أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد سمير عبد السلام - من السلب إلى اكتشاف الحياة .. قراءة في نص متشردا في باريس و لندن ل جورج أورويل















المزيد.....

من السلب إلى اكتشاف الحياة .. قراءة في نص متشردا في باريس و لندن ل جورج أورويل


محمد سمير عبد السلام

الحوار المتمدن-العدد: 3304 - 2011 / 3 / 13 - 03:45
المحور: الادب والفن
    


في نصه الروائي (متشردا في باريس و لندن) –Down and Out in Paris and London - ترجمة الشاعر سعدي يوسف – الصادر عن دار المدى بسوريا 1997 – يناقش جورج أورويل الدلالات الإنسانية ، و الجمالية ، و الثقافية الملازمة لتجربة التشرد في المجتمعات المدنية الراقية من خلال تداعيات النماذج الشخصية الفريدة للمتشردين ، و القوى المتضادة التي تتنازعها ؛ مثل الحتميات الشمولية المحددة للوضع الاجتماعي ، و البحث المستمر عن وجود إنساني فردي من داخل فضاءات تشبه الجحيم ، دون أن يلجأ أورويل لاستبطان المتشرد من الداخل ، أو يحيل القارئ إلى حالات الكآبة ، أو الحزن ، أو الصمت ؛ فقد حرص على الاحتفاء بالحياة الإنسانية بحد ذاتها في المتشرد ، و في أساليبه الحياتية ، و قدرته على الأداء الديناميكي في التعامل مع مشكلات الجوع ، و العمل ، و أماكن السكن ، و النظافة ، و نقص الملابس ، أو تشوهها ، و غير ذلك .
لقد ارتكز جورج أورويل على الجمع بين وهج الاكتشاف الإبداعي المتجدد لعوالم المتشرد ، و السلبية الآلية الدائرية التي وضع فيها بصورة قهرية ؛ نتيجة لفقدان العمل ، أو انعدام المواءمة بين اتجاهه الذاتي ، و السياق الواقعي ، و غيرها ؛ و من ثم فالنموذج الذي يقدمه أورويل للقارئ لا يحول تجربة التشرد إلى عنف مضاد للمجتمع ، و لكنه الشخص المتحضر الذي يكتشف نفسه دون أن يخرج من السلبية القهرية من جهة ، و لا يستسلم لمشاعر الكآبة ، و إغواء الموت ، و الانهزامية من جهة أخرى ؛ و من ثم فقد غلبت على السارد وظيفة اكتشاف العوالم الفريدة للشخوص ، كما سمحت بمناقشاته العقلانية لماهية المتشرد ، و مطالبه الإنسانية المحدودة في الثقافة المعاصرة .
و أرى أن النزعة الإبداعية الإنسانية العامة هي ما يميز فكر أورويل في هذا العمل ؛ إذ يقدم اقتراحاته الفلسفية من داخل النموذج الشخصي لتلك التجارب التي تقع على هامش الحضارات القوية ، و لا يفرض حلولا من الخارج ، أو من خطابات سياسية بعينها ، و كأنه يقف عند مستوى نقد أسبقية الوضع الاجتماعي على الفرد ، و كذلك هيمنته الكلية على سلوكه ، و حريته .
و قد بنى أورويل نصه الروائي على ثلاثة محاور رئيسية ؛ هي :
الأول : اكتشاف حالات التشرد ، و جمالياتها من خلال تجربة البطل في باريس ، و تتمركز حول خبرات البحث عن العمل ، و الجوع ، و رهن الملابس ، و غسل الصحون ، و غيرها .
الثاني : تجربة التشرد في لندن ، و يعاين فيها البطل تواتر أزمة المبيت ، و تفاصيل الازدحام ، و القهر ، و إلحاح الأزمات الحتمية في النوم ، و النظافة ، و الطعام ، و غيرها .
الثالث : الأنساق التأويلية ، و الفكرية التي يثيرها السارد حول شخصية المتشرد ، و حقه في الحد الأدني للحياة من خلال كسر حاجز العزلة الذي يقصيه عن الفئات الأخرى من المجتمع .
و يمكننا رصد أربع تيمات فنية في النص ؛ هي :
أولا : بين السلبية الدائرية ، و ديناميكية الأداء .
ثانيا : دلالات ثقافية لتجربة المتشرد .
ثالثا : انتشار الشخصيات الفريدة .
رابعا : دلالات استعارية للفضاء .
أولا : بين السلبية الدائرية ، و ديناميكية الأداء :
ينتقل البطل في نص أورويل – بصورة دائرية – بين البحث عن عمل ، و الجوع ، و الآثار المضادة للإنسانية في أماكن المبيت الفقيرة ، و ميكانيكية الأعمال الهامشية ؛ مثل غسل الصحون ، أو التشرد مع قبول الإحسان المشروط ، و غيرها من المراحل التي تؤدي إحداها إلى الأخرى على هامش حضارة إنسانية قوية ، و لكنها تكشف عن ارتجاعات تنبع من بنيتها التي لم ترمم الثغرات بين المراكز ، و الهوامش انطلاقا من أصالة الروح الفردية الخفية ، و الكامنة في شخصية المتشرد كما يصفها النص ، و يحرص على إقصائها عن نموذج المجرم الذي يقاوم التهميش بإيجابية مضادة للمنطق الحضاري للإنسان ؛ إذ يتسم المتشرد هنا بقبول السلبية الدائرية ، و يعيد اكتشافها من خلال استجاباته العقلانية الآلية التي تلتحم بالخواص الفريدة ، و الإبداعية لذلك العالم ، دون أي إشارات لمشاعر الحزن ، أو الارتكاز على النزعات العبثية ، إنه اكتشاف مستمر لأصالة الفرد الذي يعيد تكوين سلبيته من داخلها .
في سياق تجدد بحث البطل عن عمل يذهب إلى صديقه الروسي / بوريس ، فيجده في حالة جوع شديد ، و يقدم له رغيفا ، يجهز عليه الأخير بقوة ، و يطلب منه الحذاء كي يقتل بقات على مقربة منه ، و يخبره بأنه يمكن الحصول على عمل في مطعم روسي سيفتح خلال أيام .
إننا أمام مجموعة من الوحدات السردية التي تؤكد نشاطا فارغا من الناتج ، أو القيمة ؛ لأنه يبدأ ، و ينتهي في سلبية دائرية .
و تبدو الوحدات السردية في اتجاه السلب في أحداث (بحث البطل عن عمل مع هيمنة الفقدان ، و جوع بوريس ، و اقتراب البق منه ) .
أما مجموعة الأداء الميكانيكي فتبدو في (التهام بوريس للرغيف ، و قتل البق بوصفه نوعا من الإساءة المولدة من السياق السلبي ، و تجدد الأمل في البحث عن عمل ) .
ثمة اتصال داخلي في النص بين النزعة العملية في شخصية البطل ، و بحثه المستمر عن الجانب الذاتي في الآخر ؛ مثل بوريس ، و غيره ، و تتواتر الخبرات الإبداعية حول التجربة الذاتية للمتشرد انطلاقا من إيجابيته الفارغة التي لا تخلو أبدا من الأمل المتجدد في الإمساك بلحظة الحضور بقوة أعلى من جهة ، و الاكتشاف المستمر لحكمة الوجود المؤقت ، و احتمالية تجدده غير المؤكدة من جهة أخرى ، إنه يقظ و إيجابي باتجاه العدم ، و يعاينه دون خوف .
و قد تجلت ديناميكية الأداء كرؤية مؤولة للوجود الذاتي من خلال أحلام اليقظة التي تعيد تشكيل التجربة وفق لغة تجريبية فريدة تكشف عن الطبقات العميقة للتداخل بين لحظتي الحضور الصاخب للحياة ، و الإقصاء الآلي المنظم لاستقلالية الصوت الإنساني من خلال تجريد الحتميات و عزلها عن الضمير الجمعي .
و قد بدت أحلام اليقظة واضحة في ثلاث مستويات من النص ؛ هي المستوى الاستعاري ، و مستوى الحكي ، و المستوى الثقافي للصورة .
يقوم المستوى الأول من الأحلام على المماثلة الاستعارية لتجربة الجوع ؛ و فيها ينقل السارد التجربة إلى صورة بديلة تجمع بين الفراغ ، و الوهج ، و التحول أو الطيران بحيث يفكك – بصورة غير مباشرة – المركزية الحتمية للجوع ؛ فالبطل يؤول نفسه ، و حالته العضوية انطلاقا من نشاط الوعي الإبداعي ، و استعاراته ؛ فهو يشبه الرخويات ، أو تم استبدال دمه بماء دافئ ، أو يشبه طائر الكوكو في كثرة البصاق الأبيض ، و غيرها .
و ربما اختار المحار ؛ لفقدان الصلابة ، و الكوكو لهجرانه المستمر لبيضه ، و لكنه ينقل خبرة التشرد أيضا لوهج الحياة مرة أخرى في تلك الصور ، و يوحي بأنه يعاين نوعا من أخيلة الخفة من داخل الخمود ، و كأنه يوشك أن يخرج من الآلية من داخل مفرداتها .
و قد يؤدي مستوى الحكي إلى تجاوز خبرات التشرد من داخل دائريتها ، و كأن السرد يقاوم أي استمرارية ممكنة للمعاناة ، أو الإشباع ؛ فقد تجرد من الجذر الواقعي ، و صار بحد ذاته مصدرا تخيليا متجددا للذة المحتملة ؛ فقد قص شارلي / أحد أصدقاء البطل في باريس أنه تغلب على الجوع بحيلة ذكية ؛ إذ دفع بفتاته / إيفون إلى إحدى المستشفيات ، و ادعت أنها حامل كي تحصل على غذاء مجاني ، و قد دامت الحيلة حتى وجد مخرجا للأزمة .
لقد حضرت القصة هنا عقب انتهاء المعاناة ؛ فأصبحت ملهمة للأمل في تحقيق لحظات أخرى من ذلك الوجود المؤقت القوي الذي يقبض عليه المتشردون في لذة تتخاوز القلق بمدلوله التقليدي .
و قد تتحول المفردات الثقافية للتجربة إلى صور تأويلية يعبر من خلالها الوعي عن استجاباته الخاصة ، دون أن يخرج من سطوتها السلبية ؛ فقد وصف السارد صخب التراكم البشري المضاد للهوية الفردية من خلال عملية الاستحمام في أحد النزل الرخيصة بلندن ؛ إذ يستحم عدد كبير من الرجال في الماء القذر نفسه مع إصرار البواب على ذلك ، و كأننا نعاين لحظة ثقافية تصويرية للعزل الاجتماعي لشخصية المتشرد من جهة ، و كذلك تواتر الصخب ، و التراكم في تجربته ؛ فهو يعاين الأشياء دائما في حالة تطرف ؛ فالروائح قوية ، و الأصوات عالية ، و مختلطة ، و الحشرات تهجم عليه بكميات كبيرة ، و القذارة تلازمه في اللحظة التي يحاول فيها التطهر ، و يعاين خوفا صاخبا في عيون الآخرين ، و لكن أورويل ينقل تلك الحالات في مواجهة ضمير إنساني صاف ساقته الحياة إلى التشرد ؛ مما يعزز من أصالة التعارض ، و الاختلاف في بنيته .
ثانيا : دلالات ثقافية لتجرية المتشرد :
تشكل الدلالات الثقافية في نص أورويل جزءا رئيسيا في نسيج النص ، و كذلك فهي محور تأويلي تنبع منه شخصية المتشرد ، و تنتج نموذجا إبداعيا ذا تأويلات ثقافية جديدة تمثل الانشقاق بين الروح الإنسانية المميزة للإنسان المتحضر ، و ما يفرضه عليه المجتمع من قهر ، و عزل ، و آلية عبثية ، و قد حرص أورويل على سرد مقاطع تحليلية طويلة لتلك الشخصية ، و تفاصيل حياتها ، و وضعيتها الطبقية في المجتمع الحديث ؛ كي يكشف عن نزوعها للكرامة ، مع قدرتها على تحويل الآلية إلى رؤى فلسفية ، أو فنية ، أو طاقة إيجابية .
يعاتب بوريس البطل عندما يحاول أن يخبر إدارة الفندق الذي يعمل به بأنه قد يترك العمل بعد شهر ، و يذكره بأن شخصية غاسل الصحون لا تملك ترف الإحساس بالشرف .
لقد تولد خطاب بوريس من الوضع الاجتماعي الهامشي الدائري لغاسل الصحون ؛ فحاجاته الضرورية لا تتفق مع القيم الإنسانية في ذلك السياق الثقافي ، بينما يجسد خطاب البطل الأصالة المميزة لغاسل الصحون قبل أن يتلوث بالنسق المفروض عليه سلفا ، و تتواتر تلك اللحظات التي يشعر فيها البطل بالغربة ، و الاختلاف من منظور الآخر مع احتفاظه بالروح الإنسانية ؛ فقد تغيرت نظرة الناس إليه عقب رهن ملابسه ، و استبدالها بأخرى قديمة ، و مشوهة ، بينما ظل ضميره الحضاري صافيا أثناء الحكي ، و كأن الصراع بين القيم الثقافية في المجتمع قد تفجر – بدرجة أكبر – بداخله .
و يصف السارد تفاصيل عمل غاسل الصحون ؛ إذ تتميز بالتراكم ، و السرعة ، و إنجاز أعمال كثيرة بطريقة أفقية ، أي في وقت واحد ، و هو الوقت الذي يسبق تقديم الطعام ، و في هذه الأثناء يكثر اللوم ، و الشتائم بين العاملين في المطبخ كجزء من آليات العمل السريع ، كما يصف غربة الطاهي عن الوجبة التي يقدمها ، و انشغاله بجمال الشكل ، دون أن يهتم بالهدف الرئيسي ، و هو تقديمها للأكل ، و أن درجة تلوث الطعام بالعرق ، و غيره تزيد في الفنادق الفخمة .
إن آلية العمل في المطبخ هنا تتميز بالسرعة ، و التوسع الأفقي في لحظة الحضور ؛ و من ثم فهي تنقل الإنسان من النظر إلى عالمه الداخلي ، و هويته الذاتية ، إلى خارج محض ؛ و لهذا تكثر ألفاظ اللوم ، و السباب ؛ كي يقتل السلوك الأفقي أي لحظة تصرف الشخص عن اندماجه في الفعل المكرر ، و كأنه طاقة مجردة للأداء السلبي ، و هو العنص الثقافي الثاني للعمل في المطبخ ؛ فالوجبة تتميز بالجمال ، و تنشق – من منظور العامل – عن بنية الأكل ، و كأن السارد يشير إلى فراغ السلع - في سياق المركزية الرأسمالية - من المعنى في الفنادق الكبرى ؛ فالجمال الشكلي هنا لا يقترن بالتحويل الفني للواقع كما هو في رؤى ما بعد الحداثة ، و لكنه يشير إلى تواتر القهر الداخلي للمعنى الإنساني عند كل من العامل ، و المستهلك الذي يدخل بشكل غير مباشر سياق الآلية الأفقية الحاجبة للهوية في تناوله السريع لوجبة مشوهة .
و يشير أورويل في النص إلى غلبة المنطق الذكوري على شخصية المتشرد ؛ إذ تعلو نسب المتشردين من الرجال ، ثم يحاول إيجاد مخرج للمشكلة من داخل السياق الحضاري المنتج للتشرد ؛ مثل تحسين بعض الخدمات ، و إمكانية الاستعانة بهم في رصف الطرق ، و الزراعة كبديل عن تفريغ حياتهم من المعنى .
إن ملمح ذكوية التشرد يوحي بتخييل شكل معين من السياق الثقافي المولد عن منطق القوة الخفي في الحضارة الحديثة ، و إقصائه المضاعف للرجل غير المتوائم مع علاقات الصراع ، في السياقات السياسية ، و الاقتصادية ، و تعلو درجة التهميش هنا عن وضعية المرأة في المجتمع نفسه ؛ فهي في أسوأ الحالات تابع ثقافي ، أما الرجل الذي يقع خارج المسار الشمولي فيعاني من سلبية مطلقة ، و جبرية ، رغم صفائه الإنساني .
و من الشخصيات الفريدة المؤولة لوضعية المتشرد فنان الرصيف / بوزو الذي يرى أصالة القسوة على الأرض ؛ لأنها كوكب فقير ، و لكنها أفضل من المريخ الذي يشوى الإنسان فيه حيا .
و أرى أن سرد أورويل لآراء بوزو يوحي بدلالات ثقافية عميقة ، و متباينة عن أصل التشرد ؛ فنعاين في النص العبودية التي تخلفها الحضارة الحديثة ، و انهيار العنصر الإنساني في الشموليات المختلفة ، و نزوع المتشرد إلى نمط قهري مختلف من الحياة ، ثم تعيدنا كلمات بوزو إلى دلالات الخطيئة في سفر التكوين ، و ما قيه من حياة شاقة يواجهها الرجل في عمله على الأرض ، و كذلك حتمية الموت ، و قسوة الأرض ، و غيرها ، و كأن دلالة التشرد تكمن في الأرض نفسها ، و في العالم الكوني كذلك بدرجات أكبر ، و هو ما يمنح دلالات الأزمة أبعادا جديدة ، و رؤى تقوم على القبول ، و النزوع الإيجابي الذي يساعد المتشرد على إنجاز أكبر قدر من الأعمال الآلية ، دون أن يسقط في الحزن الداخلي .
ثالثا : انتشار الشخصيات الفريدة :
يقاوم أورويل في نصه ذلك الرعب المتولد عن اختلاف المتشرد عن طبقات المجتمع الأخرى ؛ إنه اختلاف جمالي ، و فريد يميز مسارا للحياة يقوم على التعايش مع البؤس ، و إدراك حكمته الخفية ، و تكشف تفاصيل تلك الحياة عن تجربة عميقة من الاندماج في الآلية ، و رفضها في آن ؛ فالانقسام بين التلوث الجبري ، و الأصالة الجمالية للتكوين الفردي هو ما يميزها ، و يمنحها حضورا فنيا متجددا في النص ، و البنى الاجتماعية .
و يصف أورويل مجموعة كبيرة من المتشردين في درب الديك الذهبي في باريس انطلاقا من التعارضات بين الجمال ، و البؤس ؛ فهنري يجمع بين الرومنتيكية ، و العمل بالمجاري ، و إيجابية الحب لفتاة تخونه ، و الانهيار الداخلي معا . أما آل روجيه الزوجان القزمان فيرتزقان من بيع بطاقات بريدية ، و يعانيان الجوع دائما ، و تنتشر الرائحة النتنة من غرفتهما ، و قد انصرفا عن الاستحمام أربع سنوات ، ثم يبدأ بمعاينة التجربة من الداخل ، فيقصي رعب الاختلاف ، و يتحدث عن لذة غياب المستقبل ، و من ثم القلق لدى المتشرد ، و كذلك اتساع لحظة الحضور بما فيها من استجابات تجمع بين الميكانيكية ، و الجمال الإبداعي .
إن أورويل يكشف عن التداعيات النصية ، و الاجتماعية للتشرد بحيث يبدو التلوث غريبا عن ذلك الحضور الإنساني الذي يلازمه بصورة دائرية عبثية ، و لكنها تعزز من وجود مسار مختلف بدلا من القضاء عن تلك الأصالة الإنسانية الخفية .


رابعا : دلالات استعارية للفضاء :
توحي معايشة السارد للمكان بأنه قد خرج من بنيته ، و التحم بجحيم استعاري يعبر عن النزعة الكلية الآلية في المجتمع من جهة ، و الطرق الإيجابية التي يكتشف فيها المتشرد وهج الحياة داخل ذلك الجحيم الاستعاري من جهة أخرى .
و يذكرنا توجه أورويل الجمالي – فيما يخص المكان – بحديث هربرت ماركيوز عن تطرف السيطرة في المجتمع المعاصر ، و إقصائها لفاعلها نفسه ؛ إذ يرى أن العالم يتجه إلى أن يصير مادة لإدارة كلية يخضع لها المديرون أيضا حين اندمجت بسياق العقل ، و هو ما يشكل نوعا من الدوامة الحتمية (راجع / هربرت ماركيوز / الإنسان ذو البعد الواحد / ترجمة جورج طرابيشي / دار الآداب ببيروت / ط 3 / سنة 1988 / ص 193).
إن المكان في النص يفرز نوعا من الهيمنة الشكلية المطلقة التي تشبه الموت ، دون أن تبلغه ، و لكنها انفلتت من الحدود الحضارية العقلانية ، أو دمجت العقلانية الحديثة بالعبث ، و لكن السارد يعيد اكتشافها من خلال غربتها عن ضمير المتكلم ، و كذلك ما فيها من موت تمثيلي لا يصل إلى الصمت المطلق .
يصف السارد المطبخ بالقبو ، ثم يتحدث في جزء آخر عن التابوت كمكان للمبيت ، يقول :
" في التابوت ، أنت تنام في صندوق خشبي ، يغطيك قماش مشمع . التابوت بارد ، و أسوأ ما فيه البق ، إذ لا منجاة لك منه مادمت مغلقا عليك في صندوق " .
لقد افتتح السارد وحداته بتكوين الجحيم المجازي ، و لكنه توسع في وحدات التكيف ، و الاكتشاف لجماليات الفضاء الخفية ، و لم تقع الوحدات في إغواء الموت المحتمل ؛ لأن أورويل يحرص على بقاء الهوية الذاتية بصورة دائرية مع جحيم التشرد دون انفصال لأحدهما عن الآخر .

محمد سمير عبد السلام – مصر



#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من التحليل البنيوي إلى التعددية النصية و الثقافية
- أغنية كونية للأثر الجمالي .. قراءة في حجارة بوبيللو ل إدوار ...
- جماليات العوالم الصغيرة .. قراءة في شارع بسادة ل سيد الوكيل
- الهوية الجمالية للمكان .. قراءة في واحة الغروب ل بهاء طاهر
- التفاعل الصاخب بين الفن و الحياة .. قراءة في نساء و ألغام ل ...
- مرح جمالي للبساطة الأولى .. قراءة في عتبات البهجة ل إبراهيم ...
- تجدد الهوية الشعرية .. قراءة في ديوان سيرة ذاتية لملاك ل فري ...
- فضاءات جمالية ، و كونية في كتابة جمال الغيطاني
- انفتاح الشكل .. قراءة في نص من حديث الدائرة ل علاء عبد الهاد ...
- بين البهجة ، و الصمت .. قراءة في ضربتني أجنحة طائرك ل إدوار ...
- مغامرة الأداء .. قراءة في أين تذهب طيور المحيط ل إبراهيم عبد ...
- نيرمانا كهوية شعرية .. قراءة في ديوان البحث عن نيرمانا بأصاب ...
- السجن ، و الولادة الإبداعية .. قراءة في رواية الجوفار ل مروة ...
- الوفرة الإبداعية للشخصية .. قراءة في رواية لم تكتب بعد ل فرج ...
- دائرية الإيماءات ، و الصور .. قراءة في تجربة علاء عبد الهادي
- الحكي ، و تجدد الحياة .. قراءة في مجموعة نصف ضوء ل عزة رشاد
- الإيماءات الإبداعية للحكي .. قراءة في نوافذ صغيرة ل محمد الب ...
- لعب التشبيهات ، و الأصوات .. قراءة في كأنها نهاية الأرض ل رف ...
- نقطة الخروج في مسرح أوجين يونسكو
- نحو فضاء آخر .. قراءة في ديوان هوامش في القلب للدكتور عز الد ...


المزيد.....




- “أخيراً جميع الحلقات” موعد عرض الحلقة 195 من مسلسل المؤسس عث ...
- سرقة موسيقى غير منشورة لبيونسيه من سيارة مستأجرة لمصمم رقصات ...
- إضاءة على أدب -اليوتوبيا-.. مسرحية الإنسان الآلي نموذجا
- كأنها خرجت من فيلم خيالي..مصري يوثق بوابة جليدية قبل زوالها ...
- من القبعات إلى المناظير.. كيف تُجسِّد الأزياء جوهر الشخصيات ...
- الواحات المغربية تحت ضغط التغير المناخي.. جفاف وتدهور بيئي ي ...
- يحقق أرباح غير متوقعة إطلاقًا .. ايرادات فيلم احمد واحمد بطو ...
- الإسهامات العربية في علم الآثار
- -واليتم رزق بعضه وذكاء-.. كيف تفنن الشعراء في تناول مفهوم ال ...
- “العلمية والأدبية”.. خطوات الاستعلام عن نتيجة الثانوية العام ...


المزيد.....

- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد سمير عبد السلام - من السلب إلى اكتشاف الحياة .. قراءة في نص متشردا في باريس و لندن ل جورج أورويل