أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - 3- عودة ومصائب وعواصف / 9















المزيد.....


3- عودة ومصائب وعواصف / 9


محمد علي الشبيبي

الحوار المتمدن-العدد: 3327 - 2011 / 4 / 5 - 20:05
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    



إشراف المفتشين
حسب تجربتي وملاحظتي للمفتشين، أصبح لدي انطباع إن مهمة التفتيش أنخفض مستواها اليوم بالنسبة للوقت السابق. كان المفتشون إلى وقت قريب، أستطيع أن أحدده -على وجه التقريب- إلى نهاية الأربعينات، مستوى جيد، ومن نمط عرف عنهم الجد والمثابرة والإنتاج العلمي والأدبي، أمثال الأستاذ رشيد السلبي، وجمال الآلوسي، ومحمود شكري الآلوسي، ومن شاهدتهم هنا أمثال عبد الحميد البكر وأحمد الصانع.
صحيح أن بعض المفتشين في تلك الظروف، على أنهم خريجو كلية، فإنهم -كما جربت- نوعان. نوع مع قدرة وإلمام يبدو سطحيا والواقع أنه ليس كذلك. أعرف واحدا من هذا النمط، لا يقدم عن المعلمين تقريرا سيئا مهما كان مستوى ذاك المعلم. وقد تحرش به معلم صديق له، فسأله: أليس غبنا أن لا يوجد في تقاريرك عن المعلمين فرق بين معلم وآخر؟ أجاب: أنت واهم. إنما لم أتهم بعضهم بالتقصير! وفي رأيي أن وجود المعلم في الصف وحده لا يخلو من فائدة، هذا من جهة ومن جهة أخرى فأنا لم أغفل عن المسيء إساءة مفضوحة. وأهم سبب يدعوني لهذا ، هو أني أنا من زمرة المعلمين، بغض النظر عن كون شهادتي جامعية، أرى المعلم موظفا لم يُنصف!؟ ووضع المعلم دعا أكثر الخريجين يحاولون التعيين في وظائف في وزارات أخرى. كثير من موظفي الوزارات الأخرى ممن -وهم كثر- لم يحمل أية شهادة فقد تدرج في الوظائف، إلى درجة مدير مال، وما شاكل، وتبدل مرتبه أيضا. ومع ذلك وهذا ما يؤسف له، فإن أكثر هؤلاء غير نزيهين. ولو دققت في حاله وقارنت بين حاله بعد عشر سنين أو أكثر قليلا، تجده قد ملك دارا أو أكثر، فمن أين له هذا؟ وأعرف أن بعض المعلمين قد فروا من التعليم حين سنحت لهم الفرصة، وبمساعدة من ذوي الوجاهة أو المركز الهام، إلى وظائف -التموين أو الكمارك- وما هي إلا مدة غير طويلة حتى أصبحوا ميسوري الحال. بعد هذا أقل لك، ليس من المروءة أن أزيد في شقائه، والنصح يكفي!؟
بينما هناك آخرون اختاروا التفتيش هربا من وظيفة مدرس لضعف في شخصيته ومعلوماته أيضا، وكأن وظيفة التفتيش لديه سوط يهدد به المعلم. فهو لا يعرف غير نبش الهفوات البسيطة. فيخلق من البقة جملا. وفيهم من لا يستحي أن يكون بمستوى موظف صغير في -الاستهلاك- خاصة مع بعض معلمي القرى. أذكر من هذا النمط أحد المفتشين، في البداية كان معلم ابتدائية. جمعتني به دورة صيفية أجبر المعلمين على دخولها، وأنا منهم. وتمت بيني وبينه صداقة حتى دعاني إلى داره في الحلة، وأكمل دراسته فصار مدرسا، ثم مديرا لدار المعلمين الريفية في الحلة فلم ينجح فصار مفتشا في المدارس الابتدائية.
حقا لقد أسهبت في هذا الموضوع. ويهمني جدا أن أذكر واحدا من هؤلاء. أنا لا أتهمه في خلقه فهو ليس من المقامرين، ولا الكأس، ولكن يبدو لي انه يستر ضعفه وفراغ وطابه. جاء بعد انتقال المفتشين "البكر والصانع" ولذا سأختصر الحديث عنهما. أما البكر فقد كان مثلا رائعا في سلوكه، خفة طبع وظرف وأدب، أحبه الجميع واحترمه، بالنسبة لي لم يدخل إليّ اكتفى بمعرفته بي، فهو ذو بصيرة نافذة، ومقاييسه جيدة.
وزارني الصانع في صفي الخامس والسادس، قبل أن يدخل الصف طلب أن أكلف التلاميذ بجلب دفتر الإملاء والإنشاء، فأحضرها الطلبة. فاستفسر مني. لماذا يكتب التلاميذ في سطر ويهملون ما بعده فارغا. ولماذا التأريخ متباعد بين يوم كتابته، ويوم تصحيحه؟ فأوضحت له: هناك يا أستاذ شيء آخر، هو أني أبدأ بالموضوع أولا حديثا، ثم كتابته بالتعاون بيني وبينهم جميعا على السبورة. يكون دوري في هذا الحال تهذيب التعبير -إذا خان التوفيق الجميع- وبعد أن يصبح تاما، أسمح لهم بتأمله وقراءته، ورسم العنوان -فقط- بدفتر الإنشاء، فأمسحه. وفي الأسبوع التالي. أكتب العنوان على السبورة، وارسم الكلمات الهامة والجديدة التي ربما لم تثبت في أذهانهم. واطلب الكتابة بين سطر وترك آخر. لكي أجري التصحيح في الفراغ تحت الخطأ وتلاحظون أن هذه الصفحة التي يبدؤون الكتابة عليها هي اليمنى. وبعد التصحيح -وفي درس بعده- ينقلون الموضوع حسب التصحيح على الصفحة اليسرى.
هذا لأني أعتقد أن هذا الأسلوب يساعد الطالب أن يعتمد على ذاكرته ويضطره للتصرف في التعبير. وإعادة كتابته تثبت الموضوع عنده. ثم أني أعتمد على القصص القصيرة جدا ليحصل الطالب على ثروة كبيرة قدر الإمكان من لغته العربية الغنية. وفي نفس الوقت هي ذات مغزى تهذيبي وموجه. ولاحظ أيضا إن المواضيع الأولى هي أسئلة وأجوبة، تخص شؤون الطالب وذويه في بيته. أولا لأن الأسئلة والأجوبة هي جمل قصيرة، وثانيا لكثرتها يتعلم ألفاظا باللغة الفصحى، بنفس الوقت يكون لي بمثابة ضوء كاشف لوضع الطالب النفسي والمادي والاجتماعي. ينفعني في معالجته وتوجيهه.
من هذه الأسئلة: ما اسمك واسم أبيك وما مهنته ولقبكم؟ هل هو متعلم أم هو أمي؟ هل بيتكم ملك أم هو إيجار؟ هل لوالدك زوجة واحدة أو أكثر وهل أمك على قيد الحياة؟ ما عدد إخوانك وأخواتك؟ ما موقف والدك إذا حصل شجار بين أفراد العائلة؟ هل يتغيب عن البيت كثيرا؟ ولماذا؟ هل يقضي بعض الوقت معكم ليلا ويتحدث إليكم؟ هل يتفقد اهتمامكم أو عدمه بمراجعة الدروس وتحضير الواجب؟ هل لك منه مخصص -نقد- كم هو، وكيف تتصرف فيه أو تدخر منه؟ هل يساعدك ويشجعك على شراء كتاب مناسب؟ مثل قصص الأطفال. هل يسافر بكم في العطل للترويح عن النفس والإطلاع؟ هل وجدته يفرق في العناية بين واحد وآخر منكم. ولماذا؟ كيف تقضي ساعات الفراغ: في الشارع؟ أو في البيت؟أو بمساعدة أبيك في عمله؟
واكتفى الرجل بهذا وودعني شاكرا. ولم يدخل في فروع العربي الأخرى. كان رجلا متزنا هادئا محترما. هذه الطريقة استفدت منها كثيرا. وتمكن تلاميذي أن يبرزوا في الإنشاء، وبه يقوى عند الامتحان في الإجابة على الأسئلة في سائر الدروس، إن كان قد أستوعبها.
كما أن أحد الطلاب أجاب بصراحة عن أسباب رسوبه في الصفوف الأولية، ولم يتوقع النجاح في بكالوريا السادس، فقد كانت الدرجة الوحيدة التي حصل عليها في جميع الدروس -واحد- وآخر أحسن منه ولكنه أيضا فاشل. والسبب أنه كان يجيد الألعاب الرياضية، وبه يكسب معلمو الرياضة كأس السباق. فكان معلم الرياضة يتوسط أمرهم عند معلمي بقية الدروس. ومن الصدف أن أسم كليهما "دينار" مع اختلاف أسم الأب. فكنت أقول لهم أسمك دينار ولكن دينار إيراني. شاهدت في عربستان قطعة نقدية من نحاس بحجم الفلس العراقي كتب عليها ما معناه 50 دينار. وانتهى أمر الطالبين أن احدهما أنضم إلى فريق الجيش بكرة القدم، أما الثاني فصار من شرطة الشعبة الخاصة.
أعود إلى حديثي عن المفتشين. كان الثالث هو محمد علي هادي المعروف أنه خريج كلية الحقوق. ولكنه كان قد درس فيها وهو معلم بذات الوقت. فبقي معلما. قال أحدهم: لماذا إذن درس علما تجنبه عمليا!؟
الذي لا أنكره أن الرجل ليس من أهل الكأس والميسر. لكنه جامد، وخال من المرونة. في بداية مجيئه إلى الناصرية مفتشا، زار مدرستي، وعلى غير العادة المتبعة. أي أن عليه أن يدخل إدارة المدرسة، ويطلع على جدول الدروس، ودفتر التحضير الخاص بالمعلم المقصود، قبل أن يتوجه إلى صفه.
كنت في الصف الثاني. درس -دين- كان التلاميذ، يرددون آيات من سورة -الفلق- بعدي. وحين توجه مباشرة، وقفت ممانعا. قال: أنا المفتش! قلت: أعرف، درسي هنا دين، إنهم يرددون بعدي سورة "الفلق" زرني في الصف الخامس والسادس، هذا الدرس زارني فيه اثنان من المفتشين، ألا يكفي؟ وانكفأ بسرعة إلى غرفة المدير شاكيا!
وبعد امتحان نصف السنة أقيم على العادة معارض فنية لطلبة المدارس الابتدائية، فأنيط به أمر افتتاحها. وتقدم لإلقاء كلمة الافتتاح. بدأها بقوله: "هذه صورْ، خطتها أناملَ أطفالٌ لكم"!؟. وأقشعر بدني من الخطأ الفاضح من خطيب مسؤول في الإشراف والتوجيه لجميع المعلمين وفي كل الدروس. وقد أخطأ في جملة واحدة ثلاثة أخطاء.
لاحظ أحد المعلمين أني غشيت عيني وصرت أضرب بكفي جبهتي متقززا. تهامس المعلمون. فأتصل بي من بجنبي، أوضحت له: إنه سكن الخبر، ونصب الفاعل، وضم المضاف إليه! وارتبك الرجل، وحين انتهى أستفسر "شعنده هذا ألنجفي؟". أجابه أحدهم موضحا، وكان ذكيا في اقتناص مثله بمثل هذه.
ولم أكن أعتقد أنه سيحقد عليّ، وانتقل إلى كربلاء فاسترحت.

آخر عام في الناصرية
مهما يكن فإني مرتاح في هذه المدرسة، ومنسجم مع سائر المعلمين، حتى مع المدير في أكثر الأحيان. وبينهم واحد، هو المعلم عبد الجبار صبيح وأخوه صديقي خضير البزاز، علاقتي به من علاقتي بأخيه الذي تعرف عليّ منذ كنت في جمعية الرابطة الأدبية، إذ كان ميالا للأدب والأدباء. وقد زار الجمعية وأخذ للهيأة الإدارية صورة، وكنت إذ ذاك مدير الإدارة، ولقد نسيته لكنه عرفني حالما رآني. فصرت -منذ استوطنت الناصرية- معلما فيها أقضي بعض الوقت من أيام الجمع في متجره.
ودهشت اليوم 23/3/1955، إذ طرق عليّ الباب، كان كئيبا للغاية. وتألمت للخبر الذي أخذ يلح علي بموجبه أن أذهب معه إلى بيت أخيه عبد الجبار، قال أنه جُنّ بعد أن قضى ليلة كاملة يكرع كؤوس الخمرة بإفراط، ثم هاج كالثور يريد الاعتداء على زوجه، متهما إياها بالخيانة مع أبن جارهم. ثم هاجم بيتهم واستقر فيه مهددا متوعدا.
لم أجد حلا غير يلجأ إلى الشرطة والصحة. وتم هذا وأخذ بالقوة إلى المستشفى ثم إلى بغداد للعلاج. وحين انتقلت إلى كربلاء وافاني خبره، إذ عاوده جنونه، فأغلق الغرفة عليه، وغمر نفسه وملابسه بالنفط وأشعل النار. أحترق والتهمت النار جميع ما في الغرفة، ولم يبدو منه كما قال محدثي تأوه أو صراخ، وانتهت حياته. لقد كان مدمنا إلى حد الإفراط. وكثيرا ما يجمع صحبه في بيته للشرب والبوكر، وتحضر زوجه معهم كأنها واحد منهم!
واجهت السيد المتصرف بعد أن قدمت عريضة طلب النقل. كما صممت أن أجدّ لتحقيق ذلك مهما كلف الأمر، لأكون قريبا من والديّ الذين أدركتهما الشيخوخة المضنية. كانت مواجهتي له تبعث الأمل. وقد وجدت فيه أكثر مما أسمع من لطف وطيبة. وقد وعد أن يحقق لي ذلك بدون الشرط البغيض -البديل- الذي كان انعدامه يفشل تحقيق مطلبي. وطال مكوثي عنده.
سبق له أن اُرسل إلى "نقرة السلمان" مع عدد منتخب لغرض استحصال -البراءة- من السجناء وليتم إطلاق سراحهم. كان أخي "محمد علي" سجينا هناك أيضا، حين عرض عليه الأمر أجاب: لن أكون ذالك المعيدي -أيام الدولة العثمانية- حين عجز عن دفع الضرائب المتراكمة عليه. فقد خير إن لم يدفع في واحدة من ثلاثة. السجن لمدة عام، أو مئة جلدة، أو يلتقم ملعقة من النجس، يتناولها أمامهم!؟ أقام في السجن لفترة فتهرأ جلده من عضة حشرة "تخت كالوسي"، ويقال إن العثمانيين كانوا ينشرون هذه الحشرة في السجون كتعذيب للسجناء، وإن هذا سيمنع الآخرين من ارتكاب ما يسبب لهم السجن. فاستغاث وصاح أدفع الضريبة، بعد أن ذاق مرارة عضة الحشرة، وعشر جلدات، وذاق النجس! فكادت أحشاؤه تخرج مع القي. وظل أخي حيث هو، وأصيب بالسل والربو.
* * * *
حل العيد، وخرجت من بيتي لزيارة بعض الوجوه لمعايدتهم. في الطريق لقيني رجل من الكسبة، هنأني بالعيد السعيد، ثم قال -متأسفا- أبنك الصغير محمد سقط من -ديلاب الهوى- فكسر منه العضد. وتمزق لحم صدره، والحمد الله على سلامته، فقد كاد مسمار -عارضة المقعد- أن يدخل في عنقه! إنه والله عيد سعيد!؟
نقلته إلى المستشفى، واجري اللازم، ورقد في غرفة خاصة. بعد ثلاثة أيام تسبب له ورم شديد في الكف نتيجة الطوق الحديدي الذي وضع ليتم التقاء طرفي العظم الكسير. وطال مكثي في المستشفى. ولم يشترك في الامتحانات. كتب لي أن أقيم لأشهد غرائب الفوضى في المستشفى. الطبيب المقيم الشاب كمال البصري أصيب منذ أيام دراسته بلوثة في عقله حين أقبل على تشريح جثة! جاءه مريض -ليلا- يشكو الصداع الحاد فأنامه على منضدة الفحص وأحمى -المكوي- وخرقة مبللة وضعها على جبهته لكيها! هذا علاج الصداع عنده. فرّ المريض والطبيب خلفه، وكانت تمثيلية تسلى بها المرضى، بينما الطبيب يرى الأمر جَداً؟ والمسكين متيم واله بحب الممرضة سوزان، ويشتد هيامه وهي تخطر بـ "قبقابها" على كاشي الممر، فيتضجر المرضى من صوت "قبقابها". وعند تقديم العشاء، يرسل حصته من لحم ودجاج لها تأكله ضاحكة، وله الأرز وحده!؟.
وتقضي ساعات من الليل بثرثرة مريض يدعى "رفعت أحمد" معاون شرطة. إنه لا يكف ينقد الحكومة يسميها بالفوضى والتعسف، والنهب والسلب. ولكنه قص لنا -متفاخرا- كيف أوقف يهوديا، ليتمكن من ابنة أخته ليقضي منها وطرا!؟ مرحى للنزاهة.
وبعد عشرين يوما شفي أبني من التهاب ذراعه، ونقل إلى غرفة العمليات. حين مرّ أكثر من ساعة، اقتحمت الغرفة فإذا بالطبيب مصطفى محمود ومساعده عبد الحميد السالم يعالجان عضده على قاعدة -جر الحبل-!؟ كدت أصيح بهما صيحة فاقد. فاعتذرا أن من الخير أن تتوجه به إلى بغداد، نزودك بكتاب رسمي. مصطفى محمود هو كل شيء في صحة الناصرية. واختصاصاته بلا حدود. الجراحة والكسور، التدرن وأمراض القلب إلى آخر ما في الطب من اختصاصات. وكان كل ذلك يمارس بلا حساب في العهد الملكي. فالأخصائيون حقيقة لا يبرحون بغداد. ويمتاز محمود هذا بالعلاقات الواسعة مع ذوي الوجاهة في مركز اللواء والأقضية. وله حظوة أيضا لدى المديرية العامة ووزارة الصحة، لذا كان باستطاعته أن يتخلص من أي طبيب مخلص في مهنته وواجبه إذا اشتهر وجذب عامة الناس له. ويتحدث الناس في قضية مناجزته للطبيب الدكتور "شاكر الاسكافي".
وقد حدثني من شهد المناجزة. إن بعض المضمدين الذين يوالون مصطفى بحكم كونه مدير المستشفى. وقد أرغم أحد مرضى الدكتور -رغم رفض المريض حسب توصية الدكتور الاسكافي- لكن المضمد الخفر اجبره أيضا وسمم جراحه فأشتد الالتهاب بعد سويعات. فاهتم الاسكافي طالبا التحقيق مع المضمد. واتسعت المسألة، وهب أنصار محمود، يبرقون التأييد والشكر له. ونقل الاسكافي فهب عامة الناس يطالبون ببقائه مشيدين بإخلاصه.
والاسكافي عرف عنه الاهتمام الشديد بمرضاه في المستشفى كما هم خارجها. وقد سعى أيضا فجلب صيدليا من بغداد لييسر الدواء بالثمن الحقيقي. ولم تكن إذ ذاك غير صيدلية واحدة. صاحبها صيدلي مسيحي، أثرى ثراء عاليا، إذ هو بأمن من فرض الأسعار المناسبة له!؟ وهو الصديق الأول للدكتور مصطفى ووجه بارز أيضا لدى وجوه البلد والحكام، حاتمي اليد مع رجال الحكم هنا، وشيوخ العشائر. وربما يقصده قاصد ضعيف الجيب في مهمة يطلب وساطته لانجازها، فيبدي العون بصورة تجعلك تؤمن أنه مثل أعلى في إنسانيته وأخلاقه.
هذا غريب، ربما هو كذلك. فالفلسفة السائدة ما تزال: إن الإنسان حر في تصرفه بماله، أحتكر أو تفضل. له أن يفرض الأجور كما يشاء، ولك الخيار أن تقبل، أو تلقم فاك بحجر! وما دام الله هو مقسم الأرزاق، فما على الفقير إلا أن يتحمل كل حرمان، بالحمد والشكر والقناعة كنز لا يفنى. الله قسم لك هذا. فما ذنب مصطفى محمود ويوسف الصيدلي؟
وتوجهت إلى كربلاء في 15/6/1955 إلى المجبر الأهلي شيخ محمد. جس موضع الكسر، العظم ناتئ إلى الأعلى. لقد أدهشني هذا المجبر، إذ أخذ يدلك موضع الكسر بدهان أخضر اللون وفي أقل من عشر دقائق أنبسط العظم والتقى بموضعه. وجاء ببيض أضاف إليه مسحوقا رمادي اللون ومزجهما، بسط المزيج على قماش الضمادة، وعلق ساعد الطفل بعنقه، وما هو إلا أسبوع حتى عاد العضد سليما.
كان هذا المجبر يقصد من سائر أنحاء العراق، فيجد الكسير عنده الشفاء العاجل. وهو لا يفرض الأجر، ويتقبل ما يقدم له شاكرا. وقد خسرته المدينة حيث وافاه أجله المحتوم.
وعلم الصديق عبد الكريم الأمين وهو إذ ذاك تلميذ في كلية الآداب مع بقائه في الوظيفة كـ "أمين مكتبة" بأني سأنتقل، فأرسل إليّ رسالة في 11/5/1955 جاء فيها "أنت وحديثك العذب الشائق أمامي في كل لحظات حياتي. أعرفتَ أني أتغزل بك. ولا أدري علام هذا الغزل؟ وما موقفك منه أنت ألنجفي الأصيل!؟"
رعى الله هذا الصديق. ومالي عليه مِنّة سوى أنه يجدني أبادله الرأي عن طموحاته وطموح أمثاله من الموهوبين فلا يلقون إلا الحرمان والإعراض، مع ما لديهم من موهبة فذة، وإطلاع كبير. وحين أجبته لم يفتني أن أشير بصراحة: إني أتوقع منك ما حصل معي من أخلاء أحبوني كما أحببتهم، وربما -وهذا ما لم يحصل مني لك- أفدتهم بأمر هام في حياتهم ومستقبلهم، فعادوا وكأنهم وجدوا من النقص أن يبقوا صلاتهم بي، وقد أصبح أحدهم دكتوراه في الفيزياء بفضل مساعدتي له، فما رد على رسالة مني أهنئه على العودة والفوز بالشهادة العلمية "الدكتوراه".
أذكر من هؤلاء معلما اسمه محمود مصطفى كنونه من أهالي بعقوبة. عين في مدرسة الفيصلية في المشخاب. فتم بيني وبينه انسجام وتآلف. كنت أدعوه لزيارة النجف في بيت أبي. وأبدى رغبته بأن يود إكمال دراسته ولكنه يعوزه المساعد بتوسط أمره في وزارة المعارف للبعثة. فتعهدت له وقدمته للشيخ الشبيبي الذي قال بدوره: إذا كانت درجته من الإعدادية تسمح يكن في غنى عن الواسطة فليقدم ويراجعني. وهكذا رشح وسافر إلى ألمانية. وحين قطعنا علاقتنا معها عاد فأرسل إلى زيوريخ لإكمال دراسته. كان يراسلني بشوق وشكر ولما تخرج وعين في دار المعلمين العالية وعلمت ذلك من مقال علمي نشر في مجلة المعلم الجديد راسلته مهنئا فلم يرد الجواب!؟ وأنا واثق من وصول رسالتي إليه.
وأرسل إلي الصديق الأمين مجلة الأديب البيروتية، أشار بخط تحت حديث عن رسالة الماجستير للأديب العراقي عبد القادر حسن الأمين وقد سماها "القصص في الأدب العراقي الحديث" وجاء أسمي بترتيب ظهور القصة في الطور الثاني.
أنا أعترف إني امرؤ لا يوالي نشاطه في صلاته مع المعارف والإخوان، مثلما إن مشاكلي الجمة والمنغصة وضعف المورد يحولان دون ما يلزم من يريد التقدم والتطور في مجالات الأدب وخاصة "القصة" التي عالجتها منذ عرفت هذا الفن، بدأتها على نمط كتابة جبران. ثم عدلت عنها إلى القصة الواقعية، متنقلا من أساليب أدباء مصر ولبنان إلى أدباء الغرب وثم السوفيت. ولكن بتوان وفترات أركن فيها إلى الوجوم ومصارعة المشاكل، فيما لقيت وألقى.
حين تم تجبير عضد ولدي، طلب المجبر أن أعود إليه بعد أسبوع. وعند فحصه والتأكد من الشفاء بحل الجبيرة، أرشدنا إلى ما يجب التزامه لأمد معين. لذا عزمت على قضاء هذا الأسبوع في بغداد لترويح الطفل وأخيه الكبير كفاح في بعض منتزهات بغداد، بمقدار ما نقدر عليه.
ورأيت من المناسب أن أزور صديقا، هو المرحوم عبد الرسول نجم، والده كان وكيل إخراج كمرك من أهالي البصرة ظهر لي في هذه الزيارة، أنه قد تبدل في وده وإخائه، لا عجب، هو الآخر قد ارتقى إلى منصب مرموق في وزارة المعارف.
لم يخطر ببالي أبدا أن يقابلني بوجه عابس، وخلق جاف. زرته لأستعين به على أمر النقل، فمسألة النقل آنئذ كانت تتم بموافقة الوزارة. لكنه وقف بلا أية مجاملة رافضا التدخل، وبعبارة موجزة كأسلوب أي برجوازي أو متبرجز آخر.
ما كانت علاقتي به فردية. إنها علاقة الأب بالأب والعائلتين أيضا، وحين عين مديرا لثانوية النجف احتضناه كأنه واحد منا. وجلب عائلته فاشتدت العلاقة. وتندّر معه أبي مرة فقال: يوم ولدتَ يا عبد الرسول، كنت عندكم في البصرة. كانت ولادتك مفاجئة، فلم يجدوا ما يلفون به جسدك الطري، فقدمت "سروالي". وضحك أبي ويستمر: لا تبتئس، لقد كان جديدا ولم ألبسه غير مرة قبل أن ير الغسل لأول مرة.
كانت تلك الأيام التي عاشها في النجف بعد عام 1941 وقد نشر الإنكليز في العراق جمعية "أخوان الحرية" ومكاتب الإرشاد، وكلاهما لأغراض التجسس، أكثر من أي غرض آخر. وكان المسؤولون يحثون رؤساء الدوائر، بضمنهم مدراء الثانويات للانتساب إلى جمعية "إخوان الحرية" وصاحبنا أحرز الثقة فصار عضوا بارزا في الجمعية، خصوصا وهو يجيد الانكليزية، فهو خريج الجامعة الأمريكية في بيروت. أخي حسين أستغرب من هذا التهافت، فكتب إليه يهنؤه بزواجه، وختم رسالته بقوله: أرجو أن يكون لك منها "أبناء للحرية" لا أخوان الحرية!
هذه النماذج من الأصدقاء لا أجد أسفا عليها أبدا، وأنا واثق إنها سترتطم بالواقع ذات يوم، إن كتب لها طول البقاء في الحياة ...



#محمد_علي_الشبيبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 3- عودة ومصائب وعواصف / 8
- 3- عودة ومصائب وعواصف / 7
- 3- عودة ومصائب وعواصف / 6
- 3- عودة ومصائب وعواصف / 5
- 3- عودة ومصائب وعواصف/ 4
- نداء إلى رواد التيار الديمقراطي أينما كان
- 3- عودة ومصائب وعواصف/ 3
- 3- عودة ومصائب وعواصف/ 2
- 3- عودة ومصائب وعواصف
- 2- الدرب الطويل/ 21
- حتى لا تضيع دماء الضحايا المصريين
- 2- الدرب الطويل/ 20
- 2- الدرب الطويل/ 19
- تونس إلى أين!؟
- 2- الدرب الطويل/ 18
- 2- الدرب الطويل/ 17
- 2- الدرب الطويل/ 16
- 2- الدرب الطويل/ 15
- 2- الدرب الطويل/ 14
- 2- الدرب الطويل/ 13


المزيد.....




- رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس ...
- مسيّرة للأمن الإيراني تقتل إرهابيين في ضواحي زاهدان
- الجيش الأمريكي يبدأ بناء رصيف بحري قبالة غزة لتوفير المساعدا ...
- إصابة شائعة.. كل ما تحتاج معرفته عن تمزق الرباط الصليبي
- إنفوغراف.. خارطة الجامعات الأميركية المناصرة لفلسطين
- مصر.. ساويرس يرد على مهاجمة سعد الدين الشاذلي وخلافه مع السا ...
- تصريحات لواء بالجيش المصري تثير اهتمام الإسرائيليين
- سيدني.. اتهامات للشرطة بازدواجية المعايير في تعاملها مع حادث ...
- ليبيا وإثيوبيا تبحثان استئناف تعاونهما بعد انقطاع استمر 20 ع ...
- بحضور كيم جونغ أون.. احتفالات بيوم الجيش في كوريا الشمالية ع ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد علي الشبيبي - 3- عودة ومصائب وعواصف / 9