أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - خالد أبو شرخ - الصهيونية (34) .. الدور الوظيفي الجديد















المزيد.....


الصهيونية (34) .. الدور الوظيفي الجديد


خالد أبو شرخ

الحوار المتمدن-العدد: 3506 - 2011 / 10 / 4 - 21:47
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


انتقل المجتمع الإسرائيلي, من مرحلة تقشفية صلبة, يمكن تسميتها, مرحلة التحديث والحداثة, إلى مرحلة استهلاكية سائلة (مرحلة ما بعد الحداثة), ويمكن القول بأن الصهيونية قد دخلت, عصر ما بعد الحداثة, بتصاعُد معدلات العلمنة, والإبتعاد عن المطلق الصهيوني, داخل التجمُّع الصهيوني, فحتى عام 1948م, كان المركز متمثلا بـ"المطلق الصهيوني", الذي يتجسَّد في الشعب اليهودي, وكان من المفروض أن يؤسِّس الصهاينة دولة يهودية, تصبح هي والمستوطنين المركز الروحي والثقافي ليهود العالم (العجل الذهبي، على حد قول أحد الحاخامات المعادين للصهيونية)، أي أنه عالم متمركز حول الشعارات المطلقة, الذي تتسم بالتماسك العضوي.
ولكن مع تأسيس الدولة, تمزقت الواحدية العضوية، فيهود الدياسبورا (الشتات), أصروا على أنهم هم أيضاً موضع الحلول، ويهود أمريكا بالذات, كانوا يرون أن أرض الميعاد الحقيقية, هي الولايات المتحدة الأمريكية, وفي داخل إسرائيل نفسها, نشب الصراع بين "الإشكناز" و"السفارد", إذ أن "الإشكناز" كانوا يرون أن المطلق الصهيوني, يعبِّر عن نفسه من خلالهم وحدهم، فاليهودي هو "الإشكنازي", أما اليهودي "السفاردي" فهو مجرد صدى أو صورة باهتة, ثم بيَّن الصهاينة الدينيون أن المطلق الصهيوني, ليس هو الشعب اليهودي وحسب, ولا هو الدولة, وإنما هو الإله, متجسداً في كل من الشعب والدولة، فبدلاً من حلولية بدون إله على طريقـة العلمانيين، بعـثوا مرة أخرى حلولية الإله التقليدية، حيث يحل الإله في الأشياء, ويذوب فيها ويتوحد معها، ومع هذا يظل محتفظاً باسمه.
وقد جفت مصادر المادة البشرية اليهودية, وهذا يُعَد كارثة بالنسبة لمجتمع استيطاني, يعرف أن من أهم أسباب ضمور ممالك الفرنجة وموتها, هو عدم تدفُّق المادة البشرية الفرنجية عليها, وجفاف المادة البشرية يعني أيضاً تداعي الدور القتالي لدولة, وظيفتها الأساسية هي القتال المستمر, وبدونه قد تختفي في لحظات .
لكل هذا اهتزت القصة الصهيونية الكبرى, عودة واستيطان و إفراغ الأرض من سكانها, ورحيل السكان من تلقاء أنفسهم ( تأسيس الدولة اليهودية الخالصة - تدفُّق ملايين اليهود على أرض الميعاد - نهاية التاريخ السعيدة), فلا العرب اختفوا, ولا اليهود تدفَّقوا، وبدلاً من أن يتجسَّد الإله اليهودي في الدولة اليهودية، لم يَعُد له وجود وتفكَّكت الشعارات المطلقه, فالدولة التي تم تأسيسها, بزعم إنقاذ يهود العالم من ذئاب الأغيار, وجدت أن عليها أن تطارد اليهود بلا هوادة لإنقاذهم, والدولة التي جاءت لتؤكد السيادة اليهودية, وجدت أن عليها الاسـتجداء, والاعتماد المذل على الدول الغربية, لتضـمن لنفسها البقاء, والدولة التي أعلنت أنها ستُخرج اليهود من الجيتو, وجدت نفسها محاصرة في الداخل والخارج من العرب, الذين لم يستسلموا لها، فتحوَّلت هي نفسها إلى الدولة الجيتو, أو الدولة الشتتل.
وقد تبلور هذا الوضع في الاستيطان، فالصهيونية على حد قول "بن جوريون" هي الاستيطان, ولكن بدأت تظهر أصوات تنادي بفصل الصهيونية عن الاستيطان, والادعاء بأن الصهيونية هي الاستثمار في إسرائيل, أو التعاون العلمي معها, أو حتى زيارتها للسياحة, والرواد الصهاينة الذين كان من المتصور أنهم سيقومون بغزو فلسطين, وتخليصها وتخليص أنفسهم, عن طريق الزراعة المسلحة "يد تمسك بالبندقية والأخرى تمسك بالمحراث", أصبحوا مستهلكين بالدرجة الأولى, وأصبح الاستيطان مرتبطاً بالاستهلاك, وأصبحت الإعلانات عن المستوطنات, تتحدث عن حجم حمام السباحة, وعدد مكيفات الهواء, وطريقة الدفع بالتقسيط المريح, ونسبة الخصم عند الدفع، أي أن الأسطورة الصهيونية, ضُربت في الصميم, وقد ساعد انتصار 1967م, على هذا الانتقال من التقشف, وإنكار الذات إلى الاستهلاك، وقوَّت من عضده الهجرة السوفيتية، حيث هاجرت مئات الألوف من الصهاينة المرتزقة، الباحثين عن تحسن مستواهم المعيشي.

وإذا كانت عبارة "ما بعد الأيديولوجيا", تعني نهاية الأيديولوجيات, فإن عبارة "ما بعد الصهيونية", تعني في واقع الأمر "نهاية الصهيونية"، فالقصة الصهيونية الكبرى الأصلية, قد حل محلها أثر أو صدى وقصص صغيرة، إذ أن كل رأس صغير, يعيش داخل قصته الصغيرة.
وقد عبَّر هذا عن نفسه, في التكاثر المفرط للمصطلحات, التي تُستخدَم للإشارة إلى الصهيونية (بقصصها الصغرى الكثيرة), وهو ما يدل أيضاً على انفصال الدال عن المدلول، فهناك عدة دوال ("الصهيونية التقنية" – "الصهيونية اللوكس" – "صهيونية الصالونات" – "الصهيونية الفورية"), تحاول كلها أن تشير إلى المدلول, دون نجاح كبير, أي انها أصبحت إنزلاقية ومفككه.
فالصهيونية حركة تفكيكية، قامت بتفكيك كل من العرب واليهود, ونقلهم من أوطانهم الأصلية إما إلى فلسطين أو خارجها, ولكنها بعد تفكيك الآخر، تفكَّكت هي نفسها بفعل العوامل التاريخية، وهي على كل كانت تحوي جرثومة فنائها, وتفكُّكها من البداية حين استندت إلى دال بلا مدلول, "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

الصهيونية الحلولية, كانت هي محاولة لحل الأزمة, عن طريق خلع القداسة, على الذات اليهودية, بحيث تصبح هي مصدر القداسة المطلقه, ومركز الكون، وتصبح الأرض المقدَّسة، بحكم قداستها أرضاً بلا شعب، ويصبح اليهود، الشعب المقدَّس، بحكم قداستهم شعباً بلا أرض, ولا تكتمل الحلقة إلا بأن يعيش الشعب المقدَّس في الأرض المقدَّسة, ويحل فيهم الإله, وتسري القداسة في كل شيء, وتتجسَّد الشعارات المطلقه مرة أخرى, ومن ثم يمكن ممارسة العنف الصهيوني وتبريره, على هذا الأساس.
أما صهيونية ما بعد الحداثة, فهي تتبع إستراتيجية مختلفة تماماً، وإن كانت تؤدي إلى النتائج نفسها, فهي تقوم بنزع القداسة عن اليهود والعرب وفلسطين, بحيث تصبح كل الأمور متساوية, ويصبح الكون لا مركز له, وداخل حالة السيولة .
ولكن يبدو أن صهيونية عصر ما بعد الحداثة, هي التي سترجح كفتها, لأن ظهورها قد تزامن مع ظهور النظام العالمي الجديد, وانتقال العالم الغربي بأسره من حالة الصلابة المطلقة إلى حالة السيولة الإستهلاكية, من عهد الأيدولوجيات إلى عهد ما بعد الأيدولوجيات.

والنظام العالمي الجديد, هو إعادة إنتاج لرؤية ثنائية الأنا والآخر، والمستعمِل والمستعمَل، التي دفعت الإنسان الغربي إلى غزو العالم, والهيمنة عليه واستهلاكه. ولكن مع تراجُع الهيمنة والمركزية الغربية, وظهور عوامل التماسك والمقاومة في العالم الثالث (حركات تحرُّر داخلي), وجنباً إلى جنب مع عوامل التفكُّك والتآكُل (عولمة النُخَب السياسية والثقافية الحاكمة - فسادها وإفسادها - تصاعد التطلعات الاستهلاكية - تآكل الدولة القومية - السوق والشركات متعددة الجنسيات - تراجع الإحساس بالخصوصية... إلخ)، وجد الغرب فرصة سانحة, لأن يحل إشكالية عجزه, عن المواجهة العسكرية والهيمنة الصريحة, عن طريق اللجوء للإغواء والتفتيت والتفكيك والالتفاف، وأن يستمر في تأكيد الأنا الغربية, على حساب الآخر, بآليات جديدة خفية, من أهمها استـخدام النخـب السياسية والثقافية المحلية, كآليات للقمع والإرهاب, فطرح النظام العالمي الجديد, مجموعة من الصياغات الرائعة, التي يكمن وراءها ما ينكر التاريخ والإنسان, ويؤدي إلى نهاية كلٌّ منهما, وصهيونية عصر ما بعد الحداثة, هي صهيونية النظام العالمي الجديد، التي تحاول أن تتغلغل, وتفرض قصتها الصغرى, على عالمنا العربي بقوة الإغواء والإغراء والسلاح المخبُّأ بعناية فائقة، بحيث لا تراه عين.
والاستعمار النظام العالمي الجديد, يريد تصدير سلعه الترفية وأسلحته المتقدمة والإلكترونيات ورأس المال، وبما أن الدول المتخلفة غير قادرة على الاستهلاك, وليست في حاجة إلى سلع, كان من الضروري أن تتقدم بعض الشيء, وأن تحقق شيئاً من التنمية, حتى يتم تصعيد التوقعات، ولكن مع هذا يجب الابتعاد عن التنمية المستقلة، لأنها تعني التماسك لا التفكيك، والتوحُّد لا التشرذم، ولذا فإن التنمية يجب أن تتم داخل الأطر, التي يُقال لها عالمية، وتحت إشراف المؤسسات التي يُقال لها دولية, كما أن الإنسان الذي ينمو, يجب أن يفرَّغ من الداخل, حتى لا يتحول إلى قوة اقتصادية قومية مقاومة.
والمدخل لأية حركة مقاومة حقيقية, هو تأكيد أن الربح الاقتصادي العام, ليس القيمة النهائية في حياة الإنسان، وإذا كان الربح المادي, هو بالفعل القضية الأساسية, فإن كل شيء يصبح خاضعاً للتفاوض وللإبقاء والإلغاء، وضمن ذلك الخصوصية القومية, والمنظومة القيمية, والامتداد التاريخي, بل أرض الوطن أيضا, فإن كان الحفاظ على مثل هذه الأشياء, فيه تعظيم للمنفعة الاقتصادية، فينبغي تطويرها وتمجيدها والتغني بها، أما إذا شكَّلت عائقاً في طريق التنمية الاقتصادية, فلابد من التخلص منها بلا هوادة, والسوق الشرق أوسطية, تَصدُر عن الإيمان بأن كل شيء له ثمن، ومن ثم فهو ترجمة للنظام العالمي الجديد، التعبير المتبلور عن حالة السيولة.

وقد بيَّن "شمعون بيريز", هذا الاتجاه حين صرَّح, بأنه حينما يشتري المرء سلعة يابانية, فهو في واقع الأمر ينتخب اليابان، فأسواق اليوم (على حد قول هذا الإنسان الاقتصادي المسمَّى "بيريز") :"تُولِّد السياسة وتدافع عنها. وقوة السوق هذه الأيام محسوسة بشكل أكبر من قوة الدولة".
والسوق لا تتحكم فيه العواطف, أو القيم الإنسانية، إذ تتحكم فيه آليات لا تَمُّت إلى الحب, أو الكُره بصلة, ولا يتم فيها أي تبادل إنساني, وإنما يفترض أنه سيتم تبادل السلع والخدمات فيها بحرية كاملة، فالأمر كله إنتاج واستهلاك. والاستهلاك والإنتاج لا علاقة لهما بالمطلقات المعرفية, أو الثوابت الأخلاقية أو الوظيفية أو الخصوصيات الإثنية أو الأخلاقية.
والسوق هو المكان الذي يتحوَّل فيه الإنسان العربي, إلى إنسان كائن اقتصادي, وربما جسماني يفهم مصلحته الاقتصادية, ومنفعته ولذته ولا يكترث بشيء آخر، على استعداد للتفاهم بشأن أي شيء, وأن يغيِّر قيمه بعد إشعار قصير.
وإذا كان داخل كلٍّ منا إنسان, على استعداد للدفاع عن شرفه, وشرف أمته وقيمه، فهناك أيضاً في داخل كلٍّ منا, بقال على استعداد لأن يبيع ويشتري كل شيء, وضمن ذلك الوطن، نظير عمولة مجزية وسعر معقول، كما يوجد ذئب مستعد, لأن يفترس من حوله, وقرد مستعد لأن يقلد من ينتصر عليه, وفي السوق يظهر البقال, والذئب والقرد فتتحوَّل البلاد إلى فنادق, وتتحول الأحلام إلى سلع, ولعل الفواكه الإسرائيليه, الذي قُدِّمت للمستهلك المصري, باعتباره بشرى بما سيكون, هو رمز جيد, ومتبلور لعملية التفكيك الجديدة، فهو تتوجه مباشرة إلى الجهاز الهضمي, ليُسقط الذاكرة والتاريخ والهوية والذات والموضوع والحق والحقيقة، فننزلق جميعاً إلى عالم خال من القيم والهوية, عالم السوق الشرق أوسطية، عالم بلا مركز, ولا قيم تتساوى فيه الأمور جميعاً، ولا يبقى إلا المصالح الاقتصادية المباشرة, والتوجه نحو اللذة.
بل يؤكد لنا "بيريز" أن "الشعب اليهودي نفسه لم يكن هدفه في أي يوم السيطرة... إنه فقط يريد أن يشتري ويبيع ويستهلك وينتج، فعظمة إسرائيل تكمن في عظمة أسواقها"، أي أن اللوجوس في مرحلة موت الإله, ليس الفولك وإنما السوق.
وعلى مسرح السوق الجديد, لن تجد الشعوب العربيه, صاحبة التاريخ والرؤية, إذ ستتحرك على خشبته, عناصر مجردة (المياه التركية والأموال الخليجية والعمالة المصرية)، وهي جميعاً أشياء لا وعي لها, ثم يظهر على المسرح العنصر الذي سيمسك بكل الخيوط وسيُحركها ("الخبرة الإسرائيلية")، الوعي الحقيقي على المسرح.
ولكن السمة الأساسية لهذه السوق, أنها سوق لا هوية لها، لا تعرف الزمان أو التاريخ، فهي مرجعية ذاتها، مكتفية بذاتها, وإن كان هناك أيُّ سوء فهم, فقد تم تبديده, إذ وُصفت هذه السوق, بأنها "شرق أوسطية"، أي أنها ليست عربية، وإنما تنتمي إلى مكان دون زمان أو تاريخ, وهذا المكان هو الشرق الأوسط، وهو مفـهوم جغرافي غير محدد، يضم قبرص وفلسطين وإيران وتركيا وأحياناً اليونان, والعلاقة بين الدول هي علاقة تعاقدية، فقد تتفق قبرص مع مصر مع إسرائيل، أو إسرائيل مع فلسطين مع الأردن، أو تركيا مع لبنان مع فلسطين، وهكذا. المهم أن الاتفاق هنا بين بلاد تنتمي إلى منطقة واحدة, لا إلى تشكيل حضاري مشترك, أو منظومة قيمية مشتركة, ومن هنا التبشير بسنغافورة, باعتبارها أرض الميعاد الجديدة، وهي بلد صغير جداً لا تاريخ لها, ولا ذاكرة ولا هوية محددة، تسيطر عليها رؤوس الأموال الغربية، وليس لها مشروع حضاري واضح أو كامن، فهي حيز للبيع والشراء وحسب.
ويؤكد "بيريز" نهاية التاريخ, ونهاية الإنسان, ونزع القداسة عن كل شيء, والتفكيك الكامل لكل ما هو إنساني، حين يعلن أن ماضي العلاقات العربية الإسرائيلية, ينبغي ألا يقف عقبة فى وجه الفرص المتاحة أمامها الآن، بل ينبغي تركيز الاهتمام كله على المستقبل, فلا داعي، على سبيل المثال، للحديث عن الماضي, أو عن القيم إذ يجب التركيز على الآن, وهُنا ولذا يتحدث "بيريز"، شـأنه شـأن "فوكوياما"، عن نهاية التاريخ: "العصر الذهبي لشعوب الشرق الأوسط، عصر لم ير له التاريخ مثيلاً، عصر مناسب للعهد الجديد"، وهكذا يلتقى "بيريز" بكلٍّ من "فوكوياما" ومفكري ما بعد الحداثة, داخل السوبر ماركت, وداخل ورش المصانع، هذا الفضاء الذي لا يعرف الزمان أو التاريخ أو الإنسان .
وهذا يعني في واقع الأمر, محو الذاكرة التاريخية, بشكل واع ونشيط (وهذا هو جوهر ما بعد الحداثة), وتناسى السبب الأساسي للصراع, أن التشكيل الإمبريالي الغربي, قد غرس كياناً استيطانياً إحلالياً على أرض فلسطين، وأباد مَنْ أباد من أهلها, ثم شرَّد مَنْ شرد، وها هو يضع البقية الباقية تحت حكم السلاح.
واختفاء التاريخ والذاكرة, يعني اختفاء القصة العربية, وظهـور القصص القـطرية والفرديـة والقَبَلية والاسـتهلاكية الصغرى، أي يعني تَفتُّت العالم العربي وتَشرذُمه، أي تحقُّق القصة الصهيونية الكبرى، دون مواجهة وقتال.

المشروع الصهيوني, يحتم ضرورة أن يكون الشرق العربي مشتتاً مبعثراً, لا يتمتع بدرجة تماسك عالية, ولا توجُّه حضاري واضح, شرقاً عربياً لا يتحكم في ثرواته, وأن ما يحدث للعراق ليس حالة استثنائية, وإنما هو نموذج لرؤية النظام العالمي الجديد (وصهيونية ما بعد الحداثة), لوطننا العربي, فهذا النظام يقوم بتجريد العراق من سلاحه, وقدرته العسكرية والعلمية والإقتصادية، ويُضعف دولته القومية المركزية (ويقوى الأطراف), حتى يظل العراق موحداً ولكن ضعيفاً، فالمطلوب هو عراق واحد متآكل داخلىاً، يشل بعضه بعضاً, ولا يستطيع أن يستعيد عافيته لعشرات السنين القادمة, حتى لو تغيَّر النظام العراقي الراهن, وإنحدر الأحتلال الأمريكي .
الهدف إذن تجزئة كل جزء من الأجزاء داخليا, وتقسيم المقسم أصلا,ً حتى تصـبح عمـلية الإجـهاض نابعة من الداخل، فلو ثبت أن إحدى الدول العربية, بدأت تنهض وتقف على قدميها, وتحقق استقلالها, وتنمي نفسها خارج نطاق النظام العالمي الجديد، فلابد أن يكون مصيرها هو مصير العراق، حتى لو لم تهاجم الكويت، فالعراق هنا نموذج، ولم يكن اجتياح الكويت, والحديث عن أسلحة الدمار الشامل, وتنظيم القاعدة, إلا تبريراُ.
إن الوطن العربي, يجب أن يصبح رقعة بلا تاريخ ولا ذاكرة ولا هوية ولا مصالح مستقلة, ويجب أن تكرس سياسة المصلحة الضيقة الخاصة لكل دولة، وكذلك أمنها واستقرارها وتنميتها، ونسيان شيء اسمه المصلحة العربية العليا أو الأمن العربي أوالسوق العربية المشتركة .
ولابد من تقسيم المنطقة, على أساس طوائف وأجناس وأصول قومية ومذاهب، أي إعادة صياغة المنطقة, باعتبارها فسيفساء من أقليات إثنية ودينية, يستمر بينها قدر من الصراع المعقول, الذى يمكن التحكم فيه, من قبل النظام العالمي الجديد (وصهيونية ما بعد الحداثة), الذى لا يقبل الفوضى الشاملة، بل الفوضى الخلاقة كما يعرفونها, إذ لابد أن يستمر البيع والشراء والإنتاج والاستهلاك.

وثمة كتاب يتداوله أعضاء النخبة العسكرية في الولايات المتحدة, يُسمَّى "تحوُّل الحرب", كتبه المؤرخ العسـكري الإسـرائيلي "فان كريفـيلد" من الجامعة العبرية, والموضوع الأساسي في الكتاب, هو أن النقطة المرجعية لفهم الحروب في المستقبل, هي حرب الثلاثين عاماً في القرن السابع عشر في أوربا، وحرب المائة عام قبلها، وهي حروب لم تتم بين دول قومية مسـتقلة, وإنما بين مـلوك ونبلاء إقطاعيين، وهو هنا يطالب بمفهوم للحرب يسبق توقيع معاهدة "وستفاليا" 1649م, التي أنهت حرب الثلاثين عاماً, ويرى "فان كريفيلد" أن مفهوم الصراع بين الدول القومية ذات السيادة, قد ولى إلى غير رجعه, ويذهب فان "كريفيلد" إلى أن عصر الحروب الكبيرة بين الدول قد انتهى، فالحروب المقبلة ستكون داخل الدول وليس بينها، ولن تكون الحروب بين جيوش نظامية بالمعنى المعروف لدينا، وإنما بين مجموعات مختلفة, من الجماعات المسلحة، ومن ثم فإن الفارق بين الجندي المنظم, والجندي المرتزق, وعضو المافيا, أو المليشيا سيختفي، إذ ستظهر مجموعات عسكرية مختلفة, تمثل القبائل, والجماعات الإثنية, والانتماءات الدينية, والمصالح الاقتصادية، أي أن الحروب في المستقبل, ستكون مثل الحروب في العصور الوسطى, وفي المجتمعات البدائية, ولعل ما يعبِّر عنه "فان كريفيلد" ليس نبوءة, بمقدار ما هو أمنية، ولعل ما حدث في العراق, هو تنفيذ لهذه النبوءة – المخطط, فقد قُسِّم ولم يُقسَّم في الوقت نفسه، فهناك أكراد فى الشمال، وهناك شيعة فى الجنوب, وسنة الوسط, بالإضافة إلى العرقيات والطوائف الأخرى, يُسمَح لها بالاستمرار فى استنزاف الدولة المركزية, وفى استنزاف أنفسهم (وهذا درس لكل أقليات المنطقة، فهى الأخرى ستتحول إلى مادة استعمالية نافعة للنظام العالمي الجديد).
هذا فيما يتصل بالدول, التي لعبت دائماً دور القيادة فى المنطقة، أما بالنسبة للدول البترولية فإن المخطط الأمريكي الغربي, لن يسمح مرة أخرى بتراكم تلك الثروة النفطية فى الخليج، وسيسعى بكل الوسائل إلى تقليصها, إلى أقصى حد، وسيعمل على التحكم فيها, من حيث إعطاء المساعدات الخارجية, والتحكم في الإنتاج والأسعار والاستثمار, في المشاريع الداخلية والخارجية وغير ذلك, ولا يمكن أن يُفهَم ما جرى فى إعادة بناء الكويت، وما فُرض من إتاوات لدفع تكاليف الحرب، وما جرى من نهب, إلا ضمن هذا السياق, ومن أهداف الناتو في ليبيا,السيطرة على سياسة النفط الليبية, والثروة الليبية, حتى تكتمل حلقات السيطرة على النفط العربي, وإحكام السيطرة على المنطقة, حتى لا تأتي للحكم نظم مؤمنة بالتنمية المستقلة, وبعدم تبدىد مواردها الطبيعية, والحفاظ على ثروتها للأجيال القادمة, فلا ترهنها للشركات متعددة الجنسيات, نظير بضعة ملايين من الدولارات, تتبدَّد فى أشكال من الترف والعبث.
ولابد من إعادة صياغة النخبة الثقافية والسياسية وإعادة تعليمها، وستأخذ هذه العملية شكل الترغيب والترهيب, أما الترغيب، فهو يأخذ شكل دعم, ورشاوى ومراكز بحوث وصفقات وبرامج ثقافية, تزيد معدلات الأمركة والعلمنة فى المجتمع, والتلويح للنخب السياسية والثقافية, بأنها ستُشارك بشكل مباشر, في هذا التعاون الدولي, وستجني ثمراته بشكل شخصي, أما الترهيب فهو تخويف الجميع من خطر الإرهاب الإسلامي, وقد نجح النظام العالمي الجديد فى هذا المجال، فكثير من المثقفين القوميين والاشتراكيين العلمانيين، ممن وجدوا أنفسهم بلا أرضية ولا قضية، بعد حرب الخليج, وبعد تراجع المنظومة القومية واليسارية, وبعد سقوط الاتحاد السوفيتى, وتساقُط المنظومة الاشتراكية، يبحثون عن مبرر وجيه وموضوعي, للتوجه للسفارة الأمريكية, والسير في ركاب المنظمات الدولية, التي تدفع رواتب هي أقرب إلى الرشاوى منها إلى الأجور, وقد وجدوا مثل هذا المبرر أخيراً في الادعاء بالخوف على الداخل الديمـوقراطى من الداخـل الإرهابي، ومن ثم فليسـتعينوا بالخـارج الدولي، هذا الذي ساند كل الدول الإرهابية عبر تاريخه, ولا يزال يساند طواغيت الأرض, الذين ينهبون شعوبهم, أثناء عمليات النهب, ثم يحميهم بعدها، فهذا الخارج قد أصبح فجأة نصير الديمقراطية, والمُدافع عن العدالة, وهذه هى تماماً الرؤية الصهيونية للمنطقة, في عصر ما بعد الحداثة.
هذا هو الإطار المعرفي العام, لحركة النظام العالمي الجديد وصهيونية عصر ما بعد الحداثة, في الشرق العربي, إنسان اقتصادي لا ذاكرة له, ينسى التاريخ والهوية, مرن وقادر على التفاهم مع الجميع, حسبما تمليه عليه الحسابات الاقتصادية الرشيدة, وهو شرق عربي مرن، وإجرائي قادر على الدخول, في علاقة طبيعية مع إسرائيل, وعلاقة حميمة مع الغرب، ولكن إسرائيل هي الأخرى, لابد أن تتعدل هويتها, لتتحول من قاعدة نشيطة للنظام العالمي الإمبريالي القديم, إلى قاعدة لا تقل نشاطاً للنظام العالمي الإمبريالي الجديد, تخدم مصالح الغرب, دون المجاهرة بذلك, وتنفذ المخطط الغربي, لا من خلال المواجهة العسكرية, وإنما من خلال عمليات الإغواء, ولذا يجب أن يتعاظم دورها السياسي, والدبلوماسي والاقتصادي, ويجب أن تكون لديها المقدرة, على العمل داخل الوضع العربي برمته, بهدف المشاركة في التفتيت والتجزئة, وفي اقتسام الثروات المائية والأسواق والمشاريع. لكل هذا عليها أن تتسم بقدر عال من المرونة, ومن الممكن جداً أن يضغط الغرب عليها, لتقدِّم بعض التنازلات, على المستوى السياسي, وعلى مستوى القضية الفلسطينية, وعلى مستوى الديباجات والصياغات, فتعلن أنها دولة تبحث بصدق عن السلام، تطلب الدخول في مفاوضات عاجلة, وبدلاً من الحديث عن إسرائيل الكبرى المسلحة, سيكون الحديث عن الأهداف المشتركة, مثل التنمية الاقتصادية، خارج عقد الهوية والتاريخ.
وقد تُنصَح إسرائيل بالتخلي قليلاً, عن لونها اليهودي الفاقع, وسياستها الشوفينية الواضحة, والصهيونية على كلٍّ أيديولوجيا تابعة, تبنت دائماً أحدث الديباجات الغربية, ولذا فإن صهيونية عصر ما بعد الحداثة، حيث لا ترتبط الدوال بالمدلولات، تصبح صهيونية عنصرية تتسم بالمرونة، توسعية تتسم بسعة الأفق، استبعادية مستعدة للدخول في حوار، وهي صهيونية قادرة على تفهم مطالب الفلسطينيين من وجهة نظرها, (مثل الحاجة إلى فرق مطافئ وفرق فنون شعبية ومجموعة موتوسيكلات وبعض السلع الاستهلاكية), وإسرائيل لا دينية مرنة واقعية, يمكنها أن تلعب دوراً فعالاً فى المنطقة، ويمكنها أن تدخل تحالفات مع النخب الحاكمة العربية (التي يدَّعي بعضها العروبة ويدَّعي البعض الآخر منها الإسلام), دون أن تسبب حرجاً لهم, كما أن مرونتها وما قد تقدمه من تنازلات حقيقية وشكلية، سيعطي مصداقية للنخب الحاكمة, ولكل من يتحدث عن النظام العالمي الجديد, كآلية لنشر السلام والعدل فى ربوع الأرض, وأخيراً ستمكِّنها مرونتها وتَفكُّكها, أن تلعب دوراً في عملية تحويل العالم العربي إلى سنغافورة.
فى هذا الإطار، سيمكن حل القضية الفلسطينية، فالجميع سيصبح معتدلاً ، متقبلاً لنفس المنظومة القيمية المعرفية، يعرف الهدف من الوجود فى الكون, وحدود الحركة والتنمية.
ولكن إسرائيل رغم أنها ستمجِّد حالة السيولة, وتدعو إليها, بل وتتبنَّى بعض سماتها, إلا أنها يجب ألا تسقط في هذه الحالة تماماً، ولذا يجب أن يتم ضمان تفوُّقها الكاسح عسكرياً, على كل دول المنطقة,على أن يظل هذا الدور قوة كامنة واحتياطية, تستخدم إذا دعت الحاجة, إلى قوة مُستنفَرة على الحدود, جاهزة للتدخل فى كل لحظة, كما كان الحال فى المرحلة السـابقة.
وخلاصة الموقف أن إسرائيل, من خلال الديباجات النسبية المعتدلة, تحاول أن تجعل المنطقة المحيطة بها, لا مركز لها، لا تدور حول لوجوس, ولا عقيدة ولا ذاكرة، ومن ثم تتفتت وتصبح منعدمة الاتجاه, ويصيبها الخور والوهن, وفي هذه الحالة يظهر الجيش الإسرائيلي, باعتباره اللوجوس الأكبر, و المركز الوحيد في منطقة لا مركز لها, (وعلى كل حال، يعلم الجميع بوجود القنابل النووية الإسرائيلية التي لا تتسم بالأخوية أو المحبة أو الندية) وتظهر الأجندة الخاصة بالهيمنة الاقتصادية والسياسية.

ولا شك في أن إستمرار المفاوضات العقيمة, ستساعد الدولة الصهيونية الوظيفية, على الاضطلاع بوظيفتها الجديدة, كما عرَّفتها لنفسها، كما أن أفكار مثل رفع المقاطعة العربية, والسوق الشرق أوسطية, ستساعد هي الأخرى, في تدعيم الدور الوظيفي الجديد .



#خالد_أبو_شرخ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصهيونية (33) .. الدعاية المراوغة
- الصهيونية (32) .. إسرائيل العظمى إقتصاديا
- الصهيونية (31) .. المفهوم الصهيوني - الإسرائيلي للسلام
- الصهيونية (30) .. عسكرة المجتمع الإسرائيلي
- الصهيونية (29) .. نظرية الأمن الإسرائيلية (2)
- الصهيونية (28) .. نظرية الأمن الإسرائيلية (1)
- الصهيونية (27) .. الديموقراطية الإسرائيلية
- الصهيونية (26)..الإرهاب الصهيوني من عام 1967م وحتى إعلان الم ...
- الصهيونية (25).. الإرهاب الصهيوني حتى عام 1967
- الصهيونية (24).. التطهير العرقي في فلسطين أعوام (49-48-47)19 ...
- الصهيونية (23).. التطهير العرقي في فلسطين أعوام (47-48-49)19 ...
- الصهيونية (22) .. الإستعمار الإستيطاني حتى عام 1948م
- عودة إلى موضوع الهولوكوست
- الصهيونية (21) .. التخطيط للتطهير العرقي
- الصهيونية (20) .. الإرهاب الصهيوني حتى عام 1947م
- الصهيونية (19) .. الدولة اليهودية الوظيفية
- الصهيونية (18).. سمات المشروع الصهيوني
- الصهيونية (17)..موقف الجماعات اليهودية
- الصهيونية (16).. المدارس الصهيونية
- الصهيونية (15).. الشراكة مع النازية


المزيد.....




- اختيار أعضاء هيئة المحلفين في محاكمة ترامب في نيويورك
- الاتحاد الأوروبي يعاقب برشلونة بسبب تصرفات -عنصرية- من جماهي ...
- الهند وانتخابات المليار: مودي يعزز مكانه بدعمه المطلق للقومي ...
- حداد وطني في كينيا إثر مقتل قائد جيش البلاد في حادث تحطم مرو ...
- جهود لا تنضب من أجل مساعدة أوكرانيا داخل حلف الأطلسي
- تأهل ليفركوزن وأتالانتا وروما ومارسيليا لنصف نهائي يوروبا لي ...
- الولايات المتحدة تفرض قيودا على تنقل وزير الخارجية الإيراني ...
- محتال يشتري بيتزا للجنود الإسرائيليين ويجمع تبرعات مالية بنص ...
- نيبينزيا: باستخدامها للفيتو واشنطن أظهرت موقفها الحقيقي تجاه ...
- نتنياهو لكبار مسؤولي الموساد والشاباك: الخلاف الداخلي يجب يخ ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - خالد أبو شرخ - الصهيونية (34) .. الدور الوظيفي الجديد