|
ايقاع الأمكنة
ناصرقوطي
الحوار المتمدن-العدد: 3215 - 2010 / 12 / 14 - 15:27
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة ( حذار من أن تظل صامتاً ، وإياك إياك أن تمنع صوتك عن الجهر باسمها ) قال جدي هذا حتى عششت نبرات صوته الحادة ، وسعاله المتقطع بين كلمة وأخرى في ذاكرتي ، مع إحساس بالدوار ظل يلازمني كلما كنت أعبر الجسر ، يوم كنت أطلق صرخاتي ، بل عواءاتي المتقطعة المتلاحقة جيئة وذهابا بين نقطتي الجسر ، لاهثا المسافة بذهن مشوش وفم مفغور على ريح جنوبية دبقة ثقيلة ، حيث لاأثر للحياة من حولي ولاهدف لغير هذا العناء الطفولي على رؤيتها والإصرار على تحدي الظلام بقبضتين صغيرتين لاتطبقان إلا على الفراغ ( ارفعوا الدثار عنه ، اتركوه ينادي باسمها حتى يبح صوته ، وستزول عنه الحمى والهذيان باسمها ) .. لن أنسى هذه الكلمات التي رسخت في وجداني ، كما لن أنسى العينين السوداوين لشقيقتي الصغرى وهي تغرق في مياه الشط ، وأنا أقف مشدوها دون أن أفعل شيء حيال دوامات المياه التي كانت تشدها إلى الأعماق . وبعد مضي أعوام طويلة حين كبرت نخلة الدار وأطلّت بسعفها من وراء الجدار فيما المدينة أغلقت أبواب بيوتها ومحالها مبكرا ، كنت أعبر الجسر ، أدوس على أولى فقراته القطنية حتى منتصف عموده الفقري الذي راح يتأوه تحت ثقل قدمي ، خيل لي أن عباءة سوداء تخفق فوق رأسي ، فيما تكاثفت غيوم سود في السماء .. ظل العباءة الساقط تحت قدمي يبدو كخفاش ضخم بجناحين متهدلين ؛ وعلى الجانبين تبدو مياه شط العرب أشرطة متعرجة لاصفة من معدن ثقيل ، غير مبالية بما يجري حولها ، فهنالك الأعماق المظلمة المستباحة من مئات الجثث ، بين غرقى وقتلى الحروب على مر الأعوام ، سكونها وصمتها راحا يديفان حنجرتي بلهب آتون مضطرم ويدفعانها إلى صراخ طويل ليستحيل في نهاية الأمر إلى عواء موحش . عواء ذئب وحيد جريح ولاشيء آخر على امتداد الجسر . الظلمة تشتد ، العواء يتقطع متحشرجا تارة وأخرى متواصلا مديداً فوق حديد هذه الفقرات الممفصلة ، التي اعتادت أن تظل عتبة منحنية تطأها الأقدام المتعبة والعجلات المحملة بالقتلى ممن ماتوا في الحروب والنزاعات الكثيرة البائسة .. من منتصف الجسر رأيناها تقذف نفسها في الماء ..!.. حتى ان عباءتها علقت بين مفاصل الجسر .. وأكد آخرون .. منذ ليال ثلاث كنا نرى عباءتها تطير وتحوم حول المكان كما صرح رجل في نحو الأربعين حين قال .. ولكن لم يُعثر على جثتها حتى الآن ، هذا ماأكده أحد أفراد طاقم الإنقاذ .. همست في دخيلتي وأنا أسترجع ماقاله الآخرون عن الحادث .. أنها لازالت تبحث هناك في الأعماق المظلمة عن طعام لصغارها الذين أرهقهم وأرقهم الجوع والانتظار ، كنت أعرف أنها ضحت بآخر مالديها من أغطية ووسائد لتسد رمقهم . في نزل متداع كانت تقيم فيه ، وكل ماتركه لها الزوج خمسة صغار وبقايا رميم عظامه التي لم يعثر عليها أحد في مقابر التصفيات الجماعية ، التي كانت الحكومة شديدة الحرص على إخفاء معالمها في أرجاء البلاد . غير ان الصورة التي لم تقدر الأيام على محوها من ذاكرتي ، عادت تومض وتظهر من جديد كلما وطأت قدمي المكان .. صورة جدي وهو يلعن الحكومة التي لو وضعت سورا على الشط لما انزلقت حفيدته الصغيرة وابتلعها المد .. ( لاتخف ياولد ) كان يقول ممسكا عصاه المعقوفة بكلتا يديه المعروقتين ، فيما يتكسر صوته رخيما متحشرجا .. ( لاتخف ياولد ، فكلما رفعت صوتك عاليا فستشد من أزرها ، وستراها يوما ما ) .. ولكن ذلك لم يحدث حتى بعد ان شربت مياه الشط كل نأمة من صوتي ؛ حتى نسيت ذلك بمرور الوقت وتوالي الأعوام ، غير أن حادث المرأة المتلفعة بالسواد أعاد هاجس الاختناق والخوف إلى دخيلتي وقد تجسدت أمامي بأجلى صورها حين انتصف الجسر تحت خطواتي وتراءت لي ـ بين الحقيقة والوهم ـ كتلة سوداء تقع على الطوافة السفلى للجسر ، جفلت باديء الأمر ، مددت عنقي بحذر شديد خوف أن أفزع هذا الكائن المقرفص شديد الحساسية ، وقد غلفه الظلام بعباءة سلخت حلكتها من محيط المكان المدلهم . رفعت كفي اليمين لأطلق معها سؤالا شد ماحيرني ، ولكن صوتي كان قد فح في الهواء الثقيل ولم أعد أسمع غير همسات لامعنى لها راحت تتفتت ، وكان الصوت ينشطر ، يغور نحو أعماقي الخائفة التي تتماوج بأصداء الصرخات والاحتجاجات التي أطلقتها ذات يوم بين جزيئات هذا الحديد البارد .. ـ منذ أعوام أبحث عنك ، لم تركتني ..!؟ همست في داخلي وأنا أنظر إلى وجهها الكالح منزويا في كرة ظلماء ، غير أن البرق أنار للحظة خاطفة وسكب عليها لونا أخضر سرعان ماكشف عن وجه كبريتي بعيون غائرة وأنف مستدق وفم مزموم على الصمت ،لم تقل شيئا .. لم تخف ، إنما لفّت عنقها باستدارة كاملة وأحنت رأسها إلى الأسفل وعوت مثل حيوان جريح وهي تلتحف عباءتها .. لملمت خوفي وصرخت ثانية ـ كنت سأنقذ أطفالك أيتها المرأة الغريبة ، لِمَ تعجلت النهاية ..!؟ ولكن الصوت مالبث ان تفتت والتصق بهواء رطب ثقيل. كررت الصوت مرات عديدة ولكن عبثا ماكنت أقوم به ، لقد ران الصمت في اللحظة التي انزلقت فيها إلى مياه الشط تاركة عباءتها ثقيلة السواد تطفو فوق المياه مثل شيطان بحري ، فيما تطلق قهقهات هستيرية تردفها بلعنات مشوشة . فمها الضفدعي ينبثق من بين زبد المياه في زاوية سكن التيار فيها وغطتها الطحالب وبقايا الأشنات ، قرب طوافة الحديد الزنجارية التي تحمل الجسر . كانت تشتم وتبصق زبدا أسود نحو نتوء الحافات الكونكريتية لنصب الجنرالات ، وهي تقف بصمتها الفولاذي الذي أمطرته بوابل من اللعنات .. أي تفو .. لقد بعت كل شيء ألا تفهمون .. تفو ..!؟ كنت كما لو سمعت صوت لعناتها من عمق المياه .. لا .. إنما تردد من بين ضفتي الشط ، انبثق من كل الزوايا المظلمة البعيدة بما يشبه الأنين ، متحشرجا ، مخنوقا ، متقطعا كما لو أنها تغرق ويسحبها التيار إلى الأعماق في لجة صاخبة ؛ لم يكن في صوتها مايشف بأنها كانت خائفة لحظة إن رمت نفسها بين أحضان الموج ؛ إنما كانت أشد صلابة من معدن الجسر ، ولكنها محبطة وبمنتهى اليأس والقنوط . ( لاتخف ياولد ، لاتخف ) عاد الصوت هامسا ، رقيقا هذه المرة ولكن من الذي حدثني ..!.. ربما صوت العجوز انبثق من الأعماق المظلمة التي جرفته ذات يوم خريفي ، وربما صوت خوفي تردد في داخلي وربما... آآآ ... ـ وحدي هنا ...!.. صرخت مبددا رذاذ المطر الذي بدأ ينث أمام وجهي . وبقفزة يأس مفاجئة ألقيت نفسي وسط المياه ، لاطما بأذرع خدرة ثقل الموج الرصاصي الذي كان يندفع ليغمرني . كنت أعوم ضد التيار ، لابطا بين زخات المطر ، مزيلا السيقان البصلية وشبكات الطحالب التي تعيق تحركاتي ، وفي البعيد عند الضفة الأخرى تتضح أشباح نسوة مقرفصات يطلقن نذورهن مع الشموع الطافية فوق السطح . أمهات كثيرات اعتدن الخلوة ، يبددن ظلام الموج ويبعثن بشكواهن إلى الريح التي تسوق نذورهن خوف أن تطفئ ذؤابات قناديل أمنياتهن . وأنا وحدي أكافح ضد صفعات المياه الثقيلة اللزجة ، الأعماق المظلمة تناديني ، تشدني إلى القاع وفي أعماقي هاجس من إصرار عنيد على أن أجدها ../ لاجدوى من كل ماتقوم به / .. خاطر همس في أذني .. :- بل سأغوص إلى العمق وان امتلأت رئتي بالمياه ، سأصل ..!؟ صرخت من بين الموج ورذاذ المطر الذي يسفع وجهي ويستفزني ..!؟ ـ أي إلهي ، رب هذا الشط .. أيها الماء تسربلني ، تسرب عبر أوردتي الضامرة ، توحد مع نبض القلب . أيها الشط هبني قسوتك ، جبروت صمتك وصبرك على البقاء وحيدا ، آخني ياشط ، آزر ذراعيّ اللتين تسرب إليهما الخدر والملال من كثرة العوم وحيدا . وأنتن أيتها الأمهات الصابرات ، الصامتات على مر السنين ومراراتها اصرخن عاليا ، وأنت أيها الجسر بوصلتي لاتشر إلا إلى العمق وأكاد أغرق ، أغوص إلى قاع من الطمي سيغمرني مع من دفنوا أحياء تحت ظلال حديدك البارد الصدئ . . لقد اتحدت مع الماء حتى غدت كفي موجة هاربة ولم يعد بمقدوري التحكم باتجاهاتها ، غدوت جزءاً مخيفا من ظلام الشاطئ .. غيمة ظلام .. الظلام الذي حاصرني في السكون المستتب ، حاصرها وأطبق فكيه قرب طوافة الجسر التي نهشها الصدأ . رأيتها وحيدة ، مستفزة ، مستفردة من بقايا الليل ، شاحبة الملامح تلقي عباءتها على سطح زورق متروك ، تنسلخ من هيأتها إلى صبية صغيرة ، رأيت فيها وجه شقيقتي الصغرى اندفعت نحوها ، رفعت ذراعي لأضمها ولكنها سرعان ماابتعدت مطلقة وراءها قهقهة مجلجلة ، تحولت إثرها إلى شيخ عجوز يلاعب عصاه . اندفعت أكثر داخل السد يم ، وهناك ، تحت الجسر ، على خشب الزورق المنسي بكت وتحولت إلى امرأة نحيلة في الثلاثين ، ثيابها السود اللاطية على جسدها تفضح أي جوع يربض هناك . كانت تصرخ وكنت أرى النوخذة السكير يفترسها ، رحت أضرب المياه بعنف لكي أقترب منها . صرخت وفمي ممتلئ بمياه الشط المالحة ..!؟ ـ ياسليمة ماالذي جاء بك من الزبير إلى هنا ..! ولكنها لم تجب إنما همست من بين شفتيها .ـ : كلكم زناة أو كلكم جناة ..؟ اعتقدت أنها ستوضح وستقول من أنها مرة واحدة فوق سطح لزورق ومن أجل قوت الصغار ..و.. كان عليّ أن أتقدم أكثر وأغوص أعمق حتى أسمع ماتقول لكنني لم أعد أمتلك الجرأة على النفاذ والإيغال أبعد داخل اللجة المظلمة ، بين انثيال المطر الذي زاد الليل وحشة من حولي ، حين ناداني ضعفي إلى الانسحاب مهزوما إلى الأبد ، تتبعني قهقهات ساخرة من كل الغرقى الذين توسدوا قاع الشط . مئات الغرقى يهرولون خلفي ، يحاصرونني من كل مكان وأنا أعدو لاهثا بذهن مشوش وفم مفغور على ريح جنوبية ، دبقة ثقيلة ، فيما المطر يسفع وجهي وأرديتي الخلقة المنقوعة بالماء ، مشرعا نافذة ذاكرتي لسيول الموج وهي تصطخب ، متنبها بعد لأي إلى وقوفي وحيدا ، ثملا بحبات المطر وهي تتقافز فوق الحديد اللامع للجسر .
#ناصرقوطي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة
-
المحنة
-
عين النخلة
-
وهم الطائر
-
قصة قصيرة
-
قراءة في مجموعة - خمار دزديمونة - للقاص فاروق السامر
-
رواية شلومو الكردي (وأنا والزمن)دراسة نقدية
المزيد.....
-
زاعما سرقة فكرته.. المخرج المصري البنداري يحذر من التعامل مع
...
-
جرأة محفوفة بالمخاطر.. شهادات علنية لضحايا اعتداء جنسي تتحدى
...
-
الفرانكو- جزائري يخرج عن صمته ويعلق بشأن -فضيحة حوريات-
-
نافذة جديدة على العالم.. مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة ا
...
-
شون بين يتحدث في مراكش عن قناعاته وتجربته في السينما
-
تكريم مؤثر للفنانة المغربية الراحلة نعيمة المشرقي في مهرجان
...
-
بوتين يتذكر مناسبة مع شرودر ويعلق على رجل أعمال ألماني سأله
...
-
على طريقة أفلام الأكشن.. فرار 9 سجناء من مركز اعتقال في نيس
...
-
-الجائزة الكبرى للشعر الأجنبي- في فرنسا لنجوان درويش
-
الخنجر.. فيلم من إنتاج RT يعرض في مسقط
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|