أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - آفاق الصراع و دور الماركسية بعد حرب الخليج















المزيد.....



آفاق الصراع و دور الماركسية بعد حرب الخليج


سلامة كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 833 - 2004 / 5 / 13 - 08:53
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


( ملاحظة: كتبت هذه الدراسة بعد حرب الخليج الأولى سنة 1991)

1ـ بعد حرب الخليج، الحرب الإمبريالية ضد العراق والعرب، عدنا لنطرح الأسئلة ذاتها، التي طرحت خلال السنوات الماضية، لكن مع ملاحظة أن بعض هذه الأسئلة ضاع في خضم التطورات العربية، منها مثلاً الموقف من الإمبريالية، أهمية النفط، الوحدة العربية. وحينما نشير إلى أن الأسئلة أقدم من حرب الخليج، لا نقصد التهوين من الحرب، ولا من دلالاتها، بل إن قيمتها كبيرة، حيث أوضحت ما كان واضحاً «نظرياً»، وأحيت ما بدا أنه مات. وأكدت قضايا كانت واضحة منذ زمن.
لقد كان الحدث كبيراً، لأنه وضع العرب أمام مفصل حاسم: فإما المواجهة وتحقيق التقدم الذي طالما حلموا به، من خلال بدء مسيرة حقيقية لتحقيق الوحدة القومية، أو الهزيمة وتكريس الوضع الذي أوجده الاستعمار منذ قرن ونصف حينما هزم محمد علي باشا وهزم مشروعه التوحيدي التحريري.
وفي الزوايا الحادة تبدو الأمور واضحة، وهذا ما كان بعد 2 آب 1990. لكن الهزيمة ـ مرة جديدة ـ كانت هي النتيجة، وبالتالي عدنا نطرح الأسئلة ونحاول الإجابة عليها، رغم أن هذه الهزة المرة، أوضحت نظرياً قضايا بدت بديهية لدى الجماهير العربية (كل الجماهير العربية)، وهي جوهر عملية التقدم العربي، ضرورة الحرب ضد الإمبريالية والكيان الصهيوني، ضرورة تحقيق الوحدة القومية العربية. لكنها ـ أيضاً ـ أوجدت حالة قهر سياسي، مترافقة مع أزمة اقتصادية لاشك أنها سوف تدفع إلى انفجار، إلى إمكانية بدء نهوض جماهيري ثوري، سوف يحقق تغييراً عميقاً في بنية المجتمع العربي.
2ـ قبل الحرب الأخيرة، كان واضحاً أن الخيار الوحيد الممكن لتحقيق التقدم، هو خيار الطبقة العاملة، خيار الماركسية،. وأن البرجوازية عاجزة عن تحقيق هذا التقدم، لأنها في الغالب تتفكك أمام هجوم الإمبريالية، سواء الإقتصادي أو السياسي أو العسكري. و يمكن تفسير ذلك عملياً ونظرياً من خلال دراسة تجارب الأمم المتخلفة، والوطن العربي بضمنها. كما يمكن البحث في كيفية فشل التقدم البرجوازي في إطار سيطرة النظام الإمبريالي العالمي، وبفعل قوانينه، القوانين البرجوازية ذاتها، أو بالقوة العسكرية.
هذا ما فعله الاستعمار القديم مع تجربة محمد علي باشا، حيث جرّدت كل من بريطانيا وفرنسا قواتهما المتفوقة لتهزمه، وتفرض عليه التقوقع في حدود مصر، والتخلي عن حلم التقدم. وهذا ما حاولته مع مصر الناصرية، حيث حققت القوّات الصهيونية الهدف الإمبريالي (إضافة إلى أهدافها). هذا من زاوية، لكن هذه الحالة هي الحالة الاستثنائية، الحالة التي تلجأ إليها القوى الإمبريالية حينما تتمرد بعض القوى وتستطيع تجاوز مفاعيل النظام الإمبريالي (الطبيعية) و(الموضوعية). الحالة الاستثنائية هي حينما تستطيع قوة أن تمتلك طموحاً (توسعياً) وتحديثها، وأن تمتلك إمكانات عسكرية تسمح لها تحقيقها في إطار ميزان القوى المحيط.
أما في إطار العلاقات الموضوعية، فإن تفوّق الرأسمالية عالمياً وتحوّلها إلى رأسمالية احتكارية يجعل أية محاولة رأسمالية جديدة ـ وفي إطار سيادة الاقتصاد الحر، القائم على أساس المنافسة ـ تنهار، في المرحلة الأولى من خلال المنافسة. وفي المرحلة الثانية، مرحلة سيادة نظام التبعية، من خلال المنافسة وكذلك من خلال أن سيادة النظام الإمبريالي العالمي، توفر ظروفاً للرأسمال، تجعله ـ في الأمم المتخلفة ـ يتمركز في قطاع التجارة / الخدمات/ المال، حيث أن هذا القطاع هو الأكثر ربحية وبالتالي تكف البرجوازية عن أن تفكر في تحقيق التقدم الصناعي، ولذلك لا تفكر بالوحدة القومية، أو الاستقلال الاقتصادي.
وإذا كانت هزيمة محمد علي كافية لإنهاء المحاولة، فإن أزمة مصر الناصرية مختلفة بعض الشيء، حيث لم تنه الهزيمة المحاولة وإن كانت فتحت الأفق لانتصار فئات محلية، عملت على أن ترتبط بالنظام الإمبريالي. وإذا كانت البرجوازية التقليدية هزمت بعنف المنافسة في إطار سيادة الاقتصاد الحر، والسيطرة الاستعمارية المباشرة، فإن هزيمة البرجوازية الصغيرة تحققت بطريقة مختلفة، حيث سمحت السيطرة على السلطة بتفكيكها، ونزوع فئات منها إلى مراكمة الثروة، ثم الاندفاع نحو الارتباط بالسوق الإمبريالي. طبعاً الأمور أعقد من ذلك، حيث أن هذا التفكك هو سبب ونتيجة البنية العامة للدولة (البيروقراطية، عدم الثقة بالشعب، تصفية الحياة السياسية، التخلف السياسي..).
إن حاجة البرجوازية للسوق الإمبريالي وتداخلها معه، يوجدان أسس خلخلتها وتفككها. من هذا المنطلق فإن الطبقة العاملة هي القادرة على تحقيق التقدم، حيث لا تتحقق مصالحها الراهنة والمستقبلية، إلا بالخروج من النظام الإمبريالي العالمي. فهي المعنية بتحقيق الحل الجذري في الاقتصاد كما في السياسة. وإذا كان التنافس الاقتصادي يهزم البرجوازية وتستطيع الطبقة العاملة تجاوزه لأنها ترفضه بالأصل، فإن كل المحاولات العسكرية التي حاولتها البرجوازية قد فشلت أمام قوة الإمبريالية، بعكس الطبقة العاملة أيضاً.
3ـ طبعاً لا يجوز لنا أن نسحب هذا الحكم ببساطة على ما جرى أخيراً، رغم أن ما جرى يؤكد الحكم السابق. فمحاولة العراق جادة، وهي أكثر جدية من كل المحاولات السابقة، ويبدو أنها استفادت من هذه المحاولات في العديد من الجوانب، وتبرز جديتها في مستويين، الأول: التقدم الصناعي المتحقق، خصوصاً في مجال التكنولوجيا العسكرية. والثاني: التطور العسكري، قوة الجيش، عدده وكفاءته. ولاشك أنه أوجد اختلالاً في التوازن في المنطقة، لهذا استقدمت الولايات المتحدة قواتها (معظم قواتها)، ولهذه الواقعة دلالات كبيرة.
لقد أصبح العراق قوة إقليمية، وأصبح قادراً على أن يصيغ وضع المنطقة بما يحقق تقدمها، بغض النظر عن وعي السلطة الحاكمة فيه. فالتطور لا يتحقق بشكل واعٍ دائماً (أو في الغالب، في المراحل السابقة على الماركسية، على دور الماركسيين..)، فربما أفضت خطوة جزئية، فرضتها مصالح ضيّقة، إلى تغيير هائل. هنا نحن نحاول أن ندرس موضوعية الحدث، بغض النظر ـ كما قلنا ـ عن وعي السلطة الحاكمة، رغم أن في تصوراتها ما يوضح الوعي بقوة العراق الإقليمية، وبدوره التغييري.
ولاشك أن جوانب القوة، كانت جوانب عسكرية بالأساس، رغم أن في الاقتصاد تطوراً مهماً، قياساً للبلدان المتخلفة، وهذا ما دعا قوّات الإمبريالية الأمريكية، إلى التركيز على تدمير البنية التحتية (الطرق، الجسور، الاتصالات، والمصانع). لقد استطاع العراق تطوير الصواريخ متوسطة المدى، والأسلحة الكيماوية الفتاكة، وتقدم في مشروع التطور النووي، وفي صناعة الأسلحة الخفيفة والذخائر. وإن كان هناك من يهوّن من مقدرة الصواريخ العراقية، عليه أن يتابع هذه الموجة العارمة لتدمير الصواريخ العراقية، ومنع انتشار الصواريخ متوسطة المدى (أي منع وصولها إلى العرب)، إنها صواريخ فتاكة حسب تعبير جورج بوش، لهذا يجب أن تمنع عن العرب.
وفي مجال الجيش إمتلك العراق أضخم جيش في الأمم المتخلفة، وناهض جيوش بعض الدول المتقدمة، حيث بلغ مليون جندي نظامي عدا الاحتياط، وما يقارب 6000 دبابة، و850 طائرة، وآلاف قطع المدفعية، والصواريخ قصيرة المدى. وهذه ليست أرقاماً خيالية، ولا يقلل من قيمتها النتيجة التي آلت إليها الحرب، بل أن هذه النتيجة تطرح الأسئلة حول أسباب الهزيمة. من هذه الأسئلة مثلاً، هل يمكن للعرب أن يمتلكوا جيشاً أضخم عدداً ومعدات من هذا الجيش؟ وبالتالي كيف يمكن أن نهزم الإمبريالية مادامت هي عدونا، هي القوة التي نواجهها، وليس الكيان الصهيوني فقط؟ ألا يفرض علينا ذلك، البحث في طبيعة الحرب ذاتها؟.
لقد أصبح العراق قوة، وأراد أن يعدّل من طبيعة العلاقة في إطار النظام الإمبريالي العالمي، من خلال تعديله في طبيعة التحكم بالنفط (أي بزيادة دوره في التحكم بتحديد أسعار النفط)، ومن خلال «ابتلاع» الكويت، وتحوّله إلى قوة إقليمية عربية معترف بها، وبالتالي لتصبح بغداد هي المركز الذي يصيغ الوضع العربي. وكانت هذه العملية ـ لو نجحت ـ قادرة على أن تفتح طريق الوحدة العربية، وإن كان بشكل بطيء من خلال ابتلاع متتال للدول الأخرى، ومن خلال علاقات ( إقتصادية- سياسية) تقود إلى ذلك. لأن النظام في العراق، انطلق من التآلف مع الأنظمة القائمة، ومن السعي لهضمها، من خلال قوّته (وهذا هو معنى تأسيس مجلس التعاون العربي، ومعنى تفكيك حزب البعث، ومعنى مقررات قمة بغداد أيار 1990).
إذن امتلك العراق قوة كبيرة، وكان لديه تصور بتحقيق تحول في وضع العرب في إطار النظام العالمي. ولاشك أن هذه القوة، وهذا المطمح هما السبب الذي دعا الولايات المتحدة إلى استقدام قواتها (3/4 جيشها، وكل طائراتها، إضافة لقوات بريطانية وفرنسية، و القوات المصرية والسورية البالغة مجتمعة حوالي 65 ألف جندي)، حيث توضّح أن لا قوة إقليمية قادرة على ردع العراق، حتى الكيان الصهيوني الذي بدا لأول مرة في وضع صعب. بمعنى أن قوة العراق، كانت بحاجة إلى مواجهة «عالمية» ضده، حيث لا تفيد موازين القوى الإقليمية (فقد هزمت إيران قبل سنتين، ولا قبل لتركيا بمعركة بهذا المستوى... والكيان الصهيوني كان يشعر بخطر حقيقي، ليس من السهل التقدم نحوه). كانت بحاجة إلى «حرب عالمية»، حرب بحجم الحرب العالمية.
4ـ لهذا من الضروري أن نبحث في أسباب الهزيمة. ولاشك أن طبيعة الحرب كما تحددت، تشير إلى اختلال سياسي، يتمثل في تبلور تحالف عالمي (رأسمالي/ اشتراكي، وكتل من الأمم المتخلفة) ضد العراق، الذي بدا معزولاً، سوى من تأييد عدد محدود من الدول العربية (الأردن، اليمن، السودان، موريتانيا)، وبعض دول العالم (كوبا). هنا ندخل في مناقشة التصور السياسي للعراق. لاشك أن العراق كان يرى الاختلال الذي تحقق بعد انسحاب السوفييت من الصراع العالمي، وازدياد العدوانية الأمريكية على ضوء شعورها أن وضعاً مناسباً قد توفر كي تعيد السيطرة على العالم باعتبارها القوة العالمية الوحيدة. وهذا ما حاول الخطاب العراقي الإشارة إليه (اجتماع مجلس التعاون العربي في عمان، شباط 1990 وكذلك في قمة بغداد، أيار 1990).
لكن، رغم ذلك، بدا تفكير النظام العراقي وكأن المعركة هي معركة بين أمريكا ، التي سوف تدافع عن مصالحها، والعراق، أما الاتحاد السوفياتي، فيمكن أن لا يؤيد الغزو الأمريكي، ويمكن أن يتعاطف إلى حد معين مع العراق. ثم إن أوروبا واليابان، معنية بإضعاف أمريكا، وبالتالي فلن تؤيد نزوعها العدواني، وربما تقدم المساعدات ـ من طرف خفي ـ للعراق، بالتالي لا تحظى الولايات المتحدة بدعم دولي شامل، مما يحاصر الإدارة الأمريكية داخلياً، من خلال الضغط الشعبي.
ولاشك أن موقف الاتحاد السوفياتي بدا مفاجئاً، وأعطى الولايات المتحدة تغطية حاسمة، جعلتها تبدو القوة المدافعة عن الشرعية الدولية. وسمح لها استخدام كل شراستها في التدمير. وأضعف موقف العراق بشكل حاد. إن أحداً لم يتوقع موقفاً سوفييتياً بهذه الصيغة ويبدو أن أحداً لم يتوقع أن تكون المشكلات الداخلية كبيرة، إلى الحد الذي يسمح بانقلاب الموقف، ولا توقع أحد أن تمارس الفئة البيروقراطية المسيطرة الآن (مجموعة غورباتشوف ـ يلتسين) هذا الدور التابع للسياسة الأمريكية.
كما أن تناقضات الرأسمالية واضحة، ولاشك أنها تغري بتوقّع انشقاقات، أو على الأقل تجاهل أوروبا للسياسة العدوانية الأمريكية و«تورط» أمريكا منفردة في حرب تهز من سيادتها العالمية، وتفتح أفق انتقال قيادة العالم الرأسمالي إلى دول أخرى (ألمانيا الطامحة من جهة، واليابان الطامحة من الجهة الأخرى). لكن، ورغم وجود التناقضات ورغم استمرارها، فإن مشاركة بعض البلدان في الحرب (فرنسا، بريطانيا، إيطاليا..)، والدعم المالي الضخم المقدم من بلدان أخرى (ألمانيا، اليابان) يشير إلى أن هذه التناقضات محكومة بعلاقة «أخلاقية» معينة، أو بشكل أدق إن تداخل رأس المال، والدور الفاعل للشركات متعددة الجنسية، جعل هذه التناقضات محكومة بعلاقة ـ أخلاقية ـ أي خاضعة للسيطرة العامة للرأسمال الإمبريالي. هذه مسائل بحاجة إلى دراسة جادة، من أجل التحليل الدقيق لطبيعة هذه التناقضات و حديتها.
في هذا الوضع انعزل العراقي سياسياً، وحوصر اقتصادياً، في نفس الوقت الذي أُطلقت فيه يد الولايات المتحدة، لكي تدمر كل بنية العراق. وفي هذا الوضع الدولي خاض العراق الحرب. ونحن لن نعتبر أن هذا الوضع من الأسباب المباشرة للهزيمة، بقدر ما كان العراق يراهن على أن تصبح هذه التناقضات جزءاً من عملية إضعاف أمريكا، وتقليص مقدرتها على خوض الحرب. وبقدر ما وضعت هذه المراهنة في ميزان الحرب.
في الإطار العربي، توضح الانقسام بين الأنظمة، إلى أنظمة في «حلف» الولايات المتحدة (دول الخليج، مصر، سوريا، والمغرب إلى حد معين، وكل من لبنان، جيبوتي، الصومال، وهي دول مؤتمر قمة القاهرة)، وأنظمة مؤيدة للعراق (الأردن، فلسطين، اليمن، السودان، موريتانيا) وأخرى محايدة، بعضها أقرب إلى العراق (تونس، الجزائر) وبعضها متخبط (ليبيا). لكن هذا الانقسام كان أضعف على صعيد الجماهير، حيث كانت في الغالب مع العراق، أو ضد أمريكا. وإذا كانت حدثت نشاطات جماهيرية ضخمة في بعض البلدان (تونس، الجزائر، المغرب، اليمن، وبشكل أقل في الأردن) ومحدودة في أخرى (مصر) وصامتة في ثالثة (سوريا). أثرت في مواقف بعض الأنظمة (في تونس، الجزائر، المغرب). فإن كل هذا النشاط لم يصبح جزءاً من المعركة، سواء بالمشاركة المباشرة في الحرب، أو من خلال «هزهزة» عروش (كما كان أعلن الرئيس العراقي يوم بدء الحرب)، وبالتالي لم تضف فاعلية في الحرب، سوى فاعلية معنوية، هي محدودة في الحروب الضخمة، وهذا وضع «طبيعي» في ظروف الوطن العربي، ليس نتيجة ركود الجماهير، حيث أن أزماتها الاقتصادية دفعتها مراراً - ولازالت تدفعها ـ إلى النشاط والفعل. ولا نتيجة غياب الشعور بالعداء لأمريكا، حيث أبرزت الحرب هذا الشعور بشكله الكامل. بل إنه «طبيعي» نتيجة أزمة الحركة السياسية العربية، وعجزها عن تنظيم نشاط الجماهير، وتحويلها إلى قوة فعل حقيقية. لقد بانت أزمة الحركة السياسية منذ زمن، وللنظام العراقي دور في ذلك سواء من خلال حملات القمع ضد الحركة السياسية في العراق أو نتيجة انسحابه كحزب من النشاط القومي، وبالتالي قطع صلته بالجماهير العربية عموماً، وإقامة علاقاته مع الأنظمة الرجعية.
لكن أيضاً لا يمكن أن نعتبر أن هذا الوضع من الأسباب المباشرة للهزيمة، إلا بالقدر الذي كان النظام العراقي يراهن فيه على أن تُحدث الحرب هزة تقلب الوضع العربي برمته لغير مصلحة الولايات المتحدة، وتحوّل الحرب إلى حرب العرب ـ من خلال المشاركة المباشرة، وليس انطلاقا من الجانب المعنوي ـ ضد الإمبريالية الأمريكية، وبالتالي تُوسّع رقعة الحرب، وتضيف للعراق عوامل جديدة، عسكرية وسياسية، وبشرية، واقتصادية. ولعل مراهنة من هذا القبيل كانت تسكن أذهان القيادة العراقية.
إن ظروفاً كهذه لم تكن لتمنع حصول حرب طويلة على الأقل، ولا كانت تفرض بالضرورة هذه النتيجة، وإن كان لها تأثير فاعل. لقد حسم الصراع بواسطة الحرب. حرب فعلية، شرسة مدمرة، استمرت شهراً ونصف الشهر (17 كانون الثاني/1 آذار). وهي لأول مرة في تاريخ الحروب تكون حرباً جوية، يلعب الطيران الدور الحاسم فيها، ولا تكون مهمة القوات البرية سوى حصد ثمار يانعة. أن تتقدم لـ«تحرير» الكويت وتتوغل في الأرض العراقية.
من هنا، علينا تقييم أسباب هذه النتيجة عسكرياً. وإذا كانت المعلومات حول هذا الموضوع ضئيلة. فلا الإمبريالية الأمريكية أوضحت سير العمليات بشكل صحيح (حيث استخدمت التزوير الإعلامي على أوسع نطاق، وأظهرت قواتها بمفعول سوبرمان)، ولا أصدرت القيادة العراقية تقييمها لمجرى الحرب. والسبب الذي أدى إلى هذه النتيجة التي هي عكس الخطاب العراقي (الثوروي) منذ إنهاء كيان الكويت في آب 1990، وخصوصاً مع بدء سير العمليات الجوية يوم 17/1/1991، هذا الخطاب الذي بشّر بمحق القوات الأمريكية، بحرب برية طويلة (لأشهر، أو لسنوات)، وبشّر بتدحرج رؤوس الأنظمة العميلة، وبالخير العميم للعراق والعرب.
لكن ما يمكن أن نوضّحه الآن، وعلى ضوء المعلومات القليلة أن العراق بنى استراتيجيته العسكرية على أساس أن الحرب في النهاية هي حرب برية، لأن الطيران لا يحسم الحرب، وأنه من الممكن التغلب على «الحلقات التكنولوجية» باستخدام أساليب «بدائية»، أي باستخدام الخندقة**، حيث تبين أن القيادة العراقية أعدت في هذا المجال بشكل جيد، وبنت من الاستحكامات، والملاجىء، والمطارات، ومراكز القيادة، ما يجعلها تحمي جزءاً مهماً من قواتها، كما استطاعت التضليل بطرق جيدة. وفي الحرب البرية، يكون التفوق للعراق عدداً (مليونا جندي ـ بعد تجنيد الاحتياط ـ مقابل نصف مليون، وفي الجبهة نصف مليون مقابل نصف مليون، مع العلم أن الطرف المهاجم يجب أن يمتلك ثلاثة أضعاف الطرف المدافع***. هذه هي الاستراتيجية العسكرية التقليدية)، وعدة (حيث أن التفوق في الدبابات كبير ـ ثلاثة إلى اثنين ـ وفي المدفعية خمسة إلى واحد. وهذه أرقام نشرتها الدراسات العسكرية في حينه، وأشارت إليها القيادة العراقية)، إضافة إلى تفوق آخر يتمثل في مسألة التكيف مع الطبيعة، وهي ميزة الجيش العراقي. كما عملت القيادة العراقية على تحييد السلاح النووي الأمريكي (حيث استقدمت القوات الأمريكية صواريخ برؤوس نووية إلى مياه الخليج العربي) عن طريق الردع من خلال السلام الكيماوي (الكيماوي المزدوج) وجزئياً بقدرات نووية محدودة (حيث تبين بعد نهاية الحرب أن العراق يملك من اليورانيوم المخصب ما يصنع قنبلة نووية صغيرة أو هكذا أشيع).
لكن تبين أن الاستراتيجية الأمريكية تعتمد أسلوباً آخر، لم يكن في حسبان القيادة العراقية. فأولاً تبين أن تقدير القيادة العراقية للتطور التكنولوجي الأمريكي كان خاطئاً، حيث أُربكت الرادارات، وشُلت الصواريخ المضادة للطائرات وعُطلت الاتصالات، مما أعطى الفرصة للطيران الأمريكي كي يسيطر على أجواء المعركة، وأجواء العراق كلها. وثانياً: لجأت الإمبريالية الأمريكية إلى الحرب الجوية الطويلة، حيث استمر قصف الطيران ما يقرب من الشهر وعشرة أيام. وطال ـ على ضوء تحقيقه التفوق ـ ليس القوات العسكرية العراقية التي تبدو أنها أقل من تضرر في هذه العملية، بل طال كل أرض العراق، كل مرافقه الاقتصادية، كل الطرق والجسور، والمرافق العامة، والبريد، والوزارات والإدارات الحكومية، و الملاجىء والأسواق، ومحطات تكرير النفط، والمدارس.. الخ. لقد تقطعت أوصال العراق. لقد أصبح «مزقاً»، فقدت الاتصالات، والحركة، وبالتالي «انتهت» سيطرة السلطة على كل شيء.
لذلك قبل أن تتقدم القوات الأمريكية، طلب العراق بواسطة الاتحاد السوفياتي، وقف الحرب، وقرر الانسحاب من الكويت. ثم أعلن أنه سحب قواته (وبالتالي كانت الحرب البرية زائدة إذلالية). لقد حقق التفوق التكنولوجي، وتفوق الطيران نتيجة الحرب، وهذه مسألة لم تتوقعها القيادة العراقية، رغم أن الدراسات العسكرية الحديثة في الولايات المتحدة كانت تتحدث عن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في الحروب، والقائمة ـ من أجل تقليل الخسائر البشرية ـ على «الحرب من الجو». وهذا يظهر تخلفنا عن متابعة تطور استراتيجية الخصم. لكن أيضاً يوضّح الفارق الحضاري، وتخلف الوعي وقصور فهم الحقائق، والعجز عن استيعاب استراتيجية الآخر.
لكن أوضحت الحرب ـ أيضاً ـ اختلال البنية الداخلية، هشاشة الوضع الداخلي. وإذا كانت إيران ـ بالاتفاق مع الإمبريالية الأمريكية ـ عملت على إدخال مجموعات كبيرة مسلحة من العراقيين الفارين (أو المطرودين) عاثت فساداً، وأربكت القوات العراقية، خصوصاً أنها استفادت من «ضعف» السلطة بعد «تقطيع» البلد، فإن قطاعات من الشعب شاركت في التمرد، وأسهمت في السيطرة على مناطق واسعة في الجنوب، وفي الشمال.

طبعاً من الممكن لنظام ما أن ينتصر دون أن يحظى بشعبية كبيرة، حيث أنه من الممكن لتقدير جدي لميزان القوى أن يتجاوز مشكلة «الشرعية» الداخلية. لكن في العراق، ظهرت إشكالية غياب «المشاركة» الشعبية. ففي ظل تحول ميزان القوى لغير مصلحة الجيش العراقي، كان من الممكن ـ في حال توفر الدعم الشعبي ـ أن تتحول الحرب، إلى حرب شعب، وبالتالي أن تتقلص قيمة التفوق الجوي، وتأخذ الحرب مسار مقاومة شعبية، لكن ما جرى أبان أن الحرب ـ بدت ـ وكأنها حرب النظام ومن أجل مصلحة ضيّقة له. طبعاً، ربما كانت هي كذلك، رغم أن نتائجها كانت أكبر من النظام، بل استجار البعض بالقوات الأمريكية ضد النظام، ومن أجل التخلص منه. وهذا لا يقتصر على المعارضة السياسية، وبعض القطاعات الشعبية، بل إنه طال الجيش كما يبدو (إعدام قائد الدفاع الجوي، هروب ضابط كبير ـ قائد فيلق ـ..).
وهذا يطرح للمناقشة مسألة ـ ليس الديمقراطية بمعناها الليبرالي البرلماني، ففيها أيضاً يمكن أن تحدث نفس الظواهر ـ بل مسألة الدور الشعبي برمته، وبالتالي الأساس الذي «يوحّد» بين الشعب والسلطة، أو الذي يجعل السلطة هي سلطة الشعب.
لقد لعبت عوامل عديدة دوراً في خلق التناقض بين الشعب والسلطة. منها الوضع الاقتصادي الصعب، ومنها غياب الديمقراطية، وتكريس سلطة شمولية ودكتاتورية، ومنها الإنهاك الذي حدث بعد ثماني سنوات من الحرب مع إيران.
ثم بدت الحرب الجديدة غير مبررة لدى قطاعات شعبية، لأنها بدت وكأنها في مصلحة السلطة وحدها.
هنا يبرز تأثير الطابع الرأسمالي للسلطة واضحاً، ورغم أنه ـ في هذه الصيغة ـ إيجابي، بمعنى أن له مطامح التقدم، ويؤسس بنى لديها إمكانيات إيجاد تراكم في التطور (دور الدولة الاقتصادي، التطوير الصناعي، التركيز على تطوير الجيش)، إلا أنه ـ في المقابل ـ يؤسس لتفاوت في توزيع الثروة ، وانسحاق الفئات الشعبية (رغم أنه لا يجوز لنا المبالغة في هذه المسألة، لأن طبيعة تدخل الدولة في الاقتصاد، تسهم في توزيع الثروة، بما يخفف من الانقسام الحاد ـ أقلية ضئيلة مالكة، وأغلبية مسحوقة ـ ويوسع من الفئات الوسطى)، ثم أنه يؤسس للطابع الشمولي الدكتاتوري للسلطة، ويوسع من أشكال القمع (بما فيها القمع الأيديولوجي)، وهذا يعني الانفصال بين السلطة والجماهير.
إذن لقد تحققت الهزيمة، نتيجة ارتباك تقييم الوضع الدولي، وبالتالي تماسك القوى العظمى ضد الخطوة العراقية، وتحقيق التفوق العسكري الإمبريالي، دون أن يقيم النظام العراقي حساباً لذلك، ثم تخلخل الوضع الداخلي، نتيجة طبيعة السلطة ذاتها.
5ـ الآن ، ولكي نحدد أفق المستقبل، من الضروري أن نحدد النتائج المترتبة على هذا الحدث. فلاشك أن تأثير العراق في الوطن العربي قد تراجع، بعد مرحلة كان يعمل من أجل أن يكون هذا التراجع مؤقتاً، وهذا يعتمد على مدى تأثير الهزيمة في خلق انهيار داخلي شامل، أو في تخلي القيادة العراقية عن مطامحها، وتكيّفها التام مع السياسة الإمبريالية بتخليها عن مطامح تعديل ميزان القوى لمصلحتها.
لكن ما تحقق يشير إلى تعميق السيطرة الإمبريالية، والتأثير الحاسم للإمبريالية الأمريكية في السياسة النفطية، من خلال «احتلال» منابع النفط.وهذه مسألة هامة تحتاج إلى دراسة لتأثيرها في مجمل الاقتصاد العالمي، وفي تقوية التأثير الأمريكية، في إطار المنافسة العالمية بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة، وتطور مقدرة كل من اليابان وأوروبا الغربية (ألمانيا تحديداً) على المنافسة في السوق العالمية.
إن ما تبلور أولاً: على ضوء نتائج الحرب، هو السيطرة الأمريكية المباشرة، على النفط، من خلال وجود القوات الأمريكية في مياه الخليج العربي، ووجود مراكز لها في الكويت والسعودية والإمارات والبحرين. وثانياً: هو عمل على مساعدة الإمبريالية الأميركية على صياغة النظام الإقليمي العربي بما يحقق استقراراً لها، ويؤكد سيطرتها، من خلال تكريس التجزئة، و تسويد الأنظمة الأشد رجعية وتغيير الأنظمة التي تتمرد في وقت ما، وإعادة تحديد الدور الصهيوني في الوطن العربي، بما يحقق له مقدرة أفضل على المساعدة في ضمان السيطرة الأمريكية.
هذه عناوين أساسية، لكن يرتبط فيها السعي لتدمير بنية الجيوش العربية، التي تطورت خلال الأربعين سنة الماضية، وتدمير أسلحتها «الفتاكة» وتقليص حجمها بما لا يسمح بأن تخلّ أية دولة عربية بميزان القوى في المنطقة، لتكون القوات الأمريكية من جهة والقوات الصهيونية من الجهة الأخرى، هي حارسة هذا النظام الأقليمي العربي. كما يرتبط بها السعي من أجل تحقيق إنفراجات «ديمقراطية» هنا أو هناك، تسهم في تلميع صورة الولايات المتحدة، وتنفيس احتقانات نشأت.
وثالثاً: إذا كان النهب الإمبريالي للوطن العربي مستمر منذ عقود فقد أدت أزمة الاقتصاد الأمريكي إلى حاجته إلى النهب الأشرس، لهذا كانت حرب الخليج مناسبة لنهب عشرات المليارات من الدولارات، ولا شك أن السيطرة على النفط، وإعادة صياغة النظام الإقليمي العربي بما يحقق السيطرة الأميركية المطلقة، تهيئ الظروف لتعميق النهب. وبالتالي فإن قسماً أكبر من الرأسمال العربي سوف يصبّ مباشرة في مصلحة الاحتكارات الأميركية، مما يعني تفاقم المشكلات الاقتصادية الاجتماعية في الوطن العربي.
إذن على الصعيد العسكري تمركزت قوات إمبريالية أميركية حول حقول النفط ويجري الآن تحديد أدق لدور القوات الصهيونية. وعلى الصعيد السياسي، تعاد صياغة النظام الإقليمي العربي، بما يخدم السيطرة الأميركية، ويكرس أنظمة الرأسمالية التابعة. وعلى الصعيد الاقتصادي: يزداد نهب الوطن العربي نهب المواد الألوية (خصوصاً النفط) ونهب الرأسمال.
6ـ وإذا كانت هذه هي نتيجة الحرب، وإذا كانت الولايات المتحدة تعيد صياغة النظام الإقليمي العربي بما يحقق سيطرة أفضل لها، فإن «الحدث» كحدث، طبيعة المواجهة مع الإمبريالية العالمية، والشكل الذي إتخذته، وأثارها في الوطن العربي، إن هذا الزلزال الذي حدث أوضح «موضوعات» هامة، موضوعات سياسية وعملية، بدت مشوشة لدى الحركة السياسية العربية، ولدى قطاعات شعبية، وخصوصاً في إطار الماركسيين العرب، يمكن لنا أن نلخصها في النقاط التالية:
أـ إن النظام الإمبريالي العالمي ضد التقدم العربي، وإن كل ما تريده الاحتكارات الإمبريالية، هو نهب المواد الأولية، ونهب الرأسمال. لهذا فإن قواتها حارسة التجزئة، والمدافعة عن التخلف، والتي تعمل على تكريس التبعية، فقد سعت من خلال حربها الإمبريالية، إلى منع توحيد العراق والكويت، ومنع سيطرة أية قوة عربية على ثقل أساسي من النفط العربي، (نفط العراق والكويت) كما أوضحت حربها أنها ليست فقط ضد وجود جيوش عربية قوية، بل إنها معنية بتدمير كل البنية التحتية، لأنها ضد تحقيق التقدم الصناعي. إنها ببساطة مع استمرار التخلف الاقتصادي الاجتماعي (سيادة نمط الرأسمالية التابعة) ومع تكريس التجزئة (تكاثر الدول) من أجل نهب ثرواتنا، وبالتالي فإنها مستعدة إلى خوض الحرب ضدنا كلما فكرنا في تحقيق التقدم.
هذه حقيقة هامة، لأنها تعيد توضيح أن معركتنا الأساسية، هي مع الإمبريالية، وإن سعينا من أجل التقدم يفترض أن يتوافق مع وعينا هذه الحقيقة، والعمل على ضوئها (أي الاستعداد لحرب مستمرة مع الإمبريالية).
ب - إن النفط عامل حاسم في الاقتصاد العالمي، وأن الإمبريالية مستعدة لخوض الحروب «دفاعاً» عن «مصالحها القومية» وحفاظاً على سيطرتها عليه. وهذا يوضح أن تحقيق السيطرة العربية على النفط العربي مرتبطة بالمعركة الشاملة ضد الإمبريالية. كما يوضّح أنه يمكن من خلال السيطرة العربية على النفط إبتزاز النظام الإمبريالي العالمي، وفرض شروط لمصلحة التقدم العربي. لقد كانت واضحة أهمية النفط منذ ثلاثينات هذا القرن، وطرحتها الأحزاب القومية بقوة. وفي المواقع التي استلمت فيها السلطة أممت شركات النفط، لكن التطورات منذ أواسط السبعينات أدت إلى تناسي هذه المسألة، وغياب الاهتمام بها، رغم أن أواسط السبعينات هي سنوات تصاعد الاهتمام الإمبريالي الأمريكي بالنفط، وشعور الإدارة الأمريكية بأهمية «وضع اليد» على الحقول النفطية. لهذا من الضروري أن يعود الاهتمام به، وأن يصبح جزءاً من البرنامج المعبر عن تحقيق التقدم: فنخن معنيون بأن تصبح الثروات العربية للعرب. أي أن يعود شعار: «نفط العرب للعرب».
ج ـ إن اختلال الوضع الدولي، يطرح السؤال حول طريق الشعوب نحو التحرر. فكيف يمكن أن يتحقق تحرر الشعوب في ظل انسحاب الاتحاد السوفياتي من الصراع العالمي، واستفراد الولايات المتحدة بالسيطرة، واندفاعها نحو الهجوم؟ طبعاً، إن استفراد الولايات المتحدة واندفاعها نحو الهجوم وزيادة عمليات النهب التي تمارسها، سوف يفرض تصاعد نضالات هذه الشعوب، وبالتالي فإن طابع المرحلة القادمة، هو تصاعد الثورات الشعبية، تصاعد النضال ضد الإمبريالية. وفي هذا الوضع يطرح دور الماركسيين، من أجل تحويل هذه الثورات إلى ثورات منتصرة (وتطرح هنا تحديات، تحتاج إلى إجابات علمية، منها أسباب أزمة النظام الاشتراكي، ممكنات دور الماركسية على ضوء انهيار المعسكر الاشتراكي، وما هي البرامج العلمية التي يطرحونها من أجل أن يصبحوا قوة جماهيرية).
لكن أيضاً من الضروري البحث في أزمة النظام الإمبريالي، و إمكانات تعمق التناقضات في بنيته، ومقدرة الولايات المتحدة ـ على ضوء دورها العالمي الراهن ـ على حل أزمتها الاقتصادية. وبالتالي تحديد كيف يمكن أن يبلور النظام الإمبريالي العالمي الجديد؟. في المقابل من الضروري البحث في آفاق الوضع في الاتحاد السوفياتي، والبلدان التي كانت تحكمها أحزاب شيوعية. هل سوف تتحول إلى الرأسمالية؟ وأي رأسمالية يمكن أن تسود؟ الرأسمالية الصناعية المتقدمة أو الرأسمالية التابعة أي هل سيعترف بها دولاً صناعية متقدمة، أم سوف يلقى بها إلى القاع، لتصبح جزءاً من الأمم المتخلفة التابعة؟ أم أنه سوف يكون بمقدورها تجديد الاشتراكية؟.
إن النظام العالمي القديم (النظام القائم على تعايش الرأسمالية والاشتراكية في نظامين متعارضين) قد انتهى، وبدا أن نظاماً عالمياً قد تبلور، يقوم على أساس سيطرة القطب الواحد. لكن ما يبدو واضحاً الآن، أن العالم يعيش مرحلة انتقالية، مرحلة تنافس وإعادة ترتيب وتصارع، من أجل صياغة النظام العالمي الجديد، وطبيعة هذا النظام متوقفة على النتائج العملية للتنافس في إطار النظام الإمبريالي العالمي، ومقدرة البلدان الاشتراكية على تجديد ذاتها، وكذلك الطابع الذي سوف تأخذه ثورات الأمم المتخلفة. وهذه هي معركة السنوات المتبقية من هذا القرن.
د ـ لقد جربت البرجوازية تحقيق مطامحها من جديد، لكنها لم تستطع تحقيق هذه المطامح . وإذا كان فشلها يؤكد «القانون العام» الذي يقول بأن تقدم الأمم المتخلفة من مهمة الطبقة العاملة، فإن تكرار المحاولة يظهر مدى حيوية البرجوازية، واستمرار محاولتها من أجل تحقيق مطامحها. وهي تلجأ باضطراد إلى الوسائل القسرية، وفق آلية تنامي أداتها العسكرية، وتنامي خبراتها، وتوضح سياساتها بشكل أفضل (من محمد علي باشا، إلى البرجوازية في عشرينات هذا القرن ـ خصوصاً في مصر، وجزئياً في العراق ـ إلى الناصرية، ثم إلى العراق).
إن محاولة البرجوازية تحقيق التقدم بشكل قسري مستمرة، وربما تنجح في وقت ما، لكن اشكاليتها تجعل محاولاتها فاشلة، سواء نتيجة استمرار ارتباطها بالسوق الرأسمالي العالمي، ومحاولتها تعديل وضعها من داخله، أو نتيجة عجزها عن توحيد الجماهير الشعبية في معركتها، بسبب الطابع الاستغلالي لنظامها، ووعي الظروف المحيطة بشكل دقيق، وثم عجزها عن أن تجعل المعركة هي معركة عربية، معركة البرجوازية العربية، وبالتالي انحصارها في حدودها. وفي هذا الوضع يكون إتحاد الدول الإمبريالية ضدها كفيل بهزيمتها، إذا كان تطورها قد أوجد اختلالاً في ميزان القوى الإقليمي (ضد عبد الناصر لم تستقدم الولايات المتحدة قواتها، بل كانت القوات الصهيونية كفيلة بمهمة هزيمة مصر الناصرية، أما ضد العراق فقد كان وضع الكيان الصهيوني حرجاً، نتيجة اختلال معين في ميزان القوى لغير مصلحته).
إن المشكلة، كما تبدو واضحة، ليس في غياب النزوع البرجوازي نحو التقدم، بل في عجزه عن تجاوز مفاعيل النظام الإمبريالي العالمي، سواء المفاعيل الاقتصادية، أو المفاعيل العسكرية. في هذا الوضع ينطرح الخيار البديل، الذي طرح منذ نشوء الإمبريالية، وجاءت تطورات الوطن العربي لتؤكده، وهو خيار الطبقة العاملة، الخيار الماركسي.
هـ ـ لقد أوضحت الحرب أن العداء للإمبريالية الأمريكية وللكيان الصهيوني، مسألة مترسّخة في الوعي الشعبي، وأنها تحشد جماهير واسعة. وكذلك مسألة الوحدة العربية. هذا هو برنامج الجماهير الشعبية: محاربة الإمبريالية والصهيونية، وتحقيق الوحدة القومية العربية. ولاشك أن تحقيق ذلك يقلب وضع الوطن العربي جذرياً. هنا نلمس دقة «الحس» الشعبي والوعي التاريخي العميق لدى الجماهير.
وميزة هذه المسائل، أنها تحسم نقاشاً نشأ منذ السبعينات، ينطلق من تكريس الدولة القطرية، وانتهاء الهم القومي، وضياع هاجس العداء للإمبريالية، في خضم البحث عن لقمة الخبز. لقد تبين أن الجماهير وهي تبحث عن لقمة الخبز تلمس أن ذلك لا يتحقق إلا بهزيمة الإمبريالية، وتحقيق الوحدة العربية، هذا هو الوعي الشعبي المكون. وهو لاشك يلمس جوهر مسألة التقدم العربي، يتوافق معها إلى أبعد الحدود. هذا هو ما يسمى «الحس الشعبي».
وبالتالي فإن أي حركة سياسية لا تعتبر هذه الأهداف في جوهر برنامجها، لن تتحول إلى قوة شعبية وأداة فعل وتغيير. لذلك يجب أن يكون محسوماً الموقف من هذه الأهداف. أن تكون في جوهر أي برنامج ماركسي بديل.
و ـ لكن ما هو دور الحركة السياسية العربية؟
التخبط أولاً: حيث نحت منحى التأييد أو الشتم للعراق، وبالتالي كان الموقف الانفعالي هو الغالب. كما انطلقت من رؤية ضيّقة، فالذين شتموا أعلوا من شأن الديمقراطية، إلى حد اعتبارها فوق المسألة الوطنية (رغم أنهم ليسوا ديمقراطيين في الغالب) أو اهتزوا لتصفية كيان، من هذه الكيانات العربية الاثنتين والعشرين لأنهم مع حق تقرير المصير «للشعوب». والذين أيدوا، أيدوا موقفاً وطنياً عاماً.
لكن في كل الأحوال أوضحت مسيرة الحرب هزال وعجز الحركة السياسة العربية، وفشلها في تنظيم فورة جماهيرية ضخمة كان يمكن، في حال الاستفادة منها، تحقيق تغيير جدي في بنية الوضع العربي.
هنا نحن أمام السؤال: ما هو مكمن عجز الحركة السياسية العربية؟ لماذا تحولت إلى شراذم، ومجموعات مغلقة منعزلة هامشية؟ لماذا ضاع خطها الفكري، تبدد، تبخر؟ هذا باب من أبواب الحوار الهام والضروري، يجب أن يبدأ. لكن أيضاً، ينطرح السؤال: كيف تتأسس قوى فاعلة جادة، قادرة على أن تتحول إلى أحزاب جماهيرية ثورية؟
لقد كشفت حرب الخليج عن نهاية الحركة السياسية القائمة، عن نهاية مرحلة برمتها. فهل نبحث في طابع المرحلة الجديدة، وفي طبيعة القوى القادرة على أن تكون فاعلة فيها؟
7ـ هذا يطرح مسألة البديل الماركسي، فطريق الماركسية هو الطريق الممكن، هو الطريق الأجدر في صراع بهذا الحجم وفي ظروف كهذه الظروف. لهذا على الماركسيين تحديد طبيعة دورهم وتصورهم في الإطار العربي، وخطتهم من أجل أن يصبحوا القوة الفاعلة المؤثرة، سياسياً وعسكرياً أيضاً.
من هنا يبدأ طرح الأسئلة، من هنا يبد البحث الفعلي في المستقبل.



#سلامة_كيلة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التبشير بالخصخصة
- الطبقة العاملة واليسار في عصر العولمة
- اليسار السوري في واقعه الراهن
- مناقشة لفكر ملتبس المادية والمثالية في الماركسية
- المفكر والباحث الفلسطيني سلامة كيلة :المجتمعات المعاصرة تميل ...
- حول مشكلات السلطة والديمقراطية في الأمم التابعة ملاحظات في ص ...
- الاشتراكية أو البربرية
- العراق حدود-الوجود- الأمريكي والاستراتيجية البديلة -1
- نقاش حول العولمة في موضوعات المؤتمر السادس للحزب الشيوعي الس ...
- رحيل الأسد: إطلالة على التغيير المحتمل
- العـولمة آليات إعادة إنتاج النمط الرأسمالي العالمي
- الخيار الفلسطيني من الدولة المستقلة إلى الدولة ثنائية القومي ...
- في النقاش الماركسي الراهـن ضرورة الخروج من فوضي الأفكار
- الماركسية والثورة الديمقراطية ثورة أم ...........إصلاح؟!
- الماركسية والعقل الأحادي
- ملاحظات على ورقة المهام السياسية المقدمة إلى الإجتماع الثالث ...
- نقد التجربة التنظيمية الراهنة
- ملاحظات عن ماركس والعولمة
- عسكرة العالم: الرؤية الأمريكية لصياغة العالم
- بعد العراق نهاية عصر و بدء آخر


المزيد.....




- ??کخراوکردن و ي?کگرتووکردني خ?باتي چيناي?تي کر?کاران ئ?رکي ه ...
- عاش الأول من أيار يوم التضامن الطبقي للعمال
- اندلاع اشتباكات بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل أبيب ...
- الولايات المتحدة: اعتقال مئة من المتظاهرين المؤيدين للفلسطين ...
- اعتقال الشرطة الأمريكية متظاهرين في جامعة كولومبيا يؤجج الاح ...
- الحزب الشيوعي العراقي: معا لتمكين الطبقة العاملة من أداء دو ...
- -إكس- تعلّق حساب حفيد مانديلا بعد تصريحات مؤيدة لأسطول الحري ...
- انتشار التعبئة الطلابية ضد الإبادة الجماعية الإسرائيلية
- بيلوسي للطلبة المتظاهرين: انتقدوا إسرائيل كما شئتم لكن لا تن ...
- فرنسا: القضاء يوجه اتهامات لسبعة أكراد للاشتباه بتمويلهم حزب ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - آفاق الصراع و دور الماركسية بعد حرب الخليج