سلامة كيلة
الحوار المتمدن-العدد: 892 - 2004 / 7 / 12 - 06:13
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
ربما لم تكن الإدارة الأميركية تتوقع أن تُجابه بمقاومة جادّة و بحرب يومية مؤذية في العراق، حيث كانت قد رسمت إستراتيجيتها بتوقع مقدرة دنيا على المقاومة لدى الشعب العراقي، المنهك نتيجة إستبداد دمويٍّ إستمرَّ لأكثر من أربعين سنة. و بالتالي على ميلٍ لديه ل " إمتداح" مخلِّصه. الأمر الذي جعلها تفكِّر في الحدود الدنيا من الخسائر و الإرباكات. لكن أصبحت المقاومة العراقية قوة فاعلة، و ذات أثر مهم على صعيد " إيقاع الخسائر البشرية" بالقوّات الأميركية المحتلة. و بدا أنها تشمل كل العراق، ومن ثمَّ أنها تمثِّل كل العراق.
و ربما كانت المقاومة مؤذية حقيقة و مؤرِّقة للإدارة الأميركية، نتيجة الخسائر الجدِّية، كما نتيجة " العجز عن السيطرة" التي أصبحت واضحة. لكن من المبكِّر التفكير بأن " اللعبة إنتهت" و أن الحرب قد حُسمت، و بالتالي فإن خيارات الإدارة الأميركية باتت محدودة و تتمثّل في الرحيل بأقلِّ قدر ممكن من التكاليف. لاشك في أن تبسيطاً هائلاً يحكم هذه النظرة التي باتت تتردد منذ " إكتشاف" أن من الممكن إيقاع الخسائر بالقوّات الأميركية، إنطلاقاً من أن المجتمع الأميركي لا يحتمل هذا الحجم من الخسائر الأمر الذي يجعله قوة ضغط على الإدارة من أجل الإنسحاب من " المستنقع العراقي"، أو إسقاط الرئيس بوش في الإنتخابات المقبلة التي باتت قريبة جداً. و هي نظرة تقوم على أساس واهٍ لأنها تنطلق من أن الضغط فقط كافٍ لتحرير العراق، و يتمثّل الضغط في إيقاع الخسائر بقوّات العدو من أجل أن يحدِّد "الرأي العام" الأميركي نتيجة الحرب، و دون أن تتبلور على الأرض قوّة مقاومة حقيقية تكون قادرة على أن تؤسس دولة بديلة. لهذا من الضروري التأكيد على أن الحرب هي التي تسمح بهزيمة القوّات الأميركية، و لكي يكون ذلك ممكناً يجب تعزيز وضع المقاومة، حيث أن النظرة المؤسسة على إنتصارٍ سريع لا تسمح بالنظر النقدي لوضع المقاومة، و بالتالي لا تساعد في تطوّرها، لأنها توحي بقرب الإنتصار، و بالتالي تؤسس لحالة من الرضا تجعل التفكير في وضع المقاومة ذاتها ليس ذي معنى، رغم الحاجة الماسَّة للتفكير العميق في وضعها، فالحرب طويلة و الإدارة الأميركية معنية بإستمرار سيطرتها، و كذلك في توسيعها، و هي لم تبدأ سياستها التوسُّعية نتيجة خطأ أو نتيجة " نزوة".
وهي تعرف أنها تدخل حرباً، , أنها – بالتالي- سوف تتكبَّد خسائر.و ربما جاءت نتيجة الواقع الفعليّ أكبر مما توقّعت، لكن المسألة ليست " تجربة" و لا هي تمرين، بل أنها من أجل أهداف يمكن أن نقول أنها مصيرية، لأنها تتعلق بوضع أميركا العالمي، وضعها الإقتصادي تحديداً، و بالتالي وضعها كقوة قائدة و مسيِّرة لعالم يخدم مصالحها، و تُحقِّق فيه درجة " التفوُّق المطلق" الذي يسمح لها الحفاظ على " أبدية" السيطرة و الهيمنة و التسيير. في عالم يجب أن يصبح "من الدرجة الثانية"، حيث يصبح أغنياء أميركا و أصحاب شركاتها العملاقة هم أباطرة العالم و مالكيه، بينما تتحوَّل الشعوب إلى وضعٍ يشبه وضع العبيد و الخدم، و تخضع الشركات الإحتكارية الأخرى لسيطرة الشركات الأميركية. بمعنى أن تتحوَّل الرأسماليات الأخرى من ندٍّ و منافس إلى " متضَمَّن" و " مُسيطر عليه" و يعمل عبْر الشركات الأميركية.
لهذا فإن سبب الحرب يفرض أن تُخاض إلى النهاية، حيث أنه لا يُعطي المرونة الكافية للتراجع، لآن ذلك سيعني أن تتحوّل الرأسمالية الأميركية و تتحوّل الدولة الأميركية إلى " المرتبة الأدنى"، أي لتتنحّى عن كونها القوة الإقتصادية المحرِّكة للإقتصاد العالمي، و القوّة السياسية القائدة لعالم خاضعٍ و ملحق، لمصلحة قوّة أخرى أو لمصلحة مجموعة من القوى في إطار عالم متعدِّد الأقطاب ( كما تطرح أوروبا و روسيا و الصين). و هذا يؤسس لإنهيار عميق في وضعها الإقتصادي الذي تشكَّل على أساس أنه الإقتصاد المسيطر و المحرِّك و المركز الجاذب للإستثمار و الأيدي العاملة، و بالتالي على أساس أن الدولار هو العملة العالمية الأمر الذي فرض أن تكون " كمّيته" في السوق بما يساوي الحاجة العالمية. لأن التراجع يعني هنا مفاقمة مشكلات إختلال الميزان التجاري لمصلحة الإستيراد، و بالتالي مفاقمة المديونية المرتفعة التي تقارب نصف الخد القومي الأميركي، و إنهيار الدولار الذي لا يعود " المعادل" و " وسيلة المبادلة"، ليصبح العرض أكبر من الطلب بسبب الكمية الضخمة المتداولة الآن، و بالتالي يجعل إنهيار قيمته مسألة حتمية، و هذا ما يجرُّ إلى إنهيار مجمل الإقتصاد الأميركي.
لهذا فإن السعي الأميركي لتأسيس " النظام العالمي الجديد" يهدف إلى ضمان التفوّق و السيطرة و إعادة إنتاج القوّة الأميركية. و السيطرة على العراق تأتي ضمن ذلك لهذا فهي مسألة مصيرية، كما أن توسيع السيطرة إلى أمم أخرى مسألة مصيرية كذلك، لأن التحكُّم بالنفط و " إمتلاك" الأسواق ضرورة بات يفرضها واقع الإقتصاد الأميركي في علاقته بمجمل الإقتصاد العالمي. الأمر الذي يجعل الحفاظ على الإحتلال ( أو تجميله و إستمرار السيطرة الأميركية) مسألة جوهرية بغض النظر عن الخسائر و عن " الصعوبات" التي يواجهها الجيش الأميركي في سعيه لضمان السيطرة و التحكُّم، رغم أن الإدارة الأميركية سوف تعمل على تقليل الخسائر و سوف تحاول "ضبط" الوضع و ضمان أوسع دعم عالمي يمكن أن يضفي "الشرعية" الضرورية على إحتلالها. و بالتالي يمكن أن تُقْدم على تقديم " تنازلات" لرأسماليات أخرى، و لكن بالإستناد إلى حفاظها على مصالحها، الأمر الذي يجعل تلك التنازلات هشة و محدودة و غير ذي معنى.
و لهذا فإن الإنسحاب من العراق يبدو مستحيلاً الآن، لأن مصالحها أعمق من أن يهزّها مستوى المقاومة الراهنة، و بالتالي فهو يحتاج إلى حرب حقيقية طويلة المدى. و الإشكال الأساسي هنا يتمثّل في غياب الرؤية و البرنامج، حيث أن " النقطة" المطروحة هي تحرير العراق فقط رغم أهميتها و أساسيتها، لكن المسألة أوسع من ذلك و هي تتعلق بتأسيس عراق ديمقراطي يكمل نهضته الإقتصادية و الثقافية، و يلعب دوره الحقيقي في الإطار العربي وضد المشروع الصهيوني، عراق يحقِّق مصالح الطبقات الشعبية و يضمن حياتها الكريمة. لهذا فإن برنامج المقاومة يجب أن يعبِّر عن مصالح تلك الطبقات، و أن يقدِّم لها الأفق و المستقبل، من أجل أن تشكِّل القاعدة العريضة للمقاومة، و أن تحوِّلها إلى مقاومة شاملة ضد الإحتلال الأميركي، و ضد أدواته و متملّقيه و عملائه.
إن غياب الرؤية و البرنامج يؤسسان لضعفٍ حقيقيٍّ في وضع المقاومة، و يسمحان بأن يُستغلَّ إسمها لمن شاء ( و حتى لقوى الإحتلال)، لكي تُرهب الناس و تشوِّش على الهدف الأساسي الذي هو طرد الإحتلال و تحقيق الإستقلال من جديد. حيث يقود ذلك لأن تغيب المرجعية المحدِّدة للسياسات و الضابطة للممارسات و المؤسِّسة لسلطة شعبية بديلة لتنظيم الحياة اليومية و ضمان أمن المواطنين.
و لاشك في أن وهم " الإنسحاب الأميركي السريع" سوف يعزِّز من غياب الرؤية و البرنامج، و يزيد من إنتشار الفوضى و الأخطاء التي تودي بالعراقيين، و إلى إظهار أن " الإنتصار" سوف يتحقَّق بقوى غامضة ( ربما عدا حزب البعث الذي يلاقي نتيجة حكمه توجُّسات و إعتراضات كبيرة)، و بملمح لرؤيتها ليس مريحاً يبرز عبر لمس أن القوى الأصولية هي التي تقاتل لتكون هي البديل، الأمر الذي يفرض القتامة على أي إستقلال.
إذن، إذا كانت الإدارة الأميركية تعاني من " ضعف" و من " إرتباك"، فإن المقاومة تعاني كذلك من ضعف و من إرتباك. و هذا يعزِّز الرغبة الأميركية في إستمرار الإحتلال، لأن ضعف و إرتباك المقاومة سوف يعطيها الأمل بأن ها قادرة على أن تسحقها، عبر عزلها عن الشعب و تلويث صورتها و توجيه الضربات المدمِّرة لها. و بالتالي يعزِّز من ميلها لعدم تقديم تنازلات أو التراجع أو الإنسحاب. فقد بدأت الحرب و لن يكون التراجع عنها أسهل من إقرارها، على العكس سوف يكون أعقد و أكثر صعوبة، خصوصاً و أنه يرتبط بوضع أميركا العالمي، و لا يتعلق بتدخُّل جزئيٍّ يمكن التخلّي عنه حينما لا يبدو مفيداً. و بالتالي سوف تستفيد من أي إرتباك في وضع المقاومة من أجل أن تضمن سيطرتها و ضمان الهيمنة على النفط و السوق و "إعادة الإعمار".
و إذا كانت خسائر الجيش الأميركي كبيرة، فإن عقود " إعادة الإعمار" التي وقَّعها البنتاجون ( بديلاً عن العراقيين) مع الشركات الأميركية، و التي هي بعشرات مليارات الدولارات، تغري بإستمرار الإحتلال بغضّ النظر عن القتلى، خصوصاً و أن الجيش الأميركي يتحوَّل إلى جيش مرتزقة من خلال تجنيد المهاجرين الذين يريدون الحصول على الجنسية الأميركية، و لقد كان معبِّراً تصريح دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي بعد الحادي عشر من أيلول 2001 بأيام معدودة، و الذي أشار فيه إلى وجود ما يقرب من مائتي و خمسين ألف مرتزق " يمكن التضحية بهم"، فتفوُّق أميركا يحتاج إلى تضحيات كبيرة و جريئة.
لهذا فإن الحرب ضد الدولة الأميركية قد بدأت، لكنها لن تتلاشى بسرعة، الأمر الذي يفرض إعداد إستراتيجية واضحة للمقاومة، و بلورة رؤية جديّة، و تحديد البرنامج الذي يعبِّر ليس عن طرد الإحتلال فقط،فلكي ينجح ذلك يجب أن يعبِّر عن مصالح الطبقات الشعبية، و أن يمثِّل تصوُّرها للإستقلال و التكوين الديمقراطي و التطوُّر المجتمعي، و أي تسرُّع في إعلان النصر، أو تأسيس إستراتيجية على أساس النصر السريع، سوف يُفشل المقاومة و يعزِّز من الوجود الأميركي. يجب أن يتطوَّر النشاط العسكري ضد الإحتلال الأميركي، و لكي يتحقّق ذلك يجب أن يتبلور البرنامج , أن تتحدَّد الرؤية، لأن ذلك هو الذي يجعل المقاومة مقاومة شعبية، و يوضِّح أن لها برنامجها البديل، و بالتالي أنها السلطة البديلة.
فالفوضى لا تنتصر، و الغامض لا ينتصر، و هذان هما نقطتا ضعف المقاومة العراقية.
#سلامة_كيلة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟