أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - سلامة كيلة - اليسار السوري في واقعه الراهن















المزيد.....


اليسار السوري في واقعه الراهن


سلامة كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 814 - 2004 / 4 / 24 - 11:25
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


معنى اليسار غامض لأنه متغيّر. فمن هو اليساري اليوم؟ و ما هي الأسس التي تحدّد اليسار؟
في الماضي كان الطيف اليساري عريض، أما الآن فقد تقلّص حتى يكاد يتلاشى. إنه مفكك و مفتت، بلا رؤية، أو برؤى أميل إلى اليمين. و الشك يسكن كل الأفكار التي طُرحت كمعبّر عن اليسار، من اليسار القومي إلى اليسار الماركسي. و إذا كانت السياسات التي إتّبعتها الأحزاب التي وصلت إلى السلطة ( البعث) هي التي شككت في أفكارها، خصوصاً أنها أنشأت سلطات إستبدادية، في الوقت الذي فشلت فيه في تحقيق الأهداف العامة التي رفعتها كشعارات، فإن اليسار الماركسي ( الشيوعي) بدا ملحقاً بهذه السلطات و مدافع عنها، و كان في العديد من المواقع يتماهى معها، الأمر الذي حمَّله وزرها.
لكن إنهيار النظم الإشتراكية هو الذي أوجد واقعاً جديداً، لأنه أوصل اليسار إلى نهاياته، و لوّنه بلن كاريكاتوري. لقد ظل اليسار أملاً و حلماً حتى بعد ظهور مشكلات أحزاب الحركة القومية، و بعد توضَّح التحاق الحركة الشيوعية بها، الأمر الذي فرض نشوء اليسار الجديد الذي أمل بتحقيق الحلم الإشتراكي. و بالتالي فإذا كان إتجاه من اليسار هو الذي أصبح في أزمة، فإن الإنهيار جعل اليسار عموماً في مأزق، و وضع تعبير اليسار في دائرة الوهم.
والآن، هناك لون باهت لليسار في السلطة، و آخر باهت كذلك في المعارضة و هو الذي واجه الإستبداد، و ناضل ضد الدكتاتورية، و كان مؤملاً أن يحافظ على يساريته. هذا الوضع نتج عن التحوّلات التي حدثت منذ خمسينات القرن العشرين، حينما أنتج الصراع الواقعي وصول حزب البعث عن طريق الجيش إلى السلطة. هذا الحزب الذي إتخذ صبغة يسارية و هو يسعى إلى تجاوز البنى التقليدية الإقطاعية التي كانت سائدة أواسط القرن العشرين، و المدعّمة من قبل الإستعمار. و كان ينزع نحو الحداثة كتعبير عن فئات وسطى فقيرة و خصوصاً في الريف. لكن وصوله إلى السلطة فرض تحوّله إلى " اليمين"، خلال عملية تحويل مجتمعي قاد هو تحقيقها، بدأت بتصفية الإقطاع عبر تطبيق الإصلاح الزراعي و توزيع الأرض على الفلاحين، ثم وضع إستراتيجية التنمية التي هدفت إلى بناء الصناعة، إضافة إلى تطوير البنية التحتية. وبالتالي أعيد تشكيل الريف طبقياً لمصلحة الفئات الوسطى بعد إزالة الإقطاع عبر تمليك الفلاحين مساحات من الأرض، كما توسعت الطبقة العاملة في ظل حقوق أساسية حصلت عليها ( العمل ثماني ساعات، الضمان الإجتماعي و التقاعد، و الأجر المتناسب مع الأسعار)، و تعميم التعليم المجاني. حيث رافقت هذه العملية ( وكان في قعرها) الميل للتبرجز ( التحوّل إلى الرأسمالية) الذي حكم تلك الفئات التي وصلت إلى السلطة، و الذي تحقق عبر النهب ( و ليس الفساد فقط) الذي طال الفائض المتحقِّق في الإنتاج، و عبر السمسرة ( الفساد).و لقد ترافق كل ذلك مع تكريس الدكتاتورية و تدمير السياسة في المجتمع، و إختراع طقوس تلهي البشر و تضللهم.
و بالتالي فإذا كان قد أوجد وضعاً جديداً، فقد تلاشى لمصلحة فئات راكمت الرأسمال و أخذت تبحث عن أفق لتطوير وضعها بالعلاقة مع الرأسمالية المهيمنة عالمياً.
وإذا كان الحزب الشيوعي هو أقدم أحزاب اليسار، حيث تأسس سنة 1924، فقد كان ميله اليساري مثلوماً منذ نهاية ثلاثينات القرن العشرين، حينما مال إلى دعم البرجوازية و إلى التأكيد على ضرورة إنتصارها لتحقيق " الثورة الديمقراطية"، و كذلك عدم المسّ بترابطها مع الإقطاع ذاك الترابط العضوي لأن البرجوازية عندنا هي بنت الإقطاع. الأمر الذي دفع الحزب إلى تقديم برنامج مطلبي في المدينة و الريف، دون أن يدعو إلى إنهاء الإقطاع حيث كان التكوين الإقطاعي هو المهيمن، و دون أن يؤكد على إعطاء الطبقة العاملة دوراً تغييرياً كان الوضع العالمي يؤشّر إلى ضرورته، خصوصاً و أن قسم كبير من الأحزاب الشيوعية في العالم كان يقود ثورات التحرر الوطني و تحقيق المهمات الديمقراطية، بالتحالف مع طبقات أخرى من الفلاحين و البرجوازية الصغيرة، لكن بقيادة هذه الأحزاب. بينما كان منطلق الحزب الشيوعي السوري هو ضرورة التطوّر الرأسمالي، و ضرورة النظام الديمقراطي. و لعل برنامج الحزب المقرّ في مؤتمره الثاني المنعقد سنة 1943/1944، و شروحات خالد بكداش عليه تبرز هذا الفهم. و لهذا كان نقدياً تجاه أحزاب " البرجوازية الصغيرة" المتسرّعة التي تطرح أهداف مستعجلة و توسع جبهة الصراع عبر فتح الصراع مع البرجوازية. و لقد دافع عن البرجوازية حينما تحققت الوحدة مع مصر سنة 1958 و بدأت بتحقيق الإصلاح الزراعي و التأميم. لكن وصول حزب البعث إلى السلطة أربك وضعه، خصوصاً أن " العلماء السوفييت" كانوا قد إخترعوا " نظرية التطوّر اللارأسمالي" و " التوجه الإشتراكي"،كما أن الخطوات التي بدأـ بالإصلاح الزراعي و التأميم و حقوق العمال و التعليم المجاني و التحالف مع الإتحاد السوفييتي، و هي الخطوات التي كانت التعبير عن " التطوّر اللارأسمالي" و " التوجه الإشتراكي"، فرضت التحالف و أدخلت الحزب الشيوعي بنية السلطة بعد إنقلاب 16/11/1970، رغم أن التحولات التي تحققت خلال سلطة البعث حوّلت من طبيعة القاعدة الإجتماعية للحزب الشيوعي. لأن الإصلاح الزراعي و التأميم و التصنيع حوّلت من طبيعة التكوين الطبقي في المجتمع، الأمر الذي أضعف من قاعدة الحزب خصوصاً و أن القضايا المطلبية التي كان ينادي بها قد تحققت ( و لو مؤقتاً)، مما أدخل الحزب في حالة " الموت السريري" و فتح الباب لبدء تفككه، في المرة الأولى على أساس برنامجي و نتيجة إختلافات حقيقية، و من ثم نتيجة إختلافات هامشية و تناقضات كانت تعتبر أنها "شخصية". و هذه نتيجة طبيعية لحالة " الموت السريري" تلك.
لقد إختفى الطابع اليساري، حيث أصبح التركيز على " الموقف الوطني" ، و أصبح الدفاع عن السياسة الوطنية للسلطة، محور سياسة الحزب، مع نقد ( أحياناً) لبعض المسائل الداخلية، و إشارات إلى " البرجوازية البيروقراطية"، و تلميح لأخطاء في السياسة الداخلية. و باءت بالفشل كل المحاولات لإعادة صياغة تصوّرات الحزب بما يجعله يدافع عن الديمقراطية و عن " أوضاع الشعب". وهي محاولات كانت تبرز هنا أو هناك، و ربما لازالت تبرز بين الفينة و الأخرى. و بالتالي لم تعد هناك قضية يدافع عنها، و لم يعد الهدف الذي يسعى إليه يبرّر كل يساريته. و لهذا فهو يسار لا يلعب دور اليسار، بل يقوم بالدفاع ( الخجول ربما) عن سلطة تحوّلت إلى سلطة فئات نهّابة، تستولي على كتلة أساسية من الفائض المنتج إجتماعياً، و تدفع الطبقات الشعبية إلى الفقر، و تلقي أقسام متّسعة منها في البطالة، و توسّع من إحتكار القلة في الإقتصاد كما في السياسة. دون أن يدافع الحزب عن كل هؤلاء المفقرين، و إن فعل فبشكل خجول و دون أن يحوّل هذه المسألة إلى قضية و هدف. و يمكن أن يشار في البرامج إلى بعض المشكلات لكنها تبقى حبيسة الأوراق دون أن تتحوّل إلى مهمات واقعية.
من ثمّ هل هو يسار؟ قلت أنه يسار لا يلعب دور اليسار، و يساريته ربما كانت قادمة من الماضي، لأنه الآن لا يعبّر عن الطبقة العاملة و عن الطبقات الشعبية، و لا يقدّم ما يفيد صيرورة التقدّم. كما أن البنى الفكرية التي لازالت متداولة لديه قديمة و متحللة، أو "جديدة" لا لون لها، فالتجديد لم يفضِ إلى تجاوز " العقلية" و السياسات القديمتين، و لم يقُد إلى تحديد دور جديد للحزب، رغم طموح قطاعات فيه إلى ذلك،و تعلُّق هذه القطاعات بحلم حقيقي لأن يلعب الحزب دوراً مختلفاً في اليسار و خارج بنية السلطة.
لذا فالحزب الشيوعي ( بفرعيه، مع ملاحظة تزمّت في الحزب الأم) يفتقد الرؤية الفكرية اليسارية، كما يفتقد البرنامج اليساري، إضافة إلى أنه في الهامش، أي هامش السلطة و هامش الحركة الإجتماعية.
في المقابل، جرت محاولات لتأسيس يسار مختلف، " ثوري" و " جذري" و " بديل"( و أضع هذه التعابير بين مزدوجين ليس بهدف التشكيك، بل من أجل الإحتراس و التمحيص). و لاشك في أن الخلاف في الحزب الشيوعي السوري الذي بدأ سنة 1969، و إكتمل بإنشقاق الحزب سنة 1972، كان هو المحاولة الجادة لتأسيس دور مختلف للحزب. و في هذا الإنشقاق كانت تتزامن لحظتان، الأولى هي تلك التي عبّرت عن السعي لإعادة الحزب إلى ما كان قد تبلور عليه الحزب في ثلاثينات القرن العشرين( أي قبل إستلام خالد بكداش أمانته العامة)، و لم تكن هذه عودة " أصولية"، حيث كان قد تبلور خط الحزب و دوره و تصوّره إنطلاقاً من وعي حقيقي للواقع ( كما معظم الأحزاب الشيوعية في العالم)، قائم على رؤية عربية في إطار وعي أن الإستقلال و التطوّر يفرضان أن يكون الحزب هو الفاعل الأساسي على أساس برنامج قومي ديمقراطي يهدف إلى تحقيق المهمات الديمقراطية العربية، و أولها مسألة الوحدة العربية. كما يسعى لأن يلعب دور البديل الحقيقي حيث يقود النضالات العربية من أجل الإستقلال و الوحدة.
هذه الرؤية و هذا الدور هما اللذان شكلا الأساس الصحيح لكل الأحزاب الشيوعية التي أثّّرت في مسار القرن العشرين، و كان تحوّل سياسات الحزب السوري نهاية ثلاثينات القرن العشرين هو الذي أسس لمأزق الستينات بعد إستلام البعث للسلطة. لهذا كانت مسألة الوحدة العربية ( و مسألة فلسطين) في جوهر الخلاف سنة 1969، كما كان الدور الذي يجب أن يلعبه الحزب في الصراع الواقعي مسألة بارزة، كحزب مستقل فاعل يقود النضال من أجل الوحدة و الديمقراطية و الحداثة ( وربما عبر ذلك عن ميول ظهير عبد الصمد أكثر من أي شخص آخر، و التي ظهرت قبلاً في الحزب مع ياسين الحافظ و الياس مرقص). و الحزب هنا كان يحاول أن يستعيد دوره الثوري التغييري لكن في زمن متأخر قليلاً ( ربما عقد من السنين)، حيث كان البعث قد سبق و إن بطموحات طبقية مختلفة.
و اللحظة الثانية هي تلك التي تبلورت في رؤية تنطلق من ضرورة الديمقراطية في إطار إقتصادي رأسمالي، و على ضرورة التحالف " في سبيل نظام ديمقراطي"، و التي كانت تتردد أكثر في مواجهة إنتصار الوحدة المصرية السورية و سلطة جمال عبد الناصر، ثم سلطة البعث في مراحلها الأولى، حيث كان الحزب مع " النظام الديمقراطي" على أساس الملكية الخاصة. لقد كانت الديمقراطية لحظة نقدية أواسط الستينات من القرن العشرين قبل أن تتراجع لمصلحة " التوجه الإشتراكي". هذه اللحظة أصبحت تصوّراً مركزياً في الحزب " المنشق" ( أو المنشق عنه)، أي ما أسمي للتمييز بالمكتب السياسي، نهاية سبعينات القرن العشرين، و ربما أسهمت ميول عبّرت عنها أحزاب شيوعية أخرى في الصين و الفيتنام، أي في ميل ربما كان مخفياً للتلميح لدور قيادي للحزب الشيوعي أو ربما بفعل الجو العام الذي تلا " الثورة الطلابية" في أوروبا و نشوء الميول للتخلص من إرث الماركسية السوفييتية في نشوئها، رغم أنها تراجعت بسرعة فائقة لتحل محلها اللحظة " الأصلية" المحددة " في سبيل نظام ديمقراطي"، و تأثراً أيضاً بالشيوعية الأوروبية. وهنا لم يكن إعتبار الديمقراطية هدفاً هو المشكلة، حيث كان من الضروري أن تصبح الديمقراطية هي الهدف نتيجة السلطة الإستبدادية التي فرضت نفسها و أصبحت قوة قهر، بل يمكن أن نحدّد المشكلة في الرؤية التي حكمت تحويل الديمقراطية إلى هدف " مركزي". هذه الرؤية التي كانت تعيد الماضي ( أي الدعوة إلى نظام ديمقراطي برجوازي) متجاهلة أن التحولات التي حدثت نتجت أساساً عن عجز الرأسمالية و عدم ميلها إلى تحقيق التطوّر، ومتجاهلة التطوّر الذي تحقق خلال أكثر من عقد و الذي غيّر من طبيعة البنية الإقتصادية الإجتماعية. و بالتالي إبتعادها عن تلمس مشكلات الطبقات الشعبية لمصلحة التركيز على الديمقراطية، الأمر الذي أسس لنشوء ميل ليبرالي خالص.
لكن المحاولة التي بدت أكثر يسارية فكانت التي عُرفت تحت عنوان اليسار الجديد، و أساسها رابطة العمل الشيوعي ( ثم حزب العمل الشيوعي) التي توصّلت إلى أن الرأسمالية قد " إنتصرت" بإستلام البعث السلطة، لهذا فقد غدت الثورة الإشتراكية هي الثورة الراهنة، و إن كان عليها أن تستكمل المهمات الديمقراطية في إطار " البرنامج الإنتقالي"، الأمر الذي جعلها تطرح ضرورة تحالف الطبقات الشعبية. و إذا كان الحزب قد رفض فكرة الحزب الشيوعي القائلة بتحقيق الثورة الديمقراطية البرجوازية و بقيادة البرجوازية لها، لمصلحة الثورة الإشتراكية بقيادة البروليتاريا، فقد طرح حكماً مسألة التغيير. و سنلحظ بأن محاكمته لمسألة "طبيعة الثورة" كانت أحادية بعض الشيئ، و تتجاوز ممكنات الواقع، فهي المعاكس للرؤية السالفة ( أي رؤية الحزب الشيوعي)، التي لا يحتمل الواقع ممكناتها. رغم أنه أضاف مسألة مهمة هنا تتعلق بالدور التغييري للحزب الماركسي، كما بالميل الكفاحي إلى حدٍّ ما.
و إذا كانت هزيمة حزيران سنة 1967 قد هزّت التكوين السياسي العربي، و دفعت إلى البحث عن أفق جديد، فقد أتت الثورة الطلابية في أوروبا سنة 1968 و الثورة الثقافية في الصين و أثر الثورة الفيتنامية، بما يمكن أن يسهم في إقتحام هذا الأفق. حيث دفعت باتجاه تأسيس يسار جديد حاول أن يعيد صياغة الرؤية بما يجعل الماركسية قوة تغيير دون أن يفلح في الغالب. لكن الأهم هو نشوء ميل لتبلور ماركسية نقدية، ربما كان ياسين الحافظ هو مطلقها آنئذ، والتي حاولت أن تتحول إلى قوة فعل في حزب العمال الثوري العربي. و لعل مأثرته في السياسة برزت في بلورة مفهوم الثورة القومية الديمقراطية التي تعني أن يحقق الماركسيين المهمات الديمقراطية ( الإستقلال و الوحدة و التصنيع و الحداثة) في صيرورة تفضي إلى الإشتراكية.
لكن بدا أن الميل الثقافوي سيطر إلى حدّ ما نتيجة التركيز المفرط على مسألة التخلف، و ملاحظة جانبه الثقافي/ الأيديولوجي و تجاهل ( أو عدم إيلاء) الأساس الإقتصادي الإجتماعي الذي هو يجب أن يهتزّ لكي يسهم في فتح أفق التحديث في " العقل". و لقد فتح هذا الميل على التركيز كذلك على الليبرالية و الديمقراطية الأمر الذي فرض نشوء الإتجاهات ذلتها التي نشأت في الأحزاب اليسارية الأخرى، و بالتالي تهميش كل مفهوم الثورة القومية الديمقراطية.

لكن هذه المحاولات، التي كانت تعاني من قصور ذاتي يمكن لمسه من طبيعة التصوّرات التي طرحتها و التي تتعلق في وعي الواقع، تعرّضت لملاحقات أمنية شديدة و لضربات قوية، وجهتها السلطة، تمثلت في حملات إعتقال واسعة طالت معظم كادرها و أعضائها خلال عقد الثمانينات. الأمر الذي أدى إلى إضعافها و شل نشاطها أو إنهائها، خصوصاً و أن " الصراع الطبقي" كان راكداً نتيجة تحولات عقد الستينات التي أشير إليها قبلاً. الأمر الذي جعل الصراع يتركز على ما هو سياسي، و يتمحور في السياسي دون الإقتصادي الإجتماعي، أي على الديمقراطية و المسألة الوطنية ( المسألة الفلسطينية خصوصاً)، أو هكذا كانت تتمركز في الوعي ، رغم الإشارات إلى ما هو إقتصادي و إجتماعي. الأمر الذي يشير إلى مشكلة تتعلق بوعي الماركسية ، هذه الماركسية التي غلّبت الإستناد إلى " النص/ المرجع" على وعي الواقع إنطلاقاً من أدوات منهجية هي أس الماركسية. مما أسس لتصوّرات " ماركسية" تتكيّف مع الواقع أو تعمل على تغييره إنطلاقاً من رؤية غير مطابقة. و بالتالي التوهان في صيرورة غامضة، و الغرق في دوّامة لا قعر لها.
إن إنهيار النظم الإشتراكية هو الذي صاغ وضع اليسار راهناً، هو الذي أسس لكل الإختلاطات الراهنة، لكن بالتأسيس على تكوينه السابق و مجمل الظروف التي مرّ بها. و إذا كان الحزب الشيوعي قد دعم السلطة إنطلاقاً من أنها سلطة إشتراكية، و تماهى معها على هذا الأساس ( في البداية على الأقل)، فقد كان في الواقع يؤيد سلطة رأسمالية، كانت " إشتراكيتها" تخفي ميل الفئات الريفية الساعية لتحقيق الإرتقاء الطبقي، كما كانت كل سياساتها " الإشتراكية" تهدف إلى "سلب" الثروة الممركزة بيد الإقطاع و الرأسمالية القديمة و إعادة تدويرها بما يصبّ في مصلحتها هي الذات، عبر عملية إقتضت تحقيق الإصلاح الزراعي و التأميم. بمعنى أنها لم تفكر لحظة بإنهاء الملكية الخاصة، التي هي أس الإشتراكية. و بالتالي كانت في إطار سياساتها هذه تفتح الأفق لتعميم الرأسمالية و ليس لتجاوزها. و الحزب الشيوعي هنا لم يخالف موقفه القديم المنطلق من دعم التطوّر الرأسمالي، و إن كان مطمحه هذا يتحقق عبر فئات إجتماعية غير تلك التي كان يدعمها و على الضد منها ( أي البرجوازية الوطنية)، لكن في إطار أيديولوجي مموّه عبر الشعار الإشتراكي ( المعبر عن إشتراكية الفئات الوسطي ). و لقد أفضت تلك السياسات إلى النهاية ذاتها، أي نشوء رأسمالية طفيلية تندمج تدريجياً بالنمط الرأسمالي العالمي، و تتحول إلى تابع في إطار بنيته كما البرجوازية القديمة التي تعود فتندمج بالرأسمالية المشكّلة حديثاً، ليشكلا معا الطبقة الرأسمالية الجديدة. إذن تحت شعار الإشتراكية كانت تتحقق الرأسمالية، و كان يجب أن تكون هذه الصيرورة واضحة إنطلاقاً من أن " الإشتراكية" التي تنادي بها هذه الفئات هي " إشتراكية البرجوازية الصغيرة" القائمة على تكريس الملكية الخاصة كحق مقدس في إطار الدعوة للمساواة و " الإشتراكية".
و الحزب الشيوعي هنا يؤسس على " الشكلي" في رؤيته للواقع، رغم أن ذلك يمكن أن يكون المعبّر عن " اللاواعي" في وعيه حيث كان يؤيد في الحقيقة التطور الرأسمالي في الواقع. و هو الآن لازال يدافع عن ما هو " يساري" في التجربة، إنه يدافع عن " القطاع العام" و عن حقوق العمال و عن ربط الأجور بالأسعار..... الخ.
لكن الإنهيار أطلق العنان لكل مفاهيم الليبرالية الجديدة، و إلى " الحلم" بالتطوّر الرأسمالي. و كما حدث في العالم من ميل اليسار ( أحزاب الإشتراكية الديمقراطية، و بعض الأحزاب الشيوعية) إلى إعتناق مبدأ الليبرالية الجديدة، فقد أصبحت " موضة" عندنا. و أصبح التحليل ينطلق من أن النظام الذي أقامه البعث هو نظام إشتراكي، لهذا فقد أصبحت مشكلة تجربة البعث ( و التجربة السوفييتية أيضاً) في أنها قطعت مسار التطوّر الرأسمالي الذي كان يتحقق بعيد الإستقلال. و هو التطوّر المفضي حتماً إلى الديمقراطية، أو حتى المترابط حتماً معها كما كان يبدو نهاية الأربعينيات و أواسط الخمسينات من القرن العشرين. ليعود الحنين إلى الرأسمالية، تلك الرأسمالية التي " علقت في الذهن" من خلال كتابات الرفيق خالد بكداش، الذي كان يحلو له إمتداحها و التأكيد على دعم تطوّرها، المرتبط حتماً بالديمقراطية. لقد عدنا إلى شروحات الرفيق خالد لبرنامج الحزب المقرّ سنة 1943/ 1944، و المؤكدة على النظام الديمقراطي القائم على أساس الملكية الخاصة، و المشيرة إلى أن الحزب يسعى لتحقيق ما حققته الثورة الفرنسية ( و ليس الثورة الروسية).

ولتعود الرأسمالية هدفاً راهناً، و ضرورة مؤكدة. و إذا كان خالد بكداش يصرّ على دعم البرجوازية الوطنية التي تسعى إلى تحقيق الإستقلال، و بالتالي المعادية للإمبريالية، فإن الدعم اليوم يوجه للرأسمالية حاف، أي الساعية للتكيّف في إطار النمط الرأسمالي العالمي من موقع التابع و الوسيط. بمعنى أن الحلم القديم كان يلحظ ضرورة التصنيع و التنمية، لكن " الحلم" الجديد يقبل التكيّف وفق مقتضيات الرأسمال الإمبريالي. الأمر يتعلق إذن بحتمية الرأسمالية حتى تلك التي يفرض النمط الرأسمالي العالمي وجودها الواقعي، أو دون البحث الجاد في ممكنات التطوّر الرأسمالي، و أصلاً هل التطوّر الرأسمالي ممكن؟ إذن لماذا لم يتحقق في الأمم المخلّفة التي لم تختر الإشتراكية؟ هذه الأسئلة ليست مطروحة و لا تبدو الحاجة ملحّة للإجابة عليها، رغم أنها في أصل الموضوع لأنها البداية لطرح السؤال الآخر المتعلق بالبديل.
هل برنامج الليبرالية الجديدة هو برنامج يساري، هذا البرنامج الذي يسكن أحلام يساريينا؟ إنه برنامج أقصى اليمين الذي يحكم العالم اليوم، و لكن أوضّح بأن البديل ليس هو الدفاع ( أو تأييد) برنامج السلطة، لأن ما يمارس يفترض الرفض و لأن الفئة التي نهبت هي التي تسعى لأن تحقق المكاسب من برنامج الإنفتاح و الإندماج في العولمة، و بالتالي فهي التي ستكون جزءاً من ( أو ربما المحرك ل ) برنامج الليبرالية الجديدة، الأمر الذي سوف يقود إلى زيادة إفقار الفئات الإجتماعية المختلفة و تهميشها بتزايد أعداد العاطلين عن العمل. و الديمقراطية في هذا الوضع مستحيلة ( أو ستكون شكلية في الغالب) لأنها حالما تربط بالرأسمالية " القائمة بالفعل"، أي الرأسمالية كما هي في الواقع ( و ليس في الذهن/ الخيال) تنفي ذاتها، لأن سياساتها التي تقود إلى الإفقار و التهميش تدفع إلى الرفض و المقاومة، الأمر الذي يتطلب الإستبداد و القمع و " النظام الأمني".
لكن خريطة اليسار تشير إلى أن الديمقراطية المرتبطة بالرأسمالية هي التي تسكن وعي قطاعات مهمة منه، و هذا الوعي يلقى مؤيدين متحمسين في كل أحزاب اليسار، التي في السلطة والتي في المعارضة. و إذا كان يبدو أنه يتعارض مع السلطة، فلأنه يرفض شكلها السابق، الذي كان يعتبر إشتراكياً أو الذي كان يُعتقد أنه إشتراكي، لكنه يلتقي مع ميول الفئات الرأسمالية التي نهبت و أصبحت تمثَّل جزءاً مهماً من أية طبقة رأسمالية ستتشكل في السنوات القادمة، بعد معاندة دامت سنوات بفعل " التنافس" بين الرأسمالية التقليدية القديمة و الرأسمالية التي تشكلت عبر نهب المجتمع و الدولة.
إذن البرنامج الذي يدافع عن السلطة هو برنامج يمين، و البرنامج الذي يدعو إلى الليبرالية هو برنامج يمين كذلك. و اليسار ضائع بين " اليمينين"، رغم أن "الوضع العالمي" و الأوضاع المحلية تدفع نحو اليسار. فالواقع العالمي الراهن يعيد اليسار إلى الذهن كما إلى الواقع نتيجة إندياح الرأسمالية و هجومها المتوحش، بقوة سلعها و رأسمالها و بقوة جيوشها، و بميلها إلى الإحتلال و السيطرة و النهب، الأمر الذي يقود إلى إفقار الشعوب، و بالتالي إلى جموحها إلى الإستقلال و التطوّر. و من ثم توضُّح الصراع ضد الرأسمال و الإستغلال، و إنكشاف طبيعة الصراع كصراع طبقي سياسي. و محلياً نتيجة الإفقار المتزايد و تصاعد أعداد العاطلين عن العمل، و أزمة الإقتصاد و الحاجة الجامحة إلى الديمقراطية، و إلى أن تعود الحركة الإجتماعية قوة تدافع عن مصالحها.
لهذا فإن أحزاب اليسار في أزمة عميقة، و ربما كان وضعها الراهن الذي هو نتاج تكوينها الماضي حكماً، يؤشر إلى أنها تنتهي، تتلاشى. إنها مفككة إلى أحزاب و بقايا أحزاب و مجموعات، و كلها ضعيفة تكاد لا تُرى، كما أنها منعزلة و على هامش البنى الإجتماعية، دون رؤية أو شعارات و دون أفق. و كما لاحظنا فهي – في الغالب- في اليمين، و دون مقدرة على الفعل. رغم الميول التي باتت ترتسم في الواقع و التي تشير إلى ميل لإعادة البناء، و التي تتبلور في ميل حواري و دفع نحو إعادة صياغة الرؤية ( وحدة الشيوعيين، المكتب السياسي، و مجموعات متفرّقة أخرى).
هذا التوصيف لا يهدف إلى إطلاق روح سوداوية، على العكس إنه يهدف إلى إطلاق حركة حوار من أجل تحقيق التجاوز لأن الواقع يفرض أن يعود اليسار قوّة. لهذا يجب أن يصبّ ذلك في السعي من أجل أن تعاد صياغة اليسار وفق الظروف الجديدة، و لكن من أجل حلم يساري حقيقي، حلم ينطلق من ضرورة تحقيق التطوّر ( الذي يعني بناء القوى المنتجة و تطوير الإقتصاد) و الديمقراطية و الحداثة، و في تحقيق مصالح الطبقات الفقيرة و أساسها الطبقة العاملة، في إطار تحقيق الإستقلال الحقيقي و تأسيس علاقات عالمية على أساس من التكافؤ و المساواة.
هذا الوضع يفترض الحوار و النقاش و الإنتقاد، حيث أصبحت كل مفاهيم اليسار، و اليسار الماركسي تحديداً، موضع شك و تشكيك و أيضاً موضع تساؤل، و لم يعد لليسار معنى حتى لو كان وهمياً. الأمر الذي يفرض إعادة تأسيس المفاهيم و الأفكار و الرؤى، , أولاً إعادة تشكيل الوعي و إمتلاك المنهجية التي تسمح بوعي جديد للواقع و للتجربة. كما يفرض العودة للتعبير عن الحركة الإجتماعية و عن الطبقات الشعبية خصوصاً، من أجل حلم بديل. خصوصاً و أن الطيف اليساري متعدد و واسع، و التبلورات التي تعمل على تأسيس مختلفٍ، تنشأ و تعمل على صياغة ما يمكن أن يفضي – عبر الحوار- إلى أفق آخر.




#سلامة_كيلة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مناقشة لفكر ملتبس المادية والمثالية في الماركسية
- المفكر والباحث الفلسطيني سلامة كيلة :المجتمعات المعاصرة تميل ...
- حول مشكلات السلطة والديمقراطية في الأمم التابعة ملاحظات في ص ...
- الاشتراكية أو البربرية
- العراق حدود-الوجود- الأمريكي والاستراتيجية البديلة -1
- نقاش حول العولمة في موضوعات المؤتمر السادس للحزب الشيوعي الس ...
- رحيل الأسد: إطلالة على التغيير المحتمل
- العـولمة آليات إعادة إنتاج النمط الرأسمالي العالمي
- الخيار الفلسطيني من الدولة المستقلة إلى الدولة ثنائية القومي ...
- في النقاش الماركسي الراهـن ضرورة الخروج من فوضي الأفكار
- الماركسية والثورة الديمقراطية ثورة أم ...........إصلاح؟!
- الماركسية والعقل الأحادي
- ملاحظات على ورقة المهام السياسية المقدمة إلى الإجتماع الثالث ...
- نقد التجربة التنظيمية الراهنة
- ملاحظات عن ماركس والعولمة
- عسكرة العالم: الرؤية الأمريكية لصياغة العالم
- بعد العراق نهاية عصر و بدء آخر
- صدام مصالح و ليس صدام حضارات - وضع الثقافة في الحرب الإمبريا ...
- جريدة الكترونية هائلة يمكن أن تلعب دورا كبيرا في هذا الوضع ا ...
- الانتفاضة والسياسة


المزيد.....




- إعلان مفاجئ لجمهور محمد عبده .. -حرصًا على سلامته-
- -علينا الانتقال من الكلام إلى الأفعال-.. وزير خارجية السعودي ...
- عباس: واشنطن وحدها القادرة على منع أكبر كارثة في تاريخ الشعب ...
- شاهد.. الفرنسيون يمزقون علم -الناتو- والاتحاد الأوروبي ويدعو ...
- غزة.. مقابر جماعية وسرقة أعضاء بشرية
- زاخاروفا تعلق على منشورات السفيرة الأمريكية حول الكاتب بولغا ...
- مسؤول إسرائيلي: الاستعدادات لعملية رفح مستمرة ولن نتنازل عن ...
- وزير سعودي: هجمات الحوثيين لا تشكل تهديدا لمنتجعات المملكة ع ...
- استطلاع: ترامب يحظى بدعم الناخبين أكثر من بايدن
- نجل ملك البحرين يثير تفاعلا بحديثه عن دراسته في كلية -ساندهي ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - سلامة كيلة - اليسار السوري في واقعه الراهن