كريم كطافة
الحوار المتمدن-العدد: 3277 - 2011 / 2 / 14 - 14:25
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
سأتلو هنا شهادة على فاجعة من ماضينا القريب.. فاجعة معروفة في أوساط الأنصار الشيوعيين بعنوان (عوائل مه راني) أو (عوائل الفوج الأول). وهي عينة مقتطعة من مشهد كبير أطلق عليه سدنة النظام السابق مسمى (عمليات الأنفال). بالطبع لن اتوقف كثيراً عند سر اختيار سدنة النظام لسوّر من القرآن ولصقها على جرائمهم. من المعروف أن تلك السورة (الأنفال) نزلت خصيصاً لحل مشكلة اختلاف المسلمين في أوائل أيامهم على أسلاب الكفار وضمنها بالطبع السبايا والأسرى. حلت المشلكة بجعل خمس الأسلاب للنبي والباقي توزع بآلية (وما ملكت أيمانكم). لكن الجن الأصفر نفسه لا يعرف ما هي علاقتنا نحن.. ما علاقة الشعب العراقي بجنوبه وشماله بالأنفلة. على العموم، لقد طهروا في الحلقة الأولى من السورة ريف البلد الجنوبي، حرفوا أنهاره وجففوا أهواره وأبادوا كائناته من بشر ونبات وحيوان بما تيسر من سلاح كيمياوي وغير كيمياوي. وطهروا في الحلقة الثانية والثالثة من الآية شمال البلد (كوردستانه) من فلاحيها وأحرقوا خضرة جبالها بالسلاح الكيمياوي وغير الكيمياوي كذلك.
في تلك العمليات الواسعة التي استخدم فيها النظام كل ما متوفر في ترسانته العسكرية، وكما هو واضح كنا والفلاحون ومن ساكننا من حيوان ونبات، تلك الأسلاب التي لم تختلف قبائل المخابرات والأمن على خمسنا أو سدسنا.. تقاسمت رفاتنا خارطة الدفن الجماعي التي افترشت البلد من جنوبه إلى شماله والتهمت المنافي القريبة والبعيدة من فاض على حفلات الدفن. ربما كنا كفاراً لأننا كفرنا بطاعة النظام وتمردنا عليه، لكننا وفي كل الأحوال لم نكن مرتزقة هبوا للقتال طمعاً في مال.. مثلما لم نكن جنوداً غُلبوا على أمرهم وتم سوقهم عنوة.. رغم أننا كذلك لم نكن مقاتلين مثاليين.. منا من كان يؤمن حتى وهو في لجة التجربة؛ أن الكتب قادرة على تغيير العالم.. واللوحة قادرة على هزيمة القبح.. والموسيقى على اجتراح المعجزات.. وكان منا كذلك جنود هربوا من حروب ليست حروبهم وفلاحون امتزج إخلاصهم للرفقة بشرف العشيرة وقيمها..
حصل في تلك الأيام أن حوصرنا مع بيشمركة الحزب الديمقارطي الكوردستاني حصاراً عنكبوتياً، لم نتعرف طيلة حربنا على شبيه له من أنواع الحصارات، كان على شكل دوائر تشبه دوائر غزل العنكبوت وكانت تخترق تلك الدوائر من الخارج إلى الداخل أرتالاً من القوات الخاصة والمغاوير بحثاً عن المتسربين من دوائر الحصار. حصل هذا في نهاية شهر آب 1988 بعد نهاية الحرب العراقية-الإيرانية باسبوعين.
وحوصر معنا كل فلاحي منطقة عملنا من عشائر (البرواري) و(المزوري) و(القشورية) و(الكوجر) إضافة إلى ما تبقى من فلاحي القرى المسيحية. إضافة إلى عوائلنا؛ عوائل الأنصار التي تم تهجيرها بأمر مخابراتي من مناطق دشت الموصل.. كانوا كلهم تقريباً من الكورد الأيزيديين، مع عائلتين آثوريتين وعائلة من عرب منطقة الجزيرة.. كان عدد أفراد تلك العوائل 198 فرد، رجال كهول ونساء وأطفال (أعمار الأطفال كانت تتدرج من الرضيع إلى سنة العاشرة) هذا إذا استثنينا الأجنة التي كانت في أرحام الأمهات الحوامل.
في بدايات الحصار كنا أكثر من 150 ألف إنسان في مساحة جبلية لا تتجاوز كيلومترين، في أحد الأودية العرضية لسلسلة (كارا)، بلا أكل ولا ماء غير عين ماء ضحلة كائنة في موقع عاص يستغرق الوصول إليها ساعة من الصعود الوعر، مفترشين الصخور وملتحفين السماء. وكان الجميع مرعوبين من احتمال استخدام السلاح الكيمياوي، كما فعلوها مع (حلبجة) الحادثة التي كانت في حينها لم تزل طرية في أذهان الجميع. وقد عبر أحد شيوخ الكورد من المحاصرين أبلغ تعبير عن حيرتنا برده على أحد المتحمسين للقتال وبلغته العربية المطعمة بلكنته:
- بابو.. الكوردي يكدر يقاوم الجندي.. يكدر يقاوم الدبابة.. يكدر يقاوم حتى الطيارة.. بس بابو.. الكوردي ما يكدر يقاوم الهوا اللي يتنفسه..!!
كان الرعب شاملاً وقد شل حركة الجميع. لكن بعد عشرة أيام من التهديد والوعيد والكر والفر بين المحاصِر والمحاصَر، وتدخلات رؤساء العشائر الكوردية كما أُشيع حينها وهم كانوا جميعاً رؤساء تشكيلات الفرسان المتجحفلة مع الجيش بمواجهتنا وبعد حرق كل القرى؛ أطلقت (إذاعة بغداد) بيان عفو عام وشامل عن الأكراد باستثناء (المجرم جلال الطالباني..!!) هكذا جاء في البيان. وأكيد ذلك العفو لم يكن يشملنا نحن العرب (العصاة). استبشر الفلاحون بالقرار رغم الحزن الذي كان يعتصرهم على مصير قراهم ومزارعهم وبساتينهم التي أُحرقت أمام أعينهم.. لكن تبقى الحياة هي الأولى من كل شيء. وبدأوا بالنزول والتسليم لقطعات الجيش.. ليواجه الأنصار الشيوعيون السؤال العويص والخطر: ماذا بخصوص عوائلنا..؟ في كل تجاربنا القتالية كنا نتجنب القتال بين السكان.. ما بالك الآن والذين معنا هم عوائلنا.. هل نتسبب بإبادتهم.. أم نمنحهم أملاً بالنجاة مستفيدين من قرار العفو..؟ بعد مداولات ومشاحنات بين الأنصار أصحاب العوائل وعوائلهم وجهود مضنية لكسر عناد وممانعة كثير من النساء الرافضات لفكرة التسليم، تقرر إنزال عوائلنا مع عوائل فلاحي المنطقة، وليكن حالهم حال الجميع.
لكن، هل تعامل النظام معهم كما تعامل مع الجميع...؟ من هنا بدأت المأساة التي صار عمرها الآن أكثر من 23 سنة. لقد أفلحت تدخلات رؤساء العشائر الكوردية (الفرسان)، بإعفاء ليس الفلاحين الذين استجابوا للقرار، بل وإعفاء حتى البيشمركة الذين نزل قسم منهم. غير أن عوائلنا كان لها شأن آخر.
في البدء عزلوهم عن الجميع وسجنوهم في قلعة (دهوك). وبعد أن عفوا عن الجميع تاركين أمرهم لترتيبات رؤساء (الفرسان) بإدخال الرجال وإن شكلياً في تشكيلاتهم وترتيب أمر سكناهم بين المجمعات والمدينة. نقلوا عوائلنا إلى جهة مجهولة وما زالت مجهولة إلى اليوم.. !!
أين أخفوهم.. ماذا فعلوا بهم.. كيف حصل الأمر.. ؟ لا أحد يدري. ظلت هذه الأسئلة وما زالت لغزاً محيراً.. وستظل لغزاً أبدياً ما لم تبادر جهة مسؤولة في بحث متخصص عن مصيرهم.. لأنه حتى بعد فتح وحفر الكثير من المقابر الجماعية بعد 2003 والعثور على رفات الكثيرين من المفقودين فيها.. ما زالت رفات تلك العوائل بنسائها وأطفالها وشيوخها مجهولة.. أحدٌ للآن لم يأخذ قضيتهم على محمل الجد في البحث والتقصي، لا من قبل حكومة كوردستان التي يُفترض أن تكون معنية بالأمر لأن الجميع تقريباً هم من الكورد الأيزيديين ولا من قبل الحزب الشيوعي العراقي الذي ناضل ذوي تلك الضحايا في صفوفه.. رغم أن القضية لم تعد الآن قضية حزب سياسي معارض.. بل قضية شعب بكامله كان معرضاً لهذا المصير والآن حان له وقت السؤال والتقصي عن مفقوديه.. القضية الآن برمتها قضية إنسانية قضية رجال كانوا مقاومين لأعتى طغيان مر به البلد.. ورغم كل الصعوبات التي واجهوها ورغم الخطر الماثل ليس على حياتهم بل على حياة عوائلهم وهو الذي تحقق.. رغم كل ذلك ظلوا مقاومين وصامدين في مواقفهم.. أنهم الأنصار الأيزيديون.. لقد فقد كل واحد من هؤلاء عائلته بالكامل، الزوجة والأطفال والأم والأب.. لقد اجتثوا من جذورهم.. أليس من حق هؤلاء الآن وإن من باب المواساة مشاركتهم حزنهم ومصابهم المستدام بإشعارهم من جهة مسؤولة أنهم ليسوا وحدهم..
أنها شهادة من رجل عربي كان شاباً في تلك الأيام قبل أن تدركه الكهولة بنكساتها.. ما زال يشعر أن الحقيقة الوحيدة المؤكدة في حياته أنه كان وما زال ينتمي لأولئك الرجال والنساء والأطفال الذين قاسمهم تضاريس تلك الأيام.
(1) مه راني: اسم قرية كوردية قديمة في واد عاص من وديان سلسلة جبل كارا. اتخذه أنصار الفوج الأول مقراً لهم. وكانت عوائلهم قد سكنت قريباً من المقر بما يشبه القرية، شاع اسمها بين الأنصار بـ(قرية العوائل)
#كريم_كطافة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟