أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جاسم المطير - المريض الشيوعي - الفصل السابع من رواية جديدة















المزيد.....



المريض الشيوعي - الفصل السابع من رواية جديدة


جاسم المطير

الحوار المتمدن-العدد: 970 - 2004 / 9 / 28 - 11:38
المحور: الادب والفن
    


ماريّـا و يوسف العراقي..
المريض الشيوعي
جاسم المطير
( الفصل السابع من رواية جديدة )

(7)
في طريقهما بسيارتهما الصغيرة وهما يسرعان في طريق الهاي وي متجهين نحو مدينة هورن كانت سيزي تتحدث إلى رو برت عن أمها ماريّـا . نسمات باردة تداعب وجهها في يوم من أيام تموز بدأ صباحه بمطر كثيف . شعرها الجميل يتماوج قليلا على وجهها الرائع الدقيق في تقاطيعه ..
فتاة العشرينات تبدو للناظر كزهرة ذكية الأريج تهرق عطر شفتيها في مغازلة روبرت الممسك بقوة يديه الضخمتين مقود سيارة صغيرة قديمة كما لو كانت تلقي عليه دروسا في الحب ، تتسلل إلى قلبه بكلام مثل شبكة صيد ، تحاول أن تغريه بان ينسى موعد وصولهما إلى دار والدتها ماريّـا بالتوقف قليلا أمام مقهى كي يحوط صدرها بيديه مقبلا شفتيها بالحب والروح والجمال كما تتحدث دائما عن زهو القبلة حسب فلسفتها الملخصة بقولها : علينا أن نأخذ من الزمن أفضله .
أفضل الأزمان عندها هو زمن القبلة . تحب القبلة باعتبارها الرواء الفعال لقوة شبابها الزاهر في أوله . حين يعانقها رو برت في أي وقت تشعر بالراحة ينتابها إحساس حال فراق شفتيها عن شفتيه أنها زهرة خفيفة تتحرك على إيقاع . حين تشاهد الشباب يتعانقون ، يقبّل بعضهم بعضا في الحدائق والقطارات والمطاعم والحانات تشعر كأن نسيما هب في وجهها يدفعها لتأكيد حقيقة ما قرأته بمقالة الصحفية الشهيرة سيفل جان بجريدة ترو : هذا زمان القبلة ..
القبلة كما تقول سيفل هي القوة القديرة كل القدرة على تحويل زمان الحروب إلى زمان للسلام وزمان الكراهية إلى زمان للحب وزمان الفقر الروحي إلى غنى .
سألها روبرت ذات مرة:

- ألا تشبعين يا سيزي من عناق القبل..؟

- لا أشبع من حبك يا عزيزي و القبلة وسيلتي في الحفاظ على حبك..



تحدّته بابتسامة وقبــّلته متقدة برغبة حارة .
تشعر بمزيد من السعادة كلما اقتنع رو برت أن تنام معه نهارا . ذلك يعني أنها مدعوة إلى أداء دور جدير وإنجاز مهمة كبيرة بستار خفيف تحت ضوء الشمس.. تخلع ملابسها وهي تغني.. تضع على جيدها حلى جميلة وفي أصابعها العشرة اجمل خواتمها وتعلق بأذنيها نفائس أقراطها بعكس كل الفتيات اللاتي نام معهن روبرت قبل أن يتعرف إلى سيزي فحين يمسهن سحاب الجنس يسرعن في خلع جميع مواهب التجميل الصناعي من وجههن وأياديهن . لا تدري لماذا يسعدها النوم في النهار أكثر من سعادتها في ممارسات الليل كما يشغف به روبرت . في بيت جارتها معلمتها في المدرسة الثانوية السيدة دورانا سمعتها ، حين كانت في الرابعة عشرة من عمرها ، تقول : الممارسة الجنسية في النهار مثل الحلي النفيسة نراها كالشمس وفي الليل نحسها رحلة متعبة.
ظلت قبل تشغيل السيارة بقليل تتلفت حولها في قلق ظاهر، فليس من عادة روبرت منذ عام كامل أن يغادرا شقتهما من دون ممارسة الجنس ولا بعد قليل من وقت العودة إليها فهو يكرس وقته لحبه والجنون بجسد خليلته . لكنها المرة الأولى تحدث اليوم ، لم يجرجرها إلى الفراش عندما تثيره نفسه حنينا إلى الجنس في كل مرة يراها منشغلة بوضع ماكياج ثقيل على وجهها . اليوم لم يود العناق معها ولم يمارس معها ما اعتاد عليه فقد كانت المكالمة التلفونية من ماريّـا تقول بارتباك واضح : تعالوا فوراً .. الأمر خطير جدا ..

أقلقه هذا الأمر فجعله يجر سيزي جرا سريعا إلى السيارة قبل أن تطأ مساحيق المكياج وجه حبيبته مؤجلا زمان هدهدة نفسه في جسد سيزي من النهار إلى الليل بعد أن يكشفا سر وحقيقة نداء ماريّـا وخطابها التلفوني الموجز المبهم. لم تفقد سيزي ابتسامتها من على شفتيها كما ظلت عيناها الزرقاوان تعبران عن شوق وحب واثقة أن روبرت سوف لا يخل بوعده الليلي فمن صفاته أنه لا يتهور مع مواعيد الجنس في الليل .
لم يدر بخلد أي منهما ما القصد من مكالمة ماريّـا مع ابنتها سيزي وطلبهما الحضور الفوري السريع إلى مدينة هورن .
- ترى هل هناك أمواج جديدة تلاطمت بين أمي وأبى .. هل هناك حادث ما وقع في حياة يوسف.. ؟
لم يكن رو برت راغبا في مشاركتها البحث عن الحادث المتوقع والحديث المتوقع. كل شيء يصبح يسير الفهم بعد ساعة .


لكنها ما صبرت على سكوته :

- ماذا تظن يا رو برت .. ليس من عادة ماريّـا أن تقول شيئا بلا تفاصيل . تهلل أبسط تحياتها معي دائما بالحديث والثرثرة عن البواقي من الزهور في حديقة بيتها وبأنواع الدانتيلا في السوق وعن نوع الفلفل الجديد النازل مع الخضار . ما سبب ارتباكها اليوم .. لماذا كانت وجلة من الكلام ولماذا هادئة في كلامهاعلى غير عادتها .. ؟



- لا أريد معرفة كم زهرة ميتة وكم زهرة ذابلة في حديقة بيت والدتك يا سيزي .. اصبري قليلا .. بعد قليل ستغوصين في مياه حارة زاخرة بالصراعات ... لا تفزعي .
- لست فزعة من شيء.. لا يتعالى صوت أغاني الصراع العائلي مهما كان نوعه ومصدره على أغاني يقظة والدتي وحنكتها . حتى أمر طلاقها لم يوحشها فهي تستخرج الذهب من خطاها في الدنيا إن كانت تلك الخطى أزواجاً أزواجاً أم كانت بمفردها .
حين أوقفا السيارة في الشارع خارج البيت تراءى لهما أن كل شيء هادئ في داخله. لكنهما لاحظا أن امرأة عجوزا في البيت المقابل تتحرك على غرار مراقب من وراء ستار نافذة غرفتها .. دخلا إلى حديقة البيت كأنهما يترنحان في دوار ..
لاح لهما أن ماريّـا أيضا تحرق نفسها من وراء نافذة المطبخ تنتظر قدومهما أو أنها تهزل في مراقبة العجوز صديقتها الودود الثرثارة المحبة لاستطلاع ما يزهر أو يذبل في حديقة البيت والاستمتاع بمعرفة ما يجري داخله .

استقبلتهما ماريّـا بوجه كثيب كأنها تعيد كلامها على مسامع سيزي للمرة العاشرة :
- منذ أن انشق النهار يا سيزي بوميض برق أبيكِ بقرار الطلاق صار هذا الحي صامتا كئيبا في بدايته وفي نهايته . العجائز المرحات يحلقن حولي في الشارع ومعهن تلك العجوز المطلة من شباك غرفتها .. يسألن ويسألن و يحاولن الحصول على ما يشتهين من أخبار ما بعد الطلاق .. تتواثب أسئلتهن لمعرفة هوية الساكن معي ، لكن صمتي ابتلع أسئلتهن ولم تعانق أجوبتي غير رقبتي .. أهم شيء أنني نجوت من نشوة جنون أبيك التي لا يبصر فيها غير الغضب فما عاد يتصل بي ولا يزورني.. كنت أظن أن الطلاق سينهي ما كان يدق النواقيس في دماغي . لكن يبدو أن النواقيس مستمرة بالدق من أنحاء مختلفة وبأشكال مختلفة.
أحست سيزي من أول لحظة اللقاء معها بشيء ثقيل على رأسها وبألم في ركبتيها وهي تتنفس أقوال ماريّـا يوم طلاقها . حقا أنها تثير الشفقة الآن بعد أن أصبحت سجينة لقب مطلقة وسجانة المسؤولية الهائلة في رعاية يوسف العراقي الجالس أمامها على كرسي الإعدام حولتها إلى فرس مرتعدة .

مطلـّـقة ..! ليست كلمة كئيبة لكنها ثقيلة . لم تحسب يوماً أنها سوف تحمل لقباً أبديا ثقيلا. لكنها إرادة الآخر وليس إرادتها الناتجة عن تهويم زوجها كالطاووس فوق مجثمها وهي صابرة كصبر حمامة في ركن معزول .. ها هي ماريّـا منذ يوم طلاقها تحمل أفكارا غميمة من شتى الألوان خاصة بعد أن تهاوت عليها صور عن مستقبل ذريتها أرعبت روحها بهموم الحياة وأعبائها ما لم يكن يخطر لها على بال. كان زوجها يملأ عليها حياتها، بشخصيته القوية الآسرة. تشعر في كنفه بالحماية والحب . لقد ذهب منذ ساعة صدور قرار الطلاق تاركاً إياها منكسرة القلب والجناح، مع أبنائها الأربعة، كأن الأرض لم تعد ثابتة تحت قدميها كعهدها بها فيما سلف. بل إن مدينة هورن الجميلة كلها تبدو الآن موحشة مخيفة، كأنها خلت من كل شيء بعد أن كانت مليئة بالسعادة من مرتبة خمس نجوم .‏ النجوم الخمس تحركت بصورة معقدة تماما صاحبتها انفجارات أسستها حالات انفعالات متسارعة بين كوكبين ، بين زوجين ، وكان الأبناء الأربعة يلاحظون العدد الضخم من الجدل اليومي بشأن يوسف العراقي وقد تطور الصراع بينهما كأنه الصراع بين روسيا وأمريكا ، وهو على أية حال كان يبدو بنظر جميع أفراد العائلة ليس صراعا بين البرودة والحرارة بل بين زوجين يشتمل باطنهما على عنصرين من فصيل واحد ، شديدي الحرارة والانفعال . يعتقد الزوج أن السحب الداكنة التي تغطي فضاء بيت الزوجية كان بسبب قيام يوسف العراقي باختراق الغلاف الزوجي مما أدى لتشكيل عشق متبادل بين الممرضة والمريض ، بين يوسف العراقي وماريّـا الهولندية ..
- لم تكن وثبة همّ ماريّـا اليوم تتعلق في نفس موضوع الطلاق فقد أفلحت في التعبير عن نفسها بقوة قبولها الأمر الواقع رغم خطأ أسبابه. أنا متأكدة من وجود أمر آخر ..

قالت سيزي لروبرت عند وقوفهما على عتبة الدخول إلى غرفة الاستقبال من جهة الحديقة.

حين دخلا حاملين بعض الهدايا البسيطة مع باقة ورد كبيرة كعادتهما في كل مرة وجدا أو ل ما وجدا أن البيت شبه مظلم فالستائر معلقة على غير عادتها بوقت النهار وشاهدا صورة لم يألفا رؤيتها من قبل. . فسيفساء من مربعات غضب ، وتجهم ، وكآبة ، وقلق ، مرسومة على وجه ماريّـا الخائفة . يوسف العراقي كان صامتا صمت القبر وهو مغمض العينين . هل مات يوسف العراقي ..؟

- كلا ..

أجابت نفسها بنفسها .

أدركت سيزي انه من الصعب معرفة مغزى وجود هذه الفسيفساء بمجرد النظر إليها فلابد من معرفة وجود هذا الاستثناء في علاقة طويلة زاخرة بالمحبة والود المتبادل وبتضحية لا مثيل لها قدمتها أمها ماريّـا تحت حزمة من أشعة شمس قاسية.. حرارة شديدة حارقة عانتها في علاقتها العائلية والزوجية والوظيفية واجهت فيها آباء الهول . ترى ماذا جرى في هذا العالم الصغير..؟



بدت في غاية القلق وهي تتذكر موضوع الطلاق كأنها في حالة ترقب لمفاجأة اعظم قد تأتي في أية لحظة بينما تنظر بتركيز إلى وجه يوسف العراقي وهو نصف نائم وقد مضت ليلة ماريّـا ساهرة تدعو الله أن يديم دوران الكرة الأرضية من دون زلزال يصدع بعض أركان البيت.

- ما الأمر يا أماه .. نحن في غاية القلق .. أيكون أبى هو السبب ..؟
- كلا ..

- أيكون حمل لقب الطلاق هو السبب ..

- كلا .. صار الطلاق مجرد ورقة محفوظة في ملف .

- ماذا إذن ..؟

لم ترفع عينيها عن النظر إلى وجه يوسف الذي لم يرفع بدوره عينيه عن نقطة ما في الأرض . ينظر إليها لحظة ثم يغمض عينيه لحظات كأنه في حلم أو ذكريات يريد أن يروّح عن عضلات جسمه المتعبة.

- انه هو هذه المرة.

قالت ذلك بكلمات هولندية لا يفهمها يوسف فقد اعتاد الجميع على التحدث من أول يوم معه أو أمامه باللغة الإنكليزية.

فتح عينيه لحظات كمن يستغرب وقع تحول غير محتمل في التحدث بالهولندية بدلا من الإنكليزية وصار وجهه مثل فحم اسود.

تبادلت سيزي بعض النظرات مع روبرت ثم ابتسما .. في تصورهما أن المريض والممرضة يمارسان في وحدتهما فن ورياضة الحب ثم وجهت سؤالها :

- ما به يا أمي ..؟

- صار يفكر بالموت..

- ليس هذا بالأمر الجديد أو المفاجئ .. لقد ردد أقواله عن موته منذ أول يوم وصوله .. ألم يقل له الأطباء انك ستموت غدا ..

- صار يبحث عن وسيلة تعجل الموت ..

- لم افهم

هزت ماريّـا قفاها وجدت أن لا فائدة من التردد بالقول :

- يريد أن ينتحر

تضرعت سيزي الى الله : أنقذه يا أبانا .. أنقذيه أيتها الملائكة.




كلهم يعرفون أن يوسف العراقي مريض من نوع خاص .. مريض من نوع صلب المقاومة .. الأطباء يعرفون .. أصحابه ورفاقه الشيوعيون في هولندا وبغداد والزبير وشقلاوة يعرفون .. الممرضات والممرضون في البيت والمستشفى وسيارات الإسعاف يعرفون .. الممرضة كريستين المعروفة بثرثرتها ونفاقها تعرف .. زوجها المشتعل قلبه بالغيرة يعرف أيضاً .. كلهم يعرفون انه يقترب من السبعين من عمره مصاب بتوقف معظم عضلات جسمه عن العمل والحركة ويعيش كرجل صناعي . لم تهبه الحياة الصعبة في بلده عالما مثل عالم موهوب منحته للهولنديين والهولنديات ، وهو على يقين بأن عبوره المحيطات كان سببه الرئيسي فقدان مساحة مناسبة من الحرية أو الشفاء بين دجلة والفرات ، لقد نفضت ماريّـا أمام عينيه حياتها كلها ورضيت بقرار زوجها بتحميلها لقب مطلقة من أجل أن تمنح رجلا آخر شيئا يسيرا من الحرية وأملا يسيرا في الحياة لتكون جديرة بحمل لقب ممرضة .. ارتدت خلال سنوات طويلة معطف خيرون الإغريقية إلهة الصحة تنفتح أبواب قلبه تنفيذا لأوامرها . ما باله اليوم لم يعد يريد حتى رؤية الوجه الصافي لماريّـا .. لماذا ينظر إلى دواء اعتادت على تقديمه له ثلاث مرات كل أربع وعشرين ساعة كما لو أنه ينظر إلى ألسنة خنافس .

وقعت الدهشة في عيني سيزي متطلعة إلى وجه يوسف العراقي متصورة أن تفكيره بالانتحار نابع من احتجاجه على ظلم وقع على عاتق ماريّـا بسببه ..

قالت سيزي :

- يا أمي العزيزة كلنا نعرف هذه القضية من مبدأها إلى منتهاها تتعلق شكليا بتفرغ عملك الإنساني لشخص مريض لا هو قريبك ولا من بلدك .. أتذكر قولك يا ماريّـا أمام أبي بحزم ذات يوم : لو كانت حياتي زهرة فأنني لا اغتاظ إن قطفها شخص يحتاجها لإطالة عمره ..

أما يوسف فقد قال لصديقه سليم عبد الله حين علم بخبر الطلاق :

- لو كنت اعلم أن قرارا كهذا سيتخذه زوج ماريّـا لكنتُ غادرت هولندا قبل ذلك أو أجبرتُ روحي على مغادرة الحياة بقدمين متيبستين ..

همست ماريّـا بالهولندية :

- ليس ما تفكرين به يا سيزي هو السبب . يمر يوسف في هذه الأيام بأقصى حالات اليأس من الغد ..

لم تكن سيزي تجهل أن أمها غير آبهة في أية ليلة داجية مرت بها سابقا حيث النجوم تائهة في سمائها فصارت تشعر بالتيه أيضاً كما لو كانت تريد شجب الليل بالخلاص من إرادة زوجها من اجل أن يولد نهار جديد ليوسف العراقي الذي اصبح الآن في حال لا تروى شفتيه بخمر ولا ماء ولا قبلة . يعيش في صمت تام .. هي أكثر الناس معرفة أن جسد يوسف العراقي متوقف عن أداء الفعل الطبيعي و لا يمكن وقف انحدار الخلل الاوستيوباثي في كل مفصل من مفاصله من غير الفن الطبي الأكبر وسحر ماريّـا الأجمل ..

تحطمت بيديها قيثارة من قيثارات حياتها لكنها صارت هي نفسها قيثارة جديدة تعزف في روح إنسان آخر يواجه الموت غدا ً وهي تغني له : اثبت يا يوسف .. أمتشق كل قوتك واتبع نصائحي .. أهجم ضد مرضك بصبرك .. وأنا أصد الموت عنك بصبري وتضحياتي ..

لم تكن ماريّـا تفعل له ما فعلت سوى لأنها كانت طيبة مع الناس .. طيبة في عميق روحها ولا تشعر بأي تردد أمام رجل غريب شاء له بخته أن يكون مريضا تملك هي مفاتيح حياته من دون أن تعرف من هو ..

قالت له ذات يوم بكلمات مهموسة :

- حدثني يا يوسف العراقي عن نفسك ..
كان كل واحد منهما ينظر إلى عيني صاحبه وهما يمشيان في طريق لا تطوف فيها أحلام .عن ماذا يتحدث .. هل عن علماء اللغات والآداب والتاريخ الذين خدعوه بأقوال ودروس عن بخار الماضي .. هل يتحدث عن أساطير بابل .. هل يتحدث عن شاعر عراقي يصف المرأة بأنها دائما تحتاج إلى وصاية ..هل يتحدث عن حاجته إلى إله ينهض من عالم سفلي ينقذه من مرضه ..؟
نظر إلى وجهها نظرة لا تخلو من شعور بالألم :
- ليس لي حديث طويل عن نفسي . سنوات عمري لم تسمح لي بصنع مكان مستقر كباقي البشر.. لم امتلك عشا كعصفور . كنت مثل قطعة من الغيوم تنتقل في مساحات المجهول . أحيانا تنزل منها ، هنا أو هناك ، بعض قطرات تحاول أن تتجمع مع آلاف قطرات أخرى لتتحول إلى مطر أو بعض مطر . لكن لم يكن مطرها قادرا على مقاومة الطوفان الذي بدأه صدام حسين في العراق وبدأه بوريس يلسين في روسيا أو جورج بوش في أمريكا . كل واحد منهم أراد الطواف فوق الآخرين بقوة السلاح أو اعتمادا على ضعف الحجة . كل شيء تحول إلى مجرد ذكريات فغدوت بحاجة إلى من ينتزعني من اليأس الذي أوشك أن يدمر وعيّ ويحطم أملي . كنت اشعر بأني صورة الإنسانية كلها في مدينة الزبير أصبحت هنا قزما صغيرا عليلا:
- هل تشعر بضعف ينتابك الآن ..!
- ليس الضعف ذاتيا .. إنه الضعف الموضوعي . إنه ضعف الواقع والتاريخ ..! أنا وغيري آلاف قادرون على تسلق الشجرة والصعود إلى أعلاها ، لكن ليس في الشجرة غصن يحملني أو أغصان تحمل غيري . كان علينا أن نركض سريعا للبحث عن مكان آمن . في العراق انتشرت مجازر سرية ومقابر سرية . سيوف الحكومة تقطع رؤوس معارضتها لتوضع فوق جثث لا حصر لها لتوقف حركة الناس وتعطيل طاقتهم . لا شأن للإنسان غير البحث عن رأس أخيه المذبوح أو أبنه المقطوع اليدين أو أبنته التي مزقوا فرجها بالاغتصاب الجماعي قبيل فوران الرصاص داخل بدنها . عيونهم كعيون الصقور تبحث عن جثث يمزقونها . جاءوا إلى بيتي بشوارب غير منتظمة لا تشبه شوارب الناس فقد ابتدعوا لشواربهم موديلا خاصا تمتد خطوطها حتى نهايتي الحنك كما لو كانت خيوط سوتلي يراد بها تطويق أفواه صغيرة لا تتقن غير الكذب والسباب واطلاق الرصاص ولا تعلو إلاّ على رقاب منتفخة بدماء وعظام الجريمة .
كان عليّ التفكير بالهزيمة من بلدي ليس خوفا على كنز لا املكه بل انهم يريدون اللهو بعدّ وحساب العظام في جسدي ورضّهما بحديد الدكتاتورية ونارها .
لثمتُ ارض وطني بعيني وبفمي.. أدخلتها إلى أعماق قلبي ثم سفحت دموعي مغادرا نور سماء طفولتي الكامن في نفسي .. أتيت باحثا عن فردوس صغير لا تزيد مساحته عن عش عصفور حر يستطيع أن يخطط موعد وخريطة طيران العودة الحرة كي أستطيع أن أكون تحت حرارة الشمس العراقية حرا ..
حبسني مرضي في عزلة عميقة على كرسي مانعا نفسي عن متعة النظر إلى رواء السماء وبهائها يريد أن ينزع عني جلدي الرافديني فكيف أقاوم رنين المرض وأنا في مستشفى ..؟


غرفته في المستشفى الهولندي حين رقد فيها لستة شهور تطلّ على الحديقة الجانبية الكبيرة، لا يستطيع أن يرى إلاّ حركة الغيوم وهي تجتاز مساحات السماء المحددة أمام ناظريه بمحدودبة قدرته على الرؤية وهو على سريره مستلقياً ومحروماً من أبسط حرية في الحركة يميناً أو يساراً، بسبب الأجهزة العديدة التي شدّوها إلى جسمه أو إلى سريره لا يستطيع حتى حك أذنيه .
تغسل وجهه أربع مرات في اليوم الواحد بينما لا يحظى أمثاله من المرضى إلاّ بالغسيل مرة واحدة. أما جسده فهو يحظى منها بنفس الرعاية . كل يومين أو ثلاثة تأخذه إلى الحمام الكبير لتغسل جسمه المتهدل الضعيف. تبدأ بغسل شعر رأسه وتنتهي عند قدميه غير المتحركتين .حتى القضيب النائم إلى الأبد تغسله جيدا في حمام المستشفى . لا يبتسم ولا ينطق إلاّ بكلمة أو كلمتين معبراً عن الشكر لصنيع يعرف هو نفسه أنه يستعصي عليه حصوله لو ظلّ على فراش مرضه في بيته مع عائلته أو في أي بقعة عربية أخرى. يدير وجهه الخجول عن وجهها حين يكونان في الحمام ويسأل نفسه: من هدى هذه المرأة الجميلة لأن تخسر عائلتها وتمنحني أنا بالذات عنفوان ما تملكه من طاقات هائلة ..؟
-لاشك أن الهداية من الله سبحانه وتعالى .
قال صديقه الزائر العراقي سليم عبد الله مبتسما كما كان يبتسم أو يقهقه في اصعب مواقف المطاردات البوليسية والمظاهرات والسجون في بغداد والبصرة :
- أول شيء هداني إليه الرب حالما وضعت قدمي على هذه التربة هو النطق بلغة أهلها. ولولا ذلك لما صرت هولندياً.
من أقواله عرف السامعون أن سليم عبد الله هو الآن هولندي من أصل عراقي . حمل الجنسية الهولندية بعد مضي خمس سنوات على وجوده لاجئاً سياسياً وإتقانه اللغة الهولندية تكلماً وقراءة وكتابة.
ظنّه يسخر فهو يعرف أن صاحبه لا يؤمن بما قاله.
أما الممرضة كريستين الكارهة لماريّـا و الواقفة إلى جانبهما بغرفة المستشفى يوم ذاك لتقديم بعض حاجياته في وجبتها المناوبة فقالت بنوع من التهكم:
- أنه الحب. أقوى من كل سقم وأقوى من كل رجاء..‍‍‍الحب يدفع ماريّـا الولهانة بدم حار لتخلق حياة جديدة لنفسها ولمن تحبه المريض الشيوعي يوسف العراقي .
تتعاظم وقاحتها فتقول :
- حياة ماريّـا لا تقوم إلا بدم الحب في شرايينها يضطرم دم الشباب ودم العشاق .

ابتسم سليم بصمت ابتسامة استهزاء أوصل من خلالها رسالة إلى كريستين وكأنه يقول باللغة العربية :

- يا لكِ من منافقة يا كريستين .

هذا الوصف أكتشفه منذ أوائل مراجعة صاحبَ فيها يوسف العراقي عملية نقله بسيارة الإسعاف من كمب استقبال اللاجئين السياسيين وما شاهد في السنوات اللاحقة ما يناقض اكتشافه في سلوك الممرضة كريستين بينما ادخل إلى قلبه ألقابا فخمة على غيرها من الممرضات داخل الكمب وفي مستشفيات كثيرة .

أُدخل يوسف العراقي إلى كمب اللاجئين في مدينة( زفولا (zeewolleبعد إجراءات تمهيدية في التحقيق بطلبه حق اللجوء إثر وصوله إلى مطار أمستردام . في نفس الكمب وجد صديقه سليم عبد الله قد سبقه في طلب اللجوء السياسي بشهر واحد . شعرا منذ البداية انهما مرتبطان بهدف واحد في هولندا أيضا مثلما كانت الأهداف المشتركة والمعاناة المشتركة تجمع بينهما أيام كانا في وطنهما الأم . وجدا في الكمب كوكبا أزرق يرعاهما في العيش والتطبيب وكل عوامل الراحة فوجدا أن كل الطرق مفتوحة أمامهما لمزيد من صبرهما على عصر بلادهما المكتوم بانتظار مغامرة أو مصادفة أو معجزة كبرى تغير ذلك العصر لتفرد بعدها آمالهما بالعودة إلى وطن حر كي يؤديا وظيفتيهما في كون عراقي جديد متأملين رسوماته التخطيطية بتخيل الديمقراطية ولو كنجمة تشع في فضاء الرافدين .
وجد سليم عبد الله نفسه في الكمب أنه داخل سفينة تمخر في بحار تبعد كثيرا عن الوطن لكنه في غرفة مسؤولة عن توفير الأوكسجين لرفيق رحلته. ففي مدار الساعات الأولى اكتشف سليم عبد الله خلال جواله في منصات السفينة – الكمب أن يوسف العراقي ليس في موقع صحي ممتاز إن ظل قابعا داخل هذا المكان فقد كان وجهه يزداد اصفرارا كما كان الدليل يزداد كل يوم أن حركة قدمي صاحبه تتقلص وتتحدد وتسوء قدرته الجسمانية ساعة بعد ساعة . ازدادت قناعة أطباء الكمب بآراء اللاجئ سليم عبد الله بضرورة نقل صاحبه إلى المستشفى فلم يعد كمب زفولا بقادر على تامين حياته . بمقاييس تقارير طبية نقل يوسف العراقي إلى مستشفى يوفر له صمام أمان حياته . كان يوسف العراقي لا يعترض على نصائح وتوصيات رفيق رحلته الطويلة سليم عبد الله . يتلقى تعليماته بتواضع وقبول تامين كأنها آتية من جابر بن حيان أو من الإمام جعفر الصادق كما كان سليم نفسه قبل سنوات بعيدة يتلقى بتواضع ورضا تعليمات حزبية وسياسية من يوسف العراقي كأنها آتية من كارل ماركس أو لينين .

منذ أول يوم من دخوله إلى الكمب اعتنت برعايته وحدة طبية كفوءة ونشيطة حولته إلى مستشفيات عديدة لمتابعة علاجه أملاً في أن يحصل على سحر كل ما يساعده على بقائه إنساناً بجسم وعمود فقري وساقين يسري الدم فيها جميعا . أحس لأول مرة منذ مرضه قبل سنوات أنه سيجد خيراً ودعة لما تبقى من حياته في هذه البقعة من العالم المليئة بالحوريات على عكس حياته في تلك البقعة الجافة في مدينة الزبير وهي تسبح في صحراء قاسية الحرارة والغبار بلا مياه وبلا نسوة مبتهجات .. صراخ وعويل يتعاليان على كل شيء في بيوت الناس المهترئة برقابة البوليس السري المنتفخ بغضب يومي دائم باحثين بجنون عن كل من لا ينتصر للحكومة حتى وإن كان رجالها قوادون .
في غرفته بالكمب عرف يوسف العراقي أن في جسده تنانين يحملون في أيديهم أسنان فتاكة تعطله بالألم القاسي عن الحركة بين الناس وأن عبوره البحر الأبيض المتوسط وصولا إلى بحر الشمال بوساطة نبتون إله البحر الإغريقي لم ولن ينقذه من مرضه . فالمرض هو المرض هنا أو هناك أزلي وعليه أن يكون متأهباً لموت سريع قد تسبقه عدة أشكال من معالجات طبية لا تستطيع أن تجد مصالحة بين أعصابه وعضلاته وعموده الفقري . توسّل إلى أصابعه أن تسعفه في أن يرى تاريخ نفسه في تضاريس مذكراته . بدأ يجسد طموحاته في خلق سطور متحركة على ورق . يكتب بعض ذكرياته فلا حياة متحركة عنده في هذه الأيام غير الذكريات. كتب بالقلم الرصاص على ظهر ورقة بيضاء وبالحرف الصغير تحت عنوان(مذكرات أو ذكريات) يقول:
قبل مجيئي إلى هنا بعد أن أصبح الدور الرئيسي في عرش بلاد الرافدين لمن يتأهب لقتل الناس برمحه جامعا السرّاق والناهبين والجواسيس يبحثون عن أجمل النساء وأنفس الحلي وخير المواشي والمزارع ليبقوا الناس فقراء ومتسولين جائعين عاطلين باسم الشرق والدين أتوا إلى السلطة وبمعونة الغرب قضوا على شعب عريق .. نسيتُ أشكال الراحة ونسيتُ الكثير من متع الحياة حتى من ذلك النوع الذي يفوز به بعض المرضى ممن يتأكد للأطباء قرب مغادرتهم الدنيا إلى مقام الآخرة ، لكنني لم أنس صحراءنا الجنوبية التي تحدثتُ كثيراً مع قمرها الصيفي الصافي عن أحلام الاشتراكية وعن أحلامي لتحقيقها ببلدي ولشعبي. أخذتُ طريقي ذات يوم من أيام شبابي نحو الشمال للاطلاع على خارطة بلدي ومعرفة جبالها ووديانها وغاباتها والزهور التي تغطي تلالها وجبالها. تمتعتُ بمشاهدات لا تحصى لزهور برية جميلة قيل أن بعضها يمكن أن يكون لوناً لرسامين يبحثون عن ألوان طبيعية يرسمون بها لوحاتهم . وقيل عن بعضها الآخر أنها تعالج أمراضاً عديدة يتداول الناس من جيل إلى جيل المديح عن قدراتها الفائقة في شفاء المرضى . كما سمعتُ من سائق السيارة وهو كردي مجرب بعمر لا يقل عن الستين أن الزهر الأصفر ذي الورقة المدورة الصغيرة التي يسمونها(بنت الليل) تجيز لكبار السن جماعاً مضموناً مع نسائهم الشابات ولها قدرة تدبير أمر العاجزين إذا ما انتظموا في تناولها كالشاي الحار. وفي طريق عودتي من شمال الوطن إلى جنوبه أذعنتُ لرغبة صديقي لزيارة حمام العليل والسباحة بمياهه إذ قيل أن السباحة في الحمام النابع ماؤه من ينبوع الكبريت الساخن يستعمل علاجاً لمرضى العظام والجذام والمشلولين والذين يعانون من ضعف حركة عضلاتهم . كانت القرية تسمى (العليل) نسبة إلى تسمية الحمام نفسه . لم يكن موجوداً في القرية إلا بضعة أنفار ممن يخدمون زوارها الذين يقدمون إليها للمعالجة بينما الأغلبية من سكانها يغادرون في فصل الصيف إلى اللآلئ البيضاوية في أعالي الجبال في سر سنك وصلاح الدين والعمادية وكَلي علي بك أو أن بعضهم يغادر إلى بغداد وسمراء للمتعة والزيارة والسياحة والتجارة . وجدنا مكان العليل موحشاً وأغلب أبواب البيوت مغلقة وقد قضيتُ في القرية بصحبة صديقي إبراهيم الدريهمي أكثر من ست ساعات كان الذباب قد ألحق براحتنا هزائم منكرة. يشكو صديقي من آلام في ظهره نتيجة تشنجات في أنحاء مختلفة من جسمه. قيل له في الزبير أن سبب ذلك ناتج عن ركوب الإبل التي كان إبراهيم يهيم بهوايته في ركوبها إلى حد غير معقول حتى عرفه بدو الصحراء كلها فهو يجوبها على سنام جمله في الليل أيضاً يوزع فيها نفائس الكلام والشعر الصادق لتخليص صحرائنا من ظلامها كي يغطيها نور الشمس والعقل وتطهيرها بنفطها ومعدنها من القبح والفقر. دفعنا لصاحب الحمام أو جابي رسوم الدخول مائتين وخمسين فلساً . رسم كل واحد منا مائة فلس لكنني أعطيته خمسين فلساً زيادة لكثرة نصائحه لنا بالقول: من يستحم في حمام العليل مرة واحدة لا يصاب بمرض طول حياته.
صدقه صاحبي وصدقته أنا أيضا شعورا مني أن ماء حمام العليل هو ضمان سحري أبدي ضد مرض قد يعيق حركتي في المستقبل . أراد صاحبي أن نبيت ليلتنا لقضاء وقت طويل في السباحة بماء دجلة لكنني رفضتُ وألححتُ عليه بضرورة الإسراع في مغادرة المكان بعد أن حل الظلام الذي سيهاجمنا البعوض فيه بعد هجمات الذباب النهارية. اضطررت للبقاء نزولاً عند رغبته، وبينما قضى وقتاً طويلاً في الحمام رحت أنا متسلقاً تلاً صغيراً مستنشقاً هواءً عليلاً حقاً ، وشاهدتُ بمتعة على الضفة الأخرى من نهر دجلة مجموعة من التلال الغامقة اللون من التي يعتقد الجيولوجيون أنها غنية بالمعادن ويعتقد علماء التنقيبات الأجانب أنها جزء من آثار نمرود التي كان االآثاريون قد أعطوها أسماً إغريقيا هو ( لاريسا) . منذ أكثر من عشرين قرناً ،عُرف هذا الموقع، الذي يقال أنه خيم فيه عشرة آلاف رجل ، كأطلال مدينة عريقة في القدم يتحدث عنها الباحثون والمؤرخون والشعراء بأنها أطلال مدينة عظيمة بناها نمرود حفيد نوح ، فقد جاء في سفر التكوين: كان جبار صيد أمام الرب ..
لذلك يقال نمرود جبار صيد أمام الرب ، وكان أول مملكته بابل وأرك وأكد وكلدة في أرض شنعار . من هذه الأرض خرج آشور فبنى نينوى وساحات المدينة وكالح وراسن بين نينوى وكالح ، وهي المدينة العظيمة.
تلك هي أرض شنعار ، وصفها الكتاب المقدس ، بأنها من أولى المستوطنات التي سكنها الإنسان، هي نفسها بلد ما بين النهرين التي تسمى العراق.
من تلك البلد أتيتُ مريضاً بعد أن حرقتني الصحراء و مزقني ظلم الحاكمين و وتوهتني أطوار الاشتراكية . لم أستطع أن أسبح في رمل الزبير المجاور لرمل الكويت فبين حبات الرمل في البلدين أحترق الجميع بنار النفط المشتعلة حتى الآن . عبرتُ مجاري دجلة والفرات بعد أن سيجهما مخزيُّ جبار من غواة السلطة والقتل ، وسبى الدهر بالعيوب والدم والجريمة والعنف. جحدتْ أيام بلادي فوليتُ الأمصار العربية التي ما أثنت على عروبتي بإيجاب فنفيتُ نفسي لبلد الأغراب التي آمل أن فيها لا ينحرفُ عدل أو قضاء.
أنا بدوي من الصحراء جناحي مكسور ، لا أستطيع أن أنهض وحدي ، وإنما أقدر بعون غيري من أهوار بصرياثا ومن تلال عكَركَوف ومن أحواض دربندخان . لو استطعت ذلك بمفردي لكنتُ سعيداً ، لو كان ذلك ممكناً بعون الله لكنّا سعداء جميعاً. لكن راهب الدهر وشيخه ومالكه أنبئونا بعجزنا عن الحركة ، هم أعجزونا فظفروا بما ارتقبنا من خيرنا المبشر به، جداً أو هزلاً، بشجرة آدم المزروعة ببقعة وصفت بجنة آدم الموجودة ببقعة صغيرة وفيرة مياهها وأرضها يسمونها (القرنة) المباركة للقاء النهرين الجذلين : دجلة والفرات.
ما عرفتُ أروع من نصيحة صديق صدوق وفيّ قدمها لي وأنا في دمشق الشام كان صمتي فيها أشبه بصمت الميت إذ قال:
- اذهب إلى بلاد الله المنخفضة فبلاد النهرين صارت شاقة عسيرة الاحتمال . أستعن بالصبر إلى حين يأتيك الموت فيريحك ويريح الآخرين منك .
نعم.. حزمت الأمور براحة ضمير وتركتُ مدينة الزبير . لكنني انظر هنا وهناك وانظر في فراغ فأتذكر الوطن .. هناك في المدى البعيد يوجد على ترابه كل من احبه ، وتحته كل من حزنت على موته .. هناك هناك كل من تعرفت عليه وكل من سمعت عنه وسمع عني .. أتذكر وأنا هنا كل ساعات أفراحي ومعاناتي .. أتذكر عشرات المذاهب والأديان والأيديولوجيات التي بزغت شمسها بين النهرين .. أتذكر كل قناص ازهق أرواح العمال في ميناء المعقل وصحراء البرجسية.. أتذكر كل مغير على فقراء إيران وأثرياء الكويت.. أتذكر كل مبدع لحضارة بابل وسومر و أشور .. أتذكر كل من أمات أمهات وأطفال حلبجة و كردستان .. أتذكر كل سياسي فاسد وشريف حكم العراق .. أتذكر كل بقعة دم سالت في سجون نقرة السلمان والكوت وبعقوبة وها أنذا أظفر بأرض هولندا المنخفضة ليست كبديل لأرض الرافدين لكنها بديلاً للضمائر الميتة في الشرق . لم أندم على ترك العراق بعد أن أنقطع الأمان فيها وقُبرت الحرية في أعماق تربتها المشتعلة وصار رأس كل حي يحترق بكل لحظة . أنيني وشكاتي في هذا الزمن كأنين وشكاة أبو العلاء المعري، هو أعمى البصر وأنا لا بصيرة عندي . كلنا أبو العلاء والشعب العراقي أصبحنا رهباناً فرض علينا الانزواء في الدير. آمنتُ الآن أن هولندا ملاذ أفضل من دير ، أنها العزاء والدواء. هذا أملي حتى لو متُ في أرضها.
يوسف العراقي زفولا/ في 22/5/




شعر سليم عبد الله في داخله بحدوث ضجة وهو يقرأ سطورا من كتابات يوسف العراقي فوجد نفسه متفرجا على مسرحية بطلها مريض في بدنه لكن وعيه لم تلتهمه نار أشعلت وطنه فراح يهمهم .

لا أحد في هذا العالم يعرف من يكسب السعادة فيه ومن يخسر . هل كسب يوسف العراقي .. ماذا كسب ..؟ هي أسئلة كثيرة تدور بتعجل وحماقة في أفكار بعض أصحابه ممن سمعوا عن وصوله إلى هولندا بينما لم يحظوا هم بأقدام سريعة لمغادرة الوطن قبل أن يسجنهم السجان وقبل أن يسلخهم الجلاد.. كان الهروب من جحيم الدكتاتورية ألعوبة في الحظ والطقس .. ألعوبة قد تؤدي إلى نعيم أو إلى شقاء وها هو يوسف العراقي يواجه لعبتين في آن واحد .. نعيمه مع ماريّـا الصورة الصادقة المليئة بجواهر الروح الإنسانية بينما يواجه بذات الوقت نقيضا بالشقاء لا يسمع فيه غير رنين أجش من مرض يجول في كل ناحية من جسمه .

وها هي سيزي ترى شقاءه اليوم .. أحست من اللحظة الأولى لرؤيته أن الحبل الرابط بين يوسف العراقي وماريّـا يبدو مقطوعا وان رابطة الحياة متمزقة كما تمزقت أوتار عضلات مفاصل جسمه كلها ..

لم تكد تجلس بجانب أمها حتى فاجأها صوت ماريّـا حزينا ً :

- يوسف العراقي يرفض تناول الدواء منذ يومين ..

- يرفض ..!؟
- يرفض بشدة .. ربما يموت غدا . ليس من المأمول أن يبقى حيا من دون دواء . انظري إلى وجهه انه في حالة اضمحلال..

- لكن لماذا ..؟ لماذا يرفض الدواء ..

سأل رو برت و أضاف موجها كلامه إلى يوسف :

- يا سيدي إن لم تجدد حركة جسدك فانه يذبل ويتعفن وتموت أنت داخل هذه الجدران ..

- لا شك أن الامتناع عن تناول الدواء معناه الانتحار .

قالت سيزي :

- ينتحر احتجاجا على عدم قدرته في العودة إلى بلده انه الآن مليء بالعزم والحمية ..

- لكن أليس في العزم مبالغة وهو في هذا الوضع من العجز..؟

قال روبرت وهو يركز ناظريه على وجه يوسف ، ثم ساد صمت في البيت كله . صاروا في حالة من الرجاء كأنهم يسمعون صوته قائلاً :

- معاناتي اليوم ليست هي معاناة الأمس . ليست هي معاناة السنوات الطويلة الماضية .. اشعر بضيق الصدر من ثعالب يكذبون كثيرا على ناس سلبوا حريتهم طوال عقود وهم يعيشون الظلمة وتسلبهم ثعالب اليوم قدراتهم الكامنة وهم يعيشون في النور . ما بين النور والظلام مسافة لا تزيد على الفرق بين الخلف والأمام . تقتلني يا أصدقائي الأعزاء حياة الرتابة والتعب على هذا الكرسي وتقتلني حياة الإقامة المريحة في بيت ينتزع راحة ماريّـا محرومة من شواطئ البحيرات الزرق في هذه البلاد .. صحيح أن الهدوء شرط الحرية لكن الهدوء من اختيارات الطبقات الغنية في الفنادق الفاخرة وفي الحدائق والمنتجعات وفي مواقع الاصطياف في روابي الجبال لكن الطبقات الوسطى في بلدنا تسعى الآن بدورها وراء ملاجئ حرة هادئة . هذا هو ما يستوقفني ويوقفني عن استخدام الدواء المجرد . أسعى من اجل الحصول على دواء جديد يوفر تحويلي من إنسان ساكن إلى إنسان متحرك .

- ربما يحصل ذلك في المستقبل يا يوسف .. تناول الدواء اليوم و كل شيء سيكون افضل لك في الغد .

قال روبرت.

نظر بتركيز إلى قدميه كأنما يشير بشيء ما إلى هذا الشاب المتحمس للعمل والجنس ، وقال بصوت خفيض :

- المستقبل لا تصنعه التوقعات أيها الشاب المتوثب.. التوقعات لا تأت بشيء جديد إذا لم يحركها فكر جديد.. أتعبتني أدويتكم القديمة كما اشعر بذاتي أن موج البحار المقدسة لا يحمي مدينة لا تتجدد أسوارها . كما يسودني شعور عارم أن الأفكار مثل الأمواج لا تتحرك إذا لا تفصل ما بين اختلاطها.. والاختلاطات لا تتميز إذا لم يتحرك الإنسان .. إذا لم تتحرك أقدامه أولاً ..

- الزمن كفيل بتحقيق رؤيتك يا يوسف .. تناول الدواء أولا ..

قالت سيزي.

- عن أي زمن تتحدثين وأنا راقد كالميت على هذا الكرسي ..؟ أنا لا أنسى اليوم الذي غادرت فيه وطني كنت أفكر مثلك أن الزمن كفيل بتغيير كل شيء خلال عام أو عامين أو حتى عشرة أعوام لكن مضى زمن طويل وأنا أعيش في عتمة رغم أن النور يشع في كل مكان حولي.

- أثبتت تجاربنا أن وجود النور وحده علمنا كيف نبني وماذا نبني .

قالت ماريّـا بثقة وبصوت عال.

- التجربة يا سيدتي ليست سوى فقاعة وضباب إن لم يوجد عقل وعلم مكافئين لها.. هنا في غربة العراقيين كنز مخبوء من العقول العلمية ستغدو رؤوس أصحابها صلعاء من ثقل الغربة وآلامها إن لم يعودوا لوطنهم .

- أنا مسرور يا صاحبي انك تدق ناقوسا سيسمعه الزمن.

قالت ماريّـا وقد عادت إليها ابتسامتها الغائبة منذ يومين كانت فيهما في غاية القلق على حياة يوسف العراقي المضرب عن تناول الدواء ..

- أي زمان تقصدين يا سيدتي . الزمان أشكال وأنواع مختلفة . الزمان مثل النساء أشكال وأنواع مختلفة كما يشير علم النفس . في فلكلورنا الغنائي يقول مطرب عراقي أن النساء مثل الجفافي فيهن من تخون حبيبها بسرعة وفيهن من تبقى وفية . زمان العالم الفلكي يحسب بملايين أو مليارات السنوات الضوئية وخيانة ثانية واحدة من تلك الحسابات تؤدي إلى هلاك سفينة فضائية وبشر وضياع علوم وسقوط نظريات .. بينما القادة السياسيون حسابهم بالأيام والسنين لكنهم يخونونها حتى يجد شعبهم انه يعود إلى وراء .. أخشى أن يضيع خيال سياسيي بلدنا في الفضاء فيخونهم زمن الأيام والسنين والقرون .. هل استشعر عراقي واحد بهجة طفولته أو شبابه خلال 35 عاما من زمن القسر والقهر وصفاقة السلطة .. معاذ الله ..! كان زمانا ساكنا فعلت فيه أشباح الشياطين ما شاء لها أن تفعل . حتى الآلهة في بلدنا تنحني خشية للزمن في بلاد لا يتحسس فيه المواطن أنفاسه .

حاول التركيز في نظره على عيون أصدقائه الثلاثة وهم يقاومون قراره كما اعتادوا على مقاومة الرياح المتواصلة التي تهب على الأراضي المنخفضة في أغلب ساعات الليل والنهار . تصور ثلاثتهم وقد وحد الصمت وجوههم أن يوسف العراقي قد نهض من كرسيه محملا بهواجس أمال كثيرة ليجتاز نار قعوده الطويل عبدا لأدوية قديمة .



#جاسم_المطير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسامير- المزاج السياسي والمسألة الكبرى
- مسامير 701 تايه عبد الكريم ..تايه ..!
- مسامير 700 يا عواذل فلفلوا ..!
- مسامير جاسم المطير 698
- المريض الشيوعي - الفصل السادس
- مسامير جاسم المطير 696
- مسامير 697 إعادة هيكلة الجامعات العراقية إسلامياً ..!
- 694مسامير لكل مواطن شطفة أرض
- المريض الشيوعي- الفصل الخامس من رواية جديدة
- مسامير693ستراتيجية السمفونية الأمنية ..!!
- مسامير صغيرة 691 جوائز السينما العراقية
- مسامير 692 سبتمبر لا حس ولا خبر
- مسامير صغيرة 690 عصر التيارات
- مسامير صغيرة 688 شركة أسواق مريدي المحدودة
- مسامير صغيرة 689عن النظرية الباسكالية
- مسامير صغيرة 687
- مسامير صغيرة صدّق ولا تصدّق ..!!
- مسامير صغيرة 684 هوسة يا ريمة
- الفصل الرابع من رواية المريض الشيوعي
- الرهائن والاختطاف


المزيد.....




- وفاة الفنان العراقي عامر جهاد
- الفنان السوداني أبو عركي البخيت فنار في زمن الحرب
- الفيلم الفلسطيني -الحياة حلوة- في مهرجان -هوت دوكس 31- بكندا ...
- البيت الأبيض يدين -بشدة- حكم إعدام مغني الراب الإيراني توماج ...
- شاهد.. فلسطين تهزم الرواية الإسرائيلية في الجامعات الأميركية ...
- -الكتب في حياتي-.. سيرة ذاتية لرجل الكتب كولن ويلسون
- عرض فيلم -السرب- بعد سنوات من التأجيل
- السجن 20 عاما لنجم عالمي استغل الأطفال في مواد إباحية (فيديو ...
- “مواصفات الورقة الإمتحانية وكامل التفاصيل” جدول امتحانات الث ...
- الامتحانات في هذا الموعد جهز نفسك.. مواعيد امتحانات نهاية ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جاسم المطير - المريض الشيوعي - الفصل السابع من رواية جديدة