أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جاسم المطير - المريض الشيوعي - الفصل السادس















المزيد.....


المريض الشيوعي - الفصل السادس


جاسم المطير

الحوار المتمدن-العدد: 963 - 2004 / 9 / 21 - 09:09
المحور: الادب والفن
    


ماريّا و يوسف العراقي..
المريض الشيوعي
( الفصل السادس من رواية جديدة )
جاسم المطير

(6)
عاشت ماريـّا فترة طفولتها وشبابها في جزيرة (تسل) في بحر الشمال و في قرية محمولة بأجنحة الخضرة صيفاً وشتاءً . فيها يوم السبت أعظم من يوم الأحد حيث تقضي ماريـّا سهراتها في عطلة نهاية الأسبوع مع مجموعة متآلفة من صديقاتها وأصدقائها.
ليس لها أو لصديقاتها شأن بالسياسة . بنظرها وبنظر شلة الأصدقاء أن السياسة تصدّع الرأس وتسد دروب المتعة أمام المنشغلين بها وممارسيها . العمل السياسي الوحيد الذي لا يسد الطريق ولا يبني أسواراً هو ممارسة حق الانتخاب . تكتب أسماء مرشحين لا تعرفهم ولا يعرفونها لكنها تثق بهم من خلال ما هو متداول عنهم في الصحف أو في الإعلانات الانتخابية وهي لا تدري إن كان بإمكانها تفادي الخطأ في قرارها واختيارها أو أنها صارت مجرد صوت انتخابي لولوَ منها ومضى .
- السياسة واشية بالقلق الدائم..ابتعدوا عنها .
هذه الكلمات تجلجلها في كل جلسة يجري فيها حديث عن السياسة وتزجي بها كنصيحة إلى أصدقائها وصديقاتها بفرح عفوي مؤكدة أن لا ثمة رقي للشباب بغير استثمار وقت المتعة بكل أنواعها .. وهي تردد كلاما سمعته من آخرين :
- نصف الحياة شتات ونصفها متعة ومن يمنع نفسه عن النصف الثاني فإنما يضع رأسه في عش الزنابير ..
اكثر شيء يؤذيها هو القلق في جزيرة تسل هو هبوب الريح المتعاظم في الليل والنهار ، ينسج أغاني مرعبة تدخل إلى بيوت سكان الجزيرة المحاطة بأمواج بحر الشمال العالية .. تبدو البيوت كما لو كانت على وشك ان تنقلع من أساسها . في النهار تغني الأمواج أغنيات تدفع الجميع للحب . اجمل شيء لفتيان وفتيات الجزيرة هو الحب.. تبادل الحب.. حيث تتم لقاءات المحبين على الشطآن وفي غرف البيوت متنعمين بعناصر الحياة الطبيعية الأولى بلمسات الجنس وهمسات القلوب ومداعبات الأيدي بدعة وكسل في سويعات النهار والليل في ظل قهقهات البيرة أو غيرها من المشروبات بعد أن يجولوا في ساعات عطالتهم بعد العمل أو الدراسة في سوق دنبرخ أكبر أسواق الجزيرة فالتسوق عندهن غريزة يومية بعد جولة لا بد منها قد تطول لساعة أو ساعتين . حتى ولو كان في نية ماريا عدم شراء أي شيء فقد كانت تهوى مشاهدة الناس والبضائع والموديلات في الأسواق وكيف يتجاذبون ..
- هذا هو قانون الله والطبيعة وهو شرط من شروط تنمية قدرات الشباب من دون عقد وأمراض نفسية..
هذه هي نظرتها ونظريتها عن جوالها في الأسواق حتى تغلق في آخر النهار .
تسود في الجزيرة النائية نظرية العمل والمتعة أو المتعة والعمل مثلما تسود في عموم مدن هولندا وعند اغلب الهولنديين حتى قيل أن في الجزيرة يسكن الجن مختبئا في افياء الحقول والغابات كي يضع الابتسامة في وجوه العاملين في المزارع والبارات والأسواق فتبدو النشوة في عيونهم .. كما يدفعهم نفس الجن للمتعة فتتألق شفاه الجميع بالبسمة والقبل . يعتقدون أن على الشباب أن لا يكونوا خاضعين لأوامر غيرهم.. عليهم أن ينفذوا القوانين المفيدة في تنظيم شؤون المجتمع ورقي الناس ، يعتبرون أنفسهم غير ملتزمين بقواعد الممارسات الجنسية المشروطة بعقد زواج ولا تتوالد عندهم متاعب إنجاب الأطفال قبل عقد الزواج.. ينجبون أولا ثم يتزوجون . تكرر ماريا عبارة : هذه رغبتنا هذه إرادتنا هذه أنصبة مستحقات الشباب .. ألم يقل جرفينوس : إن في الأم عرض رمزي للقوى الطبيعية الفعالة منها تأتي المخلوقات وإليها تعود ..
- نحن الشباب نستند لكل شيء جيد ولكل شيء حي طالما لا تخالف الأعراف العامة والخاصة في جزيرتنا .
احب الأشياء عند ماريا هو انتظار طلوع القمر وهو حلم نادر لا يتحقق إلا بفترات متباعدة .. لا يصل القمر إلى الجزيرة إلا في بعض أيام الصيف.. تنتظره كل ليلة وتناديه : تعال أيها القمر الفضي من ذاك الطرف البعيد من الأرض . ليلة يطلع فيها القمر هي افضل ليالي ماريا وأسعدها .
في تلك الليلة تستنفد ماريا وأصدقاؤها آخر قطرة من البيرة تحت ضوء القمر.
وتحت ضوء القمر يقع الاحتفال والشراب ويتضاعف عدد القبل.
كانت علاقة ماريا بعائلتها قائمة على مجموعة من القواعد العائلية الخاصة ، فلم يكن الأب سيدا في البيت ولا الأخ أميراً . لا أحد من الكبار يفرض رأيه على الأصغر ولا أحد من الصغار أو الشباب ينقض قانون العائلة ولا عرف المجتمع ولا قوانين الدولة .. كل فرد من أفراد العائلة يستند إلى الآخر ويحتاج لمعاونته .. الجميع سواسية أمام الأب والأم مثلما هم سواسية أمام القانون .
- ليس في عائلتنا لا مجلس شيوخ ولا مجلس نواب .
تتحدث بسرور بالغ عن أيام شبابها أمام يوسف العراقي ليلة عيد ميلادها وهو يصغي إلى أحلامها الرقيقة المملوءة بالحياة الدافئة مستذكرا النسيج الاجتماعي الخانق مطوقا عنق الفتاة الزبيرية .. لا تنساب فتاة مدينة الزبير في حلم الغرام حتى يصبح جسدها ألعوبة في سكين شقيقها. يقتلها غسلا للعار بكل وقاحة ، ومـَنْ تسوقها الشهوة الإنسانية للاستمتاع بجسد من تحب فإنها تلجأ للهروب من بيت ذويها لتعيش في الذل مدى الحياة .
في العام الماضي تجمّع بهذه المناسبة نفسها عدد كبير من أفراد عائلة ماريا وعائلة زوجها . هذا اليوم اكتفى الكثيرون بالتهاني التلفونية أما أبناءها فقد حملوا هداياهم وتناولوا غداءهم وقبـّـلوها وغادروا قبل حلول الظلام .
في هذه اللحظة تظهر على شاشة التلفزيون أخبار هبوط سفينة فضائية بعد عودتها بسلام ويجري اجتماع حاشد في بر وكسل يضم قادة الاتحاد الأوربي بينما لا تخلو الأخبار من فيضانات تحطم منازل الآلاف من سكان دولة بنجلاديش وتنتهي النشرة الأخبارية بخطوط بيانية عن البورصة العالمية فترتسم ابتسامة على وجه ماريا لتقول :
- لا أفهم في البورصة شيئاً ولا تهمني بشيء . فأنا استلم راتبي أول الشهر لأصرف آخر سنت منه في آخر الشهر . هل لك اطلاع بالبورصة يا يوسف ..؟
- لا ...
في يوم فرحها كان ساكنا على كرسيه كأنما يستقرئ لوحده أحداث العالم بوجه متجهم كرجل خائب غير مكترث بأخبار الأثير ولا بحالة السرور الطاغية على ماريا بيوم مولدها وهي مستلقية على كرسيها بثوب حديث أهدتها لها صباح اليوم أبنتها الكبرى سيزي يكشف عن جزء من صدرها وعن ساقيها من خلال فتحتين جانبيتين في النصف الأسفل من الثوب .
لم يكن متابعا أو مطلعا بشؤون احتفالات أعياد الميلاد لا لشخصه ولا لأشخاص عائلته . يعرف من خلال التلفزيون أن تلفزيونات العالم كلها تحتفل بعيد ميلاد السيد المسيح ورأس السنة الميلادية الجديدة . ثمة مروحة أخرى تدور في باله نهاية آذار من كل عام ليلتم جمع قليل من عرائس وعزاب مملوءين بآمال قد تتحقق في زمن بعيد أو قصير يسمو فيها خيالهم عن الشيوعية متعلقين بشعلتها حتى بعد سقوط قلعتها في الاتحاد السوفيتي .
أراد أن يوضح لها أن كآبته ليست من ضيق صدره أو تعبه من زائريها بهذه المناسبة . لا يدري كيف يوضح لها انه في مثل هذه الليلة قبل أربعين عاما وجد نفسه في غرفة مظلمة ضيقة ذات باب مغلق وليس فيها أي شباك . لم يكن يعلم السبب الحقيقي وراء اعتقاله وبدء التحقيق معه بالشتم والركل :
ـ أنت شيوعي .. أنت متمرد شيوعي.. أنت خائن ..
أعداد متزايدة من أفراد البوليس السري يدخلون إلى الغرفة ويخرجون مسرعين . رجل ضخم الجثة يحمل بيده صوندة غليظة سوداء حاد النظرات بدا لي حاقدا علي يتطاير الشرر من عينيه يتحرك يمينا وشمالا كالروبوت يصفعني مرة ويركلني مرة ويجلد ظهري بالصوندة عشرات المرات . لا تخرج من فمه غير كلمات السباب الشتيمة : أبن الكلب .. أبن القحبة ..
أغمض عينيّ لأهتف وراء هذه الصورة البشعة كي لا أراها ولا أرى رسامها . عذاب بعد عذاب حتى أجد نفسي داخل حياة معذبة على امتداد الأفق . كانت تلك الليلة احتفالا بعيد ميلاد الحزب الشيوعي حين اصبح أحد رفاقي المعتقلين معي في عداد المفقودين ألانه كان يتواثب بين أصحابه موزعا بطاقات السرور بعيد ميلاد حزبه ..؟
اليوم يا ماريا أشاركك الاحتفال بعيد ميلادك السعيد وأنا مقعد على كرسي السراب محروم من رؤية القمر منذ عشرة أعوام تحيطني الآن ساعات عصيبة وسط بهاء وجهك حيث تنسدل على جبهتك الجميلة خصلات شعرك البديع وعلى شفتيك ابتسامة رقيقة تتحرك لتوقظني من عذابي .. أحس أن عينيك الرائعتين البراقتين تناديني لتقبيلك واحتضانك .. أسعى إليك .. أريد الاقتراب إليك يا ماريا لكن قدمي مقيدتان الى الكرسي اللعين .
تنحدر عيناه نحو صدرها نصف المكشوف ، إلى نهديها و في وسطهما لمعان بهيج وهو يقول :
- أدعو إله الحياة أن يمد في عمرك يا ماريـّا ..
من الآراء المنقولة عن أهالي جزيرة تسل الجميلة تصبح بعض الوظائف والمهن شيئاً لا يمكن التكهن به أو أنه جزء من حياة هادئة بسيطة لا يتطلع غالبية السكان لأبعد منها فليس في جزيرتهم شرور ولا أشرار .. كل نسائها جميلات .. محبوبات .. وكل رجالها غزالين وكل أرضها خضراء .
بيقين الغالبية من السكان أن البحث عن عمل داخل الجزيرة أو في محيطها أمر لا يمكن التفكير به فقد وثق كل فرد من سكانها بطلعة عمله أو مهنته .أما البحث عن بديل خارج الجزيرة فهو أمر كثير الحدوث .
ماريـّا أحبت منذ البداية مهنة التمريض. ربما أصبحت تترحم هي وأصدقاؤها وصديقاتها على آمالٍ كثيرة جائزة التحقيق أو غير جائزة يتحدثون عنها في سهراتهم أيام الشباب أو في جلسات المقاهي حيث يحلمون بالهندسة والطب أو بالسفر إلى خارج هولندا أو الحلم بوظيفة دبلوماسية.
نال بعض شباب الجزيرة قسطاً من التعليم العالي وعرف الوظيفة بأمستردام التي كانت حلماً جميلاً لغالبية فتيان وفتيات الجزيرة إلاّ أن الجميع مقتنعون أن في حياة كل أنسان لون أسود وآخر أبيض وألوان عديدة أخرى.
تلونت ماريا بمحبة فريدة لمدينة طفولتها وفتوتها، وبمحبة صادقة للشارع الذي ولدت فيه بنفس مستوى حبها للعيش في أمستردام. في نظرها أن الفرق شاسع بين هدوء العيش في جزيرة صغيرة وصخب العيش في مدينة سياحية كبيرة مما جعلها شخصية ذات قناعة ورضا بأبسط مستويات العيش الحر الكريم . أفادها في حياتها أنها تؤمن بالقدر.
تردد دائماً أن أمستردام ، خاصة وسطها، مأوى لتجار المخدرات واللصوص والنصابين والمزورين الأجانب يتكالبون على الفوز بذيوع شهرة أو بعمل من أعمال اللامعقول أو بأي شكل كان من أشكال إثبات الوجود في مدينة صعب مراسها. حذرت ابنتها سيزي يوم ذهابها إلى أمستردام للسكن المشترك مع خليلها ليعملا معا بمستشفى واحد بتحاشي أجواء الغرباء والأجواء الغريبة الشاذة أيضاً. كما حذرتها في فجر أحد أيام الصيف حين توجهت للدراسة بأمستردام قبل معرفتها بخليلها الطيب روبرت فأعادت على مسمعها نفس كلمات جدتها كانت قد أسمعتها إياها من زمن طويل . قالت لها بتحذير شديد بعد أن قبلت وجنتيها مودعةً:
- انتبهي يا سيزي لا يغويك غيّ ولا تصعدي سلّماً لا تدرين إلى أي طابق يؤدي في أعلى البناية أو أسفلها .
ظلّت تحب الجزيرة وتحن أليها لأن التقاليد العائلية فيها، كما تقول وتعتقد ،أكثر تماسكاً كما أن عيشها الآمن ظاهرة متميزة.
كانت ماريـّا إحدى اللواتي نوّر الحلم فجرها فجاءها سحر العيش في أمستردام عند حصولها على عمل في مستشفى . تحقق حلمها الفتي ولا بد من الاندماج به . لم تذهب قلقة أو خائفة فمن أولى طباعها حب المغامرة من أي نوع كان. لكنها ذهبت حذرة. كان حذرها شكاكاً .
قالت لإحدى صديقاتها ذات مرة وهن جالسات في مطعم الباخرة العبّارة في مدخل البحر بين جزيرة تسل ومدينة دين هيلدر الساحلية:
- لم تكن بي أي رغبة لعدّ النجوم بسماء أمستردام .. صحوها نادر وجميل لكنني لا احب حساب النجوم .. النظر إلى السماء يزودني بشعور ثقيل بل انه يخلق صراعا عنيفا في داخلي.. القمر وحده في السماء تمنحني رؤيته النادرة روحا هادئة تظل تشتعل فيّ طوال سنوات.. هل الكون دليل على كمال الحياة أم على تمزقها كما هو منظر النجوم المتمزقة . تنتابني أسئلة كثيرة : هل العلم الذي تم بواسطته اكتشاف خريطة السماء تغلـّب على الدين الذي لا يملك أي خريطة عن سماء الله .. أسأل نفسي كلما راقبت السماء واسأل نفسي : هل اهتم الأنبياء بالسماء مثل اهتمامات المتنبئين من رجال وكالة ناسا أو مراكز الأبحاث الروسية ..؟ أدوخ من الأسئلة خشية على معتقداتي الدينية لذلك قررت عدم التطلع في أعماق الكون منذ كنت شابة d ovd’m uk hgslhx أي . حين أقف في حديقة المستشفى أشعر أن كل شيء قد تغير في حياتي، الناس والمناظر والطبيعة والطباع والأدوات والمكان والعادات، لم أشعر بتغير الطقس فالمطر والغيوم والرياح تطوف كلها أنحاء هولندا أينما تكون مع اختلافات بسيطة في الحجم والمستوى .
مضى ربع قرن من حياتها عرفت فيها طوايا الحياة الزوجية الهادئة أحياناً والصاخبة في بعض الأحيان كما عرفت طغيان الزوج وحياة العزلة البيتية بعد أن أشفق الزواج عليها بأربعة من الذين يمكن أن يصنعوا لها أحفاداً في المستقبل ، بنتين وولدين .
لم تتوقف عن العمل المثابر في المستشفى مع وجود حالات وتصرفات من آخرين فجّعتها في أكثر من حالة. حينما أصبحت ابنتها سيزي على درجة من الوعي والفهم بدأت تنقل لها بعضاً من همومها.
- لا ادري لماذا تريد الممرضة الزميلة (كريستين ) إضفاء مزاجها التشاؤمي على وجودها معي في نفس القسم الذي نعمل به بالمستشفى ..؟ كلانا نعمل بملازمة واندفاع تفوق الأخريات ، صدقاً وجهداً.
لم يكن كادر الممرضين والممرضات بالمستشفى يستوعب الحالة التي تعانيها بالضبط من نزعات زميلتها كريستين ،لكنها كانت تريد أن تجيب على استفسارات سيزي بشيء من الأفكار أو أن تعقب عليها بشيء من التعليق الساخر .فقد نبتت في أعماقها الرغبة بمصارحتها ليس كأبنة بل كصديقة من دون أن تفعل ذلك مع أشقائها الآخرين،حتى بعد بلوغهم سن الرشد.
قالت لسيزي :
- لا شك أن كريستين مثل باقي الناس ينطلقون من طباعهم في التعامل مع الآخرين. يريدون الآخرين أن يكونوا مثلهم تماماً.
نظرت إلى ابنتها بشكل مختلف عن نظراتها السابقة كلما تكلمت في موضوع من موضوعات عملها بالمستشفى. كانت واقفة في المطبخ تعد أواني الطعام . اليوم يوم السبت وقد اعتادت أن تقدم لعائلتها وجبة رئيسية متميزة بتعدد أنواع المأكولات الخفيفة إلى جانب طبختين أخريين إذ تنصحهم جميعاً بتناول غذاء مليئاً بالمواد المنشطة للدم والقوة والتفكير. لم يكن هذا السبت كغيره مما سبقه. كانوا جميعاً قد أخذوا أماكنهم حول مائدة الطعام. زوجها يجلس بجانب ابنته البكر ساهماً ، في داخلها إحساس بأن في جو الغرفة ما يشير إلى احتمال وقوع أمر فادح.
كان وجه ماريـّا عائماً بلجة من كآبة تتحرك بمساحة المطبخ والبيت بصمت تام ولا تجيب على أي سؤال من أولادها إلاّ باختصار شديد: نعم أو لا.
بدا زوجها ضجراً ومتوتراً ولم يكن لبيباً في تصرفه معها إذ لم يحس بانزعاجها وعناء وضعها وعلاقاتها في المستشفى بسبب يوسف العراقي نفسه. فما فتئ بعض أصوات الممرضين والممرضات يهمس بما هو وهم وإدعاء كاذب : ماريـّا وقعت في عشق يوسف العراقي .
كانت هذه الإشاعة تتوالى من قسم إلى آخر في مختلف أرجاء المستشفى مثلما يتوالى نجم بجانب نجم في سماء صافية . لكن محكمة العقل لدى الذين يعرفون حقيقة ماريا وجوهرها لا يسلمون آذانهم لمثل هذه الإشاعة .
بينما كانوا ينعمون النظر في تلك الأواني المليئة بأكولات طيبة يحبونها جميعاً . وضعتها ماريا على المائدة بتنسيق يحمل ذوقها المعروف في تجميل المائدة، وإذا بهم يسمعون صوت الأب يرتفع كمن أصيب بصعقة ليكمل حديثاً كان قد جرى بينهما قبل الجلوس حول المائدة .
- أنهم محقون وعليك أن تتركي هذا المريض وشأنه.
قال غاضباً أحست بصوت يقرع بأذنيها كأنه صادر من ضابط عسكري إلى جندي في جبهة قتال .
بدا لها هذا الصوت نذيرا بأن نهارا آخر قد بزغ في حياتها الزوجية . لم تسمع مثل هذا الصوت الآمر من يوم زفافها وقالت لنفسها : .
- واأسفاه لهذا الصوت فقد مزّق إكليل زواجي..
نظرت إلى وجه زوجها المتجهم وقالت ببرود :
- لكنه مريض يحتاج إلى عناية فائقة. فهل من الإنسانية أن أتركه لمعاناته القاسية.
- كل المرضى في المستشفيات سواسية. كلهم يحصلون على العناية الفائقة متى ما كانوا محتاجين إليها.
- لكن يوسف العراقي يحتاج إلى رعاية الكلمة ، والعبارة، والعطف، ورعاية من القلب إلى جانب أدويته وعلاجه.
- وما شأنكِ أنت بكل هذا..غيرك يستطيع عمل نفس ما تستطيعين عمله.
- من داخلي..أعني من أعماقي أستدل بما يجب أن أفعله وقد لا يستطيع غيري استدلاله تجاه رجل يواجه الموت بضعف ويواجه الحياة بضعف. ثمة شيء في أعماقي يدفعني أليه لإزالة ضعفه أنني في تساؤل مستمر : كيف أرفع عنه بعض أثقال الحياة..أنني في حيرة..
- أمن الصواب يا ماريـّا أن تحيرينا كلنا.. هل هناك أي دافع يدفعك لفعل ما تفعلبن. وإهمال ما تهملين..ترفعين الأثقال عنه وتحمليننا إياها..
- أنني في عجب من أمري. أنا نفسي أحس وأدركه. لماذا أندفع لمريض لا يرجى شفاؤه .. من يدعوني إلى الاقتراب إليه. أعجب من أمر فظيع يدفعني بقوة أليه. أنها قوة .نعم أنها قوة بكل معناها تدفعني أليه حتى أحس أحياناً بعصف هذه القوة عليكم جميعاً .. أهي دفع من الرب ..أهي الرحمة من الرب .. أهي الحب من الرب..؟
- هذا أصدق ما قلتيه أنه الحب إذن..
غادر زوجها البيت غاضباً ولم يعد لهما فراش مشترك منذ ذلك اليوم .
لم يكن ما حدث يوم السبت بينهما حادثاً عرضياً أو جديداً. كانت ماريـّا قد وصلت قبل شهرين في علاقتها مع زوجها حد التأزم الأقصى نتيجة علاقتها بمريضها الذي لازمت العناية به إلى حد أثار نفاق العديد من الممرضات. كان زوجها يؤمن بما كان سائداً من نظريات وأفكار بين عدد من العاملين بالمستشفى عما يقال عن علاقة ممرضة اسمها ماريـّا بمريض اسمه يوسف . كلهم يعرفون نوع وطبيعة العلاقة الإنسانية الراكضة نحو مسعاها النبيل لنقل مريض من ضفة اليأس إلى ضفة الأمل قبل أن يرحل الضحى من مكانه إلى مكان الظهيرة .
هل يمكن أن يكون زوج ماريـّا هو الإنسان الوحيد لم يتلق دروس هذه العلاقة الا ضمن ابواب مغلقة لا يسمع فيها غير اصطفاق أغصان الغابة وغير صوت الرعد من وسط السحب الداكنة ..
أكثرهم يعرف أن ماريـّا ويوسف العراقي يحاولان إيقاظ الحياة في جسد ميت .

استشاط الرجل غضباً. لعن المستشفى والمرضى والأطباء وأصحابه. صب بوجهها عبارات التأنيب والتنديد والتهديد .
ران على بيت الزوجية سكون حزين. كأن أحدا من سكانه قد مات و أقيم فيه الحداد. ارتدت ماريـّا ملابس داكنة وما عادت تهتم باناقتها التي يعرفها الجميع تضيف اليها مزيدا من الجمال والجلال والهيبة . كل من شاهدها بعد " معركة يوم السبت " لا يعرفها بسهولة . .
علا وجهها شحوب ينم عن حزن كظيم. ذبلت عيناها، وفارقتها ابتسامتها العذبة .‏ اعتكفت في بيتها لا تبرحه. وبدت منطوية على نفسها تبثها الحزن والشجن. زاهدة في لقاء الناس أو التحدث إلى أحد ، وهي لما تزل في ريعان جمالها .‏
ــــــــــــــــــــــــــ



#جاسم_المطير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسامير جاسم المطير 696
- مسامير 697 إعادة هيكلة الجامعات العراقية إسلامياً ..!
- 694مسامير لكل مواطن شطفة أرض
- المريض الشيوعي- الفصل الخامس من رواية جديدة
- مسامير693ستراتيجية السمفونية الأمنية ..!!
- مسامير صغيرة 691 جوائز السينما العراقية
- مسامير 692 سبتمبر لا حس ولا خبر
- مسامير صغيرة 690 عصر التيارات
- مسامير صغيرة 688 شركة أسواق مريدي المحدودة
- مسامير صغيرة 689عن النظرية الباسكالية
- مسامير صغيرة 687
- مسامير صغيرة صدّق ولا تصدّق ..!!
- مسامير صغيرة 684 هوسة يا ريمة
- الفصل الرابع من رواية المريض الشيوعي
- الرهائن والاختطاف
- مسامير صغيرة 683
- أتحاد الادباء العراقيين
- مسامير صغيرة
- مسامير صغيرة 680
- المريض الشيوعي / الفصل الثالث من رواية جديدة


المزيد.....




- صحوة أم صدمة ثقافية؟.. -طوفان الأقصى- وتحولات الفكر الغربي
- وفاة الفنان العراقي عامر جهاد
- الفنان السوداني أبو عركي البخيت فنار في زمن الحرب
- الفيلم الفلسطيني -الحياة حلوة- في مهرجان -هوت دوكس 31- بكندا ...
- البيت الأبيض يدين -بشدة- حكم إعدام مغني الراب الإيراني توماج ...
- شاهد.. فلسطين تهزم الرواية الإسرائيلية في الجامعات الأميركية ...
- -الكتب في حياتي-.. سيرة ذاتية لرجل الكتب كولن ويلسون
- عرض فيلم -السرب- بعد سنوات من التأجيل
- السجن 20 عاما لنجم عالمي استغل الأطفال في مواد إباحية (فيديو ...
- “مواصفات الورقة الإمتحانية وكامل التفاصيل” جدول امتحانات الث ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جاسم المطير - المريض الشيوعي - الفصل السادس