلام والكوابيس .
واختلط وجه الطبيبة بوجه المرأة التي كانت تجوب القرية في مواسم الحصاد وإجازات الدراسة تحمل جعبة ، بها ما بها من أدوات وأسرار المهنة ، خبرة توارثتها أجيال البنات في القرية اللاحقات من السابقات ، كلهن يعرفن المؤامرة ، ويرهبن اللحظة ، وبعضهن يخدعن بوعود وتزين لهن الفعلة ، بحكايات عن بنات لم يختن فتحولن صبيانا بشعين ، ورغم الأمهات السابقات العارفات بما ينطوي عليه الأمر، ورغم أسرار المخادع الجافية تشكو تبعات الجرم ، بيد أنهن يواصلن الخدعة ، مقهورات ينجبن مقهورات ، خيال المرأة الجوالة حين يدب على فضاء القرية ينتشر الرعب ، فتفر البنات وتلاحقهن النسوة ودوما ما كانت الغلبة للنسوة ، الان يتراءى لها وجه عمتها حين احتضنتها وسط صراخ بنات القرية، وهي ترتعد خوفا ، ترى صديقات الطفولة اللاتي أصابهن الدور وهن يصفن هول اللحظة ، تعرف كيف أنطفأ فيهن بريق العيون ، وتصلبت لغة الجسد ، ترقص طربا حين تنجح العمة في مغافلة الجمع وتفر بها إلى خارج البلدة حيث تقيم في القاهرة القريبة.
ولحسن الحظ في ذاك الحين أن كانت عمتها تاتي البلدة في موسم الإجازات ، وأعتادت ان تحملها معها عند عودتها إلى القاهرة لتؤنسها ، فمرت مواسم ظهور المرأة الجوالة على بلدتها في سنواتها الغضة وقد أفلتت بفضل عمتها، حتى فات الأوان ،وشبت صارت فتاة دون ختان ، حينها رأى أبوها أن وجود البنت في حضانة عمتها أفضل ، وليكن عونا لأخته في وحدتها بعد أن أهملها زوجها ليتزوج بمن تنجب ، وكان أن فرت من عادات البلدة التي كثيرا ما أرهقتها .
لم تكن تدري أنها ستعود لما فرت منه ،حين يتحقق حلمها بالزواج بمن تحب ، وفاء التي قطعت تعليمها الجامعي لتتزوج بمن اختارته ثم تعود لمواصلة رحلة الدراسة الجامعية .
ربتها عمتها كما شاءت أن تكون ابنتها لو أنها أنجبت ، وكانت تعلم أنه سيأتي يوم وتعود وفاء لأهلها وبلدتها ، وتأكد لها حدسها حين ربط الحب بين وفاء وسعيد في زيارات البلدة التي كانت لابد منها ، العمة الواعية باركت الحب ورعته حتى كبر وتهيأ لفعل العشق .
كل الوقائع تتواتر أمام عينيها وتعود الرؤيا تغيم ويغيب الوعي ويرجع وهي ملقاة على سريرها .
ترى سعيد في باكورة لقاءتها عند زيارات البلدة ، حين اصطدمت به فجأة على سلم القطار الذي يعيدها للقاهرة ، حينها عنفته عندما تسبب في سقوط مذكرة محاضرات كانت تحملها ، تتذكر حين نزل تاركا القطار وهو يبدأ المسير ، حينها كانت تتخيل أنه ترك لها القطار وفر من جفوتها ، وظلت طوال رحلة القطار تتذكر وتوبخ نفسها لماذا عنفته ، وتبرر لنفسها كونه تسبب في ضياع جهد دراسي تعبت من أجله وعليها أن تعيد الكرة .
- عمتي...عمتي تصيح وفاء وهي ملقاة على سريرها صوتها الواهن لا يكاد يصل مجاوراتها ، تنادي عمتها التي حرم عليها رؤيتها منذ دخولها بيت الزوجية بأمر من أهل العريس فغابت العمة بعيداً عن القرية لا تصلها نداءاتها
-عمتي ...
والعمة البعيدة لا تسمع ولا ترى ، فتغيب وفاء في خيالاتها ترى نفسها تدخل على عمتها تحكي لها كيف عنفته ، وتصفه لها ولا تدري اسمه ،وتتعقب عمتها الوصف تستشعر أن هناك نبضاً بدأ يدب ، وتتأكد توقعاتها حين تعود وفاء بعد الزيارة الثانية تحمل المذكرة وتخبر العمة أنها وجدته ينتظرها، وقد ترك القطار يومها لينتظر حتى تخلو القضبان فيتعقب المذكرة ويجدها سليمة فيحفظها حتى يسلمها لها.
تهيم بسمة على وجه وفاء وسحابة الذكريات تراود خيالها ، لترى سعيد في لقاءتهما وهو يدخر لها الهدايا الصغيرة ، إنتظاره لها عند محطة السكة الحديد يوم زيارتها للأسرة ، قصاصات رسائله التي تحملها إليها فتاة صغيرة لقاء رشوة ببعض حبات الحلوي ، ووهج الحب ، وشوق اللقاء ، صارت تنتظر زيارات البلدة وتعود لتقضي فيها أيام العطل ونهاية الأسبوع بصحبة العمة ، تتذكر يوم جاء سعيد خاطباً ، وفرحة الأسرة واتفاق أن ينهي فترة تجنيد بعدها يتم زفافهما ، وكان يناير موعدهم ، ووسط زخم المفاجآت والثورة ودخول البلدة حالة أحزان خلفها الشهداء تأجل العرس، وسط حالة التوتر والقلق حتى تقرر إنهاء الأحزان وفتح كوة فرح لبلدة تتعطش للبهجة وما اكتملت .
- عمتي ...لا نداء لها سواه الآن ...ولا منجى سواها هي البعيدة المتقوقعة داخل أحزانها التي خلفتها بشائر فرحة كان يمكن أن تدوم ، حتى زيارات البلدة سوف تفقدها هذي العمة التي لن تجاري ما يحدث .
عند المشاورات والوصول لاتفاق بشأن ما حدث كان ذكر العمة يأتي مصحوباً بالقلق، في جلسة سرية جمعت أم العريس وأخواته ناقشن الأمر معه ، أخبرنه أن العروس لم تجرى لها ما أجري لمعظم فتيات البلدة من ضمان العفة .
العريس المسلوب الإرادة شلت قدرات التفكير لديه فترك من يديرون الأمر له، فكان تفسير العجائز للألم بما رأينه جموح رغبة عليها أن تكبح، وفي غفلة منه دبرن الأمر وأتين بطبيبة وصفت نفس الوصفة.
إنتهى كل شئ وقيدت الواقعة ضمن وقائع التواطوء وكتم السر وبقيت عروس الأمس على سرير القهر تنزف ، وتغيب وتعود تنادي عمة كبلها سكوت وإبعاد ، وحبيب الأمس لا يملك لها قرار .
وعالم يموج من حولها وقرية تتبدل وعائد من المجهول يحلل ويحرم ويركب الموجة ويتشدق بالثورة على الفسق والفجور والفساد الذي خلفه عهد باد ، ورجال يرفلون في ملابس الحرية المزعومة تاركين صهد الجفاء بين أحضان النسوة ساعين لدور لم يكن ليصبهم في سكوت الماضي لولا الصدفة ، ونساء ختن فعشن في كنف الغياب .

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

كلمة الغلاف
غاصت بي تأملاتي فرأيت على البعد سدرة وسط الهجير، أعرف هذه السدرة العتيقة ، لها في قصصي نبض وسطور لذا ركنت لظلها ، ولم أكد أخلو بنفسي حتى وقعت تحت حصارهم ،حلقة موصدة متشابكة من وقائع قدرهم ، وأنا وسط هذه الحلقة أسيرة ومتهمة ، وهم ما بين غاضب وعاتب وباك وحزين ولقد كان للضحك نصيب ساخر وكان لتصادمهم وقع السيوف، وكان الخوف وكان الموت، وكان الفزع والغضب والحب ، على إيقاع عشوائية الحياة وضجيجها حيناً ورتابة رحلتها حيناً وتصادم تفاعلاتها أحياناً كثيرة .
هي حكاياتهم كما رأيتها أقصها، ولست مفشية للأسرار، إذ أن ما بكم يفيض عما بالحكايا من توترات وشجون وأحزان ، أنا لا أعلم لم يجلسون إلى يسكبون البوح ، حين لا أملك لهم صكوك غفران عما ارتكبوا ، لكنني عند كل صباح أستفتح بفنجان قهوتي ، وأشرع أبواب القلب كي تدلف أسراب العائدين من فضاءات مراهقة ، والقابعين في الظلال يتلقفون سقط التفاحات بفعل الجاذبية ، وحين تأتيهم صدفة ، يكتفون بقضمة ثم يقذفونها للعطب ، لا أخفيكم سراً أنا لا أمنع الخادعين والمخدوعين ،إذ أن في إلتفافات خداعهم ، وزيف أقوالهم بعضاً من أسرار ، وتحت ستارها يكمن الوجه الحقيقي الغائب ، كما وأنني لا أبرئ النفس عن الهوى، إذ أفتح نوافذ الريح وأبوابها فلا أستريح ولا أريح .
هكذا قصصت عليكم ما بهم، أتراهم راضون قانعون بقدرهم ؟ ، أتراني موشومة بخطوط قدرهم ؟

د. أبو الحسن سلام



#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكتابة المسرحية من منظور التناص
- مر بي
- فعل الكتابةالمسرحية في عصر الصورة
- المسرح بين أدب السيرة والتراجم الذاتية
- سفر الخروج من -طما- - ج1
- مؤسساتية الظاهرة المسرحية في مصر
- الإيقاع في فن النص المسرحي
- مرات أبويا
- الأطفال في مسرح يوسف عز الدين عيسي بين التربية الجنسية والتر ...
- مشروع إخراج نص مسرحي لطلاب الدراسات المسرحية العليا
- العرض المسرحي المصري بين مأزق التحصن بالهوية ولهاث اللحاق بر ...
- نهار اليقظة في المسرحية العربية
- ثمار الثورة في حجر إخوان السلف
- أموال مبارك في بنوك تل أبيب بتوصية من بوش الأب
- حوار المواطنة
- الحقيقة ضالة الباحث
- عرس الدم من لوركا إلى ميدان التحرير
- تحليل دور ( الجارة في مسرحية : الزفاف الدامي ) للوركا
- تحليل دور مسرحي (أنتيجوني)
- مفاهيمية بيكاسو ودراما التشكيل المسرحي بالكلمات


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أبو الحسن سلام - - أيقونة العشوائي - ومعمار البنية السردية