أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - نعيم الأشهب - ظاهرة ديون الدول المتقدمة















المزيد.....


ظاهرة ديون الدول المتقدمة


نعيم الأشهب

الحوار المتمدن-العدد: 3465 - 2011 / 8 / 23 - 17:18
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


ظاهرة ديون الدول المتقدمة والعولمة الرأسمالية
معروف أنه بمبادرة واشنطن وأشرافها ، تقرر في مؤتمر بريتون وودز ، عام 1944 ، تأسيس البنك وصندوق النقد الدوليين . وقد لعبت هاتان المؤسستان الماليتان دورا فاعلا، الى جانب مشروع مارشال الاميركي ، في اعادة بناء اقتصاد أوروبا الغربية ، الذي دمّرته الحرب العالمية الثانية ، على الأسس الرأسمالية . وقد كان الدافع الأساسي لهذه العملية دافع سياسي بامتياز ، وهو سد الطريق على تحوّل هذه البلدان نحو الطريق الاشتراكي ، كما كان يوحي النفوذ الطاغي ، آنذاك ، لقوى اليسار ، التي قادت المقاومة ضد الاحتلال النازي .
ومع انهيار نظام الحكم الاستعماري ، بعد الحرب العالمية الثانية ، وولادة العشرات والعشرات من الدول القومية الجديدة على أنقاضه ، في آسيا وافريقيا ، شاع لجوء هذه الدول الحديثة للاقتراض الخارجي ؛ مأخوذ في الحسبان أن الدول الاستعمارية كانت قد نضحت أقصى ما تستطيع من ثروات هذه البلدان قبل الرحيل عنها . وقد غدا كل من البنك وصندوق النقد الدوليين عنوانا رئيسيا لمثل هذا الاقتراض ؛ بل يمكن القول بأن ميدان نشاطهما الأساسي تحوّل نحو البلدان النامية . ويشهد سجل نشاط هاتين المؤسستين الماليتين الامبرياليتين في الدول النامية بأن قروضهما ، المرفقة "بتواصيهما" ، مثّلت الأداة الرئيسية لإعادة ربط اقتصاديات هذه البلدان بعجلة الدول الامبريالية وفي طليعتها الولايات المتحدة ؛ أي إعادة إخضاعها لعملية نهب ثرواتها ، وعرقلة نمو قواها المنتجة ، كما كان زمن الحكم الاستعماري المباشر ، وافراغ استقلالها السياسي الذي حققته من محتواه الفعلي ، ليغدو شكليا الى حد بعيد. وما يزال العديد من هذه الدول التي رضخت لشروط هاتين المؤسستين غارق ، حتى اليوم ، في الديون الخارجية وفوائدها ، التي تتجاوز في حجمها ، أحيانا ، اجمالي الناتج القومي للبلد المعني.
لكن الظاهرة الجديدة التي طغت على السطح ، منذ اندلاع الأزمة المالية للنظام الرأسمالي ، والتي بدأت في الولايات المتحدة ، عام 2008 ، هي المديونية الفلكية في حجومها للدول الرأسمالية المتقدمة ، وفي رأسها الولايات المتحدة ، أغنى أقطار العالم . فمنذ أيار المنصرم بلغ الدين الحكومي الأميركي 14,5 تريليون دولار، متجاوزا السقف الذي حدده القانون الأميركي في هذا المجال ، وهو 14,3 تريليون دولار. وبموجب الصحافي الأنكيزي المعروف باتريك سيل ، فهذا الدين يوازي 100% اجمالي الناتج القومي الاميركي (1) وللوفاء بتسديد الأقساط المستحقة على هذه الديون الأميركية ، قبل الموعد المحدد ، وهو الثاني من آب المنصرم ، في وقت تخلو فيه الخزينة الأميركية من المبالغ المطلوبة لهذا الغرض ، طالب أوباما برفع سقف الدين الحكومي ليتمكّن من الاقتراض مجددا والوفاء بهذا الالتزام. ومعروف أن بوش الابن لجأ الى رفع هذا السقف عدة مرات خلال وجوده في البيت الأبيض ، لاسيما لتغطية نفقات مغامراته العسكرية في الشرق الأوسط . وبعد مساومات مضنية بين أوباما وحزبه الديمقراطي والحزب الجمهوري المعارض تمّ الاتفاق ، في اللحظة الأخيرة ، على رفع سقف هذا الدين بتريليونين ومئة مليار دولار؛ ولكن بشروط قاسية رضخ لها أوباما ،ليتحاشى تحمّل مسؤولية تعريض النظام المالي الأميركي لهزّات عنيفة ، بما في ذلك تغيير تصنيف الاقتصاد الأميركي (العلامة الائتمانية ) الممتازة والتي تمتّع بها هذا الاقتصاد ، دون انقطاع منذ العام 1917، مما يرفع كلفة الفائدة على الاقتراض الأميركي اللاحق ، ويشكك في جدوى الاستثمار الأجنبي في سندات الحكومة الأميركية على وجه الخصوص ، كما يهزّ مكانة الدولار كعملة الاحتياط الأولى على النطاق العالمي ، ويزيد من ضعفه .
كان من ضمن هذه الشروط التي أملاها الجموريون ، أولا : الالتزام بخفض النفقات الحكومية بمقدار تريليونين من الدولارات خلال السنوات العشر القادمة ، على أن يجري اقتطاعها من المخصصات الاجتماعية حصرا ، بما فيها مخصصات الضمان الصحي ، الذي كان أوباما قد أفلح في تمرير مشروعه ، ولو جزئيا ، حين كانت الأغلبية لحزبه في مجلسي الكونغرس ، وعدم التعرض للنفقات العسكرية – رغم أن الولايات المتحدة تنفق لوحدها نصف ما ينفقه العالم كله في الميدان العسكري ؛ وثانيا أن تمتنع إدارة أوباما عن رفع سقف ضريبة الدخل على الرأسمال الكبير. هذا ، بينما يجري ابتكار أشكال جديدة من الضرائب غير المباشرة التي يتساوى في تحمّلها الغني والفقير ، مضافة على السلع الاستهلاكية ، كضريبة القيمة المضافة وضريبة المبيعات .
لكن الاتفاق على رفع سقف الدين للحكومة الأميركية لم يكن أكثر من محاولة يائسة لتأجيل انفجار الأزمة على مداها . وقد تأكد ذلك على الفور. فقد خفضت مؤسسة الائتمان العملاقة " ستاندرد أند بورز " العلامة الائتمانية للاقتصاد الأميركي عن درجة ممتاز ، وهذا يحدث لأول مرة في التاريخ الأميركي ؛ وانعكس ذلك فورا بتراجع مرموق في أسعار الأسهم في البورصة الأميركية وأصدائها السلبية في بورصات العالم . ولم يكن بلا مغزى التصريح الأخير لرئيس البنك الدولي ، روبرت زوليك ، من أن الاقتصاد العالمي دخل " مرحلة جديدة أكثر خطورة ". من جانب آخر، تسبب هذا التصنيف الجديد للاقتصاد الأميركي بخسائر مباشرة تقدر بعشرات مليارات الدولارات لحاملي سندات الخزينة الأميركية ، كالصين التي تحتفظ بما يساوي تريليون ومئة مليار دولار من هذه السندات ، واليابان بتريليون منها ، ودول الخليج وعلى رأسها السعودية التي يقدّر قيمة اسثماراتها في هذا المجال بما لا يقلّ عن تريليونين من الدورلارات . ومن السذاجة المفرطة الاعتقاد بأن تصنيف شركة ائتمان وحده قد تسبب في كل هذه التداعيات ، بل يعود ذلك الى هشاشة الاتفاق الذي تمّ في اللحظة الأخيرة بين الحزبين الأميركيين حول رفع سقف الدين الحكومي ، والأزمة البادية للعيان التي يمرّ بها الاقتصاد الأميركي .وقد حرّك كل ذلك المطالبة باعتماد بديل عن الدولار كالاحتياطي الأول للعملات الأخرى .
وبينما يرى أوباما وحزبه أن المزيد من الانفاق الحكومي يساعد على الخروج من الأزمة المالية – الأقتصادية التي بدأت عام 2008 ، رغم أن هذه المعالجة تقود ، في حالة الاقتصاد الأميركي الحالية ، الى المزيد من الغرق في الدين الحكومي ، واحتمال أن يؤدي هذا الانفاق الى التضخم المالي ، خاصة اذا لجأت ادارة أوباما الى طباعة المزيد من أوراق النقد بلا غطاء ، كما فعلت مع بداية أزمة 2008 حين طبعت 600 مليار دولار أضافية ، وكان هذا نوع من السرقة من جيوب حملة الدولار في الداخل والخارج ؛ يرى الجموريون من جانبهم عكس ذلك ؛ أي تقليص الانفاق الحكومي ، لتقليص العجز في الموازنة ؛ لكن هذا التقليص يسهم عمليا في تعميق الركود الاقتصادي ، خاصة وأنه لا يطال الانفاق العسكري الذي هو اهدار فعلي للثروة . وهكذا فالحزبان اللذان يتناباوبان السلطة في الولايات المتحدة ويمثلان مختلف شرائح الرأسمال الكبير لا يقتربان من الحلول الحقيقية لأزمة الاقتصاد الاميركي.
أما في الاتحاد الأوروبي ، وخاصة منطقة اليورو، فأزمة الدين الحكومي تتداعى كأحجار الدومينو. بالأمس ايرلندا ، واليوم اليونان ، وغدا ايطاليا واسبانيا والبرتغال ، كما تشير المعطيات والتوقعات ؛ وحتى فرنسا ، فقد بلغ الدين الحكومي فيها 1,6 تريليون يورو ، وهو ما يساوي 84,7% من اجمالي الناتج القومي الفرنسي . وحين انفجرت الأزمة المالية في اليونان كان الدين الحكومي فيها قد وصل الى 350 مليار يورو، وهو ما يزيد عن 150% من اجمالي الناتج القومي في هذا البلد الأوروبي الصغير. أما ايطاليا ، المرشحة التالية لانفجار الأزمة المالية فيها ، فقد بلغ حجم دينها الحكومي 1,8 تريليون يورو ، وهو يوازي 120% من اجمالي الناتج القومي لهذا البلد الذي يحتل المرتبة الرابعة في المجموعة الأوروبية ، والثامنة في العالم في حجم اقتصاده .وبموجب مسؤول رفيع سابق في وزارة المالية البريطانية فأن " دولا مثل فرنسا ، ايطاليا ، بلجيكا وحتى بريطانيا معرّضة حاليا ، أكثر من السابق ، للتصنيف ( الائتماني ) الأدنى " . أما ألمانيا ، فمن المعروف أنها بدأت منذ وقت مبكّر في تطبيق اجراءات تقشفية حازمة للحد من تصاعد الدين الحكومي لديها . واذا كانت أزمة الدين الحكومي لم تنفجر، بعد ، في بلدان أوروبا الشرقية فمردّ ذلك ، الى حدّ بعيد ، أن أنظمة الحكم فيها ورثت عن النظام القديم قطاعا عاما يمثل معظم اقتصاد البلد ان لم يكن الاقتصاد كله ؛ وهذا ما منحها احتياطيا هائلا ظلّت تسدد من بيعه للقطاع الخاص أقساطا من العجز في ميزانياتها.؛ لكن أزمة ديونها الحكومية آتية لا محالة ، طالما سياستها الاقتصادية الحالية في التطبيق . وهكذا يتأكد أن أزمة الدين الحكومي الحالية ، في البلدان الرأسمالية المتطورة ، ليست ظاهرة فردية ومنفصلة ، بل عامة .
وغني عن القول أن هذه الأرقام الفلكية من الديون الحكومية هي حصيلة تراكم على مدى سنين . فالعجز في الميزانية الاميركية ، مثلا ، راح يقفز بمعدل تريليون دولار سنويا ، منذ بداية القرن الحالي ؛ ويعزى ذلك ، في الأساس ، الى الانفاق العسكري والمغامرات العسكرية في الخارج كأفغانستان والعراق . وقطعا ، فظاهرة هذه الديون على حكومات الدول الرأسمالية المتقدمة ، ليست ناجمة عن تغيّر في علاقات هذه الدول بالدول النامية أو أنها كفّت عن استغلالها ونهب ثرواتها بأشكال متنوعة ؛ بل ان هذه الظاهرة هي ، بالضرورة ، من افرازات الطور الجديد للعولمة الرأسمالية المصحوبة بتطبيقات الليبرالية الجديدة ، التي ظهرت أواسط ثمانينات القرن الماضي . فالعولمة الرأسمالية في طورها المعاصر أجهزت على الحدود القومية وحاربت الحمائية ، وكان لصندوق النقد والبنك الدوليين دور مميز في هذا المجال. وبذلك تأمّن للرأسمال ما فوق القومي حرية غير مسبوقة للحركة والتنقل ؛ وساعدت معطيات الثورة التكنولوجية والمعلوماتية في تسهيل وتبسيط حركته . ومن موقعه المتميز هذا راح يملي شروطه على البلد المحتاج لرساميل أجنبية لتطوير اقتصاده ، بما في ذلك فرض اعفاءات ضريبية وجمركية وتقييد الحركة النقابية وتحريم التاميم وغيرها من الامتيازات . وقد فرض رأس المال - الذي لا وطن له - شروطه هذه في المركز كما في الأطراف ، تحت تهديد الرحيل برساميله وحتى مصانعه الى حيث تتوفر له ظروف أفضل وقوة عمل أرخص . وفي محاولة لتحديد حجم هروبه من المركز الى الأطراف ورضوخا لأملاءاته ، راحت حكومات الدول الرأسمالية المتطورة تستجيب لطلباته وفي مقدمتها الاعفاءات الضريبية . ففي الولايات المتحدة ، بلغت ضريبة الدخل التصاعدية خلال الحرب العالمية الثانية 68% ، ووصلت تحت رئاسة أيزنهاور الى 91% ، وفي الستينات والسبعينات كانت 70% ، لتهبط عام 2007 الى 28% ثم لتصل حاليا الى 15% فعليا ، حيث يعتبر كثير من الرأسماليين الأميركيين مداخيلهم كربح لرأس المال ! وقد حاول أوباما، في مساوماته مع الجمهوريين رفع سقف هذه الضريبة على الأغنياء ، ولو لبعض الوقت ، للإسهام في سدّ العجز، لكنه فشل .أما ايرلندا ، التي كانت الأولى في المجموعة الأوروبية التي واجهت خطر الافلاس ، فقد هبطت نسبة ضريبة الدخل على الرأسمال الكبير فيها الى 12,5% (2) . واليوم ، لا تختلف هذه النسبة المتدنّية لضريبة الدخل على الرأسمال الكبير كثيرا في بقية الدول المتقدمة.
وهكذا تكون العولمة الرأسمالية ، في مرحلتها المعاصرة قد حرمت الدولة من مصدر أساسي لتمويل ميزانيتها عن طريق الضريبة التصاعدية على مداخيل الرأسمال الكبير ؛ بينما تطبيقات الليبرالية الجديدة التي تقضي بتصفية قطاع الدولة وتحويل كل نشاط انساني الى سلعة في السوق، حرمت ميزانية الدولة من مداخيل قطاع الدولة الاقتصادي بتصفيته من حيث الأساس. هذا علاوة على أنه جرت متغيرات بنيوية على نشاط رأس المال الكبير منذ أواسط سبعينات القرن الماضي ، حيث تراجعت ربحيته النسبية – قياسا الى حجمه المتعاظم - في الاقتصاد الانتاجي الرأسمالي ، فتحوّل الرأسمال الكبير الى سوق المضاربات ، باعتباره أقدر وأسهل على امتصاص فائض القيمة وعلى النطاق العالمي ؛ لكنه حمل معه ، في تحوله هذا ، ظاهرة البطالة الجماهيرية والدائمة. واليوم ، يمثّل حجم المضاربات لا أقل من95% من دورة رأس المال السنوية (3) ؛ وهذا النشاط الطفيلي لا يخضع حتى الآن لنظام ضريبي محدد وعادل . وهكذا ، تفقد الدولة الرأسمالية مصادر أساسية لتمويل ميزانيتها ، ولا يبقى أمامها الاّ الاقتراض والمزيد من الاقتراض الى جانب المزيد من الاعتصار للمواطن العادي وتحميله ، وأجياله القادمة ، أعباء دين الدولة المتصاعد ، لتمويل مزانيتها المأزومة ؛ لكن هذا النهج أدخل الدولة الرأسمالية في أزمة مفتوحة وبلا أفق ، علاوة على ان لهذا الاعتصار سقف ، يؤدي تجاوزه الى انفجار اجتماعي ، كما بدأنا نشاهد. وحين تنفجر أزمة ، نتيجة نشاط هذا الرأسمال المنفلت من أية رقابة ، وآخرها أزمة 2008 ، تهبّ هذه الحكومات على الفور لانقاذ المتسبب بالأزمة ، على حساب دافع الضريبة . وحتى في عملية الانقاذ هذه ، كما جرى ، في الولايات المتحدة ، فالأفضلية للمؤسسة الرأسمالية الأكبر والتضحية بالأصغر عند الضرورة.
لقد أفرز النشاط المنفلت للرأسمال الكبير، في ركضه المجنون في أربعة أركان المعمورة وراء أقصى مستوى من الربح ، مفارقات وظواهر غير مسبوقة ؛ فعلاوة على أن حكومة أغنى بلد في العالم هي الأعلى مدينونية في العالم ، فان احدى الشركات الخاصة فيه ، وهي شركة " أبل "apple )) لأنتاج الكومبيوتر كان لديها سيولة في صندوقها، في نهاية حزيران الماضي ، تساوي 76,2 مليار دولار، بينما كان لدى الحكومة الأميركية ، في ذات اليوم ، سيولة في صندوقها 73,8 مليار دولار ، أي أقل من الشركة المذكورة !
لكن الأهم والأخطر أن هذا النشاط للرأسمال العولمي وسّع ، وعلى نحو غير مسبوق ، الهوة بين الأغنياء والفقراء ، وفاقم تراكم الثروة في جانب ومساحة الفقر في الجانب الآخر، وظاهرتي البطالة الجماهيرية والتهميش في المجتمع الانساني . وبموجب الكاتب والصحفي الاميركي المعروف دانييل سينجر، في كتابه " ألفية من ..؟ لنا أم لهم ..؟ " فان " ثروة القلة التي لا تزيد على بضع مئات من كبار المليارديرين في العالم .. " تساوي " مداخيل ما يقرب من ثلاثة مليارات شخص من البائسين في الأرض" ؛ لكن عملية فرز الثروة على جانب والفقر على الجانب الآخر تتواصل.. " فخلال السنوات الثلاثين التي أعقبت 1960 ارتفع نصيب الخمس الأغنى من الناس من دخل العالم من 70% الى 85% ، وما زال يرتفع .وخلال الفترة ذاتها، انخفض نصيب الخمس الأكثر فقرا من 3,2 % الى 1,4% ، وانخفض أكثر مع حلول 1994 الى 1,1% . وهكذا ارتفعت نسبة دخل العشرين بالمئة من كبار الأغنياء بالمقارنة مع العشرين بالمئة الأكثر فقرا من 30 لواحد الى 87 لواحد ، الأمر الذي يثير الدهشة "(4). أن مفاعيل هذه الظواهر ، ما كان لها الاّ أن تفرز ، بالضرورة والحتمية ، معطيات بالغة الأهمية والتأثير ترتد على هيمنة رأس المال هذا ، كما ترتد كرة البومورانج على مطلقها، من أبرزها:
أولا – النيل من مكانة الدولة في هذه الأقطار واضعافها ، حتى حافة الافلاس ؛ رغم أن الدولة في هذه الأقطار هي الأداة السياسية لسيطرة رأس المال الطبقية ، وتقليص هامش المناورة أمام نشاط هذه الدولة تجاه بقية طبقات المجتمع ليبدو ، أكثر من أي وقت مضى ، طابعها الطبقي المتحيّز.
ثانيا - تسريع عملية افلاس الاحتياطي الاستراتيجي السياسي للرأسمال ، وهي أحزاب الأشتراكية الديموقراطية. فالأجندات التي يطبقها اليوم بعناد كل من حزب الباسوك بقيادة بباندريو في اليونان والحزب الاشتراكي – الديموقراطي في اسبانيا ، بزعامة خوسيه ثاباتيرو، الموجهة للهجوم على المكتسبات التاريخية للطبقات الدنيا واعتصارها ، لدفع الثمن الباهظ للأزمة التي سببها الرأسمال الكبير، مع اعفاء رأس المال هذا حتى من الاسهام الملائم في دفع هذا الثمن ، نموذج صارخ على هذا الإفلاس .
ثالثا – لما كان نشاط رأس المال الكبير قد مسّ مسا باهظا مصالح الطبقة الوسطى وأدى الى تقليص وزنها النسبي في المجتمع ، فقد دفعت هذه النتائج تلك الطبقة التي تتميز اجتماعيا بالتذبذب بين قوى الثورة الاجتماعية وخصومها ، الى الاضطلاع ، اليوم ، بدور نشيط ومتميز في الجبهة المقاومة لممارسات الرأسمال الكبير . وفيما يخص هذه الطبقة في الولايات المتحدة ، كان معدّل الادخار ، خلال الانتعاش الكبير 9% للطبقة الوسطى بعد اقتطاع ضريبة الدخل ، هبط بالتدريج ليصل عام 1999 الى 3% وعام 2008 لم يدّخر أبناء هذه الطبقة شيئا. أما الاميركي العادي ، فقد غدا بحلول 2007 مدين ب 138% من مداخيله بعد اقتطاع ضريبة الدخل .
وحين بدأت مفاعيل الليبرالية الجديدة في اطار العولمة الرأسمالية في مرحلتها المعاصرة ، وذلك منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي ، بدا وأن الصراع الطبقي ، بما في ذلك النضال النقابي ، قد تراجع وخبا في الدول الرأسمالية المتطورة ، امام حركة رأس المال الذي راح ينقل نشاطه الاقتصادي الى حيث العمالة الرخيصة. أما اليوم ، فالصراع الطبقي والتمرد على الظلم الاجتماعي والتهميش لم يعد محصورا في المصنع أو المؤسسة ، بل راح يتفجر على مستوى البلاد بكاملها ، في البلدان النامية ، كما يؤكد الربيع العربي ، والبلدان المتطورة كما تشير الحالة اليونانية والاسبانية والفرنسية ( تظاهر في فرنسا يوم 12/10/2010 أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون).
، وكذلك كما جرى قبل ذلك واتخذ شكلا مختلفا في أميركا اللاتينية ؛علاوة على الفعّاليات ذات الطابع الدولي كتلك الرافضة للعولمة الرأسمالية ، كما جرى في دافوس وبراغ وسياتل ، ومظاهرات العشرة ملايين في يوم واحد ومواقع متعددة عشية العدوان على العراق 2003؛ هذا ، عدا الانفجارات العفوية المفاجئة، كما شهدت بريطانيا مؤخرا ، وضواحي باريس قبل سنوات قلائل. انها جداول متزايدة ومتنوعة تصب في النهر العام للتمرد على الظلم الاجتماعي والفقر والتهميش التي يسببها نشاط الرأسمال الكبير المنفلت . حتى اسرائيل البلد الذي يتلقى سنويا عدة مليارات من الدورات كمساعدات، تصل الى الألف دولار لكل فرد فيها ، تفجّر فيها ، وعلى نحو لا سابق له منذ العدوان الاسرائيلي في حزيران 1967 ، الاحتجاج الجماهري الواسع على الظلم الاجتماعي ، الذي فاقمه الانفاق بلا حساب على الاستيطان الكولونيالي في الاراضي الفلسطينية المحتلة والانفاق على قوات الاحتلال من جهة ، ومن الجهة الأخرى تطبيقات الليبرالية الجديدة في الاقتصاد الاسرائيلي، بما في ذلك خصخصة الكثير من مؤسسات الدولة والملكية التعاونية.
واذا كان شبح رأس المال يتجوّل اليوم، معربدا ، في العالم طولا وعرضا ، بحثا عن الربح الأعلى ، لكنه يحمل معه ، في حركته ، رغم إرادته ، عناصر تعميم الثورة الاجتماعية وانضاج ظروفها ، على النطاق العالمي . كتب عالم الاجتماع البريطاني المعروف ، اشتيفان ميساروش أواسط العام 1999 كتيبا بعنوان : " القرن القادم قرن اشتراكية أم بربرية "، يقصد القرن الحالي .
1- باتريك سيل ، صحيفة القدس ، 11 تموز 2011
2- فيننشال تايمز 6-7 تشرين ثاني 2010
3- مجلة الايكونومست البريطانية 3/10/1998
4- دانيال سنغر ، كتاب " ألفية من .. ؟ لنا أم لهم ..؟ " صفحة 231.



#نعيم_الأشهب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثورة التغيير العربية والقضية الفلسطينية
- ثورة التغيير التاريخية - واقع .. وتوقّعات -
- طلائع فجر التغيير التاريخي في العالم العربي
- -تمرد الطبقة الوسطى--تقييم ونقد
- أحد مدلولات الهجوم على قافلة الحرية
- كان الشيوعيون الأكثر التصاقا بالواقع
- اشتداد المزاحمة والصراع بين القوى الاقليمية في المنطقة
- حول شعار الدولة الديموقراطية أو ثنائية القومية
- هل- الماركسية- مستقبل في عالم متغير؟ تعقيب على مقال د.ماهر ا ...
- تعقيب على مقال د.ماهر الشريف-هل للماركسية مستقبل في عالم متغ ...
- امارة حماس
- حول شعار الدولة الديمقراطية أو الدولة ثنائية القومية
- الذكرى الخمسون لقيام الحزب الشيوعي الأردني


المزيد.....




- صديق المهدي في بلا قيود: لا توجد حكومة ذات مرجعية في السودان ...
- ما هي تكاليف أول حج من سوريا منذ 12 عاما؟
- مسؤول أوروبي يحذر من موجة هجرة جديدة نحو أوروبا ويصف لبنان - ...
- روسيا تعتقل صحفيًا يعمل في مجلة فوربس بتهمة نشر معلومات كاذب ...
- في عين العاصفة ـ فضيحة تجسس تزرع الشك بين الحلفاء الأوروبيين ...
- عملية طرد منسقة لعشرات الدبلوماسيين الروس من دول أوروبية بشب ...
- هل اخترق -بيغاسوس- هواتف مسؤولين بالمفوضية الأوروبية؟
- بعد سلسلة فضائح .. الاتحاد الأوروبي أمام مهمة محاربة التجسس ...
- نقل الوزير الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير للمستشفى بعد تع ...
- لابيد مطالبا نتنياهو بالاستقالة: الجيش الإسرائيلي لم يعد لدي ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - نعيم الأشهب - ظاهرة ديون الدول المتقدمة