أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج حداد - الامبريالية والصهيونية في إشكالية -الثورات؟!؟!- العربية















المزيد.....



الامبريالية والصهيونية في إشكالية -الثورات؟!؟!- العربية


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 3497 - 2011 / 9 / 25 - 14:55
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


جورج حداد*
علينا اولا ان نعترف ان القوى الطبقية المتسلطة عالميا، والمتجسدة في الاحتكارات الكبرى والامبريالية والصهيونية العالمية، تسيطر ليس فقط على الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للمجتمعات البشرية المعاصرة، بل وعلى الإعلام والحياة الثقافية والثقافة الجماهيرية.
وهذه القدرة الاعلامية ـ السياسية للامبريالية والصهيونية (خصوصا بعد الانهيار التام للنظام "السوفياتي" الستاليني والنيوستاليني، والالتحاق المكشوف لغالبية اذنابه في الحركة "الشيوعية؟؟" السابقة بركاب الامبريالية الاميركية والصهيونية) تبرز الان بشكل صارخ في ما أطلقت عليه التسمية الجميلة "الربيع العربي"، التي اطلقت على ما يسمى "الثورات؟!؟!" العربية الاخيرة.
ان تسمية "الربيع العربي" ليست اكثر من خدعة اعلامية على طريقة البروباغندا الاميركية التي تعتمد شتى اساليب وضع السم في الدسم او وضع الطعم الذي يتم به اصطياد الطريدة؛ وعلى الرغم من جميع النوايا الطيبة والمعتقدات البريئة والاصيلة للجماهير الشعبية العربية المضللة التي تشارك في "الثورات؟؟" الراهنة (على الاغلب ككومبارس غوغائي غبي)، ليست، في محركاتها الرئيسية وفي محصلاتها النهائية، سوى اشكال "ثورية؟؟" تضليلية لاعادة انتاج الهيمنة الامبريالية ـ الصهيونية على المنطقة العربية، باسم الحرية والدمقراطية والليبيرالية وحقوق الانسان والامم.
وهذا "الربيع العربي" ليس في الحقيقة سوى تطبيق عملي وتنفيذ عملاني لشعار "الشرق الاوسط الجديد" الذي سبق وأطلقه الرئيس الاميركي السابق جورج بوش، وتوأمه شعار "الفوضى البناءة" الذي سبق واطلقته وزيرة خارجيته غونداليزا رايس.
وقد يفهم البعض من كلامنا اننا نشير فقط الى الدور العدواني والتآمري "الخارجي"، الذي تقوم به الدول الامبريالية والصهيونية العالمية والمؤسسات الدولية الخاضعة لنفوذهما كحلف الناتو والاتحاد الاوروبي وهيئة الامم المتحدة ومنظمة مؤتمر الدول الاسلامية وجامعة الدول العربية، وبالاخص ما تقوم به المخابرات الاميركية والاسرائيلية والامبريالية عامة، لـ"رفد" و"دعم" و"لغم" وتخريب وحرف التحرك الشعبي العربي ومحاولة "ركوب الموجة" كما يقال، من اجل التوصل الى تحقيق الاهداف الامبريالية والصهيونية القريبة والبعيدة، وأقربها: زعزعة انظمة الحكم العربية القائمة، التي غدت ـ من وجهة نظر مصلحة الامبريالية والصهيونية ـ مفلسة سياسيا ومعزولة ومكروهة شعبيا، واجبار تلك الانظمة على تقديم اقصى التنازلات المطلوبة من قبل الغرب الامبريالي واسرائيل، والا... فإطلاق "الثورات؟؟!!" الشعبية ضد تلك الانظمة لاسقاطها والمجيء بأنظمة جديدة "اكثر دمقراطية" و"اكثر شرعية" و"اكثر شعبية" وبيت القصيد: اكثر مطواعية للامبريالية والصهيونية. اي تماما تطبيق "طبعة عربية" من "الثورات الدمقراطية الملونة" التي جرت في اوروبا الشرقية منذ نهاية العقد التاسع من القرن الماضي، بعد ان ادت الستالينية والنيوستالينية مخدوميتها "التاريخية" للامبريالية والصهيونية العالمية.
وهذا كله صحيح طبعا؛ وهو يدخل تحت عنوان: التحرك "الخارجي"، والتدخل "الخارجي"، الامبريالي ـ الصهيوني، في الشؤون "الداخلية" العربية.
ولكننا اذا توقفنا عند هذا التوصيف لـ"الربيع العربي" المزعوم، بمحركاته "الخارجية"، فهذا يعني التوقف عند الاستنتاج المباشر والبسيط: بأنه ما على القوى الوطنية العربية الواعية والصادقة سوى فضح وكشف اشكال وحلقات التدخل "الخارجي"، والجيوب والزمر المتآمرة المرتبطة بالدوائر الاجنبية المعادية.
XXX
ودون ان ننتقص البتة من اهمية وخطورة هذا الجانب "الخارجي": العدواني والتآمري، علينا ان نعترف ان المسألة هي اعمق من ذلك بكثير، واخطر من ذلك بكثير. ويكفي ان نشير الى النقاط التالية:
ـ1ـ ان ظاهرة الخونة والعملاء والجواسيس، المرتبطة بالسفارات الامبريالية والاجهزة المخابراتية المعادية، لا يمكن ان تفسر الاتساع الجماهيري للتحرك الشعبي "المعارض".
ـ2ـ ان قطاعا واسعا من التحرك الشعبي المعارض لا يؤيد التدخل الخارجي، ايا كان شكله، وخصوصا التدخل الامبريالي ـ الاسرائيلي المفضوح، العسكري والمخابراتي. ولذلك ينبغي البحث عن اسباب ودوافع اخرى لتحرك هذا القطاع، غير التدخل الخارجي المفضوح.
ـ3ـ ان جميع الانظمة العربية، التي ضربها والمرشحة لان يضربها عاجلا ام آجلا وباء "الربيع العربي" المزعوم، تنطبق عليها تماما مواصفات "الحالة الثورية" او "الازمة الثورية" او "ازمة ما قبل الثورة"، حيث يصبح الحاكمون عاجزين عن ان يستمروا في حكمهم كما في السابق، ويصبح المحكومون غير قادرين على العيش او الرضوخ للعيش كما في السابق، ويصبح التغيير حتميا وضروريا، بصرف النظر عن طبيعة هذا التغيير، المرتبط بتوازن القوى المتصارعة والظروف المحلية والاقليمية والدولية المزامنة.
ـ4ـ بصرف النظر عن الجوانب الايديولوجية ـ الفكرية، والدينية ـ المذهبية، والسياسية ـ الحزبية، فإن الثورة الاسلامية المعادية للامبريالية التي كنست نظام الشاه في ايران سنة 1979، بالاعتماد على اسلوب التحرك الشعبي الواسع بمواجهة آلة القمع الخاصة بالنظام، قد صنعت شعبية واسعة، في جميع البلدان العربية والاسلامية، لجدوى هذا الاسلوب في مواجهة الانظمة الاستبدادية القائمة.
ـ5ـ في تاريخ مواجهته مع جيوش مختلف الانظمة العربية بنى الجيش الاسرائيلي سمعته الاسطورية بوصفه "الجيش الذي لا يقهر" والقادر على هزيمة اقوى الجيوش العربية منفردة ومجتمعة. وفي مواجهته مع المقاومة الاسلامية (ذات الطابع الشعبي) بقيادة حزب الله، في حرب تموز 2006، تحطمت تلك الاسطورة للجيش الاسرائيلي. ومن النتائج الهامة "غير المباشرة" شكلا لتحطم هذه الاسطورة، انها حطمت ايضا اي مبرر لوجود الاحكام العسكرية والعرفية وحالة الطوارئ (بحجة مجابهة اسرائيل) في مختلف الدول العربية. وهذا ما كسر نهائيا حاجز "الخوف من العسكر" وشجع الجماهير الشعبية للخروج الى الشارع والمطالبة بازالة حالة الطوارئ والاحكام العسكرية التي اثبتت المقاومة الشعبية المسلحة (في لبنان وفلسطين) انه لا مبرر وطني لوجودها، وان المستفيد من حالة الطوارئ هو الانظمة الحاكمة فقط بوصفها اداة لا لمواجهة اسرائيل بل للاستبداد والدكتاتورية والتسلط على شعبها الخاص وضد مصالحه الحيوية باسم مواجهة اسرائيل.
XXX
تقودنا هذه المعطيات الى الاستنتاج المنطقي انه، وبدون اهمال عامل التدخل الامبريالي العدواني ـ التآمري ـ المخابراتي، ينبغي البحث عن اشكال واساليب جوهرية اخرى للحضور الامبريالي ـ الصهيوني في ما يسمى "الربيع العربي" او "الثورات؟؟!!" العربية.
ان اي تحليل سياسي، صديق او محايد او معاد، ولو كان في منتهى السطحية، يعترف لزاما بأن ما يجري على الساحة العربية لا يمكن فصله عما يجري في الاطار الاوسع: الساحة العربية ـ الاسلامية برمتها. حتى تركيا "العثمانية المتجددة"، التي ادارت ظهرها اكثر من ثمانية عقود للعالم العربي ـ الاسلامي، بدأت تلبس عباءة "اسلامية!!" مزيفة فوق الاسمال البالية للتغريبة الاتاتوركية، لتصبح المنطقة العربية من جديد "شغلها الشاغل!".
ومن جهة ثانية، فإن المنطقة العربية والاسلامية تصبح اكثر فأكثر الشغل الشاغل لمختلف دول العالم الصديقة والمحايدة والمعادية، وبالاخص الدول الامبريالية والصهيونية العالمية التي اصبحت تركز جهودها العسكرية والامنية والاستخباراتية والاقتصادية والاعلامية و"الثقافية" على المنطقة العربية والاسلامية، حتى اكثر بكثير مما كانت توجهها فيما مضى نحو، وضد، روسيا والمعسكر "الشيوعي؟؟" السابق. ونرى بأم العين ان اميركا واسرائيل وحلف الناتو قد شنت في العقدين الاخيرين حروبا ضارية ضد فلسطين ولبنان وافغانستان والعراق وليبيا، وهي توجه الان التحديات والتهديدات المحمومة الى ايران وسوريا والمقاومة الاسلامية ـ الوطنية في لبنان وفلسطين.
ويأتي هذا "الربيع العربي؟!!" المزعوم والملغوم، كدليل ملموس على ان ما يجري على الساحة العربية والاسلامية هو جزء اساسي مما يجري على الساحة الدولية برمتها، وكبرهان حسي على ما تحظى به المنطقة العربية من اهتمام مميز لدى الغرب الامبريالي والصهيونية العالمية. وهذا الاهتمام هو اوسع بكثير، واخطر بكثير من اشكال التدخل "الخارجي" المفضوح، العسكري والمخابراتي. وهو يتعلق بطرق واساليب "التعامل" الامبريالي ـ الصهيوني مع البلدان العربية وفسيفسائها الاتنية والدينية والقومية، والاجتماعية والسياسية.
XXX
اننا نضع الاهتمام والانشغال الامبريالي الغربي والصهيوني العالمي بالمنطقة العربية خاصة، والمنطقة العربية الاسلامية عامة، تحت عنوان "التعامل"، اكثر بكثير مما هو تحت عنوان "الاستعمال".
اي ان الدول والمؤسسات والفعاليات الامبريالية الغربية والصهيونية العالمية "تتعامل" مع مكونات المجتمعات العربية ـ الاسلامية كما هي، ومن خلال الحراك الذاتي لتلك المكونات، اكثر بكثير من "الاستعمال"، اي تجنيد وتحريك "العملاء" ـ افرادا او مجموعات او احزابا الخ ـ، الذين يرتبطون مباشرة بالسفارات والاجهزة المخابراتية الامبريالية والصهيونية ويأتمرون بأمرها.
وقد حصلت الامبريالية والصهيونية، من خلال اسلوب "التعامل"، على نتائج افضل لها بكثير مما حصلت عليه من خلال اسلوب "الاستعمال".
ولتوضيح فكرتنا، ليسمح لنا القارئ ان نقدم المثالين التاليين:
المثال الاول ـ لاسباب تاريخية مركبّة، اقتصادية ـ اجتماعية، وايديولوجية ـ دينية، واتنية ـ قومية، وثقافية ـ سياسية، كان يوجد عالميا ما يسمى "المسألة اليهودية"، والتي كانت تتعلق بطبيعة العلاقة بين اليهود وبين الدول والشعوب والمجتمعات التي يعيشون في ظهرانيها، على خلفية سوء معاملة الجماهير اليهودية العادية، كردود افعال وانعكاسات سلبية للدور الرأسمالي ـ الربوي، الطفيلي والكوسموبوليتي، للطغمة المالية ـ التجارية اليهودية. وكان هناك اتجاهان لحل "المسألة اليهودية":
ـ1ـ اتجاه لحل تلك المسألة عن طريق الاندماج بالمجتمعات التي يعيش فيها اليهود، وبالاخص عن طريق الالتحاق بحركة النضال لاجل التحرر الاجتماعي وضد الرأسمالية، بما فيها الرأسمالية "اليهودية". وقد كان هذا الاتجاه، قبل ظهور الهتلرية والستالينية، يشمل غالبية الجماهير الشعبية والانتلجنتسيا اليهودية.
ـ2ـ واتجاه الانعزال والتأكيد على "الخصوصية القومية" لليهود. وهو الاتجاه الذي تمخض عن الحركة الصهيونية.
وبالطبع ان الانظمة الامبريالية والرأسمالية والرجعية، خصوصا في الدول الكبيرة والمتقدمة، كانت تلجأ الى أسلوب "استعمال" اليهود، اي تجنيد العملاء في صفوفهم، مثلهم مثل اي صنف آخر من العملاء في اي اتنية او قومية اخرى. ولكن "مردود" هذا الاسلوب لصالح تلك الانظمة ظل محدودا وضعيفا، بحكم التزام غالبية الجماهير الشعبية والانتلجنتسيا اليهودية بالحركات النضالية وخصوصا الحركة الاشتراكية ومن ثم الحركة الشيوعية.
وبعد نشوء الحركة الصهيونية المنظمة، نجحت تلك الحركة في تكريس فكرة "القومية الدينية" لليهود، على الاساس الفئوي لا الايماني وحسب. واستنادا الى ذلك بدأت مرحلة "التعامل" الامبريالي مع اليهود، بوصفهم "جماعة قومية" خاصة. وجاءت عمليات الابادة التي شنتها الفاشية ضد اليهود، وهو ما يسمى "الهولوكوست" (المحرقة) التي تحولت الى صناعة اعلامية ـ سياسية كاملة، لتكرس الفكرة الصهيونية عن "القومية الدينية اليهودية". واخيرا جاءت الستالينية، وباسم "الاشتراكية العلمية؟؟" و"الشيوعية؟؟" و"الاممية؟؟" لتصادق تماما على هذه الفكرة من خلال الاعتراف "الشيوعي؟؟" باسرائيل.
وهكذا تراجع اسلوب "الاستعمال"، اي تجنيد العملاء، من اليهود، امام اسلوب "التعامل" مع الصهيونية كـ"حركة قومية" ومع اليهود كـ"قومية دينية". وباعتبار ان الحركة الصهيونية وضعت نفسها منذ البداية في خدمة الرأسمالية اليهودية والامبريالية العالمية، فقد تمخض "تعامل" الامبريالية (وذنبها الستاليني) مع اليهود عن انشاء "الوطن القومي اليهودي" بشخص "دولة اسرائيل"، وعن تحويل غالبية الجماهير "اليهودية" (بصفتها "القومية الدينية"، ومن ضمن الاطر المرنة والفضفاضة التي اوجدتها الصهيونية) في مختلف بلدان العالم الى طابور خامس حقيقي، يربط وجوده ومصيره بالامبريالية العالمية، وينفذ الستراتيجية الامبريالية العالمية ضد الحركات التحررية لجميع شعوب العالم، وفي مقدمتها الشعوب العربية وبالاخص الشعب الفلسطيني الذي تنصبّ عليه لعنات الاله التوراتي لليهود، والذي كان الضحية الاولى للمؤامرة العالمية لاغتصاب بلاده وانشاء الكيان الصهيوني على انقاضها.
والمثال الثاني من لبنان: عشية نشوء اسرائيل وخصوصا بعده، عملت الحركة الصهيونية وفيما بعد المخابرات الاسرائيلية على تجنيد عملاء لها في صفوف اللبنانيين. وقد نجحت في زرع لبنان بشبكة واسعة من الجواسيس والقتلة والمخربين، ونجحت بشكل خاص في اختراق حزب الكتائب و"القوات اللبنانية" وفي تشكيل "قوات سعد حداد" في الجنوب التي تحولت لاحقا الى "جيش لبنان الجنوبي" بقيادة العميل انطوان لحد. ووصل الامر الى حد ايصال عميلين اسرائيليين، هما الاخوين بشير وامين الجميل، الى موقع رئاسة الجمهورية. وقد قدم العملاء خدمات كبيرة للامبريالية واسرائيل، خصوصا لجانب تسهيل الاحتلال الاسرائيلي للبنان، ومحاولة توقيع "معاهدة سلام" مع اسرائيل، وتحويل لبنان الى محمية اسرائيلية. ولكن اسلوب تجنيد العملاء فشل بالنتيجة في تحقيق الاهداف الستراتيجية للامبريالية واسرائيل، بل وأدى الى نتائج معكوسة هي عزل واضعاف المنظات والاحزاب العميلة، خصوصا في صفوف الجماهير المسيحية، التي كان حزب الكتائب و"القوات اللبنانية" و"جيش لبنان الجنوبي" يراهنون على استمالتها الى جانبهم، من ضمن عمليات التعبئة الطائفية. وبعكس جميع التوقعات الامبريالية ـ الصهيونية، برزت المقاومة الوطنية الاسلامية بقيادة حزب الله وحلفاؤها في لبنان، بوصفها القوة العسكرية ـ السياسية الاكبر على الساحة اللبنانية، التي اصبحت تشكل المعادل الستراتيجي الاقوى، لاسرائيل، على الساحة العربية بمجملها.
في المقابل، وبالتزامن والترادف مع ذلك، لجأت الامبريالية والصهيونية وحلفاؤهما الى استخدام اسلوب "التعامل" على الساحة اللبنانية، وهو ما يتجسد في "التعامل" مع المكونات الدينية والمذهبية والمناطقية والعشائرية والعائلية والحزبية والسياسية للتركيبة الكيانية اللبنانية، بدعم وتشجيع بعض الفئات والاتجاهات، ومحاصرة ومقاطعة البعض الاخر. وقد توصل هذا الاسلوب الى تقليص امكانيات استثمار نجاحات المقاومة الوطنية الاسلامية داخليا، والى شق الساحة اللبنانية الى معسكرين سياسيين، يرتبط احدهما عضويا بالامبريالية والصهيونية والطبقة الكومبرادورية النفطية العربية (وعلى رأسها السعودية) ويقف بالمرصاد ضد المقاومة الوطنية الاسلامية وحلفائها، ليس على قاعدة العمالة والخيانة المكشوفة، بل تحت ستار السيادة والحرية والاستقلال والدمقراطية وحقوق الطوائف والمذاهب والليبيرالية والعلمانية؛ ويضم هذا المعسكر (المسمى فريق 14 اذار) جميع عملاء اسرائيل المفضوحين الى جانب بعض فلول "الشيوعيين؟؟" السابقين والعلمانيين واللاطائفيين، جنبا الى جنب التيار الطائفي المسمى تيار "المستقبل"، الذي يتاجر بدم الرئيس الاسبق رفيق الحريري كقميص عثمان، بدعم كلي من المؤسسات الدولية للامبريالية والصهيونية.
وبواسطة اسلوب "التعامل" هذا، فإن التركيبة الامبريالية ـ الصهيونية تعمل على تمرير مصالحها الرئيسية وسياستها التسلطية تحت ستار "العلاقات الندية؟؟!!!" و"سيادة" و"استقلال" و"حرية" الاطراف المتعاملة مع الامبريالية والصهيونية، سواء كانت منظمات او زعامات طائفية وعشائرية او انظمة او دول.
ومن ضمن هذا السياق تجري الان امام اعيننا المهزلة التالية: في الماضي اعتبر قرار الامم المتحدة بتقسيم فلسطين قرارا امبرياليا ـ صهيونية معاديا للشعب الفلسطيني والامة العربية. وقد تم شن جميع الحروب الصهيونية وتشريد ملايين الفلسطينيين، لاجل اقامة وتوسيع الدولة الاسرائيلية. وطوال اكثر من ستين سنة، لم تقم الامم المتحدة بأي مسعى لتطبيق قرار التقسيم ذاته، وانشاء الدولة الفلسطينية، بل كانت كل مجهودات وقرارات الامم المتحدة تصب في خدمة توطيد وتوسيع الكيان الصهيوني. والان تقوم سلطة اوسلو الفلسطينية بطرح مسألة الاعتراف بدولة فلسطينية على جزء من الارض الفلسطينية هو اصغر بكثير من "دولة فلسطين" المفترضة في قرار التقسيم سنة 1947. وتعتبر هذه الخطوة عملا "وطنيا" بطوليا تقدم عليه سلطة اوسلو؛ واذا ما قدر لهذه المبادرة ان تشق طريقها في الامم المتحدة، مع او بدون الفيتو الاميركي، وبموافقة بعض الدول الغربية، فإن ذلك سيكون مناسبة لسلطة اوسلو، ولجميع الانظمة والقوى السياسية العربية الموالية للغرب، لان ترقص طربا وتملأ الدنيا صخبا حول جدوى "التعاون" و"الانفتاح" و"التعامل" الدبلوماسي "الندي" القائم على "الاحترام المتبادل!!" مع الدول الامبريالية و"الاعتراف" و"السلام" و"التطبيع" مع اسرائيل والصهيونية العالمية.
XXX
واذا عدنا الى تاريخ العلاقة الامبريالية الغربية مع الشرق العربي ـ الاسلامي، نجد انه حتى نهاية الحملات الصليبية، فإن الطابع الرئيسي للتعامل الغربي مع الشرق العربي ـ الاسلامي كان يتميز بالحروب العدوانية التوسعية والاستعبادية والاحتلال والاغتصاب والالحاق؛ ولا زال هذا الطابع سائدا الى اليوم بالرغم من زوال عهد الاستعمار التقليدي القديم.
ولكن بعد سقوط الاحتلال الصليبي لبعض مناطق الشرق، ادركت الدول الغربية الاستعمارية المعادية انها لن تستطيع بعد الان السيطرة على الشرق العربي الاسلامي بالحرب وقوة الجيوش فقط. ولكنها لم تتخل عن مخططاتها لاعادة السيطرة على الشرق العربي الاسلامي ونهب خيراته واستعباد شعوبه وحشرها في مرتبة الضعف والتخلف. ولكن خلال المرحلة الصليبية التي دامت 250 سنة، فإن الدول الغربية المعادية درست بالتفصيل احوال الشرق وخصائصه ومكوناته الدينية والمذهبية والاتنية والقومية والعشائرية والمناطقية ونقاط الاتفاق والاختلاف بين هذه المكونات؛ ووجدت الدول الغربية المعادية انه يمكن الوصول الى اهدافها الاستغلالية والاستعمارية عبر "التعامل" "الندي" و"الصديق" و"الحليف" مع مكونات الشرق و"تأييد" وتأليب بعضها ضد البعض الاخر على طريقة "فرق تسد" الشهيرة.
وخلال هذه المرحلة ادرك الصليبيون ان العرب (كأمة متعددة الاديان والمذاهب، وبمنزلتهم الخاصة في الدين الاسلامي) كانوا يمثلون عنصر التوحيد الرئيسي وشبه الوحيد لمختلف اقوام الشرق العربي الاسلامي، بما في ذلك الاقوام التي كانت تمتلك حضارة متقدمة كالفرس، والاقوام متدنية الثقافة كالترك. من هنا كان قرار الدول الغربية الاستعمارية ينصب اولا على اضعاف وتقويض العنصر العربي في الدولة العربية الاسلامية السابقة. وقد تسنى لهم ذلك بعد بروز السلطنة العثمانية التي، خصوصا بعد سقوط الاندلس، تجمع فيها اعدى اعداء العرب واكثرهم مكرا: اغنياء اليهود الخزر (ابناء عم الطورانيين الاتراك) واليهود "العرب" العبرانيون الاندلسيون. ومن خلال اولئك الاغنياء اليهود، وبالتفاهم بين الدول الاستعمارية الاوروبية واليهود، تم توجيه السلطنة العثمانية لضرب الفرس والاكراد وعزلهم (معركة جالديران 1514)، ومن ثم التفرغ والتوجه لاكتساح البلدان العربية (بعد معركة مرج دابق 1516)؛ وتم نقل الخلافة الاسلامية الى سلاطين بني عثمان، واصبحت الاستانة (القسطنطينية السابقة) "الباب العالي" ومركز الامبراطورية العثمانية التي ناخت بكلكها على الارض العربية وعضتها بنابها الاسود. وقامت الطغمة اليهودية الخزرية والعبرية بدور "المفتاح الذهبي" لـ"الباب العالي". واوجد اليهود مركز تجمع خاص بهم في مدينة سالونيك اليونانية، التي تحولت عمليا الى "عاصمة سرية" للامبراطورية العثمانية او "مطبخ سري" للسياسة العثمانية، ومحطة اتصال مع دول اوروبا الاستعمارية. ولم يمض سوى عقدين من الزمن على معركة مرج دابق، حتى قام السلطان العثماني سليمان القانوني بمنح ما يسمى "الامتيازات الاجنبية" للدول الاوروبية سنة 1536. وطبعا ان فكرة اتفاقات "الامتيازات الاجنبية" لم تهبط بالوحي على السلطان العثماني، بل كانت طبخة قدمها المستشارون اليهود للسلطان. وبنتيجة تلك الاتفاقات اغرقت السلطنة بالقروض الغربية لاجل تمويل وتسليح الجيش العثماني ولاجل تغطية بذخ وتبذير السلاطين وحواشيهم. وصار الشغل الشاغل للسلطنة نهب البلاد والعباد، من اجل تسديد فوائد تلك القروض ودفع "اتعاب" السماسرة اليهود، بالاضافة الى فتح الابواب على مصاريعها للتجار الاوروبيين بموجب "الامتيازات الاجنبية". وهكذا تحولت الغزوة العثمانية للبلدان العربية الى "حملة صليبية جديدة" بأعلام اسلامية.
وخلال مرحلة الاستعمار التركي للمنطقة العربية والكردية، طبقت السلطنة نظام تقسيمات ادارية ومنح ألقاب تشريفية (امير، شيخ، اغا، مقدم، بك، باشا، الخ) من شأنه تكريس وتعميق التمايزات والاختلافات المناطقية والعشائرية والاتنية والقومية والدينية والمذهبية، لتفكيك الوحدة الوطنية والاجتماعية وربط كل فئة على حدة بالسلطة التركية، وتقديم السلطة والعنصر و"الثقافة" التركية على الجميع.
وقد ادت السياسة التركية المتبعة الى تشجيع وتسهيل قيام مختلف البلدان الاوروبية الاستعمارية بغزو واحتلال واستعمار بلدان المغرب العربي ووادي النيل وجنوب اليمن والخليج العربي، قبل الانهيار التام للسلطنة في الحرب العالمية الاولى. وقبل "وعد بلفور" بكثير، بدأ اليهود بشراء الاراضي الفلسطينية والاستيطان فيها، مستغلين فساد الادارة العثمانية. ويذكر بعض المعلومات التاريخية ان جد الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس كان احد سماسرة بيع الاراضي الفلسطينية لليهود (راجع مقالة للصحفي الفلسطيني زهير اندراوس، منشورة في صحيفة كل العرب الصادرة في الناصرة). وتولى الاستعمار الاوروبي، سائرا على خطى السلطنة العثمانية، عقد اتفاقات مع الشرائح المتسلطة المحلية وتنظيم ادارة استعمارية للمناطق المحتلة، تكرّس وتعزز التمايزات والاختلافات المناطقية والعشائرية والاتنية والدينية والمذهبية.
ومع انهيار الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الاولى، أتمت الدول الاستعمارية الاوروبية عملية الاستعمار المباشر وتقسيم بلدان المشرق العربي (باستثناء اليمن الشمالي، ونجد والحجاز اللذين سلما الى الاسرة السعودية التي حولتهما الى ما يسمى "المملكة العربية السعودية").
ومنذ البداية جرى قمع وكبت الحركات الاستقلالية العربية، وانتشرت الجيوش والقواعد العسكرية الاستعمارية في جميع الاراضي العربية المحتلة. وتوجت هذه المرحلة بما يسمى "وعد بلفور" لانشاء "الوطن القومي اليهودي" في فلسطين، التي ادعت فيها الصهيونية العالمية بأن فلسطين هي "ارض بلا شعب، لشعب بلا ارض".
ولكن مع وجود القوات والقواعد العسكرية الاحتلالية، فإن الميزة الاساسية للاستعمار الاوروبي للبلدان العربية بقيت تتمحور حول "التعامل" و"التعاون" و"الصداقة" و"الدعم" مع الطبقات والشرائح المتسلطة العربية، بحيث اصبح وجود الاحتلال، ووجود تلك السلطات المحلية، مرتبط احدهما بالآخر من ضمن "اتفاقيات" دولية تنظم تلك العلاقة وتضفي الطابع "الشرعي" عليها.
XXX
وفي نهاية الحرب العالمية الثانية، ومع انتصار الشعوب السوفياتية والجيش الاحمر على النازية وعلى الجيش الاستعماري الياباني، وبعد انتصار الثورة الشعبية الصينية على حكم الكيومنتانغ الموالي للامبريالية الاميركية، واندلاع الحرب الكورية في 1950 ـ 1953 وما نشأ عنها من تحطيم هيبة الولايات المتحدة وكشف عجزها عن فرض ارادتها على شعب صغير نسبيا ومقسوم كالشعب الكوري، بدأ النظام الاستعماري القديم يتهاوى تحت ضربات الثورات الشعبية التحررية في جميع المستعمرات وشبه المستعمرات السابقة، بما فيها البلدان العربية.
وقد استغلت الامبريالية الاميركية هذا الوضع للتدخل في الشؤون العربية والحلول محل الاستعمار البريطاني والفرنسي، بالتفاهم او بدون التفاهم معهما. وتمت عملية "الاستبدال الاستعماري" هذه بالتدريج، وعلى مراحل، ليس ضد الثورات التحررية، بل بمواكبتها و"دعمها" سرا او علنا والهيمنة عليها عمليا. وبدراسة تاريخ الثورات التحررية في تلك المرحلة، نجد الامثلة التالية:
ـ1ـ ان الثورة المصرية المسماة ثورة يوليو 1952 بزعامة البكباشي جمال عبدالناصر حسين، التي اطاحت بالنظام الملكي وطردت الانكليز من مصر وأممت قناة السويس، كانت ـ اي هذه الثورة ـ على علاقة وثيقة بالمخابرات الاميركية بشخص محمد حسنين هيكل ومحمود فوزي ومصطفى امين وبعض "الضباط الاحرار" بمن فيهم او بالاخص جمال عبدالناصر نفسه. وفي اعقاب حرب السويس 1956، وضعت اميركا ثقلها الى جانب الانسحاب البريطاني ـ الفرنسي ـ الاسرائيلي من الاراضي المصرية، ولكنها بالمقابل حصلت على اعتراف مصر بأن قناة السويس هي قناة دولية مفتوحة لجميع الدول بما في ذلك اسرائيل، على ان لا ترفع السفن الاسرائيلية العلم الاسرائيلي على سفنها والسفن المتعاملة معها العابرة في قناة السويس، كما وافقت مصر "الثورية" (الى جانب السعودية "الرجعية") على اعتبار مضائق تيران ممرات دولية (بما يخالف قوانين البحار والمياه الاقليمية) يحق لاسرائيل استخدامها، ومنذ ذلك الحين اصبحت ايلات مدينة رئيسية واهم مرفأ بحري في اسرائيل. وتم نشر البوليس الدولي على الحدود المصرية ـ الاسرائيلية للفصل بين قوات البلدين، وتولت المخابرات المصرية تصفية جيوب العمل الفدائي الفلسطيني التي كانت قد نشأت في غزة. وبعد قيام الوحدة المصرية ـ السورية في 1958، دفنت القيادة المصرية وزبانيتها السوريون امثال السفاح عبدالحميد السراج كل امل بتوحيد جهود البلدين الشقيقين لاطباق فكي الكماشة على اسرائيل، وعوضا عن ذلك رفع محمد حسنين هيكل، المستشار الاول لعبدالناصر، شعار "انتهت المعركة مع الاستعمار، وبدأت المعركة مع الشيوعية". وتحت هذا الشعار تم ضرب جميع القوى والتوجهات الوطنية والدمقراطية والعروبية الصادقة في سوريا، بما في ذلك حزب البعث العربي الاشتراكي وكتلة الضباط الوطنيين الدمقراطيين بزعامة الفريق عفيف البزري رحمه الله، وتولت الدكتاتورية الناصرية مشروع تحويل سوريا (بالاضافة الى مصر) الى سجن كبير والى مسلخ بشري، وكان اعتقال القائد الشيوعي العروبي فرج الله الحلو وقتله تحت التعذيب وتذويبه بالاسيد علامة مميزة لما ارادته اميركا من الوحدة المصرية ـ السورية، وما نفذته الناصرية "بصدق" و"اخلاص"؛ وكأي دكتاتور نازي كذب جمال عبدالناصر على نفسه وعلى الشعوب العربية وعلى شعوب العالم بأسرها حينما نفى اعتقال وقتل فرج الله الحلو على ايدي وحوش المخابرات وعلى رأسهم السفاح عبدالحميد السراج الذي اعتقل في سوريا بعد الانفصال. ولكن الاجهزة المخابراتية، وبأمر من جمال عبدالناصر شخصيا، تولت تهريبه من السجن في سوريا الى بيروت، ومنها الى مصر حيث لا يزال الى اليوم يعيش معززا مكرما.
ـ2ـ وفي عهد عبدالناصر تحولت "مصر الثورة" الى قاعدة رئيسية للمخابرات والمؤامرات الاميركية ضد اي تحرك شعبي عربي. وفي هذا السياق تم التآمر (الاميركي ـ المصري) لحرف التحرك الوطني في الاردن ضد المستعمرين الانجليز وطرد الجنرال جون غلوب باشا (ابو حنيك) في سنة 1955، والتحكم بهذا التحرك لصالح تحويل الاردن من قاعدة انكليزية الى قاعدة نفوذ اميركية. كما تم التآمر ضد الانتفاضة الشعبية في لبنان والتفاهم الاميركي ـ المصري لحرف الانتفاضة واغراقها في الصراعات الطائفية المفتعلة، وكان عملاء المخابرات المصرية ـ السورية يرتكبون الجرائم ضد المدنيين المسيحيين باسم "العروبة" و"الاسلام"، واخيرا تمت صفقة اميركية ـ ناصرية للمجيء بالجنرال فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية، وتحول لبنان حينذاك الى قاعدة شبه دائمة للاسطول السادس الاميركي.
ـ3ـ واخطر ما جرى في تلك المرحلة هو التآمر الاميركي ـ المصري لاجهاض ثورة 1958 في العراق والمجيء بنظام حكم "ثوري" في الظاهر و"صديق فعلي لاميركا" (على الطريقة المصرية) في العراق، ومن ثم في سوريا. فتم الانقلاب الفاشستي الوحشي في العراق في شباط 1963، الذي اوصل حزب البعث و"الناصريين" الى السلطة بمباركة اميركية ودعم اميركي ـ خليجي كامل. وبعد اغتيال الزعيم عبدالكريم قاسم تم اعتقال عشرات الضباط الوطنيين والدمقراطيين الشرفاء في الجيش العراقي وقادة الحزب الشيوعي العراقي وتعذيبهم حتى الموت. وفيما بعد اعرب علي صالح السعدي رئيس حزب البعث حينذاك عن ندمه على المشاركة في قتل الشيوعيين واعترف بقوله "جئنا الى السلطة في قطار اميركي". واخيرا وصل صدام حسين الى سدة السلطة في العراق بمباركة اميركية ودعم سعودي وخليجي.
وفي اذار 1963 وصل البعثيون الى السلطة في سوريا ايضا.
وفي تلك السنة المشؤومة تمت ما يسمى "مفاوضات الوحدة الثلاثية" بين البلدان الثلاثة: مصر، سوريا والعراق. واستخدمت تلك المفاوضات كستار:
اولا، لرفع المسؤولية التاريخية عن النظام الناصري والنظامين البعثيين في سوريا والعراق، في افشال المشاريع الوحدوية العربية التي كانوا يتاجرون بها، سواء الوحدة العربية العامة، او الوحدة الثلاثية (مصر، سوريا، العراق) او الوحدة الثنائية (مصر والسودان) او الوحدة الثنائية (سوريا والعراق)؛
وثانيا، وهو الاهم والاخطر، كانت تلك المفاوضات الوحدوية (للضحك على الذقون، ولذر الرماد في العيون) ستارا لعملية توطيد الحكم الناصري والحكمين البعثيين وتحويلها مرة واحدة الى انظمة دكتاتورية فاشية متوحشة لسحق وقمع واذلال الجماهير الشعبية قاطبة في مصر وسوريا والعراق، وتحويل الجماهير الى قطعان ذليلة صاغرة لانظمة الحكم القائمة بحجة حمايتها من العدوان الاسرائيلي. ولهذه الغاية تم الاستخدام الاقصى للاساليب ـ الاسلحة الثلاثة التالية:
ـ1ـ الديماغوجية التامة التي تفوقت على الغوبلزية ذاتها بأشواط واشواط، بحيث انها استطاعت ان تصور الخيانة الوطنية بأنها الوطنية بعينها، وتصور سياسة الحماية الفعلية لوجود اسرائيل والاحتلال الاسرائيلي، بأنها كفاح ضد اسرائيل، وتصور نشوء اي مقاومة ضد اسرائيل بأنه عمالة لاسرائيل؛
ـ2ـ الفساد والافساد التامين، حيث اصبحت السلطة مصدر "الرزق" الوحيد والمسيطر، وصارت الرشوة والابتزاز والصفقات المشبوهة والاثراء غير المشروع سمة اجتماعية مسلما بها وصار الحصول على اي عمل، مهما كان بسيطا وتافها، والحصول على لقمة الخبز وشربة الماء وحبة الدواء مرهونة كلها بالانتماء للسلطة القائمة والتذلل والعبودية لها، وصارت القوات المسلحة وقوات الامن تستهلك ¾ الميزانية المعروفة للدولة، ومختلف الاجهزة البيروقراطية الاخرى تستهلك الربع الباقي، وصارت اعداد المخبرين والجلادين والسفاحين والقتلة المأجورين واللصوص وجميع انواع السفلة واشباه البشر في اجهزة المخابرات تفوق 2/3 من اعداد المواطنين الراشدين رجالا ونساء، شيوخا ويافعين، واصبح الجار جاسوسا على جاره والزميل جاسوسا على زميله والقريب جاسوسا على قريبه وحتى الاخ جاسوسا على اخيه والابن على ابيه، وكل ذلك باسم "الوطنية" و"القومية" و"التقدمية" و"العلمانية"؛
ـ3ـ الارهاب الوحشي الشامل، بحيث تحولت البلاد الى سجن او معسكر اعتقال كبير، وتحول الشعب كله الى شعب محتل في ارضه، وعلق الدستور والقانون عمليا، ومورست حالة الطوارئ والاحكام العرفية الاسوأ من الحكم العسكري المعادي ذاته، بحيث صار يتم اعتقال واخفاء وتعذيب وسجن وقتل المواطنين بشكل اعتباطي وبدون اي قرارات رسمية مهما كانت ظالمة وبدون اي محاكمة عرفية او غير عرفية مهما كانت شكلية، وتم تحويل المواطن العربي الى حشرة "يجوز" للسلطة سحقها في اي وقت كان وبتهمة وبدون تهمة، وطبّق العقاب الجماعي على نطاق واسع، فاذا لفقت تهمة ما ضد اي مواطن بمعاداة السلطة يتم اعتقاله واضطهاده هو وكل افراد عائلته واقربائه واصدقائه، واذا "غضب الله" على احد الناس بأن يسأل عن معتقل اختفى بظروف "غامضة" (قريب، او جار، او زميل، او صديق) يلحق به ويختفي مثله، واذا قتل مواطن تحت التعذيب او بغيره تلقى جثته في الطريق لمراقبة من يتعرف عليه ويبدي ادنى اشارة تعاطف معه او استهجان لقتله ورميه بهذه الطريقة المسيئة لخلق الله كالحيوان النافق، فيتم فورا اعتقال هذا المواطن المستهجـِن بوصفه عدوا للسلطة "الثورية" "الوطنية" و"التقدمية" و"المؤمنة" وعميلا للامبريالية والصهيونية والرجعية. وطبعا ان كل هذه الجرائم بحق الانسانية، وفي خدمة الامبريالية والصهيونية، كانت ترتكب تحت شعارات "ارفع رأسك يا اخي" و"ما اخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة" و"التوازن الستراتيجي مع العدو" و"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" و"الدمقراطية الاجتماعية" و"الاشتراكية العربية".
بهذه الاساليب المكيافيلية، الديماغوجية، الافسادية، الاجرامية والخيانية تمكنت الامبريالية الاميركية وحليفتها الستراتيجية الصهيونية العالمية من مصادرة الحياة السياسية الحقيقية بواسطة الانظمة الدكتاتورية "الوطنية" و"التقدمية" و"الثورية" بالاضافة الى الانظمة التقليدية "الرجعية" الموالية تقليديا للغرب الامبريالي. وتحت هذا العنوان العريض تمت التصفية الوحشية للتيارت الوطنية الصادقة التي ظلت مخلصة لمنطلقات حزبها الاساسية في حزب البعث ذاته، كجماعة علي صالح السعدي وجماعة عبدالخالق السامرائي وصلاح عمر العلي في العراق وجماعة اكرم الحوراني وجماعة صلاح جديد ويوسف الزعين ونورالدين الاتاسي في سوريا.
وعن هذا الطريق ضمنت الامبريالية الاميركية الاعتراف بها بوصفها الكفيل او الضامن الاكبر لنظام الانظمة السايكس ـ بيكوية "العربية"، كما ضمنت استمرار تدفق النفط العربي الى الغرب الامبريالي عبر شركات النقل والتسويق الاميركية؛ وضمنت الصهيونية العالمية السلام والامن لاسرائيل مدة نصف قرن تقريبا؛ وضمنت الشرائح الانتهازية المتسلطة في انظمة الحكم "الوطنية" و"الثورية" التمتع بالعز والجاه وفرعنة وتأليه الحاكم المستبد وامتلاك الثروة الفاحشة على حساب شعوبها، مقابل الخدمات الفعلية للامبريالية والصهيونية.
XXX
وكان مصدر قوة الانظمة الدكتاتورية "الوطنية" المنحرفة والمزيفة، ونقطة مقتلها في الوقت نفسه، هو العسكر والحكم العسكري، باسم المواجهة الشكلية واللفظية مع اسرائيل. وكانت الجماهير الشعبية الواسعة تؤيد الدكتاتورية، انطلاقا من الامل بأن الجيوش العربية ستنتصر يوما على العدو الصهيوني وتحرر فلسطين، منهية بذلك عصر الهيمنة الامبريالية. وقد استغلت الدكتاتوريات العربية "الوطنية" هذه النقطة الى اقصى حد، خصوصا بعد ان بدأت تتسلح من الكتلة الشرقية، بعد ان كان التسلح حكرا على الغرب. واذكر انه كانت توجد حينذاك نشرة اخبارية سينمائية، تعرض في صالات السينما قبل عرض الفيلم المبرمج؛ ولاجل اجتذاب المزيد من الجمهور، كانت دور السينما تكرر في تلك النشرات الاخبارية عرض اخبار الاستعراضات العسكرية الحماسية، وخصوصا المصرية، ومنها عرض الصواريخ التي اطلقت عليها اسماء عربية طنانة مثل: "القاهر" و"الظافر" و"الناصر"، وكذلك عرض طائرات الميغ 15 والميغ 17 التي سبق لها ان دوخت الاميركيين في الحرب الكورية. وحين عرض تلك الصواريخ والطائرات والدبابات كانت قاعات السينما تضج بالتصفيق والهتافات والتكبير، ولدى عرض طائرات الميغ، رفع البعض، والارجح انهم من الشيوعيين المسوفتين، هتاف: "بدنا نحرر فلسطين، بالميغ السوفياتية". ولكن للاسف ففي صبيحة 5 حزيران 1967 دمرت الصواريخ في مواقعها، ودمرت طائرات الميغ في مرابضها دون ان ترف لها اجنحة، بسبب الاختراقات الجاسوسية للقيادات العربية، وبسبب ان تلك القيادات "الوطنية" جدا لم تكن جادة في الاستعداد للمواجهة مع العدو، بل كان كل همها منصبا على تضليل وقمع الجماهير الشعبية المظلومة وتشديد العض بالنواجز على السلطة، وكانت عمليا قيادات مستسلمة مسبقا للعدو. ووقتها برر "الزعيم التاريخي" البكباشي جمال عبدالناصر حسين موافقته على وقف اطلاق النار بحجة اقبح من ذنب قال فيها ان الطريق الى القاهرة كانت مفتوحة!!! اما في الجولان السوري فكان يحتشد في المواقع والخنادق والملاجئ المضادة حتى للقنابل الذرية اكثر من 70 الف جندي مدججين بجميع انواع الاسلحة المتطورة السوفياتية، فجاءهم تعميم او امر قيادي بـ"الانسحاب الكيفي"؛ وهكذا كان؛ وانسحب عشرات آلاف الجنود والضباط السوريين عبر منطقة العرقوب (شبعا وجوارها) في جنوب لبنان، وكان واحدهم يسلم سلاحه الفردي وحذاءه ولباسه العسكري لاول مزارع او راع يصادفه مقابل اعطائه قميصا وبنطلونا وحذاءً مدنيا حتى لا يقع في ايدي المخابرات العسكرية اللبنانية فتعتقله وتبهدله وربما تصفيه جسديا على الفور عملا بمبادئ "الاخوة العربية" وتطبيقا لمواثيق جامعة الدول العربية. كما ان محافظ مدينة القنيطرة حينذاك (المعارض الوطني الدمقراطي اليوم) السيد عبدالحليم خدام اعلن سقوط القنيطرة قبل 3 ايام من دخول اول جندي اسرائيلي اليها. وانسحب سكان الجولان جميعا (اكثر من نصف مليون نسمة) باستثناء بعض البلدات والقرى الدرزية (مما جلب تهمة "الخيانة" على الدروز الذين لا زالوا الى اليوم متمسكين بهويتهم الوطنية السورية). وبعد هزيمة حزيران 1967 رفع الناصريون والبعثيون والشيوعيون المسوفتون، في جوقة واحدة، شعارا يقول: ان العدوان فشل في تحقيق هدفه الرئيسي وهو اسقاط الانظمة "الوطنية" و"التقدمية" العربية. وظلت تلك الانظمة تتاجر بشعارات: الصمود والتصدي والممانعة والتوازن الستراتيجي مع العدو. وبلغت المهزلة حدا ان صدام حسين، وبعد فشل الحرب على ايران، ولاجل فرض رقابة مخابراتية ـ عسكرية شديدة وشاملة على الشعب العراقي، عمد الى تشكيل ما يسمى "الجيش الشعبي" لتحرير فلسطين، الذي ضم سبعة ملايين مواطن.
XXX
ولكن بعد تحرير جنوب لبنان في ايار 2000، على ايدي المقاومة الشعبية البطلة، وخصوصا بعد فشل العدوان الاسرائيلي في تموز 2006 في ضرب وتصفية المقاومة الاسلامية بقيادة حزب الله، طرأ تطور نوعي جديد في المشهد العربي كله: فقد "انكشفت" تماما العسكرية النظامية العربية، وبذلك فقدت الانظمة الدكتاتورية والاستبدادية العربية الستار الاخير لتغطية عوراتها، وفقدت معه مبرر استمرار وجودها بحجة مواجهة اسرائيل. وسقطت نهائيا كل المسرحيات السياسية والاستعراضية العسكرية لنظام انظمة سايكس ـ بيكو "العربية": الدكتاتورية "الوطنية" و"التقدمية" و"العلمانية"، كما الاستبدادية "الاسلامو ـ نفطية"؛ اذ ان العسكرية العربية فقدت هيبتها، ولم تعد الانظمة تستطيع ان تخدع احدا، وسقطت جميع الاقنعة، ولم تعد الجماهير ترى في تلك الانظمة سوى القمع والاستبداد والفساد والخيانة. ومع سقوط هيبة العسكرية العربية سقطت ايضا رهبة الاحكام العرفية وحالة الطوارئ، وسقط حاجز الرهبة والخوف من اجهزة المخابرات الاجرامية والمنحطة.
ومنذ حرب تموز 2006 بدأت على الساحة العربية بمجملها عملية عد عكسي جيوبوليتيكي وستراتيجي مزدوجة الوجه:
اولا ـ اصبح من الواضح تماما للعالم اجمع، وبالاخص لاميركا وربيبتها اسرائيل؛ ان اسرائيل واميركا والحلف الاطلسي و"قوات السلام" الدولية والطابور الخامس الموالي لاميركا واسرائيل في لبنان والانظمة العربية المتآمرة جميعا لم يعد بامكانها، لا عسكريا ولا سياسيا، القضاء على المقاومة الوطنية الاسلامية بقيادة حزب الله في لبنان؛ واصبح من الواضح ان اسرائيل وحزب الله لا يمكن ان يتعايشا (على طريقة التعايش الاسرائيلي مع النظام السوري، او مع منظمة التحرير الفلسطينية) وان فترة وقف اطلاق النار الحالية ليست الا فترة استعداد محموم، من كلا الجانبين، للمعركة الحاسمة القادمة لا محالة؛ واصبح من الواضح انه في المعركة القادمة فإن اسرائيل يمكنها ان تحرق الاخضر واليابس في لبنان، ولكن هذا لن يمس بأية حال البنية العسكرية الاساسية لحزب الله لا سيما سلاح الصواريخ والسلاح البحري (الغواصات الفردية الصغيرة والزوارق السريعة والضفادع البشرية، الاستشهادية كلها) والسلاح البري الرهيب (المتمثل في بضعة الالاف من الاستشهاديين منتظري ساعة الصفر للانطلاق داخل الاراضي الاسرائيلية وتحويلها الى جهنم حقيقية).
وبناء على ذلك فإن العد العكسي لوجود اسرائيل قد بدأ.
لقد كانت جهود المؤتمر اليهودي العالمي والمنظمات الصهيوينة العالمية منذ
اكثر من مائة سنة تنصب على تجميع اليهود في فلسطين قبل وبعد الاحتلال. ولكن منذ حرب تموز 2006 فإن جهود المنظمات اليهودية والصهيونية العالمية اصبحت تتركز على ايجاد مآوٍ لليهود الاسرائيليين في الخارج. وحسب تقديرات مختلفة فإن عدد اليهود الاسرائيليين الذين اصبحوا يعيشون خارج اسرائيل بلغ حتى الان المليون، وفي اي معركة قادمة سيصبح من الافضل لاي يهودي اسرائيلي ان يطلب الحماية واللجوء في اي بلد عربي بالذات ولا البقاء في اسرائيل.
وثانيا ـ طبعا ان اي حاكم بأمره عربي لا يمكن ان يتخلى او يداول او يتنازل عن السلطة بارادته، حتى لاقرب اقربائه او المقربين منه. ولكن بعد حرب تموز 2006 اصبح من الواضح ان المعركة القادمة، ايا كانت نتائجها، ستجر وراءها الزلازل والطوفانات السياسية في جميع البلدان العربية مجتمعة ومنفردة. وبذلك اصبحت السلطة كابوسا وعبئا على جميع الحكام العرب، وبدأ الرعب يدب في اوصال اجهزة القمع العربية خصوصا وجميع الفاسدين ـ المفسدين والمستفيدين من السلطة عموما، الذين بدأوا يحسبون الحساب متى سيبدأون يقدمون الحساب عما اقترفته ولا تزال تقترفه اياديهم القذرة. وفي المقابل بدأ التذمر والتبرم من السلطة ورجالها وزعرانها وكلابها يطفو على السطح بسرعة وبشكل واسع، واخذت مجموعات المعارضة تتسابق في التعبير عن مواقفها واستقطاب المواطنين الى جانبها، وبدأت الصحافة المدجنة ذاتها تخرق بعض المحظورات، وبدأ القضاء الذلول ذاته يرفع رأسه قليلا بوجه بعض المتنفذين واصحاب الجرائم والتجاوزات. وباختصار بدأت تنضج في جميع مركـّـبات سايكس ـ بيكو "العربية" "حالة ثورية"، لم يعد معها لا الحاكمون ولا المحكومون يستطيعون الاستمرار في العيش والتعايش كما في الماضي. وصار من الواضح ايضا ان انهيار اي واحد من هذه المركـّـبات سيجر وراءه انهيار بقية المركـّـبات كأحجار الدومينو التي يسقط بعضها بعضا. اي انه بدأ العد العكسي لانظمة سايكس ـ بيكو "العربية"، جنبا الى جنب العد العكسي لاسرائيل.
XXX
ولكن ما لم يكن وليس الى الان واضحا هو: من سيسبق من في الانهيار اولا، اسرائيل، ام احد توائمها من انظمة سايكس ـ بيكو "العربية"؟
ولا شك ان الامبريالية العالمية كانت ولا تزال تمتلك ورقة استثنائية للخروج من هذا المأزق المصيري لوجودها كله في المنطقة، الا وهي ورقة القضاء على حزب الله او شل حركته وتحييده. وهذا ما يفسر تركيز جميع الجهود في السنوات الاخيرة، دوليا واقليميا وعربيا ولبنانيا، ضد حزب الله، بدءا من المحاولات الحثيثة من قبل معسكر الخيانة المسمى "14 اذار" في لبنان للايقاع بين حزب الله والجيش اللبناني ولاثارة الفتنة السنية ـ الشيعية، مرورا باتهام حزب الله بمحاولة القيام بانقلاب في مصر، وطرح واستغلال مسألة المحكمة الدولية واتهام بعض اعضاء حزب الله بالمشاركة في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق الشيخ السعودي رفيق الحريري، واخيرا لا آخر التهديدات الاميركية المكشوفة والضمنية ضد حزب الله بوصفه منظمة ارهابية دولية وذراعا عسكريا لايران.
ولكن كل هذه المحاولات والاستفزازات والتهديدات الامبريالية ـ الصهيونية ـ "الدولية"، "العربية" و"اللبنانية" ضد حزب الله ذهبت حتى الان هباء منثورا.
وخشية ان تندلع المعركة المرتقبة بين حزب الله واسرائيل، ويقضي الله امرا كان مفعولا، فلا تعود تقوم قائمة للامبريالية في المدى المنظور في المنطقة العربية كلها، اسرعت الامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية كي تضع موضع التطبيق شعار "الفوضى البناءة" الذي سبق ان طرحته وزيرة الخارجية الاميركية السابقة غونداليزا رايس.
و"الثورات؟!؟!" العربية الراهنة ليست في المحصلة شيئا آخر سوى: "الفوضى البناءة" الاميركية... في التطبيق!
وهذه "الثورات؟!؟!" تعبّر، من جهة، عن افلاس انظمة سايكس ـ بيكو التي انجزت تماما مخدوميتها للنظام الامبريالي العالمي وآن الاوان لان تذهب الى مزبلة التاريخ بمساعدة الامبريالية ذاتها التي اوجدتها؛ وتعبّر، من جهة ثانية، عن مدى الاسفاف والتسطح والسخف والعمى السياسي لدى بعض اطراف المعارضات العربية، ومدى النذالة والتبعية والعمالة للامبريالية لدى بعض الاطراف الاخرى للمعارضات التي تملأ الدنيا صراخا وجعجعة لاجل الحرية والدمقراطية وحقوق الانسان والاقليات والقوميات كي تبرر الانضواء تحت احذية تركيا وفرنسا والحلف الاطلسي واميركا ولماذا لا؟... واسرائيل.
وتراهن الامبريالية والصهيونية على الامكانيات الكبيرة للنجاح في "التجربة الثوراتية" الجديدة، كما سبق لها ونجحت في "التجربة الثوراتية" في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، مع الناصريين والبعثيين وغيرهم، في مصر والعراق وسوريا والجزائر والسودان ولبنان واليمن والاردن.
وترى الامبريالية والصهيونية ان امكانياتها للربح هي الان اكبر مما كانت في الخمسينات والستينات لعدة اسباب اهمها:
ـ1ـ ان الحركة الشيوعية المسوفتة، العالمية والعربية، قد كشفت تماما عن عوراتها واستسلمت كليا لادارة الامبريالية والصهيونية وسارت في ركابهما.
ـ2ـ ان الحركات "النفطو ـ اسلاموية" اصبحت اكثر ضعفا واقل "استقلالية" في علاقاتها المشروطة، التحالفية ـ التناحرية، مع الامبريالية والصهيونية، تبعا لازدياد ضعف موقع الكتلة المالية ـ النفطية، العربية ـ الاسلامية، التي لم تستطع ان تطور محورا ماليا عالميا قويا ومستقلا خاصا بها، وظلت خاضعة للكتلة المالية العالمية، اليهودية ـ البروتستانتية الاميركية، خصوصا بعد الضربات التي تلقتها الكتلة العربية ـ الاسلامية، والمتمثلة بالاخص في اغتيال الشيخ رفيق الحريري واغتيال الشيخ اسامة بن لادن ونهب الايداعات العربية الاسلامية التي تقدر بآلاف مليارات الدولارات في البنوك الاميركية في الازمة المفتعلة سنة 2008.
وتراهن الامبريالية والصهيونية الان على الحصانين معا، وانها ستكون رابحة في الحالتين:
ـ اذا انتصر نظام سايكس ـ بيكوي ما واستمر في الوجود بعد ادخال بعض الاصلاحات الديكورية عليه، فإنه سيكون اكثر مطواعية وخضوعا للامبريالية والصهيونية، بصرف النظر عن الجعجعة الوطنية والقومية والاسلامية والثورية الفارغة.
ـ واذا انتصرت فصائل المعارضة السخيفة والعميلة والحقيرة، فإن الامبريالية والصهيونية ستكسب وجود انظمة مابعد سايكس ـ بيكوية لن تتورع عن الوقوف على المكشوف مع الاحتكارات النفطية ومع اسرائيل، والقتال الى جانبها اذا اقتضى الامر.
XXX
في السابق ابتليت الجماهير الشعبية العربية المظلومة بـ"الثورات؟!؟!" المشبوهة والملغومة بدءا من الناصرية والقومجية الفاشستية والاسلاموية الظلامية، وصولا الى "السلطة الوطنية الاوسلوية" (وريثة "الثورة الفلسطينية" البرجوازية ـ العرفاتية) التي هي الان ـ كالبزّاق العريان ـ تزحف على بطنها نحو الاعتراف التام وغير المشروط باسرائيل، مقابل استجداء الاعتراف الاميركي بما يسمى "دولة فلسطينية" مسخا لن تكون، في احسن الحالات، سوى مقبرة للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني.
فهل ستكون الجماهير العربية المظلومة افضل حظا واكثر وعيا في مواجهة الموجة الجديدة من "الثورات؟!؟!" العربية التي اطلقتها المخابرات الاميركية والاسرائيلية وتشرف على تنسيقها ودوزنتها لمصلحتها؟
لا ننكر انه توجد بعض الارهاصات الايجابية، والتي تمثلت حتى الان في:
ـ1ـ ان الجماهير الشعبية لم تعد تؤمن على عماها بأي زعامة شخصية او حزبية او دينية، كما آمنت سابقا بعبدالناصر.
ـ2ـ اقتحام السفارة الاسرائيلية في القاهرة واجبار السلطة العميلة الجديدة على اغلاقها.
ولكن اعتلاء شجرة او بضع شجرات والنظر منها الى مختلف أبعاد الغابة لا يعني تملك الغابة والسيطرة عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب لبناني مستقل



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل ستعترف صربيا باستقلال كوسوفو؟!
- اميركا المفلسة تسرق العالم كله عن طريق طباعة الدولار الرخيص
- الحرية للمفكر الاسلامي الثوري المصري مصطفى حامد المعتقل في ا ...
- القفزة الجديدة لصناعة التسلح الروسية
- اميركا تتخبط في مستنقع الازمة
- تعمق الازمة الاقتصادية العالمية
- اوباما يواصل نشر الدرع الصاروخية باسم الناتو وبلغاريا تنضم ل ...
- الامبريالية والصهيونية تحضّران لحروب الابادة الجماعية الجيني ...
- -الفوضى البناءة- الاميركية في البلقان: مرحلة التركيب الجديد ...
- الامبريالية الاميركية و-الارهاب-
- جرثومة رأسمالية (اميركية؟) جديدة تضرب موسما زراعيا آخر في او ...
- الديماغوجية والمأزق الذاتي للبراغماتية الاميركية
- شبح -الباشبوزوك العثماني- و-الفوضى البناءة- الاميركية يجول م ...
- اميركا دولة استعمار ذاتي (ATOCOLONIALISM)
- حركة التحرير العربية: سيرورة التحول وتحدي العالمية
- الوجه البشع لاميركا
- الازمة الاقتصادية العالمية والظلال القاتمة للحرب الباردة
- اليوضاسية
- -الدبلوماسية السرية- ...في العمل
- الكارثة اليابانية: أبعد من حدث بيئوي


المزيد.....




- -بأول خطاب متلفز منذ 6 أسابيع-.. هذا ما قاله -أبو عبيدة- عن ...
- قرار تنظيم دخول وإقامة الأجانب في ليبيا يقلق مخالفي قوانين ا ...
- سوناك يعلن عزم بريطانيا نشر مقاتلاتها في بولندا عام 2025
- بعد حديثه عن -لقاءات بين الحين والآخر- مع الولايات المتحدة.. ...
- قمة تونس والجزائر وليبيا.. تعاون جديد يواجه الهجرة غير الشر ...
- مواجهة حزب البديل قانونيا.. مهام وصلاحيات مكتب حماية الدستور ...
- ستولتنبرغ: ليس لدى -الناتو- أي خطط لنشر أسلحة نووية إضافية ف ...
- رويترز: أمريكا تعد حزمة مساعدات عسكرية بقيمة مليار دولار لأو ...
- سوناك: لا يمكننا أن نغفل عن الوضع في أوكرانيا بسبب ما يجري ف ...
- -بلومبرغ-: الاتحاد الأوروبي يعتزم فرض عقوبات على 10 شركات تت ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج حداد - الامبريالية والصهيونية في إشكالية -الثورات؟!؟!- العربية