محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 2895 - 2010 / 1 / 21 - 20:49
المحور:
الادب والفن
في نصوصه القصصية " نوافذ صغيرة " – الصادرة عن دار أخبار اليوم بالقاهرة 2009 – يشكل محمد البساطي الشخصيات ، و الأماكن ، و الأحداث ، و اللقطات السردية كمجالات استعارية تتميز بالتداخل بين الإيحاءات النصية ، و السياق الواقعي في تجلياته الجزئية التي تجسد الصوت الطيفي للإنسان في نشوئه المجازي المتجدد خارج المرجعيات الأحادية .
إننا أمام فضاءات جمالية تقاوم النزعة الكلية في بناء الشخصية ، و درجة ارتباطها بحتميات الواقع ، و حدوده ؛ فثمة صوت إنساني فيما وراء الأشياء الصلبة ، يعلن سخريته من المعاني المثالية للاكتمال ، أو الانهيار معا ، و انتصاره الخيالي في إيحاءاته الممتدة في الزمان ، و المكان .
و رغم سطوة المرض ، و الغياب ، و التهميش على أبطال البساطي ؛ فإن لهم حضورا قويا وراء النوافذ ، و الأبواب ، و الوظائف الجسدية الضرورية ؛ إذ تعلن الروح الفردية المبدعة دائما عن اندماجها الجزئي الفريد بحكاية ، أو قصاصة ، أو تشبيه ، و كأن الغياب في المجموعة هو نقطة انتشار الأشكال الجزئية من الحياة .
إن الشخصية تنشأ ، و تتجدد من داخل أدبية الصورة في الإنسان نفسه ، في تاريخه الآخر الذي يوشك أن يكشف عن حضوره الكوني في الأشياء الصغيرة ، و خلف الجدران المظلمة .
و بهذا الصدد يرى بول ريكور أنه يمكن تأويل الوعي من خلال حركة الصور الحيادية التي تشكل عملية التبادل بين الذوات الإنسانية ؛ فالكرسي في لوحات فان جوخ يشكل صورة جديدة للإنسان ( راجع / بول ريكور / صراع التأويلات / ترجمة د منذر عياشي / دار الكتاب الجديد ببيروت مع سوي بباريس سنة 2005 / ص 151 ) .
إن السيارات المغلقة ، و الشوارع ، و الغرف الصغيرة ، و الحوارات المبتورة - في كتابة البساطي – تعيد بناء الشخصية وفقا للإيماءات المجردة في تكوينها الداخلي ، فهي تستنبت وعي الشخوص في سياق التفاعل بين الصور ، و الصوت الإبداعي الخفي للفرد بداخلها .
في نص " نوافذ صغيرة " يندمج وعي الراوي بالإشارات الواقعية / الاستعارية التي تشكل صورة تعبيرية للذات الإنسانية في حالتها الطيفية ؛ فثمة يد تمتد من سيارة لنقل المسجونين ، باتجاه الراوي أثناء ذهابه للعمل ، و يطلب صاحبها علبة سجائر كليوباترا ، و يدور بينهما حوار حول عمل الراوي في وزارة المواصلات ، ثم يتصاعد دخان السجائر من خلف النافذة .
اليد هنا تؤدي وظيفة إبداعية مضادة لأصالة صاحبها / الآخر ؛ فهي جزء من إيماءات مجازية تمثل صوتا جمعيا لحركة الأشياء ، و قد اكتسبت حضورا إنسانيا جديدا ، ينبع من تحول المشهد من السياق الحتمي للعمل ، و السجن إلى تحرير العناصر في فضاء جمالي قيد التكوين ، و التجدد خارج منطق الآلية .
هل هو تجاوز ثوري يستنفد الصوت في الأثر ، و الإيماءة ؟ أم أنه تأويل لمبدأ الحضور المؤقت للذات في الزمان ، و المكان ؟
إن الدخان الذي يتصاعد من النافذة الصغيرة ، يسخر من عملية التدخين نفسها ؛ إذ يعيد قراءة الوجود فيما يتجاوزه من تكوينات جزئية فريدة ، تمثل الصوت ، و تنتجه دون نهاية خارج بنيته الأولى .
و في نص " قطرة ماء " تتصارع في البطل حالات التهميش ، و العبث ، و التفاعل الإنساني المضاد للهيمنة ، و حضور المركز ؛ إذ يدخل السجن دون أن يعرف تهمته ، ثم يتحول صمته العبثي في السجن إلى تفاعل ينقلب على العبث من داخل مفرداته ؛ فقد شارك الحراس اللعب ، و نسخ الأوراق ، و أنجبت امرأة أحدهم ولدا أثناء إقامته معهم .
إننا أمام بزوغ لواقع خيالي يتولد من قطرة ماء في صحراء الهيمنة ؛ فالبطل يستبدل صورة القطرة ، و تختلط إيحاءات حضوره – في وعي الحارس – بالمرح ، و الخصوبة ، و العبث معا .
و في نص " إفراج " تتفكك هوية الراوي / البطل – الذي أفرج عنه لأسباب صحية – في ضياع خصوصية ملابسه ، و في اللحظات الإنسانية المبتورة التي يعكسها وعيه ؛ مثل تكوين الحارس ، و الساعة ، و المحفظة ، و قصاصات امرأة تستغيث بسبب حملها .
إن اللقطات الإنسانية السريعة في النص تستبدل الصوت المتكلم نفسه ، و سياق التعارض بين القوة ، و الضعف . إنها قراءة للحياة بوصفها مجموعة من التداخلات المعقدة بين الصور ، و الإيحاءات ، و الأصوات المفككة التي تقع بين الغياب ، و مرح الإيماءة ، و تحررها .
و في نص " أرزاق " يختلط الجنس بالمنطق الأبوي الذي يقاوم خطابه الأول من داخل خطاب الاستغلال ؛ فالرقيب يعيد بناء جسد البطل المهمش في سياق السخرية المعنوية من السجناء ، ثم يتحول شعوره الحتمي بالتفوق إلى ازدراء لأحدهم ، و هروب من الوظيفة الأبوية .
إن جسد البطل يجمع بين القهر ، و القوة ، و التوحد بإيحاءات الضعف ، و أخيلته ، و كأن الصورة المجازية للانكسار تمثل إكمالا لهامشيته ، و خروجا عنها في التحرر من صلابة الجسد ، أو اختلاطه بذاكرة الضعف .
و في نص " حكاية قديمة " يرصد الراوي حدث مرض صديقه ، ثم يشير إلى علاقة حب له مع امرأة سألت عنه أثناء الغيبوبة .
إن الأخر يتداخل مع بنية الحكاية القديمة ؛ إذ تتنازعه قوى الغياب ، و الحضور ، و التحول إلى أثر في السرد . الحكاية تفجر الحدث ، و تلج الشخصية ؛ لتقاوم منطق النهايات ، و قد يأتي الغياب في ذكرى تجدد الحب ، و أخيلة الخصوبة ، و كأنه عودة مجازية لأبطال الأساطير .
و في نص " الغرفة المجاورة " يتحول السياق الحتمي للأسرة المجاورة للراوي إلى لحظات إبداعية في وعيه ؛ فمحاولات استقلال الأم ، عقب غياب الأب ، و لوحات الولد تسير باتجاه نزعة فردية قيد التشكل من داخل دوال الغياب ، و التهميش . ثمة نزوع نحو البناء – في النص – ينمو من خلال التيمات التصويرية الإنسانية للولد ، و الأم خارج دائرة الانتماء للأب ، و قد قتل نصيا أثناء البناء غير الواعي للروح الفردية .
و في نص " جيران " يجسد الراوي قسوة التعميم على الشخصية ، إذ يتركها بلا ملامح واضحة ، أو وجود شخصي ؛ فالعائلات الثلاث تسكن شقة واحدة من ثلاث غرف ، و ذات مرة يلج الفران موقع عامل السكة الحديد في لحظة متكررة لغياب المعرفة . إننا أمام تغييب لمدلول الحياة نفسه في مجموعة من الأفعال الآلية ، و لكن تطور الوظائف السردية في هذا النص يقودنا إلى ملمح إنساني خفي ينتظر التحقق ضمن عمليات التكرار ، و الاستبدال ، و ذلك بتحويلها في اتجاه التجدد لا الغياب في القوى الكلية المهيمنة .
و في نص " هي ، و زوجها " يبدو حدث التوقف الممثل في شلل زوج جارة الراوي مفتتحا لمجموعة من التفاعلات الإنسانية الصامتة بين الشخوص . إن الزوج موضوع للحياة المختلطة بالعدم ؛ فجميع الوظائف السردية مثل ؛ الأكل ، و الاستحمام ، و الإخراج ، تتمركز حول جسده الذي يعاين حالات الجمود ، و إعادة التشكل ، و نقل أخيلة الموت الملتبس بوهج الحياة في الآخر / الراوي .
و سنجد حضورا بارزا لضمير الغائب في النص ؛ فهو نواة للمشاعر ، و الدلائل النصية ، و حركة الأشياء الصغيرة .
يقول السارد :
" أختار مكانا على السطح بعيدا عن تيارات الهواء كما توصيني امرأته ، و أضع فوطة على صدره ، أناوله الطعام ملعقة بعد أخرى ، أجفف ما يسيل من فمه بعد كل ملعقة ، أسهو أحيانا و لا أجفف فمه ، يدير وجهه بعيدا عن الملعقة " .
المتكلم هنا يسند نفسه للرجل / الموضوع ؛ إنه يؤول آلام الوجود في العالم من خلال الصراع بين التوقف ، و الصخب ، الإنذار بالموت ، و تجدد الحياة في التفاصيل الصغيرة الصامتة .
و تتداخل العوالم الجزئية الهامشية ؛ لتكشف عن تجاوز التصورات الكلية ، و التعقيد المميز للحياة الكونية في نص " تأهب " ؛ فقد ولد البطل حينما كانت الداية تعاين الموت ، و كان يصارع الجدي في مشهد يجمع بين المرح ، و الحرب ، و تحلل المعني ، بينما كانت الدول تتأهب للحرب العالمية الثانية .
تقترن إذا البدايات ، بالنهايات بقوة دون مركزية لأي من المجالين ، و يختلط الصراع بالعبث ، و المرح ، و السخرية من خطاباته الشمولية . و أرى أن هذا النص يحيلنا إلى بروز العوالم الهامشية فيما بعد الحداثة من جهة ، و قدرة السرد على تأويل الوجود الواقعي ، و الالتحام به في الوقت نفسه .
و قد ينحاز السارد للذات الفردية الأنثوية في نص " زواج " ؛ إذ يتعاطف مع البطلة التي ماتت عقب طلاقها من خليل ؛ بسبب انكسار الدولاب يوم الزواج ، و تشاؤمه من الحدث .
ثمة سطوة للقيمة في النص ، تزدوج بسخرية الأشياء منها ؛ إذ تملك وجودا استعاريا أقرب إلى الروح الفردية الأنثوية ؛ فالدولاب يحرر أخيلة البطلة من الأبنية الكبرى التي تمحو الهوية .
و في نص " اللوحة " تتجلى القيمة المجردة للحياة في الصيرورة الإبداعية للفن ضمن تصور الحكاية الواقعية نفسها ؛ فالراوي / فوزي يصف الوجود الاستثنائي للفنان الذي أتى به من مالطة ؛ إذ يعمل عاريا ، و لا يستحم ، و يرفض قطار الدرجة الأولى ، ثم تغتصبه إحدى الخادمات . و تزدوج الصورة السابقة بلوحة الفنان ، و فيها جياد جامحة ، و فتيات رشيقات .
اللوحة تجسد البدايات الدائمة للصخب .. التأهب للأداء خارج المفاهيم الثابتة ، و الحدود .. ذلك هو مدلول القصة عند محمد البساطي ، أن تقبض على المادة الفنية للحياة ، و دوالها الصغيرة الممثلة في صوت ، أو إشارة ، أو منظر ، أو مقطع من حكاية ، و هي دوال تستعصي على الأطر ، و التلاشي .
محمد سمير عبد السلام – مصر
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟