|
رقصٌ منبعثٌ من تجلّياتِ الاشتعال
صبري يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 3325 - 2011 / 4 / 3 - 13:34
المحور:
الادب والفن
رقصٌ منبعثٌ من تجلّياتِ الاشتعال
في إحدى ليالي ستوكهولم الزَّاخرة بالرقص، فيما كنتُ أشاهد عرضاً لرقص الفلامنكو على مسرح دار الرّقص ضمن فعاليات ستوكهولم عندما كانت عاصمة أوربا للثقافة، برفقتي الشَّاعر السّعودي الرّائع أحمد كتّوعة، صاحب ديوان: كرة صوف لُفَّتْ على عجل، كنّا مشدودين إلى فتح السِّتار، بهدوء افتتح ستار المسرح على الرَّاقصة الغجرية كبرئيلة كَوتارة، يرافقها فرقة مصرية وهندية وراقصة مصرية، كنتُ قد هيَّأت صديقي على أنه سيشاهد عرضاً للفلامنكو لن ينساه أبداً، عرضاً له علاقة بتجلِّيات الرُّوح وهي في أوجِ انتعاشاتها، بدأت كبرئيلة بالرّقص على إيقاعات الموسيقى، كان يذهلني كيفية لملمة فستانها المتدلّى خلفها ورفعه في الهواء بطريقة إيقاعية ترافق حركة الرّقص فتغدو كفراشة مبهرة منبعثة من كنفِ الغسق في صباح مكلَّل بأغاني فيروز، شعرتُ وكأنَّ رائحة البخور تعبق بالمكان، انتابتني غيرة ايجابية ممزوجة بالمحبة والاعجاب العميق بما تقدِّمه من عروض رائعة، ترقى إلى مستوى الغيرة المحفّزة على تقديم أبهى ما لدى الإنسان من عطاء مكلَّلٍ بينابيع الصَّفاء!
فيما كنتُ أشاهدها، اعتراني رغبة حلميّة أن أصعد إلى المسرح وأتحوّل بقدرةٍ ما إلى فراشة وأحطُّ على جبينها المرفرف فوقَ قممِ الجبال، حلمت في تلكَ اللَّحظات لو كنتُ راقصاً جامحاً أراقصها على إيقاع الفلامنكو لعلِّي أتطهّر قليلاً من التكلُّسات المتراكمة حول خاصرة الرُّوح، كبرئيلة كوتارة سوسنة معبّقة بشهوةِ المطر في صباحات نيسان، تشبه مرجاً مغطّى بأهزوجة الحلم الآتي، هطل الفرح علينا، غيمة ماطرة على مرافئ اللَّيل، أمسكت قلمي وبدأت أكتب شعراً من وحي تواصلي الاشتعالي مع بهاء الحضور، فجأة وجدت غمامة بيضاء تعانق بهجة المسرح، عبرتْ سارة كوتارة فضاء المسرح كأنها حمامة ترفرف حول وهجِ الانبهار، شقيقتان متعانقتان مع خمائل غيمة حبلى بدفءِ السّنين، التفتَ كتّوعة نحوي قائلاً، كنا مسترخين تحت تماوجاتِ رذاذات الحنين المتناثرة من أجنحة كبرئيلة فوقَ بسمة الليل، فدخلت سارة بعذوبةٍ معبّقة بالتين، رقصٌ متعانق مع دمعِ الليل، يطلقان صوتاً على ايقاع الرَّقص، رأسان شامخان مثل عنفوان الجبال.
قفزت ذاكرتي إلى لقاءاتٍ سابقة حيث كنتُ قد التقيت مع كبرئيلة وأمها وأختيها، أتذكر كيف استرعى انتباههها عودي في إحدى لقاءاتنا فسألتني فيما إذا أعزف على العود، ما كنت آنذاك أعرفها جيداً، طلبت منّي في إحدى الاستراحات في مركز الفلامنكو أن أعزف لها بعض الأغاني التي أجيدها لعلَّها تجد ما يناسب ايقاع الفلامنكو الذي ترقص عليه، شعرت بالاحراج قليلاً ثم أردفتُ قائلاً: أنا مجرّد هاوٍ للموسيقى، أعزف وأغنّي بعض الأغاني الشعبية الفولكلورية الخفيفة، فقالت، أصلاً أنا أبحث عن هكذا نوع من الموسيقى والغناء، بعد دردشة هادئة، أمسكت عودي وبدأت أقدِّم لها مقاطع من بعض الأغاني التي أحبها، وفيما كنتُ في غمرة العزف والغناء، جنحتُ نحو الأغاني الغجرية القديمة التي تعلَّمتها من خلال تواصلي مع عوالم الغجر، سررت لهذا النزوع الغجري المستوحى من هناك، من أقصى الشمال الشرقي من خصوبةِ الروح، نعم غناء غجري ذات حميمية دافئة، يتميّز بالصخب وعلوِّ الصوت وذات إيقاع راقص، والفلامنكو يرتكز أصلاً على الإيقاع الصاخب السريع.
كانت تسمع بتركيز مرهف إلى موسيقاي وهي جالسة على كرسي، تدندن وتصفّق على الخفيف وتدقُّ أقدامها على الأرض برتم رائع ترافق موسيقاي، فجأة وجدتها تقف على قدميها تموج على إيقاعي مثل موجة بحرية هائجة، ما كانت ترتدي لباس الرقص ولا حذاءَها الخاص بالرقص، رافقتني بحدود خمس دقائق تقريباً، ثمَّ توقّفتْ حالما خرجتُ عمَّا كان يناسب إيقاعها، فتوقّفتُ أنا أيضاً ثم عانقتها، شعرت أنني أعانق نداوة الليل، ابتسمت لي موجات البحر، فرحٌ من نكهة النَّارنج غمر روحي، اقترحت عليّ أن أقدّم الاغنيتن اللتين رقصَتْ على إيقاعهما في عرضها القادم، وقالت انّهما أغنيتان مناسبتان للفلامنكو وأستطيع أن أرقص على إيقاعهما فهل تريد أن ترافقني في الحفلة القادمة التي سأقدِّمها هنا في مركز تدريبي؟ وافقت من دون أي تردُّد لأنها أبهرتني، همستُ في سرّي، أنا عاشق الشِّعر إلى حدِّ الاشتعال، هل من المعقول أن أتحوّل إلى عازف عود ترافق موسيقاي ولو لخمس دقائق أول راقصة فلامنكو في اسكندنافية؟!
انشغلت كبرئيلة مع بعض ضيوفها، تقدّمت أمّها نحوي وقالت لي إيَّاك لو طلبتْ “كابي” منكَ أن تعزف لها في حفلتها القادمة ولا تأخذ حقّكَ منها بالكامل؟ فقلت لها أي حق؟! فقالت، حق عزفكَ؟ رفعت يدي وحرّكتها بطريقة، تعني اتركينا من الفلوس الآن؟ هزّت رأسها قائلة، أنتَ بحياتكَ لن تنجح كموسيقي، فقلت لها ومَن قال لكِ انني أفكِّر أو أحلم أن أكون موسيقياً ناجحاً، أنا شاعر وأريد أن أكون شاعراً، فقالت حتى في الشعر سوف لن تنجح كشاعر طالما تحمل هكذا تفكير، ضحكتُ وهززت رأسي، ابتسمتْ وهمستْ لي سرّاً يصبُّ في مرافئ القصيدة، جاءت كبرئيلة وقالت عن ماذا تتحدّثان؟ فقالت أمُّها نتحدّث عنكِ وعن عروضكِ؟ فقالت، عن أي شيء تتحدثان بالضبط؟ عن الثمن الذي سيتقاضاه صبري لما سيقدِّمه في عرضكِ القادم، قالت كبرئيلة طيّب كم تريد أجر عزفك لمدة خمس دقائق؟ تمعّنتُ في بريق عينيها، قائلاً لها لا شيء يا عزيزتي، كفاني أن أتمتَّع في عرضكِ الجميل، نظرتْ إلى أمِّها، غمزتها، ثمَّ فتحت يديها وعانقتني عناقاً حميماً كأنّه منبعث من رحاب حنين بهجة الحرف، قبّلت خدّها الأيسر وأرجَح الظنّ قبَّلتُ جبينها المتماهي مع شموخ الجبال!
همس كتّوعة إليّ وهو مذهول بما يراه، عرض رائع جدّاً، إيقاع منعش، كانت كبرئيلة تملأ المسرح فرحاً، شعرت أن قسطاً من أحزاني قد تبدَّدت وقسطاً من غربتي عبرَت شقوق الليل، وقسطاً من فشلي في الحياة قد انزاح جانباً وراودني أن صديقي أحمد كتّوعة ربّما يكتب نصَّاً من رحم تجلّياته الانتعاشية فيما يراه، سألته فيما إذا تستطيع كوتارة أن تسقط بحركة من حركات فستانها وهي تتراقص مثل فراشة عاشقة، وزارة من وزاراتنا؟ ضحك قائلاً، قل وزارات بل حكومة برمَّتها! ضحكتُ أنا الآخر، وشعرتُ بفرحٍ عميق، هامساً لروحي المنتعشة من بهجة الحضور، هل من المعقول أن تكون هذه الراقصة الغجريّة المائجة أمامي الآن، كانت تتمايل أمامي منذ أسابيع، ترقص على تماوجاتِ إيقاعي الغجري؟! فرحٌ يزدادُ تلألؤاً في سماء الرُّوح!
ستوكهولم: 27 ـ 11 ـ 2006 صبري يوسف كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم [email protected] www.sabriyousef.com
#صبري_يوسف (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
26 سليمة السليم
-
جنّتي المفتوحة على شهيقِ اللَّيل
-
25 سميرة إيليا
-
سنبلة شامخة في سماءِ ليلي
-
24 ازدهار محمد سعيد
-
السَّلام أوّل اللُّغات وآخر اللُّغات، لغة رائعة منعشة للقلب
-
23 تحفة أمين
-
23 سعود قيس
-
21 سميّة ماضي
-
20 تورشتين يوريل
-
19 فلاح العاني
-
18 عباس خضير الدليمي
-
17 فائزة دبش
-
16 وفاء غالب
-
15 شاكر بدر عطيّة
-
14 ياسين عزيز
-
13 هناء الخطيب
-
12 مُضر بركات
-
11 حسين العلوي
-
9 منجد بدران
المزيد.....
-
صراع في نقابة الفنانين السوريين.. مازن الناطور يلغي قرار عزل
...
-
نقيب الفنانين في سوريا مازن الناطور يرد على قرار عزله بإقالة
...
-
-مين فيهم-؟.. صناع فيلم -درويش- يشوقون الجمهور لشخصية عمرو ي
...
-
سوريا.. هل قرار سحب الثقة من نقيب الفنانين مازن الناطور صائب
...
-
قداس يتسم بأجواء أفلام -حرب النجوم-.. كنيسة ألمانية تبتكر وس
...
-
قبل حوالي 2500.. كيف أسست أميرة بابلية أول متحف في العالم؟
-
سناء الشّعلان تفوز بجائزة مهرجان زهرة المدائن الفلسطينيّة عن
...
-
نقابة الفنانين السوريين تسحب الثقة من نقيبها مازن الناطور وس
...
-
مصر.. مقترح برلماني بتقليص الإجازات بعد ضجة أثارها فنان معرو
...
-
رُمي بالرصاص خلال بث مباشر.. مقتل نجل فنان ريغي شهير في جاما
...
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|