أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ناصرقوطي - انتظار الظل















المزيد.....

انتظار الظل


ناصرقوطي

الحوار المتمدن-العدد: 3231 - 2010 / 12 / 30 - 17:28
المحور: الادب والفن
    



غب أوبتي تلك لفحتني ريح بلادي ، عرفني النهر ، الجرف ، الطين . عرفني ترابها وهو يتسلل وينفذ من بين أصابع الكفين . هلت التراب وشممت رائحته التي اكتنفت خصلات شعري ، انحدرت من هامتي والتصقت بالجبين . عرفني الغبار واحتضنتني النسمات ، تسابقت لتلثم وجهي وتقبل مني الخدين الضامرين ، تتغلغل بكل مسامات الجسد الذاوي الذي فارقها عشرون عاما . حتى اذا مرت الوحشة كالسكين على مفاصل الروح وأمطرت كل سماوات الحنين رفعت كفي اليمين ، ألصقتها قرب اذني وألقيت تحية السلام على من جلسوا في المقاعد الأولى ... لم يرد أحد ، نقلت خطاي نحوهم .. تقدمت الى الأمام .. الوجوه واجمة عجلات الحافلة تطوي الطريق ، الصمت يطبق على المقاعد ، تقدمت رافعا كفيّ كما المؤذن في خشوعه الأخير . لصقت راحتيّ كواقيتي حصان أتعبه الطراد وأذلته المسافات ، فعلت ذلك كما كبّر صوتي ، علا بنبرة خاشعة ..
ـ السلام عليكم إخوتي ... السلام أيها الطيبون ..!..
لم يرد أحد ولم يكن ثمة رجع صدى لغير السعال الذي كان يعلو على صوت هدير العجلات . زجاج الحافلة مقفل ، حبات من الندى تلتصق على سطحه ، تهتز ، بعضها يظل ثابتا مترجرجا وقطرات أخرى تسيل كما الدموع بغدران متعرجة ، تلتقي وتتجمع حتى إذا استقرت باخدود الحافات السفلية للزجاج فتتها ريح لاترى وغيبتها في الفضاء الشاسع ذرات صغيرة و .... لم يرد أحد ، لم يرن جرس صوت . بلعت لساني وتهاويت على مقعدي قبالة رجل عجوز ، صرت ألغو في دخيلتي وأزن عملتي التي التي اتلفت بفعل التداول في غربة عواصم العالم وأقلّب عملتهم التي عهدتها على القفا والوجه ، عملة هؤلاء الطيبون الذين غلبهم النعاس أو التعب ، ربما تشغلهم أمور الدنيا عن رد التحية وربما لم يصلهم صوتي ، هل كان خافتا حتى لم يسمعه أحد .. أأتعبهم ضيق الحال .. تغيروا ..
ـ هل تغير الناس ياحاج ..
ـ ماذا .. ماذا تقول ..
عفوك ياحاج ، أرى الأمور تغيرت كثيرا وحال الناس أيضا ..
ـ تغيرت ، هه ، كثيرا يابني ...... كثيرا ..
ـ ولكن ياحا..!..
و... لم أكمل سؤالي وقد غطس العجوز في بئر آسن من الذكريات مجترا بإغفاءته المفاجئة أسماء أبناءه في بلاد الغربة ، فيما أسقطت خدي على كتفي ورحت أنتظر مع الآخرين لحظة الوصول إلى البيت الذي فارقته أعواما يطول فيها الكلام .
الحافلة تطوي الطريق ، أراض قفر يغطيها الملح ، تشرئب أدمتها باتجاه الشمس وهي تمتد على الجانبين . عراء مترام يغمر العيون وان كان ثمة شيء يمسح عنها غبارها وقفرها فهي الأشجار القليلة التي تنحني أمامك بخفقان أوراقها الخضر ، تقبل التراب وتلقي تحيتها للهواء العابر . بيوت الطين بين المستنقعات المعشوشبة ، كثبان الرمل ، السدود المهدمة ، نفايات الأرصفة ، الوجوه التعبة التي علاها الغبار .
حين وصلت دفنت حيرتي في كل ذلك وودعت خوفي هناك ، طرقت الباب طرقات عجلة متلهفة ومتواصلة ، اشرأبت خمسة أعناق نحيفة باستدارات أقنعة وجوه ذاوية انتهت بشفاه ذابلة ..
ـ من أنت ..؟
تحركت شفتان شائختان بعد أن التوتا وغابتا وراء الباب ..
ـ أنا .. أنا ..!
وقبل أن أكمل نطق حروف أسمي اختفت الوجوه وكان الوقت قد جاوز الثانية بعد منتصف الليل ..لم يعرفني أهلي ، ربما كان معطفي الأسود الطويل بياقته الماموثية وأكمامه التي تغيّب الكفين يلقي بظله الوطواطي المخيف على حدقاتهم حين تبرق السماء ، وربما أخطأت العنوان بعد طول الفراق . درت ثانية بين بيوت الزقاق المظلم ، انزلقت قدمي بالصدفة فوق ذات العتبة التي حفظتها عن ظهر قلب متذكرا أوباتي الثملة في الليالي الخوالي بصحبة المتمردين من زملائي و .. واصلت الطرق لدقائق ، الدقائق التي استطالت وغدت أعواما .. انه بيت أهلي وذات العتبة التي ثبت أقدامي عليها ذات يوم و .. رحت أنتظر نهاية لطرقاتي المتواصلة ، في البدء كانت الطرقات واهية كما لو أي متسول يطرق باب الغربة وهو خالي الوفاض ، في نهاية ألأمر عبت العتبة وفتح الباب .
ـ ماذا حدث لكم ..!..
لاأحد غير الصمت رد عليّ بلسان فصيح ، فيما تعثرت خطواتي في زاوية الغرفة بجثة ابن أخي الذي بلغ الثامنة عشرة وهو يجهش بالبكاء ، لقد تركته وهو لايزال يحبو وكانت أمي صامتة بفوطتها الرمادية وملامحها الكالحة وقد زمت على شفتيها المتيبستين فيما انحرفت حدقتيها الرماديتين في زاوية حادة ، وكان ضوء الفانوس يعكس ظلاله الماردة التي تتمايل بخمول حول شقيقتيّ المقرفصتين قرب الموقد النفطي بثيابهن السود وربطات رؤوسهن الموشاة بورود بنفسج تنحشر بين استطالات صفراء من خطوط متوازية ومتقاطعة وقد كبرن كثيرا . فوق السرير انزوت زوجة أخي الذي أعدم إبان الحرب الأولى وقد وخط الشيب مفرقها ، كانت صامتة أيضا وهي تداعب خرزات مسبحة سوداء بين يديها المعروقتين . صمت أمي دام لدقائق لم تفتح فمها بشيء وكنت صامتا أقلب نظراتي بينهم حتى إذا اصطدمت عيني بحافة السرير وغطاءه المهلهل ، المتآكل الحواف همست ..
ـ ماذا جرى ياأمي ..!
ـ ......... !
وعلى حين غرة تفجرت صرخة أقفلت عليها الضلوع طويلا فاهتزت جدران صمت البيت وترجرجت الثوابت من حولي ، غامت عيناي وتداعى الصمت أمام نظراتي الصماء ، حاولت أن أقف متصالبا فخذلني الجسد ولم أشعر بعدها إلا بأنامل رقيقة تجوس على صفحة وجهي تمر على التجاعيد الغائرة ، تمسح صدغي والشفتين . فتحت عينيّ على ابتسامة حزينة تتخلل الدموع والأصابع العجاف وهي تمسك طرف فوطتها .. انها أمي .. المرأة التي غادرتها يوما على ذات الدموع والكلمات المتوسلة التي حفظتها عن ظهر قلب ..
ـ لاتهاجر ياولدي عسى الأمور تتغير ..
ـ انك لاتعرفي ياأم .. لاأستطيع التحمل أكثر ..
ـ ولكن من لنا بعدك يابني .. ؟ قالت ذلك وسالت غدران من الدموع على وجنتيها الغائرتين ، ورحت أنتظر نهاية لكل ذلك وقد مرت الساعات طويلة وأنا أحدق نحو السقف بنظرات شاردة تربكني بين لحظة وأخرى ذكرى هجرانهم وهم مكبلون بالفاقة والعوز ، بضعة دولارات لاتردم الهوة التي اتسعت بيننا .. ماالعمل إذن ..!.. إلى أي شيء ستفضي محاولاتي العقيمة وكيف الوصول إلى قناعاتهم وإفهامهم مدى انهياري النفسي إذا مابقيت بين ظهرانيهم وعيونهم تراقبني ، تخترقني ، تعاتبني على الرحيل. .
ـ ولماذا جئت إذن .. ! ..
همست الأخت الصغرى ..
ـ لسنا بحاجة إلى أموالك ..
أضافت الأخرى بنبرة متحاملة ...
ـ لاأحد فيكم يفهم وضعي ..
همست بذلك ورحت أقلّب أفكاري حتى انبلاج الخيط الأول من الفجر ، لم أنم تلك الليلة ، خرجت إلى باحة البيت ، كانت العصافير تعترك فيما بينها وكان الهواء رطبا نديا . مررت تحت شجرة السدر باتجاه باب البيت ، كان مفتوحا على مصراعيه رأيت ابن أخي يجلس مقرفصا عند العتبة ، وحين سمع وقع خطواتي حرك رأسه نحوي وسرعان ماأخفاه بين ساقيه .
ـ متى نهضت ياولد ..؟
وقبل ان أسمع رده لاحت امرأة بعباءة سوداء لاتتجاوز الثلاثين مرت قربنا دون أن تلقي التحية ، جوع الأنثى تحجر بمقلتيها ويأس عميق تعلق بحركة كفيها المعروقتين وخطواتها المضطربة ، لم تحيّي ولكن نظراتها ظلت مثبتة عليّ في لحظة خاطفة وهي تجتازنا ، سألت ابن أخي الذي اتكأ على حافة الباب وبدا شارد النظرات همس وهو يتثاءب . .
ـ انها تسأل عنك دوما ..
قال ذلك بنبرة تشوبها المرارة ، فعرفت انها " فرح " الفتاة التي تركتها تلوك اللبان بطريقة مضحكة وعلمت ان قطار الزواج قد تجاوزها دون أن يلوح لها أحد من عرباته المكتظة بالفرسان العازفين عن الزواج ، الذين ثلمت حراب أمنياتهم الحروب الخاسرة التي أشاخت فتوتهم قبل الأوان . صفقت باب الصفيح ورائي فتساقط الصدأ منه وصاح بن أخي ..
ـ على مهلك ياعم ، فقد أصلحناه قبل أيام ..
ـ وأنت ماأخبارك يابطل وأين وصلت في الدراسة ...؟
صمت آخر وعينان ذاهلتان ، لم أزد على سؤالي شيء إنما علمت فيما بعد من أنه ترك التعليم منذ زمن طويل ليعمل في مهن كثيرة. .
ـ لقد تغير كل شيء .. ؟
همست بذلك فيما تناهت كركرات مخنوقة من وراء باب الغرفة . الفتاتين في انتظار من يطرق عليهن الباب ، يحلمن بفارس ما ربما لن يجيء ، الأم تنزوي في ركن آخر تنتظر أجلها وتنظر إلى ابنها البكر الذي عاد خالي الوفاض ، والبلاد ؟؟؟؟؟؟؟؟



#ناصرقوطي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ليل الأبد
- حلم غريق
- لعبة
- حلم يقظة
- مايتبقى من البياض
- آخر العمق
- الأعور والعميان
- السلالات السعيدة
- فتيات الملح
- خضرقد
- غرباء
- أعماق
- الحائك
- ايقاع الأمكنة
- قصة
- المحنة
- عين النخلة
- وهم الطائر
- قصة قصيرة
- قراءة في مجموعة - خمار دزديمونة - للقاص فاروق السامر


المزيد.....




- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...
- حديث عن الاندماج والانصهار والذوبان اللغوي… والترياق المطلوب ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ناصرقوطي - انتظار الظل