أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ناصرقوطي - قصة شيطان وملائكة















المزيد.....

قصة شيطان وملائكة


ناصرقوطي

الحوار المتمدن-العدد: 3249 - 2011 / 1 / 17 - 15:48
المحور: الادب والفن
    



شيطان وملائكة عور

لأنه بيت الوالدة الطاعنة في السن ، ولأنني كنت أصغر إخوتي فقد كنت قليل الكلام وميالا إلى العزلة والانطواء ، وبالرغم من أنني تعديت العقد الثالث ببضعة شهور ، فلم أسعَ أو أحلم بتكوين أسرة مثل أخوتي ، الذين شتلوا باحة الدار ، وغرف السطح ، بالعديد من الزوجات والأطفال ، الذين كانت صرخاتهم تخدش السكينة التي كنت أنتظرها حتى يجن الليل ،لأقتنص تلك اللحظات الفاصلة وأختلي مبحرا مع أحد أصدقائي الكتاب ، من الذين كانوا أشد مايؤرقهم هو سماع طفل يبكي أو مرأى فأر يُقتل . كنا نختلي معا في أشد الحالات صمتا واغترابا ، ونبدأ نتحاور عن الكيفية التي يمكن بها إزالة القشور القاسية من الأدران عن روح الكائن ، الذي أخذ جبينه يطأ الأرض وراح يدب على أربعة ، بعد ان كان يسير منتصبا على قائمتين . كنا نحاول جاهدين حتى نصل إلى نسغه البكر .. تلك الطيبة التي مازالت بعذرية بذرة لم تلوثها أرض . كانت كلمات صاحبي الآسرة التي تبدد الوحشة والظلمة من حولي ، تدفعني وتدعني أستشرف آفاقا مضيئة ومبهرة ، تعلمني أن في قلب الحقيقة الدامي هنالك دوما روح معذبة تستصرخك ، وهي بحاجة الى صوتك وكلمتك ، فلا تتردد .. شد قبضتك اليمين ، ضم خنصرك وبنصرك والإبهام ، وباعد بين إصبعيك الأخريين ، أفرجهما كعلامة نصر لاتعرف الهزيمة ، ارفعهما عاليا ، وبعيدا نحو كل المدارات والأقطاب ، اغرزهما في عيون القبح والظلم أينما كان لتنقذ تلك الروح من أسرها . .. كنت أنصت له كما لو إنني في غيبوبة تامة ، حتى إذا ما أحسست بالتعب من الإصغاء له دفعته برفق ، متوسلا بغفوة عنيدة تهزم براثن الأرق التي تنشب في عيوني ، ولكن رغم إحساسي بالدوار، فسرعان ما كنت أستفيق على صراخه هو الآخر ، استغاثاته التي لايسمعها أحد غيري في البيت ، فلا أملك لحظتها إلا أن أدعه يحلم بعوالمه القزحية ، العصية والبكر ، التي كان يسعى للوصول إليها ، وأنا الذي كنت أشاطره ذلك الإصرار العنيد والسعي المرير في كل خطوة وكلمة ، قد تخليت عنه أخيرا ، ولكن لي عذري وذريعتي إذا ما القى الحجة عليّ ، فللنوم سلطان كما يقال ، وهاأنذا أغفو.... أغـفـ...

**********
كما لو كنت في حلم ، تناهى لسمعي طرق خفيف على الباب ، نهضت مسرعا وأنا نصف نائم ، فيما ثمالة ليلة أمس قد خلفت في رأسي خدرا لذيذا ، فتحت الظلفة بتكاسل ، كان ثلة من الكتاب يقفون عند عتبة باب الغرفة . أناس أعرفهم أكثر مما أعرف إخوتي ، أعرف رأفتهم وتسامحهم وحبهم الجارف للانسان ، وسعيهم إلى بناء جنة عدن على الأرض ، كان أول ما أدهشني وأفزعني هو مرأى القاص الأرمني ( وليّم سارويان ) بشاربيه الأبيضين الكثين ، ذلك الرجل الذي قضى ثلث حياته في محل لبيع الطرشي ، وهو يكافح ويدافع عن الأطفال والفئران ، حد أنه خاض عدة معارك مع شقيقته الأرملة التي كانت تدس السم في الجبنة لتتخلص من تلك الفئران . أطل عليّ ، فسألته مستغربا ( ما الذي أفقدك عينك ياصديقي ..! . ألم تكن معي ليلة أمس ، وأنا أقرأ قصصك ..! ) . لم يجبني إنما أومأ برأسه فقط وكشف لي عن عينه العوراء النازفة ثم تقهقر بأدب جم وانزوى خلف الكاتب ( بورخيس ) .. ( البصر ليس البصيرة يابورخيس ..! ) . أوشكت أن أبادره بسؤال هو الآخر إلا إنني أحجمت عن ذلك وهمست في ذات نفسي .. (لأحترم شيخوخته وبصيرته .. ) ورحت أحدق في عيون الآخرين، كان هناك ( إدغار آلان بو ) يبصبص بعين واحدة ، لوّحت له بكفي وناديته .. ها إدغار مابك تقف حائرا ، ألم تقتل الشيخ العجوز لأن له عينا كامدة في قصتك ( القلب الذي كشف السر) .. ماذا تقول الآن ان نظرت في المرآة..؟ .. قلت ذلك بينما راح يطأطيء رأسه خجلا ، أما تشيخوف ، وموباسان ، وفرجينيا وولف . كانوا كلهم مزنرين بالصمت وقد سملت عيونهم ، فارغة كانت من أي سؤال .. صرخت بهم ( ما الذي حل بعيونكم .. وأنتم المبصرون ..!) . كان صمتهم المريع يترك ضجيج صراخه في داخلي . وجوههم التي يستفزها قبح العالم ، خساراتهم في الحياة ، وعيهم المتفاقم ، نظراتهم التي كنت أعرفها وهي أشد بريقا من النجوم ، والأعمق نفاذا واختراقا للثوابت .

***********
بعد أن خلصت من قراءة ( وليم سارويان ) برقت في ذاكرتي أحداث رواية ( بلاد العميان ) لهربت ويلز ، ورحت أتخيل نفسي المبصر الوحيد في العالم ، ولا أحد سواي حتى غفوت ثانية ، ولم أصحو إلا على صوت أمي ملعلعا وهي توبخ أخي الكبير، الذي كان يصالب ذراعيه ويقف حافيا على سجادة الصلاة التي تآكل نسيجها الصوفي تحت ثقل قدميه المفلطحتين ، وهو يهمهم ويجتر بضع كلمات مبهمة كان قد حفظها عن ظهر قلب ، مثل بقية إخوتي الذين لايجيدون فك حرف في خطاب . ولأنني كنت الوحيد الذي يقرأ في بيت الوالدة فقد نشبت عداوة مضمرة بينهم وبين الكتب وكتابها ، فكنت أتحاشى الجميع ، لذلك فمن الطبيعي أن أضرب حول نفسي طوقا من العزلة ، فلطالما كنت أعتقد بأنني الوحيد القادر على فك المغاليق مهما كانت عسيرة وعصية ، هذا الاعتقاد قد قادني إلى الاستخفاف بكل من حولي ، كنت أتخيل بأن لاأحد غيري يمتلك عينين تبصران ، ويتمتع بنظرة ثاقبة ، تفرز صور الجمال عن القبح المستشري في كل مكان ، حتى إنني فوجئت بهذا الاعتقاد الساذج حين انتبهت إلى نفسي وتفحصت عيون المحيطين من حولي ، خاصة أخي الكبير الذي تعدى عقده السادس ، دهشت حين نظرت له وكأنني أكتشفه لأول مرة ، كانت له حدقات لاتوصف ، فنظراته الوامضة المتسائلة عبر بياض عينيه تشيان بالكثير من الرؤى التي لم يفصح عنها والتي لم أكتشفها من قبل ، وأنا الذي كنت شغوفا ومغرما بعيون الكتّاب ، خاصة عيون كتاب القصص الإنسانية ، من الذين لا أمل قراءتهم ، مثل سارويان و تشيخوف ، كنت أتخيل عيونهم عيون ملائكة تطل على عالمنا الأرضي ، من سماء بعيدة وترى لتعرّي كل مخبوء من البؤس وتفضح القسوة ، والغل الكامن في صدور البعض ، كانت عينا أخي الكبير تومضان ، حين اكتشفتهما صبيحة ذلك اليوم . كان قد فرغ توا من طقوس صلاته المعتادة . نهضت متثاقلا ، وكعادتي كلما كنت أنهض ألقي نظرة خاطفة نحو صور الكتاب التي رسمتها كبورتريهات بالحبر الشيني والتي كنت قد ألصقتها بجانب مكتبتي الصغيرة ، ألقي التحية همسا . عمت صباحا يابورخيس .. عمت صباحا ياإدغار .. أمسية جميلة ياسوريان ، غير انني صدمت ولم أنبس ببنت شفة .. كانت الصور على غير ماعهدتها ، فلم أر أمامي إلا ثلة من العور والعميان ، فقد خدشت عيونهم بأداة حادة ( ترى من فقأ عيونكم ) لم أسأل .. غير أن أمي راحت تولول بصوتها الشائخ ( ماالذي فعلته الصّور..! ) كنت صامتا أمام مايحدث ، وكان أخي الكبير بكرشه المندلق وجمجمته الضخمة وجبينه الموسوم إثر الانحناء ، يقطب حاجبين قاسيين ويرمقني بنظراته الحادة الشامتة ، ثم يتحول في التفاتة خاطفة باتجاه الصّور المعلقة على الحائط ، ظل ينقل نظراته بيني وبين الصّور متلذذا .. منتظرا ما الذي ستكون عليه ردة فعلي ، وفي التفاتة أخيرة منه نحو أمي ، راح يهمهم ويجتر ذات الكلمات المبهمة فيما شفتاه تنحرفان بتكشيرة امتعاض .



#ناصرقوطي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماحدث قصة
- قصة الزورق
- نصوص قصيرة جدا
- قصة جدار
- المضمر من علامات الترقيم
- خلوة حارس الكرسي الدوار
- انتظار الظل
- ليل الأبد
- حلم غريق
- لعبة
- حلم يقظة
- مايتبقى من البياض
- آخر العمق
- الأعور والعميان
- السلالات السعيدة
- فتيات الملح
- خضرقد
- غرباء
- أعماق
- الحائك


المزيد.....




- فنان مصري: -الزعيم- تقاعد واعتزل الفن دون رجعة
- من إلغاء جولتها الفنية إلى طلاقها.. جنيفر لوبيز تكشف كيف -ان ...
- غزة.. عزف الموسيقى لمواجهة البتر والألم
- لعبة التوقعات.. هل يفوز عمل غير غربي بجائزة نوبل للآداب 2024 ...
- اندمج في تصوير مشهد حب ونسي المخرج.. لحظة محرجة لأندرو غارفي ...
- تردد قناة روتانا سينما 2024 الجديد على نايل سات وعرب سات.. ن ...
- الممثل الخاص لوزير الخارجية الايراني يبحث مع نبيه بري قضايا ...
- سيدني سويني وأماندا سيفريد تلعبان دور البطولة في فيلم مقتبس ...
- فشلت في العثور على والدتها وأختها تزوجت من طليقها.. الممثلة ...
- -دبلوماسية الأفلام-.. روسيا تطور صناعة الأفلام بالتعاون مع ب ...


المزيد.....

- إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ / منى عارف
- الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال ... / السيد حافظ
- والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ / السيد حافظ
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال ... / مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
- المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر ... / أحمد محمد الشريف
- مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية / أكد الجبوري
- هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ / آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
- توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ / وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
- مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي ... / د. ياسر جابر الجمال
- الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال ... / إيـــمـــان جــبــــــارى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ناصرقوطي - قصة شيطان وملائكة