أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - مأزق الحركة الشيوعية العربية ملاحظات حول عوامل الإضمحلال















المزيد.....


مأزق الحركة الشيوعية العربية ملاحظات حول عوامل الإضمحلال


سلامة كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 991 - 2004 / 10 / 19 - 11:22
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


سنبدأ من الواقع الراهن حيث الحركة الشيوعية مفككة و هامشية و تعاني من " الشيخوخة "، و بالتالي لم تعد قادرة على أن تلعب أيَّ دور جدِّي. إنها تحاول أن تعيد إنتاج ذاتها فقط ، تحاول أن تستمر و أن تتواجد في " المشهد السياسي ". لم تعد ذات شعبية، و لا تأثير لها في الحركة المجتمعية. و دون مشروع سياسي يستحقُّ هذه التسمية.
و لقد قاد إنهيار المنظومة الإشتراكية إلى ضياع توجّهها الأيديولوجي و أهدافها العامة، و طغى " الميل الليبرالي " على قطاعات مهمة فيها، و بات يحكمها الميل للتكيُّف مع الوقائع الجديدة. و أدَّت الحاجة للتجديد التي أصبحت مسألة ملحَّة بعد الإنهيار إلى تفكّكها الفكري، حيث كانت عاجزة عن تجاوز وعيها و منطقها ( الذي هو المنطق النصّي ) من أجل أن تعيد بناء رؤيتها و دورها. الأمر الذي جعل " التجديد " هو إعادة إنتاج للرؤى السابقة، أو " الإنقلاب " على تلك الرؤى، أو هما معاً. ليبدو أن ذاك الوعي عاجز عن أن يتجاوز ذاته، و بالتالي أن يقدِّم رؤى و تصوّرات جديدة تؤسس لدور جديد.
هذه النهاية تفرض التساؤل عن الأسباب التي قادت إلى ذلك. لكن، و لكي تصبح الإجابة ممكنة، نحدِّد بأننا ننطلق أولاً من أن الحزب هو " الفعل الواعي " في إطار الحركة المجتمعية، حيث أن مهمته تتمثّل في تفعيلها و تنظيم نشاطها، من أجل تحقيق أهداف هي قادرة على تحقيقها، لأن الواقع يفترض تحقٌّقها تأسيساً على أن التناقضات المؤسّسة في الواقع تسمح – عبر تطويرها – بأن تفرض الحركة المجتمعية تحقيق الأهداف المعبِّرة عن حلٍّ لهذه التناقضات يفضي إلى الإنتقال إلى الأمام ( التطوّر ). و ننطلق ثانياً من أن " لحظة تحوّل " قد برزت لم تستطع الحركة إلتقاطها. هذه اللحظة هي التشكُّل العالمي التالي للحرب العالمية الثانية، حيث تفاقم الصراع ضد الإستعمار و القوى الإقطاعية المحلية، و قادت الحرب إلى تحوّل الإتحاد السوفييتي إلى قوّة مقابلة للرأسمالية، و من ثَمّ إنحسار الإستعمار تأسيساً على الوضع الجديد. هذا الظرف أوجد وضعاً داخلياً يسمح بالتغيير إلتقطته قوى في الجيش نتيجة الفراغ السياسي القائم.
و الفرضية هنا – و هي المنطلق الثالث – تقوم على مفهوم " عدم المطابقة " لحركة الواقع. حيث أن المأزق الأساسي هنا هو أن التصوّرات و البرامج التي كانت تطرحها الحركة الشيوعية لم تكن مطابقة للواقع، الأمر الذي أسّس لسياسات خاطئة و تكتيكات أكثر خطأً، جعلتها تفشل في إلتقاط " لحظة التحوّل " التي نشأت ( و هي ذاتها لحظة إنتصارات الصين و الهند الصينية و كوبا و كوريا ).
و بالتالي فإذا كانت حركة الواقع تدفع نحو تفجُّر التناقضات، و الوصول إلى لحظة حلِّها، فإن السياسة العامة التي كانت تتّبعها الحركة الشيوعية العربية لم تكن تسمح بأن تلعب دوراً محورياً في هذا الحلّ، على العكس فقد إنبنت على رؤى مناقضة لذلك. عكس الحركة الشيوعية في الصين و الهند الصينية و كوريا و كوبا ( و لنتذكّر الفارق بين الحزب الشيوعي الكوبي، الذي كان يتَّبع سياسة مطابقة لسياسة الحركة الشيوعية العربية، و حركة فيدل كاسترو التي كانت أقرب إلى الحركة الشيوعية الصينية و الهند صينية ). و هذا الفارق هو ذاته الفارق بين مطابقة حركة الواقع و عدم مطابقتها، و هو الذي يعنينا هنا، حيث سنشير إلى الإشكال العميق الذي حكم رؤية الحركة الشيوعية العربية و جعلها عاجزة عن التغيير، و بالتالي قادها إلى أن تتفكك و تتهمَّش ( و تصبح من الماضي ).
و إذا كانت مهمة الحزب هي وعي التناقضات و تحديد موقعه فيها إنطلاقاً من تعبيره عن طبقة محدَّدة ( أو عن تحالف طبقيٍّ معيَّن )، فإن تحديد الأهداف العامة و تحديد آليات تحقيقها هي التي تشير إلى المطابقة، و بالتالي تؤسِّس لأن يصبح نشاط الحزب فاعلاً و مؤثِّراً في الوصول إلى الإنتصار. أما حينما تتشوَّش الرؤية و تضيع الأهداف أو تتقزَّم، فإن نشاط الحزب سوف لن يساعد على تصعيد التناقضات من أجل حسمها، هذا الحسم الذي يعني إنتصار طبقات جديدة تسعى لتحقيق رؤيتها و أهدافها، و خيارها في التطوّر.
لهذا يمكن تلمُّس ثلاث مستويات من عدم المطابقة، سوف أبحث فيها بتكثيف، كما سوف أشير إلى الأساس الذي أفضى إليها.

المستوى الأول: وعي الواقع العالمي
و هو المستوى المتعلِّق بإختيارات التطوُّر. حيث أن إنتصار الرأسمالية في أوروبا جعلها " المثال " لكل الأمم التي تخلّفت، فأصبحت مطمح أمم العالم حيث لم يعد إستمرار " العصر الزراعي " ممكناً، كما لم يعد ممكناً التطوّر دون تحقيق منجزاتها، التقنية ( الصناعة ) و العقلانية و السياسية ( الدولة المدنية الحديثة المؤسَّسة على مبدأ الدولة/ الأمة ). و بالتالي غدا تجاوز تناقضات التكوين " الإقطاعي " يفرض تحقيق تلك المنجزات.
لكن الرأسمالية منذ نهاية القرن التاسع عشر أصبحت تشكِّل نظاماً عالمياً. أو يمكن القول أن النمط الرأسمالي قد تشكَّل منذئذ كنمط عالمي. و الرأسمالية تأسيساً على ذلك أوجدت التكوين العالمي ( الإقتصادي، السياسي، العسكري ) الذي يمنع تكرار التطوُّر الرأسمالي في الأمم التي تخلَّفت. و سنلحظ هنا أن البلد الأخير الذي تطوّر نحو الرأسمالية كان اليابان نهاية القرن التاسع عشر، رغم أن الرأسمالية منعت بالقوّة الإنتقال إلى الرأسمالية في الوطن العربي في الثلث الأوّل من القرن التاسع عشر ( تجربة محمد على باشا ). حيث جعلتها " تتطوّر " ضمن النمط و بما تسمح به آلياته فقط ، أي أن " تتطوّر " في إطار هيمنة المراكز و بما يحقِّق مصالحها. و بهذا فقد كانت تخلق عالماً على صورة و مثال مصالحها. مما كان يفرض أن تبقى تلك الأمم زراعية و منتجة للمواد الأولية فقط ، و كذلك سوق للسلع المصدَّرة من المراكز. و أن تبقى محافظة على بناها التقليدية و على تفككها، كما على سيطرة الفئات التقليدية فيها.
إن تحوُّل الرأسمالية إلى نمط عالمي كان يُجهض إمكانية إعادة إنتاجها في الأمم التي لم تكن قد ترسملت بعد، لأنها غدت قوّة معيقة، و فعل داخليٌّ يكرِّس البنى التقليدية و يواجه الأفكار و البنى الجديدة ( الرأسمالية المصدر ). و لقد تحقَّق ذلك عبر الإستعمار إلى أواسط القرن العشرين، ثم عبر الهيمنة الإقتصادية المؤسَّسة على اللاتكافؤ الإقتصادي السياسي و العسكري. و لهذا تكيّفت الفئات الرأسمالية الناشئة، و المنبثقة من الإقطاع و المتداخلة معه، مع التكوين الرأسمالي المهيمن عالمياً، عبر النشاط في قطاعات التجارة / الخدمات/ المال، و النزوح عن القطاعات المنتجة في الصناعة و الزراعة ( سوى تلك التي تنتج مواد أولية ). الأمر الذي جعل مصالحها تتعارض مع تحقيق " الثورة الديمقراطية "، و بناء الحداثة التي تشكّلت في أوروبا.
لهذا إرتبط تحقيق التطوّر الإقتصادي ( بناء الصناعة ) و المجتمعي، بالقوى المناهضة للرأسمالية، أي بالطبقة العاملة ( رغم جنينيّتها ) و بالماركسية التي غدت الأساس النظري لرؤية العالم و لتحويله. لكن في إطار تحالف طبقيٍّ واسع يضمّ الفلاحين و الفئات الوسطى المدينية، و من أجل تحقيق المهام الديمقراطية ( التي هي عتبة الإنتقال إلى الإشتراكية ). و هي الفكرة التي توصّل إليها لينين نهاية القرن التاسع عشر، و على ضوئها حوّل مهمات " الحزب الشيوعي " من التحقيق المباشر للإشتراكية، أو إنتظار إنتصار الرأسمالية إلى تحقيق " الثورة الديمقراطية " التي كان يوسمها بأنها " برجوازية الطابع "، أي تلك التي حقّقتها البرجوازية في دول أوروبا ( بريطانيا، فرنسا، ألمانيا ) ثم في الولايات المتحدة و اليابان.
إذن، لقد إنحكم التطوّر للدور الذي بات على الماركسية أن تلعبه ( و الماركسية هنا تعنى الحزب الماركسي المعبِّر عن الطبقة العاملة و الموحِّد لتحالف طبقي واسع ). و لقد أوضحت تجارب القرن العشرين هذه المسألة بوضوح شديد، حيث إستطاع الحزب الشيوعي المنتصر أن يحقّق المهمات الديمقراطية ( بناء القوى المنتجة و تحقيق الحداثة )، رغم أنه كان يطرح على نفسه مهمة تحقيق الإشتراكية التي فشل في الوصول إليها بعدما أنجز التطوّر الضروري لتحقيقها.هذا هو الأساس العام الذي بات يميِّز الحزب الشيوعي الثوري عن " الحزب الشيوعي " الإصلاحي ، ولقد إنتصرت الأحزاب التي إنطلقت منه ( الصين، جنوب شرق آسيا، كوريا، و كوبا ). وبهذا بات من " المبادئ " أن تحقّق الأحزاب الشيوعية المهمات " البرجوازية " و رغماً عن البرجوازية ذاتها، و أيضاً على جثَّتها.
في الوطن العربي سنلمس أن صيغة أخرى حكمت الأحزاب الشيوعية منذ نهاية ثلاثينات القرن العشرين. فقد تمظهر " عدم المطابقة " الأوّل في المراهنة على إنتصار " الثورة الديمقراطية البرجوازية "، أي تلك " الثورة " المقادة من قِبل البرجوازية " العاجزة و المتردِّدة و الجبانة " حسب تعابير ماركس ثم لينين. فقد كانت " وليدة " الإقطاع و " لقيطة " المراكز الرأسمالية، و بالتالي المتكيِّفة مع مصالح رأسماليات تلك المراكز، و المدافعة عن سياساتها. لقد دافعت عن المشروع البرجوازي الذي كان مشروعاً وهمياً، و بالتالي سارت خلف سراب كان يتباعد يوماً بعد آخر. و حين تفاقمت الأزمة و حانت " لحظة التحوّل " لعبت الفئات الوسطى الريفية هذا الدور تحت يافطة " الإشتراكية "، فإلتحقت تلك الأحزاب بها لكي يحقّقوا الإشتراكية معاً، تلك الإشتراكية التي لم تعدُ أن تكون إشتراكية البرجوازية الصغيرة، التي لا تفعل سوى التمهيد للتطوّر الرأسمالي، و الذي بدا بدوره مجهضاً.و إذا كانت هذه التجربة قد حقّقت الخطوة الأولى التي تتمثّل في تدمير البنية القديمة، فقد فشلت في تحقيق المهمات الديمقراطية، نتيجة " المصالح الخاصة " التي تحكم الفئات التي إنتصرت و عدم جذرية تناقضها مع الرأسمالية، حيث أنها تسعى للترسمل أساساً، رغم أنها حقّقت بعض التقدُّم في المستوى المجتمعي.
و بالتالي فإذا كانت الفرصة مهيأة لإنتصار ممكن أواسط القرن العشرين، و لقد ضيَّعته السياسة التي إنتهجتها الحركة الشيوعية، التي كانت تقوم على دعم إنتصار البرجوازية لتحقيق التطوّر الرأسمالي، فقد كانت التطوّرات اللاحقة بعد إنتصار الفئات الوسطى تلغي أساس وجود الحركة، و تنهي دورها الفعليّ. لأن التحوّلات التي حدثت ( الإصلاح الزراعي، التصنيع، و التحديث ) أنهت القاعدة الإجتماعية التي كانت تعتمد عليها. و بهذا أخذ وجودها يتقلّص و باتت تنغلق، ثم أخذت تتفكك نتيجة تصاعد تناقضاتها الداخلية ( غير السياسية في الغالب )، مما حوّلها إلى مجموعات منعزلة، متناقضة، و هامشية.

المستوى الثاني: وعي الواقع العربي
إذن كان التطوّر العالمي يفرض التضاد مع الرأسمالية و تجاوزها من أجل تحقيق إنتقال الأمم المخلّفة إلى العصر الحديث، و لقد راهنت الحركة الشيوعية على الرأسمالية بدلاً من أن تقوم هي بهذه الخطوة. و تمثّل الشكل الآخر من " عدم المطابقة " في القفز عن المشروع النهضوي العربي الذي كان قد أصبح هو هدف الحزب الشيوعي السوري اللبناني أواسط ثلاثينات القرن العشرين، لكن " إنقلاباً " تحقّق بعد ذلك ( سنة 1937 ) قلّص الثورة الديمقراطية إلى ديمقراطية نيابية، و التطوّر إلى تطوّر رأسمالي، و حيث تراجعت الدعوة إلى العلمانية و تقزَّم مشروع التحديث إلى شكله البرجوازي ( الذي كان رثّاً ). كما همَّش المسألة القومية و حوّلها إلى مشروع قطريّ. و بالتالي تحوّل المشروع النهضوي العربي الذي باتت تحمله الطبقات الشعبية و الحزب الشيوعي إلى مشروع تحديث برجوازيّ في إطار قطريّ.
و إذا كان مسار التطوّر الرأسمالي العالمي يسير نحو تشكيل الدولة/ الأمة، أو الدولة القومية، و أصبحت مسألة الأمم مطروحة كمشكلة يجري العمل على حلِّها في سياق التطوّر الرأسمالي، و بات الشعور القومي عنصر فِعل في كل الأمم الناهضة، حيث باتت الدولة القومية هي " حجر الزاوية " في العلاقات الدولية. فإن تكيُّف الحركة الشيوعية مع دور البرجوازية أدى إلى التكيُّف مع رؤيتها و سياساتها التي باتت تقوم على أساس التوافق مع التجزئة التي أوجدها الإستعمار في إتفاقات سايكس/ بيكو. و بهذا باتت تؤسِّس لوعي قطريٍّ، و سياسة قطرية.
لقد كانت القضية القومية قضية أساسية في الواقع العربي، و كان على حلِّها يتوقف التطوّر العربي العام. لأن تحقيق الإستقلال الفعليّ و التطوّر الإقتصادي، كانا يرتبطان بتحقيق الوحدة القومية. كما أن " الميل القومي "، أو " الشعور القومي " الذي كان في أساس نشوء الحركة القومية، كان جزءاً جوهرياً في حركة الواقع. حيث أن هذا الشعور الدافع نحو الوحدة كان أساس إستقطاب حقيقيٍّ لدى الطبقات الشعبية، التي كانت تلمس " بغريزتها " مدى الترابط بين تطوير وضعها و الوحدة القومية . و هذا ما جعلها تنتظم في أحزاب الحركة القومية، التي حاولت أن تعبِّر عن ميل لتجاوز الشكل الرأسمالي الذي تشكّل في النصف الأوّل من القرن العشرين، و أن تسعى لفتح أفق التطوّر الرأسمالي القائم على بناء القوى المنتجة ( و خصوصاً الصناعة )، و بالتالي أن تعبّر عن مشكلات الطبقات الشعبية آنئذ.
إذن كانت المسألة القومية عنصراً جوهرياً في الواقع، و بالتالي كان يجب أن تكون جوهر الرؤية و البرنامج ( كما كانت قبل سنة 1935 في الحزب الشيوعي السوري اللبناني ). و أن تتداخل مع السعي لتحقيق الإستقلال و التطوّر و مواجهة المشروع الصهيوني. لكن الحركة الشيوعية إنطلقت من " الأمر الواقع " الذي هو التجزئة، و تأسست كأحزاب قطرية، و لم تكن المسألة القومية تعنى بالنسبة لها سوى " الميل التضامني " و " التعاطف العام "، و ليست أساس نشاطها و منطلق رؤيتها لتحقيق التطوّر و الحداثة.
لهذا تصدَّرت الحركة القومية حيث فشلت هي، و كان ذلك سبباً جوهرياً في تهميشها، و في النهاية المفجعة التي آلت إليها، و آل إليها الوطن العربي كذلك. لقد توضَّح ميل العرب لتأسيس الدولة/ الأمة منذ القرن التاسع عشر، و خصوصاً منذ بدء نشوء الحركة الفكرية التي عبّرت عن عصر النهضة، و من ثَمّ بدء نشوء الأحزاب القومية و تبلور البرامج المعبِّرة عن الطموح التوحيدي النهضوي العربي. و لما مالت البرجوازية الناشئة إلى التكيّف مع السياسات الإستعمارية و تخلّت عن المشروع النهضوي، عمل الشيوعيون على حمل راية ذاك المشروع كما على حمل راية التطوّر و الإستقلال، و حينها أصبحوا قوّة فاعلة في الواقع. لكنهم عادوا إلى إتِّباع سياسات معاكسة، الأمر الذي أخرجهم من صيرورة كانت ستجعلهم القوّة الحاسمة في الصراع الواقعي الذي كان يتفاقم ضد الإستعمار و الإقطاع و البرجوازية ( التي كانت تتشكّل ككومبرادور ).

المستوى الثالث: الثورة أو الإصلاح
لأن الحركة الشيوعية نشطت كمساعد للبرجوازية في سعيها للهيمنة، و لأنها نشطت في الإطار القطري الذي بدا كشكل نهائيّ، فقد إختارت منطق " الإصلاح "، أو المنطق السلمي و " الديمقراطي " و المطلبي و التفاوضي. ونبذت " العنف " و " الثورة " و التغيير الثوري.
لقد تقلّصت مسألة الإستقلال إلى مسألة مفاوضات و " نضال سلمي " و " ضغط " . و أصبح هدف الإستقلال ملازماً للتفاوض. كما أصبح " الهدف المركزي " هو الديمقراطية، و سيطر أسلوب " النضال الديمقراطي " في إطار الدعوة إلى " حياة نيابية سليمة " و إنتخابات ديمقراطية. و من ثَمّ أصبح " النضال المطلبي " هو المسيطر في الريف ( ضد الإقطاع )، و في المدينة ( ضد البرجوازية ). لهذا غابت الشعارات " الطفولية " عن سياسات الحركة، كما غاب هدف " السلطة السياسية "، و البرنامج الذي يعبّر عن رؤية الحركة للتطوّر الإقتصادي الإجتماعي. فقط طغت " المطالب الشعبية "، التي هي أساسية للطبقات الشعبية لكن تحقُّقها يفترض أن تصبح تلك الطبقات هي السلطة، لا أن تطالب الطبقة المسيطرة بالتنازل المحدود و البسيط عن فُتات أرباحها، حيث أن تلك الطبقة ليست معنية بأن " تتخلّى " عن جزء من أرباحها، على العكس كانت تميل لتشديد النهب و تصعيد الإستغلال.
و لما كانت السيطرة الإمبريالية المباشرة أو عبر الفئات الكومبرادورية المحلية، تقود إلى تصعيد التناقض الطبقي، و تدفع إلى أن تنتصر القوى المعبِّرة عن أزمة المجتمع و وضع الطبقات الشعبية، و بالتالي تفرض الصراع " الثوري " مع هؤلاء، فقد بدا الميل " الديمقراطي المطلبي " كميلٍ لا لزوم له، يمكن أن يفيد حين همود التناقضات مؤقّتاً، لكنه يخرج من دائرة الصراع حالما تتفاقم التناقضات و تحتدّ، و تصبح بحاجة إلى قوّة تحسمها.
و إذا كانت الحركة الشيوعية في الصين و الهند الصينية و كوريا و كوبا، قد واجهت الإحتلال و الفئات الكومبرادورية ب " حرب الشعب "، و بالإصرار على الإنتصار، فقد ظل " النضال السلمي " هو طريق الحركة الشيوعية العربية. و ظلّت تؤسِّس سياساتها على المناشدة و المطالبة. و هنا لا يعني هذا الإنتقاد أن " النضال السلمي " محظور، بل يعني أنه يمكن أن يكون شكلاً من أشكال النضال في لحظة محدَّدة، لأن للنضال أشكال متعدِّدة.
و بالتالي فإذا كانت الظروف التي يؤسّسها الوجود الإستعماري و من ثَمّ سيطرة فئة كومبرادورية و هيمنتها، تفرض تفاقم الصراع و وصوله حدَّ الإنفجار، فإن السياسات السلمية و المطلبية سوف تبدو رخوة و هزيلة، و أيضاً غير مطابقة للحركة الواقعية، الأمر الذي يفرض إنعزال الحركة الشيوعية و تهميشها، حيث ستلتحق الطبقات الشعبية بالقوى " الأكثر جذرية " و صراعية.

لماذا هذا التناقض بين سياسات الحركة الشيوعية و حركة الواقع؟
عادة يشار إلى المصالح الطبقية، لكن المسألة هنا تتعلّق بالخطأ المعرفي، حيث أفضى تبلور " الماركسية السوفييتية " أواسط ثلاثينات القرن العشرين، إلى صياغة سياسات مناقضة للماركسية التي أفضت إلى إنتصار ثورة أكتوبر ( الإستراتيجية اللينينية )، إنطلقت من مصالح الدولة السوفييتية فأعادت إنتاج الرؤية التي نبذها لينين، و التي كانت رؤية " الأممية الثانية " ( و بليخانوف و المناشفة في روسيا ). فتكرّست الرأسمالية كمرحلة ضرورية و حتمية، و طغت الأممية على الأمة ( المسألة القومية ) من أجل الدفاع عن " وطن الإشتراكية الأوّل "، و أصبح القبول بقيادة البرجوازية ل " حركة التحرّر " مسلَّمة. لكن هذه الرؤية أسّست ل " تكوين طبقي " يعبِّر في الغالب عن الفئات الوسطى المدينية، و عن الوعي الجنيني لقطاعات من الطبقة العاملة، هذا الوعي الذي كان يتوافق مع " العدمية القومية " و " النضال المطلبي ". و في هذا الإطار لم تستطع الحركة إستقطاب الفلاحين الفقراء و العمال الزراعيين، و لا الطبقة العاملة ( و إن كان لها وجود فيها ).
إن البرنامج الذي طُرح منذ نهاية الثلاثينات، لم يكن يعبِّر عن المصالح الحقيقية للطبقات الشعبية، بل عبَّر عن الميول البرجوازية الهادفة إلى تحقيق التطوّر الرأسمالي، في وضع كان التطوّر الرأسمالي فيه مستحيلاً. و بهذا قاد الخطأ المعرفي إلى تكوين بنية لها مصالح طبقية متوافقة – في الجوهر – مع الرأسمالية الناشئة. و لقد إنتهت هذه البنية واقعياً في اللحظة التي سقطت فيها الرأسمالية بإنتصار الفئات الوسطى الريفية ( عبر الإنقلابات العسكرية )، لكنها – عبر الضغط السوفييتي- إلتحقت بالسلطة الجديدة " الإشتراكية "، و أصبحت تابعاً لها، تبرِّر سياساتها و تدافع عن توجّهاتها ( سوى إستثناءات معدودة ).
لقد أفضى إعتناقها الماركسية السوفييتية ( أو الستالينية ) إلى أن تؤسّس وعياً مفارقاً للواقع، و بالتالي أن تتنحّى عن دورها الذي فرضه تحوّل الرأسمالية في المراكز إلى نمط عالمي، و أن تبقى تراهن على " أوهام "، و تتعلّق بالفئات المسيطرة و تركن في ذيلها. لقد حكمها منطق أن دورها هو " عقلنة " سياسات الطبقة المسيطرة، و تقديم المشورة لها، و ليس الضغط عليها لفرض تغييرات ضرورية، و من ثَمّ لفرض التغيير. و هذا يفرض البحث في طبيعة " ماركسيتها " من جهة، من أجل تحديد تفارقها عن ماركسية ماركس/ إنجلز و لينين و ماو تسي تونغ و غرامشي و لوكاش. و البحث من جهة أخرى في رؤيتها لإرتباطها الطبقي، و مدى إنعكاس برنامجها " البرجوازي " على تحوّل علاقتها الطبقية بالطبقة العاملة و الطبقات الشعبية. و من ثَمّ لأن تؤسّس تنظيماً إستبدادياً، يتشكّل ليس كفاعل معها، ينظِّمها و يقود نضالاتها، بل " كمؤسّسة " مستقلة خارجها، تحاول أن تستقطب منها أو تحرّض على النشاط الضروري فقط لخدمة تكتيك " المؤسّسة " هذه.



#سلامة_كيلة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مشكلات اليسار في الوطن العربي - ما العمل؟
- مشكلات مفهوم المجتمع المدني
- حول الموضوعات من أجل نقاش هادئ لمنهجية و لرؤية - مناقشة لموض ...
- هل الرأسمالية باتت - إنسانية-؟ مناقشات حول العراق
- من أجل المقاومة العراقية الشاملة- 3 - الحركة الشيوعية و مشكل ...
- من أجل المقاومة العراقية الشاملة 2 -3 المقاومة العراقية و ضر ...
- (من أجل المقاومة العراقية الشاملة(1-3 - وضع أميركا في العراق
- الخطاب -الديمقراطي- الأمريكي في -الشرق الأوسط الكبير-
- -g8-ال
- مقدمات الشمولية
- - وعد بوش- و السياسة الأميركية تجاه الصراع العربي الصهيوني
- عفوية الجماهير و دور الحركة السياسية في الوطن العربي
- دراسة الآليات التي تسمح بتحقيق المقاومة والمواجهة
- آفاق الصراع و دور الماركسية بعد حرب الخليج
- التبشير بالخصخصة
- الطبقة العاملة واليسار في عصر العولمة
- اليسار السوري في واقعه الراهن
- مناقشة لفكر ملتبس المادية والمثالية في الماركسية
- المفكر والباحث الفلسطيني سلامة كيلة :المجتمعات المعاصرة تميل ...
- حول مشكلات السلطة والديمقراطية في الأمم التابعة ملاحظات في ص ...


المزيد.....




- ضغوط أميركية لتغيير نظام جنوب أفريقيا… فما مصير الدعوى في ال ...
- الشرطة الإسرائيلية تفرق متظاهرين عند معبر -إيرز- شمال غزة يط ...
- وزير الخارجية البولندي: كالينينغراد هي -طراد صواريخ روسي غير ...
- “الفراخ والبيض بكام النهاردة؟” .. أسعار بورصة الدواجن اليوم ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- م.م.ن.ص// تصريح بنشوة الفرح
- م.م.ن.ص// طبول الحرب العالمية تتصاعد، امريكا تزيد الزيت في ...
- ضد تصعيد القمع، وتضامناً مع فلسطين، دعونا نقف معاً الآن!
- التضامن مع الشعب الفلسطيني، وضد التطبيع بالمغرب
- شاهد.. مبادرة طبية لمعالجة الفقراء في جنوب غرب إيران


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - مأزق الحركة الشيوعية العربية ملاحظات حول عوامل الإضمحلال