أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - جاسم المطير - المريض الشيوعي / الفصل الثالث من رواية جديدة















المزيد.....


المريض الشيوعي / الفصل الثالث من رواية جديدة


جاسم المطير

الحوار المتمدن-العدد: 938 - 2004 / 8 / 27 - 12:53
المحور: اخر الاخبار, المقالات والبيانات
    


ماريـّا و يوسف العراقي..

( الفصل الثالث من رواية جديدة )

(3)
وجد يوسف العراقي نفسه انه حي .. حر لكن بثياب سجين يتناول طعامه من يد ملكة بابل ماريـّا تعيّن هي مقدار ما يأكل وما يشرب في كل وجبة مدى أيام حياته الباقية كعبد تجاه منظومة آلية متماسكة متتابعة ساعة بعد ساعة من إجراءات تقوده إلى حالة من التوتر لا يستطيع الإفصاح عنها بلسانه إنما يعبر عنها ببعض إشارات من يده اليمنى يحركها بصعوبة كأنه يجري بعض التجارب الرياضية . يجد نفسه تجاه معركة تتجدد كل يوم مع الحياة يخوضها تحت قيادة امرأة . كل شيء حواليه مصنوع من العلوم الطبية الحديثة يدعوه إلى الحزن الشديد. لم يعد كما كان من قبل مراقبا فعالا ليس لما يحدث في بلده بل لما كان يحدث في القرن العشرين وهو على أعتاب نهايته .. الآن صار يحسب الزمن بالساعات والدقائق كما كان يحسبها في أيام نضاله السري . يتقن بدقة هذا النوع من الحساب عندما كان يضع خطته اليومية كي يتحرك من شارع إلى شارع ومن مدينة إلى أخرى يستغفل فيها مفارز البوليس السري وعيونه المنتشرة في كل مكان .أحيانا يحس انه مثل غاليلو يواجه محاكم تفتيش من نوع جديد برئاسة الممرضة ماريـّا، تحدد له كما تشاء المسموح والممنوع في حياته اليومية. يحس في بعض الأحيان انه كطفل صغير أمامها تعلمه نظرية دارون عن التطور. أي مخالفة منه تعتبرها مخالفة لتعاليم التوراة وأي خطا يرتكبه بالعناد والرفض لا يقل عن خطأ في صنع سلاح ذري من وجهة نظر ممرضة تكنوقراطية تحكم هذا البيت الصغير وتتحكم فيه مثل مدير مصنع زوارق على البحر الأسود أيام حكم ستالين . ليس بين مدينة هورن و مدينة شقلاوة أي تشابه أو مطابقة . لماذا يتذكرها . . لماذا يتذكر في هذه اللحظات مدينة شقلاوة بالذات ويتذكر بعد عقدين من الزمان السهل الفسيح المليء بحركة رفاقه القدامى صعدوا إليها من الجنوب والوسط منتشرين في جنباتها وحول حقولها وبساتينها يعقدون اجتماعاتهم ويجمعون سلاحهم من كل الأنواع الصغيرة تحسبا لأية مخاطرة قد تقدم عليها القوات الحكومية بمطاردتهم وقتلهم كما تفعل في مناطق أخرى عديدة من وطنه . يبحث في هذه الأيام عن اليمام الناقل لأخبار رفاقه وأصدقائه في شقلاوة بلهفة العاشق الذي ينتظر حبيبته مرسومة على صفحات جريدة اسمها طريق الشعب كان يستأنس حين تقلبها أمامه أصابع ماريـّأ مركزا بصره على أهم عناوينها وبعض موضوعاتها ، بينما يجد نفسه محاصرا بالحزن والفراغ والسكون على كرسي بعيد عن دجلة والفرات وعن شقلاوة وكل جبال كردستان .
تلاحظ ماريا بعد وصول جريدة الحزب أن حلمه البعيد يشق رأسه في تلك الساعة . ينظر إلى وجه ماريا كما لو كانت إحدى رفيقاته المتطوعات بحركة الأنصار تحمل ابتسامتها راحته محتفظا بشيء من الهدوء لا تدري إن كان هدوءاً حقيقياً أو مفتعلاً لكنها تظل تحدّق في وجهه مع عبارات تقولها :
- هل أنت مرتاح من سماع أخبار رفاقك من على صفحات هذه الجريدة ..؟
- نعم ..
يشير برأسه .
لكنه سرعان ما يقول لنفسه :
- ما فائدة الراحة إذا كان العالم يبدأ عندي من هذا البيت المشفى وينتهي فيه .
تنظر إليه بإمعان تهمهم ببعض الكلام الهولندي معتقداً أنها تقول له :
- أيها المريض الشيوعي لم تصنع حتى الآن المركبة التي تخترق الأجواء لتصل بواسطتها إلى مدينة الزبير أو إلى جبال كردستان لتواصل عمل الشباب في إسقاط دولة قديمة وبناء دولة جديدة . المرض اللعين يمنعك . إنك الآن خارج زمان ومكان وطنك وشعبك والدولة التي تحلم بها .
يتخيل جواباً لها :
- آه يا ماريا لا تفتحي لي جروحاً جديدة قبل يوم من مغادرتي الدنيا .
قهقهت وهي تدندن بكلمات هولندية :
- سأفعل كل ما بوسعي كي لا تغادر الدنيا غدا .. لكن لن أضمن لك عودتك إلى الزبير حتى لو سقطت دولة صدام حسين .. هنا في هذه الدولة مهجعك الأخير .
هنا في هورن ينشغل رجال الحكومة في بناء أهرامات المساكن وهناك يحيل رجال الحكومة أهرامات الجبال الجميلة إلى خارج الممارسة الإنسانية. هناك يجلدون عظام الإنسان بالسياط فتحدث حالات الاختلال في الألياف العصبية المحيطة بالمعصم والمرفق والكتف والعمود الفقري كله وهنا في هذا البيت تتكاثف الجهود لتخليص يوسف العراقي من الخلل الميكانيكي الحاصل في جهازه العظمي العضلي ..
- نعم لن يشفى يوسف العراقي فقد ترسخ المرض العضوي وصار عطبا دائماً.
قالت ماريا باللغة الهولندية أمام صديق يوسف.
- لكنني سأعمل من اجل أن يسري الدم في بدنه .
سحبت نفسا عميقا من سيكَارتها مبتسمة بثقة .
من يستطيع غيره تقويم كفاءة أداء ماريـّا في رعايته . من يستطيع غير ماريـّا تقويم أداء وكفاءة عمليات الأجهزة العديدة لتحديد مستوى العلاقة بين القدرة المتاحة لضمان بقاء إنسان على قيد الحياة وبين روابط الأعصاب المتهالكة في كل بقعة من جسده وهي تتابع في كل فترة بين زمنين من مواعيد تناول الأدوية المقررة . ماريـّا ليست سوى ممرضة تكافح من أجل أن تملك قدرة المستهدف من الأدوية والأجهزة ومقارنتها مع المتحقق منها وفق مقاييس ومعايير طبية معينة .
- لكن الأعمار بيد الله .
قال هذه الكلمات القليلة سليم عبد الله صديقه القديم الذي كان يزوره في أول يوم السنة الجديدة بينما كان المريض في تلك اللحظة يشير بأصابعه إلى صدره كأنه يهمس لها بوجود ألم .فهمت ماريا الإشارة بسرعة فليس ثمة إنسان في هذا البيت غيرها يستطيع أن يلتقطها فأحست في الحال بانخفاض وجيب قلبه ثم انغلقت عيناه فبان قلق شديد على وجهها وفي حركتها .
- ماذا يا ماريا .. هل من طارئ ..؟
سألها سليم وقد انتقل القلق إليه .
لم تأبه لما قاله سليم عبد الله فقد كانت تخابر تلفونيا مستشفى امستردام بالقول :
- يوسف العراقي في حالة شبه إغماء . يحتاج إلى مستوى من الإنعاش . أسرعوا رجاء .
بعد قليل من الوقت كانت سيارة إسعاف واقفة بالباب . نزل منها اثنان لكشف الخلل أو وصف العلاج بعد الوقوف على أعراض حالة المريض . أسفرت بعد قليل مهمة التحري عن أسباب انحراف مفاجئ في صحة يوسف العراقي عن قرار نقله إلى المستشفى .
في صالة المستشفى كان العرق يتصبب على وجه ماريـّا بانتظار خروج الطبيب من غرفة الفحص بقسم الطوارئ . كان الجو باردا وكانت غرف المستشفى وصالاتها وممراتها دافئة . سليم عبد الله يركز بصره على ماريـّا وهي تحاول التقاط أنفاسها . تنظر إلى ساعتها بين دقيقة وأخرى . ليس بوسعها أن تفعل شيئا غير انتظار قرار الطبيب . كانت تحسب الزمن بقلق بالغ كأنها تتوقع أن عمر يوسف العراقي سيفر في غفلة منها إلى الأبد .
ساعة كاملة مرت بتناول الشاي الساخن وبعدة سجائر قدمها لها سليم حتى أخبرها الطبيب المعالج :
- يحتاج إلى العناية الفائقة ليومين . اطمئني سيتجاوز أزمة الضيق في التنفس .
‏الحاسة السادسة لم تخيّب ظن ماريـّا فقد كانت خبرتها في التمريض صادقة حين أخبرت سليم أن يوسف العراقي سيعود إلى بيته سريعا . كان سليم قلقاً جداً في صالة الانتظار منتظراً المجهول الذي تحمله تلك الساعات متصوراً أن أخبار الساعات القادمة ستكون صعبة قد تنبئ بموت صاحبه ..
في المستشفى كانت ماريـّا تلاحظ وجه سليم مكفهرا كأنه يستذكر أشياء من الماضي البعيد . كان يتهرب من أسئلتها :
- بماذا تفكر يا سليم ..؟ أرجو أن تثق بقولي أن يوسف سينجو من هذه الأزمة .
لم يكن سليم يفكر في الضائقة المحيطة به في هذه اللحظة بل تغلبت في أعماقه لحظات موت عاشها قبل عقدين من الزمان حين مات أحد رفاقه من المقاتلين الأنصار بين يديه في تلـّة مرتفعة مفتوحة على أرض كردستان وأمام سمائها حين لم تكن أمامه لا فرصة نقله إلى مستشفى ولا وضعه في غرفة العناية الطبية ولا يملك بحوزته دواء ولا توجد لرعايته امرأة جميلة كماريّا . ليس هناك غير مهاجع متناثرة وأكياس محشوة ببعض الأغراض وبطانيات . كل أفكار الموجودين متعلقة بحماية الدوشكا التي أمامهم لمراقبة تحركات الجحوش . قد تهاجمهم في أية لحظة مباغتة مدعومة بقوات من جيش الحكومة بمختلف الاتجاهات والأسلحة الفتاكة وأرتال مدربة على حروب الجبال . مات رفيقه بينما كانت الريح في زئير شديد .
اليوم يبحر تفكيره في سؤال نفسه :
- هل حل موعد رحيل يوسف العراقي ..؟
رأسه يدور الآن كما كان يدور الرشاش في تلك التلة وكما يدور في الباب الشرقي ببغداد حين تضج بالسيارات وباعة السيكًاير والكبة وحركة الجنود المتوجهين إلى وحداتهم العسكرية في جبهات الحرب . فيعود كثير منهم بعد حين ملفوفا بعلم الدولة مكتوب على تابوته كلمة شهيد .
- هل يموت يوسف العراقي ..؟ هل يلف جسده بعلم أحمر . هل يكتب على تابوته كلمة شهيد .. ؟
- لن يموت يوسف . لقد نجا . سننقله إلى البيت ظهر اليوم .
قالت ماريـّا كلامها بوجه مسرور مبتسم غيـّر في الحال انطباعا سابقا ترسخ في ذهنه أن ماريـّا هي اقرب لنموذج المسؤول السياسي في حركة الأنصار الشيوعيين في كردستان.
- الأمر ما زال كذلك .. ماريـّا هي الإرادة وهي الذاكرة في فصيل المريض يوسف العراقي بمدينة هورن.
قال هذه الكلمات لنفسه بصوت عال باللغة العربية . يقود سيارته و بجانبه ماريـّا خلف سيارة الإسعاف المقلة ليوسف بعد شفائه من أزمة.
بعد ثلاثة أيام استيقظ في الظهيرة منقبض النفس يشعر بنوع من الغثيان ، وبسرعة عاد النور إلى وجهه حال رؤيته وجه ماريـّا مبتسما ومسرورا بعودته إلى البيت ليستقر على كرسيه مع مكافأة معنوية حصلت عليها ماريـّا تقديرا لسرعة ودقة ملاحظاتها الميدانية في فترة زمنية قصيرة أزالت فيها عنه خطر الموت المحقق .
لم يكن بإمكانه أن يتخيل واقعا يعيش فيه أول مرة ليس فقط خارج وطنه بل خارج الأفكار التي نشا عليها وآمن بها منذ خمسين عاما حين وجد في الأفكار الاشتراكية مأربه وحين كان يطالب بالمظاهرات بسقوط الرأسمالية وأنظمتها في كل مكان في العالم .
كان يدرك منذ طفولته أنه وُلِد في حدود الصحراء على بقعة صلبة جرداء .. تعلّم في مدينة الزبير إن من يولد فيها لا يعيش فيها . لا بد أن يغادرها إلى مكان آخر .. إلى الكويت أو إلى بلاد نجد وبعض الأقلية يغادر إلى بلاد الإنكليز . لا أحد في هذه المدينة لديه شعور الاستقرار فيها إلى الأبد . داود الخشتي غادر عبرها إلى الكويت . عبد الملك سكن في الكويت لبعض الوقت كي يموت فيها سريعا بسكتة قلبه المفاجئة . جبار الشيخ غادرها إلى السعودية وكذا فعل صالح الشايجي . امتزجت أحلامه بأحلامهم فكان يشتد عنده دافع التحرر من القفص العراقي الحديدي .
- إلى أين تغادر يا يوسف ..؟
- لا أدري .
لا يريد أن يطير من قفص في صحراء الزبير ليكون داخل صحراء جديدة في شبه جزيرة العرب حيث ينحدر اصله منها . في نظره أن هذه البقعة من العالم لم يخلقها الله لغير تصحر الأرض وجفاف العقول في بلد نمت في دواوينه أفكار المفكرين في سابق العصور مثلما نمت على شواطئ أنهاره أشجار النخيل .
كان يعتقد وهو فتي إن بالإمكان أن تكون أفكار العنف والثورة مذهبا سقراطيا لكنه اليوم يواجه قانونا طبيا ستالينيا وهو أمام تكنولوجيا من أدوات صغيرة موضوعة لإطالة حياته يتقوى بها على الموت المتوسع في كل خلية من جسده لتوقف الحركة الجماعية في أعصابه . ليس رأسماليا هو وليس مواطنا هولنديا .. هو مجرد لاجيء سياسي طارده نظام فاشي حتى وجد رحاله في مطار أمستردام ينعم بحرية الاختيار أول مرة في حياته بالضد من عقيدته بعدم الثقة بالرأسمالية .
هل تحقق حلمه في الحرية وهو شيخ مريض.. هل يتخلص من يأسه المتمرد أو من تمرده اليائس وهو في بلد رأسمالي لا يملك في جيبه قرشا واحدا .. هل يعتقد البؤساء في العالم الذين حمل وإياهم فيما مضى أسلحتهم ضد الرأسمالية أنها وحدها تناضل من اجل أن يبقى يوسف العراقي على قيد الحياة وهو ما زال ماركسيا مثل شارل بتلهايم الفرنسي ومثل عزيز وطبان ابن مدينته اللاجئ المستريح في ألمانيا ومثل ناهدة الرماح ممثلة مسرح أعاد الأطباء الإنكليز إليها بصرها حين فقدته وهي واقفة عليه ..؟
هل تعود إليه طاقته في المشي والحركة ليواصل عمله في تنظيم مثله الأعلى وتحقيقه بافتراض انه سيبعث من جديد فكرا وأسلوبا .. هل يكون إنسانا حرا يمكنه أن يتلاءم مع التغيرات الفجائية المتسارعة في العالم في شروط متحركة كل يوم منذ انهيار الاتحاد السوفييتي .. هل يستطيع مواجهة حياة من نمط جديد تتطلب منه أن يكون صابرا متزنا يحمل نضجا عقليا وثباتا انفعاليا مع مقاومة الذات للإخفاق وفتور العزيمة والقلق .. هل يعتبر أن الثورة الحقيقية في هذا الزمان ليست هي من نمط ثورات القرن التاسع عشر أو العشرين بل تتجلى ، الآن ، في ثورة تناصر فيها ماريـّا عزم الأطباء لإسقاط سلطة المرض من بدنه .. هل تستطيع ماريـّا أن تعيد له صوته كي يقول لها كلمة واحدة :
- شكرا يا ماريـّا .
من يدري ربما يريد أن يقول لها :
- أحبكِ يا ماريـّا .
مثلما تثابر ماريـّا على العناية به وبنفسها كان يثابر هو أيضاً في طريق الصمت للعناية بنفسه وماريـّا ، كما تصمت أمامه بمثابرة جلية لوحة صغيرة من لوحات فان كوخ المعلقة على جدار الغرفة لكنها تنطق بصوت عال : الحرية .
مأساته أنه لا يتوقف عن النظر إليها بحرية . بصمته يسأل اللوحة :
- إلى متى يستمر هذا السكون ..؟
يجيب فان كوخ :
- حتى يعج البيت بصوت أصحابك يوم موتك يا يوسف .
يأتيه الغثيان في لحظة سماع هذا الصوت من نفسه ويحس باختناق بلعومه فتسرع ماريـّا الواقفة في المطبخ ، منشغلة بإعداد شاي أو قهوة أو طبيخ أو تنظيف فاكهة ، نحو زاوية الغرفة البعيدة تحمل جهازا يدويا خاصا لسحب البلغم الجاثم في بلعومه فتأتيه اليقظة الضاغطة فجأة مركزا بصره على وجهها الجميل كأنه استعاد حريته.
يظل يتساءل مع نفسه في كثير من الأحيان كأنه يسال الآخرين من زواره الأصدقاء في المستشفى والبيت هل الحرية خلقت لهذا البلد دون غيره من بلاد الله في الشرق وفي بلاد كان سكانها الشاهد الأول على ميلاد الأديان والتوراة والإنجيل والقرآن والقانون والعجلة .. هل مسموح لإنسان هذه الأرض المنخفضة أن يتنفس هواء العصر بينما يتنفس عشرون مليون إنسان في بلد جلجامش وحمورابي وأخوان الصفا والمعتزلة هواء الماضي الحالك الظلمة ..هل خلق الله شعب العراق ليعيش في معسكر اعتقال.
ينصت قليلا إلى دقات قلبه ليقول أن الحياة تقف في كل مكان أمام حيلة التاريخ أو أمام زيف وازدواجية وجوهه . هنا في هولندا الرأسمالية تاريخ مغاير لما يسجله تاريخ العراق أو سوريا وهو لم يخرج عن العبودية رغم ما تحمله أبواب حكومتيهما من شعارات الاشتراكية. صار موقنا في صمته أن تاريخ هولندا الرأسمالية يضع نفسه لينقذه من موت مرئي . ذاكرته تجعله مضطربا لاهثا وراء الحقيقة في لحظات حنينه إلى الماضي البعيد والقريب فيستيقظ بعنف كأنه فزّ من كابوس مجهد فيجد نفسه مقيدا بعبودية المرض - العجز.
من يدري ربما تكون العبودية واقعا موجودا في داخلنا، في داخل الإنسان قبل أن ‏ تكون في داخل الأنظمة..
بداية صباح كل يوم تكون مع الحمّام بعد قليل من وقت الاستيقاظ .. تنقله ماريا إليه محمولا على كرسيه تعريه من ملابسه قطعة قطعة بصعوبة بالغة . الكرسي الخاص يعيق حركة يديها مثلما يعيق حركة جسده الثقيل المشلول لكنها تنجز المهمة بصبر نادر المثال . تتذكر كل يوم كيف كانت تحمم أطفالها الأربعة الذين ولدتهم بالتتابع من دون أية صعوبة . تحميم هذا الإنسان يحتاج إلى فعاليات من نوع خاص بمنظومة خاصة من الحنفيات وبقواعد خاصة لا تؤذي أية بقعة من جسده. المسؤولية هنا تتوزع بين الحنفيات وجسده المتعب ويديها المتآزرتين بدقة كي تقدم الدوش الدافئ متطابقا مع الوصف الطبي المقرر من نظام رعاية طبية ليست رأسمالية ولا اشتراكية .لا تنقص ماريـّا لا المرونة ولا التجربة في إنعاش جسد مشلول أو نصف مشلول.
تمنحه دوشاً يوميا نصف بارد نصف حار منهمرا على جسده كحجر ثقيل بماء منعش يرضي مطمحه الأول انه إنسان حي يرزق مع بلوغه العام الثامن والستين . ماء الحمام لا ينعشه حسب .لا يمنحه قوة حسب.. لكن صوت الحنفية يضاعف انفعالاته في داخله . صوت أجش وقوي ينادي أعماقه من أعماقه فواقع ساعة كاملة يقضيها في الحمام لا يتطابق مع انفعاله الإنساني العميق . بعينيه يرى أمامه نصف نهدي ماريـّا عاريين جميلين وتبدو خصائص جسدها شبه العاري تتعارض تعارضا واضحا مع عجزه الجنسي، مع استبداد هذا العجز إلى حده الأقصى. يداه المشلولتان لا تتيحان صياغة دورهما في تلمس فخذين بضين يتطلع إليهما بعينين سليمتين فهما الحاسة الوحيدة التي لم يتعطل عملهما حتى انهما لم يحتاجا حتى الآن إلى نظارة طبية . يمكث شارد الذهن يخشى التركيز على شيء بذاته دون أن يتمكن من نيله فيحاول استعادة حالته الطبيعية من غير أن تشعر انه اشتهى جسدها رغم أنها تلاحظ شحوب وجهه وتكاثف حبات عرق عليه . ساعة أو بعض ساعة لا يجدان فيها مقبضا مشتركا يفتح لهما أبواب سعادة يريدها كل واحد منهما وهما في حمام مشترك . أي تغير طرأ على ناموس العلاقة بين رجل وامرأة في هذا الحمام يبعد الحرارة المقدسة بين جسديهما ..؟
تعود به في كل مرة بعد الاستحمام إلى مكان قبالة الراديو والتلفزيون وجهاز المسجل والسي دي والفيديو . على يمينه عدد من مشغلاتها الروموت كونترول .. بعد أن تكمل له تغيير ملابسه تأتيه بمرآة كبيرة تمسكها بيدها اليمنى لتضعها أمام وجهه بضع لحظات ..
لا يجد أي تغيير .. الوجه شديد السمرة شديد السكون . لم يكن أحسن مما كان فيه يوم أمس .
بينما تعود هي إلى الحمام ثانية لإعادة ترتيبه بعد أن تستكمل تنظيف جسدها أيضا حيث يكون وقتا تقضيه فيه مالكة حريتها كاملة قبل أن تبدأ خطوتها التالية بإعداد وجبة إفطار لشخصين بعد حمّام حار .
ماريـّا سيد ة البيت المطاع. كلمتها نافذة ، ورأيها لا يناقش لا من قبل يوسف العراقي ولا من أصدقائه ولا من أطبائه في بعض الحالات والأحيان . شأنها في ذلك شأن سائر قرارات الرجال والرجال الحكام بما فيهم الرجال المسؤولين عن رعاية البيت كله . كانت ماريـّا تلف أسماعه بنغم من الكلام الطيب كأنه يسمع منها كلمات حب عاشقة وتجلـّه بأخلاق عالية وبكرم جم . تجلُّ مريضها العراقي يوسف وتوقره إجلالا وتوقيرا خاصين. لا تجادله في أمر، ولا ترد له مطلباً، إيماناً منها بالحكمة المأثورة القائلة: ارحموا عزيز قوم ذل.‏
عزز هذا الوضع عشرتهما الطويلة الأمد تحت سقف واحد. لم تكن تجد في نفسها الشجاعة الكافية لمفاتحته في شأن خاص ، وهو كذلك يبدد وقته كل يوم بالصمت دون أن يجد الشجاعة الكافية كي يتفوه بكلمتي : أحبك ماريـّا .. رغم أن هدهدة الكلمتين تضغطان عليه كريح عاصفة ..
يستريح يوسف العراقي بعد عبء الحمام الثقيل .. يشعر بحرارة عالية مضطرمة في بدنه . ربما يغفو قليلا لكنه كثيرا ما تسيطر عليه حالات القلق والحيرة والتعب ومعاناة الحاجة إلى ممارسة جنسية لا يستطيع القيام بها . حتى قضيبه لا ينتصب في الحمام أثناء مرور يديها عليه وعلى خصيتيه . الضوء المتسرب من الشباك يضيف قوة على يقينه بأنه حي . يحس بالدفء وبارتخاء عضلاته كلها كأنها غير موجودة في كل ناحية من جسده . ينتابه شعور الاختفاء وراء عزف الموسيقى لحظات فيمسك روموت التلفزيون حتى تضاء شاشة التلفزيون الهولندي يقدم نشرة إخبارية كثيرا ما يرى فيها صدام حسين أمام استعراض عسكري أو في اجتماع لمجلس قيادة الثورة أو أنه يطلق رصاصات بندقيته في الهواء . لا يفقه من الخبر غير صورته فهو لا يعرف من اللغة الهولندية شيئا . ثم تحل اللحظة الهنيئة بخروج ماريـّا من الحمام بوجه بارق ٍ جميل وبملابس زاهية تغطي كل شيء في جسدها .
شيء ما يجعلها مبتهجة لكنه لا يعرفه هل هو شيء تافه .. هل هو شيء رباني كما تدعي أم هو نوع من أنواع المرض النفسي يجعل المريض يهرف كالمجنون :
- لا أريد أن افتقدك .. لا ادري لماذا يقل أو يعدم إحساسي بالألم طالما أنت معي,
- لا أريد أن أضيعك.
- قلبي يخفق باسمك إلى الأبد.
- لا تكن قانطا إلى الأبد.
- لا املك القدرة على الابتسامة. هل تعلمين يا سيدتي أن الابتسامة الحقيقية هي خروج إلى عالم رحب وليس القعود على كرسي بليد .
- لم افقد الابتسامة حتى يوم خالجتني شكوك عن قول الطبيب بأن يوسف سينوت غدا ..
- أنا بانتظار مجيء الغد.. أنا بانتظار مجيء موت يأخذني من بين يديك يا ماريـّا ..
- ليس كل ما يقال يحدث.. الشمس دائما موجودة بباب المشرق.
بدا له أن دويا قويا يعبث بأذنيه ..
وينتهي إفطارهما ..



#جاسم_المطير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية جديدة
- ماريا ويوسف العراقي ...رواية
- مسامير صغيرة 675
- ماريّا و يوسف العراقي
- وعي المكان (المكانلوجيا ) عن ثقافة الداخل وثقافة الخارج
- مسامير صغيرة 674
- مسامير صغيرة 673
- مسامير صغيرة 672
- مسامير
- ضرورة البحث عن بحيرات تسقي روابي مؤتمر تموز ..
- مسامير صغيرة 670
- مسامير صغيرة 669
- حكومة أياد علاوي ربطت المثقف العراقي على كرسي القهر أيضاً .. ...
- مسامير صغيرة 668
- مسامير صغيرة 667
- مسامير
- برقية رشوة من أوراسكوم إلى أياد علاوي
- مسامير صغيرة 665
- مسامير صغيرة 664
- مسامير صغيرة 663


المزيد.....




- سائق يلتقط مشهدًا مخيفًا لإعصار مدمر يتحرك بالقرب منه بأمريك ...
- شاب يبلغ من العمر 18 عامًا يحاول أن يصبح أصغر شخص يطير حول ا ...
- مصر.. أحمد موسى يكشف تفاصيل بمخطط اغتياله ومحاكمة متهمين.. و ...
- خبير يوضح سبب سحب الجيش الأوكراني دبابات أبرامز من خط المواج ...
- الجيش الإسرائيلي يقصف أهدافا لـ-حزب الله- في جنوب لبنان (فيد ...
- مسؤول قطري كبير يكشف كواليس مفاوضات حرب غزة والجهة التي تعطل ...
- حرب غزة| قصف مستمر على القطاع ومظاهرات في إسرائيل ضد حكومة ن ...
- كبح العطس: هل هو خطير حقا أم أنه مجرد قصة رعب من نسج الخيال؟ ...
- الرئيس يعد والحكومة تتهرب.. البرتغال ترفض دفع تعويضات العبود ...
- الجيش البريطاني يخطط للتسلح بصواريخ فرط صوتية محلية الصنع


المزيد.....

- فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال ... / المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
- الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري ... / صالح ياسر
- نشرة اخبارية العدد 27 / الحزب الشيوعي العراقي
- مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح ... / أحمد سليمان
- السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية ... / أحمد سليمان
- صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل ... / أحمد سليمان
- الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م ... / امال الحسين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - جاسم المطير - المريض الشيوعي / الفصل الثالث من رواية جديدة