أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ناصرقوطي - المحنة















المزيد.....

المحنة


ناصرقوطي

الحوار المتمدن-العدد: 3216 - 2010 / 12 / 15 - 01:12
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة ناصرقوطي




المحنة

مشوشة ، مشوهة ، هي الأصوات التي تصلني عبر الترددات التي تضرب طوقها حولي ، أذناي تمتصان كل نأمة هاربة من بئر الظلام الذي بدأ يتسلل إلى أزقة موحلة ، لزجة . كما لو تلتقطان صوت صنبور متروك يرنم آخر قطرات الماء وهي تنضب في الحوض الجاف . رأسي يدور ، يلف مثل رادار في العراء ، كتلة حذرة ، مشحونة بأعلى بطاريات الحذر والتوجس ، ينصت في الغرفة المظلمة قبل أن تطأ قدمي عتبة الباب ، رأسي يتلصص ، بعينين متحفزتين لأي شبح يحرك الظلال الساكنة .. ماذا سأصنع بنصف وجهي الآخر .. سألت متحسسا بأطراف أصابعي ، التغضنات العميقة والجروح التي مازالت تنزف بالرغم من العقارات الطبية العديدة التي استخدمتها ، ثم خطى جسدي نحو الباب ، اندفعت في الوقت نفسه عدة أصوات مختلطة ، استطعت فرز بعضها ، نباح كلاب بعيد ، صراخ طفل صغير ، صوت مؤذن عجوز يتناهى متحشرجا ، ترنيمة امرأة تنوح على فقد عزيز لها . غدوت خارج الغرفة ، في بداية الزقاق تحديدا ، وبمواجهة الأصوات التي ازداد وقع ترددها في سمعي ، درت عبر أزقة الحارة التي يعمها الظلام ، دون أن يراني أحد ، لأنها كانت خالية وكنت قد احتطت على أن لايراني أحد ، رغم الأصوات التي تعلوا في الغروب ، المزابل تعلو ، تتراكم ، في الزوايا ، تبث روائحها .. سأنزعه وألقيه في أي مزبلة قريبة دون أن يراني أحد .. همست ثانية ولما تزل أصابعي تتحسس نصف وجهي الغريب وشفتاي تهمس .. ما الذي فعلته الأيام بك ومن ذا الذي شوه وأربك صفائه .. همست وأنا أوعز لأصابعي لتتحلى بالشجاعة وتنزع القناع . قناع زنجاري ، مثل جلد حذاء شيطته النيران ، يوحي للرائي بأنه لأحد وجوه القتلة أو المجرمين ، مالم يكن عارفا بما يمور في أعماقي من صفاء بلوري . لا أخرج في النهار ، فقد بات الليل ساحتي الوحيدة ، كهفي ، منجاي ، تطلعي ، إطلالتي على العالم ، تشوفي إلى المستقبل الذي أبغي . غدوت لا أرى أطلاله . أطلال وجه تشارف ملامحه على الاندثار . أي وجه آخر غير وجهي في المرآة ، نصف الوجه النكرة الذي يهشم أنقى المرايا بقبحه .. أتهرب من وجهك ؟ ، أتتخلى عنه ؟.. سألت لحضتها وأنا أتلصص على مزبلة قريبة وعدت أهمس في دخيلتي .. انه المكان الوحيد ، سألقيك هنا وأتخلص من رعبك اليومي الذي يداهمني في أشد الحالات صحوا وفي أعمق غفواتي البكر .. تحركت أصابعي لتنهش النصف القبيح ، غير أن قطة صغيرة جائعة اندفعت فجأة وراحت تموء بين ساقيّ ، فأجلت قراري الى حين وسألت.. متى أصحو ولا أراك .. أضفت وأنا أتحسسه للمرة الألف .. متى أخلص من عاهتي وللهزيمة طعم المرارة ، أأهزمك هذه المرة ، أواجه بشاعتك ، أم أن الهروب أقرب طريق للنجاة والعزلة . روائح مختلطة تبثها المزبلة القريبة ، ونغمات الأصوات التي أتحسسها الآن وهي تأتي مع النسمات غير النغمات التي كانت تستشعرها منابت الزغب في أذني ، النسمة غير النسمة ، نظرات الناس غير النظرات ، وحدتي المريعة تكثف هزيمتي ، خصال الخفاش غدت خصالي الوحيدة ، أذناي استطالتا وتقعرتا ، فمي استدق وراح يطلق نهنهات أصوات تصيء ، عيناي اندثرتا ، وليس سوى صوت فأري يصطدم بالجدران ليدلني على الطريق الذي أبغي ، ويرسم لي المسارات والجادات التي أخطو إليها . خفاش ذكر ، يرشح ذكورته على حائط غرفته خلسة ، يتلصص لشبح قطة بعباءة ، وينزو على ظلال راعشة ، أحيا بوهم حلم أكثر وقعا وتحسسا من ملامسة الجسد والموجودات الأخرى ، شبق مفارق لخصال سويي المجتمع من قادة وموظفين وأساتذة جامعات ومرتزقة تدفعهم ساعات الغروب نحو أسرة نسائهم وقبلاتهم ، اعتدت ذلك بمرور الوقت ، لا أرتبك عند رؤيتي الجدران العالية والمزاغل وحتى الظلال والأشباح ، أرتبك عند رؤيتي الناس . قط هرم يتملى قوامي الممشوق ، يحدق بوجهي ، ينصت لنهنهاتي ، يتربص حذرا وسرعان ما يذهب مدمدما بعبارات غير واضحة . كلاب ضالة ، أباغتها في الزوايا المعتمة وهي تتشمم المزابل ، تطلق تكشيرة رعب توهمك بأنها تبتسم لك ، أنوفها تتداعى نحو أذيالها الوسخة الملتصقة بين أفخاذها ثم تتقهقر ساخرة إلى مطعم قريب أو يغيبها زقاق مظلم ، حيث لا يراها أحد وهي تهرش جلدها ولا يسمع إلا صوت نباحها المتحشرج ، خطوت مبتعدا عن نتانة الرائحة التي كانت تفوح قربي وفكرت بصوت عال .. ضقت ذرعا بكل شيء ، من وجهي ومن كل ما يحيط بي ، ليت أن الشظايا غيرت مسارها قليلا واخترقت الرأس ولم تمر كضيف طارئ ثقيل على جلد الوجه ، ولكن بالرغم من ذلك عليّ الخروج إلى الشارع ، سأخرج وهذا هو التحدي الوحيد ، عليّ مواجهة أزمتي ، إرباكي أمام رؤية الآخر لي على حقيقتي العارية الصارخة ، صحيح أن ثمة ثمنا باهظا يترتب على تلك المواجهة ، ولكن على أية حال لابد منها لكسر طوق عزلتي المريرة ، لأحيا كما الآخرين ، أندمج معهم ، أذهب الى السوق ، أتبضع كما يفعل العقلاء من الناس ، أبصق في الطرقات ، أتكلم وأثرثر بكل التفاهات التي ممكن تخيلها ، وبنغمة مقرفة أتجشأ دون أن أعير أهمية لأحد ، أساوم الباعة على أدنى عملة وأنهر المتسولين في الطرقات ، أشتم المجانين وأصفع الصبيان الصغار المشردين في الحارات ، أرتدي ربطة عنق أنيقة على عريي التام وأشتم من هم أعلى مرتبة مني ، وأتسلح بمهاترات لغة القواميس وآخر كتب النقد التي تستشري في البلاد ، سأكون سويا ، وأأهل نفسي لأغدو بطلا ، أو أي شيء آخر له خصوصية وبامتيازات لاتختلف عن أبناء جلدتي ، سأبتكر حكومة وأنصب نفسي رئيسا عليها ، ولكن أي دولة تلك التي ستقبلني وأنا بنصف وجه بشري ..؟، أي إرباك يكتنف ذاكرتي الآن ..؟ ، أي هوس هذا وأنت تصبو لطموح غير محدود ولا معقول ، ألانك خرجت من الحرب معطوبا وبوجه أكثر إرعابا من خفاش في ظلمة كهف ، وما هذه المدينة التي تحيا فيها ، فما هي إلا كهف مظلم من كهوف العصور الغابرة ، بناسها المريعين بوجوههم ورؤوسهم الضخمة وشعورهم ولحاهم الشعثة ، وجباههم الموسومة كما وسوم الثيران والعبيد في العصور الغابرة ، لأصمد إذن ، لتصمت ، لاتثرثر .. همست وأنا أتلصص عبر الزقاق ، ثمة سوق قريب ، الأضواء الفاضحة تترنح عبر حركة أجساد العابرين .. نصف وجه سليم وأعضاء بشرية كاملة لم يصلها العطب بعد وتستطيع أن تلتحم بها مع أبناء جلدتك ، لِمَ التردد ، تقدم .. أقنعت نفسي ، آزرت قراري فجأة ، تقدمت ، خطوة ، ثلاث ، عشر ، اقتربت إلى السوق ، ويا هول ما رأيت .. هل مرت حروب عديدة عليهم .. تساءلت وأنا ادقق النظر في وجوه الناس التي كانت أشد إرعابا من وجهي ، شفاه تتدلى على لحى طويلة ، ألسنتهم تندلق لاهثة شرهة ، عيون زائغة تخرج من محاجرها وكروش ضخمة تتدلى ، تسيل بشحومها وصديدها ، نظرت طويلا ثم تقهقرت عن السوق ، ذهبت الى مكتبة قريبة ، كان روادها يتشابهون ولهم ذات الملامح المريعة . لم يعرني أحدهم انتباهة ، أو يكلف نفسه في التفاتة عابرة غير بعض صبيان الحارة الحفاة الذين كانوا يشيرون ساخرين من نصف وجهي السليم ، الذي أثار حفيظة بضعة رجال ملتحين أداروا وجوههم نحوي وهم يحيطون أنوفهم بقبضات قاسية خشنة ، وفي زاوية قريبة مظلمة، زاوية زقاق متروك ، زقاق لا تسكنه غير الجرذان والكلاب السائبة ، رحت أقشط الجلد بأظفاري المتأهبة التي راحت تهرش وتسقط ما بقيّ من آخر جلد فيه ملمح إنساني سليم في المزبلة .



#ناصرقوطي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عين النخلة
- وهم الطائر
- قصة قصيرة
- قراءة في مجموعة - خمار دزديمونة - للقاص فاروق السامر
- رواية شلومو الكردي (وأنا والزمن)دراسة نقدية


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ناصرقوطي - المحنة