أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الحاج صالح - البوسطة














المزيد.....

البوسطة


محمد الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 3246 - 2011 / 1 / 14 - 00:36
المحور: الادب والفن
    



كانت ثلاثُ "بُوسطات" تعملُ بين "الرّقة" و "تل أبيض". واحدةٌ للطريق الشرقيّ المارّ بوادي البلخ وقرى بدو "عْنِزه". والثانيةُ تأخذُ الطريق الغربي مروراً "بعين عيس" ثم قرى الأكراد. والثالثةُ تسلكُ الطريق الوسطى مارةً بقريتنا "الجرن الأسود" التي أخذتْ اسمها من جُرنٍ أثري لدقّ الحبّ. بالمناسبة قريتنا فيها من الآثار ما يُوحي أنّها كانت على الدوام مأهولة. في قريتنا سواقٍ أثريّة من فخار، ودلائل تشير إلى معاصر زيتون قديمة. وفيها طريقٌ مرصوف بالحجر يسير صُعداً نحو الشمال. مرةً وجدنا جرّة صغيرة من فخارٍ فيها 86 قطعة فضيةً، على وجهها الأوّل "لا إله إلا الله" وعلى الوجه الثاني "الوليد بن عبد الملك".
في أوائل الستينيّات كان سائق "بوسطتنا" أرمنيّاً اسمه "نرسيس". وكان رجلاً مُقتصداً، يبيتُ ليلتَهُ حيثما ينتهي الخطّ عملياً. أي في القرية التي ينزلُ فيها آخر راكب، وكثيراً ما كانت قريتنا تحظى به ضيفاً في المضافة.
كيف لي أنْ أهدأ؟
اليوم سيأتي عمّي محمود من المدينة ومعه أغراضٌ وأدوات للرياضة وعدتْ بها مديريةُ التربية. هكذا اعتاد مديرُ مدرستنا. كتابٌ من ورقةٍ واحدة في ظرف يحملُه أيُّ مسافر إلى المدينة ويسلّمه للمديرية.
ومن يدري ربما أتى عمّي أيضاً بهدية لي!
فكيف لي أنْ أهدأ؟
خارجاً داخلاً، والدنيا زمهريرٌ، والثلجُ يغطّي الأرض. ومن السماء يَهْمي بسكونٍ عجيبٍ رذاذٌ مُتجمّدٌ لا هو مطرٌ ولا هو ثلجٌ ولا هو بَردٌ. وكلما دخلتُ أو خرجت أمطرتْني أمي بكلماتها المحذّرة من البرد و"بالحكمة" الدائمة الُمنسجمة مع برودة أعصابها ونطقها الوئيد "الدنيا لن تطير... كِنْ".
من أين لي أن أَكِنّ؟ أتخيّل "البُوسطة" ترتقي الهضبةَ الشرقيّة من جانبِها الذي لا أراه. أتخيّلها تقتربُ من القمة. أتخيّلُ الحمولةَ المكدّسة على السقف تظهرُ أولاً، ثم تنبقُ البُوسطة وتبدأُ بالنزول ببطء نحو القرية.
أركض بين بيتنا والمضافة. عشرات بلْ ربما مئات المرّات ركضاً ووجهي نحو المضافة في الذهاب، وركضاً متعثراً إلى الخلف ووجهي نحو المضافة أيضاً في العودة، كي لا يغيب الطريقُ عنْ عيني لحظةً واحدة. من هذا المسار أستطيعُ أن أكشفَ كلّ الهضبة الشرقية، ولن يفوتني بُزوغ سقف البوسطة ما إنْ يظهر. سأراها في لحظة ظهورها، كنتُ أهمسُ في داخلي طوال الوقت. لن أنْدار إلى أي شيء.
فجأة وجدتُني اندهشُ. فالبُوسطة كانت قد ظهرت وهي الآن تنحدر نحو القرية وقد قطعتْ مسافةً في الانحدار. يا لي من ولد ساهٍ! مثلما يقول أبي مُعنّفاً. العمى يضربُني، همستُ في داخلي.
وفجأةً أيضاً شرعت البُوسطةُ تترنّح يميناً وشمالاً. والدربُ، الذي يبدو من هنا كخطّ كامل البياض على كتفيه بقعٌ معرّاةٌ، يهرب من تحتها ويعود. لم أدركْ بدايةً ماذا يحدث. لكنْ مع استعراض البوسطة على الطريق مرةً بجانبها ومرّة بمؤخّرتها ومرّة بمقدمتها، أدركتُ أنّ الأمر خطيرٌ.
من هنا كانت البوسطة تبدو لي مثل خنفسة على جدار باغتتْها حركةٌ. تخبّطٌ وانزياحٌ وانزلاق، ثم ركونٌ على عجلتين ثم اعتدال ثم مرة أخرى مَيلانٌ على عجلتين. وفي النهاية مالت على جنبها الأيسر وظلّت تنزلقُ مسافةً والعجلات اليمنى مُشْرَعة في الهواء، ثمّ... وببط اتّكأتْ على صفحتها اليسرى، وهمدتْ.
ما كان في البوسطة إلا "نرسيس" وثلاثة ركّاب من قرية واحدة أبوا إلا أن يكملوا سيرهم على الأقدام. لم يُصبْ أحدٌ عدا عن جرحٍ صغير مثل ثقْب في حاجب "نرسيس". لم يأتِ عمّي "محمود" يومها ولا بعد يومين ولا بعد ثلاثة. أتى بعد شهرين مكسورَ الخاطر بلا هدية لي وبلا أدوات وأغراض الرياضة. ومن يومها راحتْ قريتُنا تتعرّف بصمتٍ على الحكومة الجديدة التي صنّفتنا تحت اسمٍ غريب على الأقل بالنسبة لي كصبيّ.
"إقْطاعِيُّو نَفْسٍ"
هكذا كانوا يلفظونها نحوّية، معربة، مُفصّحة. لم يكن نادراً أن يلفظُها حزبيٌّ أمّيٌ بتفاصح كاملٍ، ليستخدمها كأداة تسلّط علينا.
شهراً بعد شهر وسنة بعد سنة ظلّ اسمنا "إقطاعِيّو نًفْس" يُلاحقُنا. لم نكن نملك أرضاً تستأهلُ إطلاقَ صفةَ "إقطاعيين" لذا اخترعوا هذا الاسم. إنه اسمنا الخاصّ. في الاسم اتهامٌ، وهو اتهام جديّ آنذاك. كم من مشاجرة! وكم من وشايةٍ لدى الأمن وجدتْ آذاناً صاغية! فالترجمةُ العمليّة للتسمية هي "أعداء الدولة".
يشبهُ الأمر نكتةً، مع إنّه وقتها كان في غاية الخطورة والجديّة. والأدهى أن "نرسيس" استعذب التسمية وراح يردّد ساخراً على الدوام بمناسبة وغير مناسبة وبلكنته الأرمنيّة "إقطاعيو نفس" والأغرب أنه لم يلفظها صحيحةً ولا مرّة واحدة.

محمد الحاج صالح



#محمد_الحاج_صالح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أشعريّةُ الشيخ البوطي ومأزقُ الإصلاح الديني
- استعادة يسار الطوائف والأقلّيات
- سلامٌ فراس سعد
- فصيلُ المُهارفة
- إعلانُ دمشقَ في المهجر خطوةٌ إلى الأمام ولكن!
- عملية اختطاف موصوفة
- قانون -يانتا- الاسكندنافي
- حزب الله والقوة ال
- -ما ملكت أيمانكم- وجامعات إسرائيل
- من اغتال الحريري إسرائيل أم حزب الله؟
- تلك الابتسامة
- قناة العالم: انقلاب الصورة والفتنة المبتغاة
- الطليعة المقاتلة وابن لادن وخدمة العمر
- جنبلاط نجاة أم وفاة سياسي
- -أحسنت- مكافأة الخامئني لضيوفه اراديكاليين
- عن التخلف والظلم السياسي في الجزيرة السورية
- نجاد ليس صانع سجاد ولا من يحزنون
- الحادي عشر من سبتمبر نتاج للثورة الإسلامية في إيران أيضا
- وديعٌ ليل الرقة الصافي
- إهانة العرب


المزيد.....




- رابط نتيجة الدبلومات الفنية 2025 لكل التخصصات “تجاري، زراعي، ...
- بسبب شعارات مؤيدة لفلسطين خلال مهرجان -غلاستونبري-.. الشرطة ...
- العمارة العسكرية المغربية جماليات ضاربة في التاريخ ومهدها مد ...
- الجيوبولتكس: من نظريات -قلب الأرض- إلى مبادرات -الحزام والطر ...
- فيديو.. الفنانة الشهيرة بيونسيه تتعرض لموقف مرعب في الهواء
- بالأسم ورقم الجلوس.. نتيجة الدبلومات الفنية 2025 الدور الأول ...
- “استعلم عبر بوابة التعليم الفني” نتيجة الدبلومات الفنية برقم ...
- “صناعي – تجاري – زراعي – فندقي” رابط نتيجة الدبلومات الفنية ...
- إبراهيم البيومي غانم: تجديد الفكر لتشريح أزمة التبعية الثقاف ...
- بوابة التعليم الفني.. موعد إعلان نتيجة الدبلومات الفنية 2025 ...


المزيد.....

- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الحاج صالح - البوسطة