أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جاسم المطير - ماريا ويوسف العراقي ...رواية















المزيد.....


ماريا ويوسف العراقي ...رواية


جاسم المطير

الحوار المتمدن-العدد: 937 - 2004 / 8 / 26 - 08:38
المحور: الادب والفن
    


.. المريض الشيوعي
( الفصل الثاني من رواية جديدة )

(2)

انتهى كل ما تراءى له خلال الأعوام الماضية من أمل أو شفاء على أيدي أطباء عرب ، بل نصحوه في السفر إلى هولندة ديار الأحياء المتمتعين بالفتنة والجمال والرقي والتقدم العلمي . صار عنده اعتقاد أن جميع الأطباء العرب كاذبون أو عاجزون بعد أن انطفأت محاولاتهم لوقف نمو المرض سريعا كما تنطفئ نار الشوك في صحراء الزبير عندما يشعلها السائحون في غابات الأثل وهم يبحثون عن عزلة بعيدة عن أعين البوليس السري ووحوش ما يسمى بالجيش الشعبي وذئاب آخرون مفتونون بإخصاء الناس لا يعرفون من الزمان والشرائع والقوانين غير الجور على الآخرين من دون سبب .. مسّـهم جنون تشويه منظر البشر بقطع ألسنتهم وآذانهم وقلع عيونهم . إذن لم يبق أمامه غير الخلاص من جذر في ارض جعلوها يابسة وكل ساكن عليها محزون ومخذول.. حمل أحزانه وأوجاعه وراح يسعى وراء ترنيمة الخلاص بغربة جديدة بعد أن جار عليه حكام بلده فطاردوه وحكام الجزائر طردوه من أرضهم بعد أن صاموا عن قول الحق وتضاربوا معه بكلام الباطل حين لجأ إليهم ذات يوم ليعلـّم أبناءهم في مدارسهم حتى غشته بلية ترحيله قسرا من أرضهم محطمين أمله ومستعصين عليه أمر شفائه والسكن على أرضهم .. فهل يشرق نور على ظلمة حياته بأيادي أطباء غرباء عنه وعن العرب والمسلمين أجمعين . قيل له في دمشق أن في يمين الأطباء الهولنديين قدرة كبيرة على الفعل الطبي المأمول وقيل له انهم من طينة الناس الحالمين برقي الإنسان لا تعثرهم عثرة في النظر إلى دين أو جنسية أو مال .. مقيمون في روح الإنسانية للابد كي ينعشوا روح الإنسان المنسحق من غضب الحاكم الشرقي وجعله صحيح البدن قادرا على إنزال القصاص بالجهل والمرض فتأهب للسفر إليهم بعد يأس من أرض العناء والسجون والأهوال والأفاعي السياسية .
هاهم هولنديون أفراد من عائلة واحدة ينهضون بمهمة تهيئة هذا البيت ليصبح مستشفاه الخاص الصغير . هل سيصل إلى ينبوع الحياة في هذا المكان كي يشفى بمائهِ كما قالت ماريـّا قبل يومين.. هل جاءه حظ جديد على يد ماريـّا ليملأ جرة ما تبقى من حياته بماء من ينبوع يعيد له الحياة أو على الأقل يفك غل قدميه تحت علم مملكة ليس هو من مواطنيها .. هل يستطيع ذات يوم أن يكافئ سيزي وعاشقها روبرت ..؟
بدد هذا اللقاء مع بنت ماريـّا وخليلها كل ظلام يعتقد انه سيظل يعيش فيه حتى يومه الأخير.. ووصول مثل هذا اليوم ليس ببعيد حسب ما ينبئه جسده وتقارير الأطباء. كان دائما يدير شؤونه الطبية بالحذر من المرض والطب معا .. لا تعتريه المخاوف منهما ولا تزعزعه مفاجآت تنم عنهما لكن هل يجرع غصة الغربة في أوربا بلا صديق أو رفيق..؟
- هناك وفرة من الرفاق والأصدقاء سيقفون معك و ستنعم صحبتهم بالطمأنينة.
قال له مسئوله الحزبي وهو يودعه في مطار دمشق..
اقتفت خطاه من تلك الساعة سماءً بطائرة ومجموعة تقارير نصفها خطأ ونصفها صواب ومجموعة صور من أشعة اكس نصفها واضح ونصفها جشع مستبدلاً يأسه بسلام الأمل والشفاء ، مدخرا في قلبه كلمات طيبة قيلت له في شرق الدنيا ليتم ما رسم له من وسائل العلاج في غربها.
شعر منذ اليوم الأول لرؤيته وجه ماريـّا أنه سيعيش في بيت آمن ترعاه يد أمينة يمكن أن تمحي كآبته بعد أن أسلمه القدر من ظلم يهاجمه هنا أو هناك ويقتحم حياته مرة بعد مرة مذ كان طالبا في المدرسة الثانوية يغشيه ظل البوليس السري في باب المدرسة أو في باب بيته بمدينة الزبير فهل تدافع عنه ماريـّا أمام هذا البيت في بلدة هورن ضد عدو جديد يقتحم بدنه كله كي تنقضي سنوات عمره الباقية بسلام وهي قليلة فيذهب بعدها إلى بيت تحت الأرض لا عودة منه .
- لقد انتهت أيامي يا ماريـّا ..أرى كل ليلة حلما يقول لي أن القبر معد لك غداً.. الكوابيس تحاصرني..
- لكنني سأحاصر مرضك يا يوسف ..سأظفر.. سنظفر معا ..سيكون الله معي .. سيكون الله مع أطباء هولندا ليوفروا لك رغد الدعة والطمأنينة ويكسوا جبينك وجنبيك بالعافية ..
- لم يكن الله معي منذ يوم ولادتي فقد كانت عسيرة على والدتي . كنت في بلدي مثل أبناء الشعب الآخرين طيناً والحكام الظالمون خزّافون يفعلون بأيديهم ما يشاءون حتى صار بيتي خرابا وصارت مدينتي قفرا بينما تحتها بحيرات من النفط تعتصم بالصمت أمام ناهبيه ..
نظر إليها كمن تذكّر حقيقة أن شركة شل الهولندية كانت واحدا من الناهبين . لكنه ركز ناظريه في عينيها قائلا :
- هذه هي المرة الأولى يكون لي موطئ قدم في بيت آمن وأنا مطمئن تحضنني أيادٍ حانية بعد يدي أمي ..
أطرق برأسه إلى الأرض قائلاً بصوت منخفض :
- وجودك معي يا ماريـّا يبهجني حقا ويشعرني كأنني ناج للتو من ريح عاصفة .
- ماذا قلت ..؟
سألته بصوت عالٍ :
تردد قليلاً وقال :
- أنتِ بهيجة .
كان وجهها يبتسم بصدق تام و بدت مشرقة بعينين عميقتين .
قال مع نفسه:
- ما أجملك يا ماريـّا ..أرسلك الله ليعاقب جميع مضطهدي حياتي..
هذا أول بيت يقيم فيه باطمئنان وحيدا مع امرأة . . أول بيت لم يبذل في تخطيطه أو بنائه أو تأثيثه أي جهد ، فكل شيء جرى ترتيبه وتنظيمه بمواصفات خاصة تجعله مقرا لراحته تعينه على البقاء حياً لأطول فترة ممكنة . أيمكن أن يكون هذا البيت بلا أنين يعلو على صوت ماريـّا حين تقدم فيه مشورتها لفلاح يقضي آخر يوم من مهمته في تنظيم الحديقة خلف البيت كي يحيطها جمال المنظر وكي تجعل عيني يوسف العراقي لا تريا غير الجمال. تتصرف ماريـّا فيه كما تشاء كي تسخر البيت الصغير حتى يغدو بمثابة مستشفى قادر على توفير متطلبات علاج مرض خطير مزمن أثقل على صاحبه حتى بدت له الحياة أمراً غير مرغوب فيه .
- الحياة بدون حركة لا معنى لها .
يكرر هذه الكلمات أمام الأطباء وأمام الأصدقاء الزوار .
اعتادت ماريـّا منذ أكثر من عام حين كانت ممرضته في مستشفى امستردام أن تسمع آهاته تخرج من أعماقه ملتاعة رغم أنه يحاول أن يبرهن للآخرين أنه غير مبالٍ بالمرض . كان يشعر بنوع من السعادة حين يحس بوصول آهاته إلى قلب ماريـّا وإلى أعماقها .. تندفع أنفاسها بوجهه فيحس بحرارة أملها وأحلامها في أن يبقى حيا ليوم غد كلما سمع منها رجاءها :
- خذ يا يوسف هذا الدواء .
حين يسمع أسمه منطلقا من بين شفتيها فأنه يستعذب حروفه كما لو كان يسمع أسمه لأول مرة .
- لن تأتينا ، بعد اليوم ، أذيـّة من بيروقراطية المدراء والإداريين في المستشفى سأجلب السلام لحياتك في هذا البيت..
عرف أنه سيقضي بقية حياته داخل بيت جميل المنظر والموقع . عرف أيضا أن ماريـّا ستكون رفيقة عمره المتبقي .
انعم عليه الانتقال من المستشفى إلى بيت المشفى بالكثير من السرور ليعيش وحيدا ويموت وحيدا مع من تحبها نفسه .. من أول يوم وجد نفسه في غاية السرور أمام من سلبته نظرات عينيها في لقائها الأول . في كل لقاء توقظ آماله بكلام من فمها الخارج بعذوبة الأمل باستمرار حياته مدى أطول .. حين تتحرك في البيت يطالع رشاقة خطوات قدميها من غرفته إلى المطبخ أو إلى الحديقة أو عندما تفتح باب البيت خارجة منه ليقول لنفسه :
- ما أجملك يا ماريـّا.. قامتك تذكرني بقامات نخل الخورة .. أنفاسك يا ماريـّا كأريج التفاح في بساتين أبي الخصيب..
منذ أن شاهدها في المستشفى أول مرة شعر انه قابل امرأة جليلة قادرة على قهر أمراضه . ربما تسعفه كي لا يموت غداً .
ما أن يظل وحيدا لدقائق معدودات حتى يجد نفسه في حالة بكاء متسائلا : لماذا يغتصبون حقوقنا وحقوق المرضى في مستشفيات بلادنا لماذا لا يجد مساكين بلادنا طريقهم إلى الحياة.. يختبئون من ضوء الشمس مثلما يختبئ معارضو الحكومة في السراديب المظلمة.. ها هي ماريـّا تجعله يفكر في قدرة الأشرار في بلده على قطف ثمار شرورهم بينما يسعى الأخيار في هولندا على نشر الخير أمام كل الناس بما فيهم الغرباء..
قبل مغادرته العراق شاهد خطف الأطفال من أحضان أمهاتهم مفرقيهم عن بعض. يرمون الأمهات والآباء داخل الحدود الإيرانية بينما يرمون أطفالهم في السجون يتعلمون ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على بال بشر غير واحد اسمه صدام حسين تحت مدّعى واحد : هذه مشيئة الله ..
شاهد المساكين يطوفون شوارع مدينته جياعا يبحثون عن عمل بينما ترعى هولندا كل الناس حتى المرضى والعاطلين الأجانب لهم زيت ورز وبيت وحنطة وفاكهة . هو المريض بلا قدرة على حركة بينما تتحرك ماريـّا الجميلة بدلا عنه منذ مطلع الفجر حتى يعلو الظلام في مجد السماء . في بلاده يغدو المحتاج لصا ، والمحتاج هنا يرافق الدولة حتى لا يصبح ملعونا في دروبها ولا تصبح الحكومة مدانة .
يرتعد لحظة يسمع فيها صرير الباب ينفتح بعودة ماريـّا وافرة بما تحمله سلة السوق . كل سلة أكبر من سابقتها تحملها بيديها الرقيقتين غير المتعبتين.. كل شيء هنا ينمو كي يدرك الإنسان قيمته ولا شيء ينمو في العراق غير حجم السجون كي يتوارى الإنسان عن إنسانيته .
يتكل على مقارنات من هذا النوع من المعرفة لا يأتيه منها غير القهر ..
كانت النقلة في حياته من المستشفى السوري إلى الهولندي ومن المستشفى الأمستردامي إلى البيت المشفى ذات تصور خاص سيطر عليه منذ اللحظة الأولى التي أسكن فيها على كرسي معقــّد التركيب كأنهم أخرجوه من تحت رماد مدينة الزبير ليضعوه أسيرا بيد تكنولوجيا جعلت جسده نائما وروحه غير موجودة فيه اصلا .
- أماتني الله وجعلني قطعة من هذا الكرسي .
تمتلئ عيناه دمعاً.. يرفعهما إلى السقف ليقول مع نفسه :
- من يدري ربما ماريـّا تعيد روحي .
يحاور نفسه بنفسه كلما ركز بصره على جسد هذه المرأة المتحركة بكل الاتجاهات وهي تحمل سيف كفاحها بوجه مرضه مصممة على أن يرى الناس والأطباء ويدركوا ويفهموا أن ماريا هي التي صنعت له عمرا مديدا بابتداعها قولا( لن يموت يوسف العراقي غدا ) مطفئة مدخنة القول المكتوب في التقرير الطبي( سيموت غدا ) .
هل يموت غدا أو لا يموت..؟
تلك هي كلمات رسالة يقراها لنفسه كل يوم لم تكن الرسالة جديدة فقد رفعت حروف مماثلة إلى عينيه مذ قال صدام حسين : ( أنا قادم إليكم أيها الناس لأبقى إلى الأبد ) هاتفاً بحروبه في إيران والكويت وكردستان ولم يجزع وصارت يده ممتدة على رقاب الشعب : ستموت غدا أيها الشعب وسأرعى الحملان في كل المدن .
مدينة يوسف العراقي شهدت رماد حروب السيوف بمعركة الجمل قبل ألف وخمسمائة عام مثلما شهدت رماد حرب إلكترونية بطائرات الشبح وصواريخ كروز قبل بضعة أعوام . يشعر الآن أنه بلا عمر من دون سيف ماريـّا يغيـّر سفر بقية حياته .
لم يكن يتوقع في أي يوم من الأيام أن تتغير خريطة سكناه متنقلا في مدن عربية وأوربية اشتراكية ورأسمالية حاملا حقيبته الصغيرة على كتفه أو في حضنه داخل سيارة تترنح في طريق صحراوي بدءً من البصرة إلى الكويت ومنها إلى بقاع مختلفة من العالم عبر بحار وبحيرات كثيرة باحثا عن مكان آمن حتى استقر أخيرا في مدينة هورن الموصوفة بأنها مدينة الحقول والأشجار والنبات والنمو والثمر ليسمع فيها كل يوم أغنيات فيروز من جهاز تسجيل مشبعا عطشه إلى دنيا الشرق وإلى بلدته الصحراوية الصغيرة الخجلة من المصائب طيلة عمرها مذ وطأتها ناقة عائشة ذات يوم قاهر . لم يكف في ربع القرن الماضي وهو في غربة البلاد البعيدة معززا في حياته عاشقا ومعشوقا عن التفكير والأمل بالعودة إلى بلدته تلك المرسومة صورتها في أعماقه مثل رسم أمه وعروسه وأبنه . يصدّق اليوم حقيقة أنه لا يعود . هنا في بلدة هورن وفي هذا البيت بالذات سيستقبل لحظة نهاية عمره من دون أن يستجوبه أحد غير ماريـّا . ماريـّا فقط هي التي تنقذه من عتمة حياته الباقية يواجهها كما قيس حين فقد ليلاه حتى تحل ساعة نزوله إلى القبر قائلا :
- غطيني يا ماريّا.. اسقطي عليّ تراب الأرض المنخفضة إذ حرمت من غطاء تراب رقد فيه الحسن البصري وشاكر محمود وسميرة البصري وبدر شاكر السيـّاب..
يحس مع بداية يومه انه ما زال حيّا ، لكنه سرعان ما يستشعر انه ليس حرا برغم وجوده في بقعة من ارض الحرية وفي متناول يد امرأة حرة .
ليس حرا بحق فهو مجبر على أن يتقنـّع بالعديد من الوسائل الطبية ذات القيود الصارمة ابتداء من تناول أقراص مختلفة الأنواع من الأدوية الفعالة لتنظـّم ضغط دمه وتوقف آلامه وتحرك نبض قلبه وتنشط حركة معدته وأمعائه عندما يأكل أو يشرب.. يتناول بعض أقراص مهدئات ليجبر على النوم أعلى عدد من الساعات كل يوم على فراش خاص لا يخلو من معدات كهربائية وطبيـّة خاصة تسمح له بنوم هادئ واستشفاف مناظر أحلامه .
حين يصحو يسأل نفسه :
- هل كتبوا عليّ أن أعيش كي أنام ..؟
سرعان ما يشعر أن الجواب يأتيه من نفسه :
- كتب عليكَ أن تعيش في وطن جديد ليس مزكوماً بالعبودية مثل الوطن الأم . ليس متعفنا بقوانين دكتاتورية . إنك مواطن صالح يا يوسف في هذا الوطن .
تضيف ماريـّا قولاً كأنها تسمع حديث نفسه مع نفسه :
- سيكون لك مستقبل هنا .
- من يدري يا ماريـّا ربما لا يكون لي أسم بين الأحياء غداً .
- سيكون يا يوسف .
نظر إليها بعينيه الواهنتين كأنما يسألها :
- أنا .. أنا أكونُ يا سيدتي ..؟
- هذا ما أفعله يا يوسف .ستكون يا يوسف .. لا يتعذر عليك أمر طالما أنا جنبك.. أنت تبدي إحسانك لنفسك وأنا أعاقب الأمراض في بدنك ..
أولئك الذين يحبونه من أصحابه السابقين يحاولون بطريق المكالمة التلفونية أو الزيارة المباشرة أن يجعلوه يشعر انه ليس وحيدا في غربته ..هناك الكثير منهم في مختلف المدن الهولندية ممن لا ينسون معاناته محاولين أن يمدونه بالأمل .الأمل هو شيء وحيد في حاضر أيامه . لم يعد له آمل بحدود مفاهيم استعارها في الماضي من هيجل ولينين وفهد فحاضر اليوم هو زمن المرض الشامل يدفعه إلى التشاؤم .. لا يرى في أحلامه ويومياته غير حياة وأفكار المتشائمين من كير كجارد والبير كامو حتى المعلم محمود عبد الجبار القابع في مدينة الزبير يحمل يأسه في استحالة أن ينال بلده حريته من يد غاصبة .
يا لها من حياة.. تعالوا أيها الأصدقاء لترونها . تعالوا وانظروا كيف يعاقب الإنسان بمرض أدعو الله أن يبعده عنكم.. تعالوا أيها الرفاق شاهدوا هنا في الصباح طلوع الزهور بلا جثث قتلى تملأ أشور وبابل والاهوار وحلبجة وأرياف الناس من الفاو حتى جبال آرارات مكان رقود سفينة نوح الصابرة على ضيمها كالناس الذين أنقذتهم من طوفان المياه منذ آلاف السنين ولم تنقذهم من عذاب ظلم الإنسان حتى هذه الساعة.. تعالوا جميعا فأنا أتذكركم واحدا واحدا واحدة واحدة لحظة انحداري إلى عالم الموتى .. تعالوا يا سكان الفرات كي تكتشفوا الأرض التي يحفرها ويزرعها الأحياء هنا كي لا تبقوا سادرين بغيّ جنان بابل المعلقة .. لن اضمر غيظا على قيود تحرسها عينا ماريـّا ليل نهار لتبعد عهد الموت بإرادتها الجبارة وبمراوغة ذكية مع الدواء فها هي الأجهزة تكشف زيف مقولة : ستموت غدا .
تحيط بيوسف العراقي منظومة واسعة من الأجهزة الطبية القياسية والحركية تعيد إليه بعض حيويته في النظر والسمع والتفكير والإحساس ، مانحة إياه قوة الصمود مرة أخرى هذا اليوم كما في الأيام السابقة ليعيش من جديد بعد يقظة ومنام وبعد منام واستيقاظ كي يبطل عهد مرضه مع الموت . في هذه الأيام تتوغل في أعماقه الكثير من الأسئلة . أحيانا يواجه نفسه بأسئلة العتاب . أحيانا يجلد نفسه بأسئلة يسخر بها من نفسه وهو نصف غاف نصف يقظان كأنه الحالم من أيام الشباب ناهضا من سريره متخطيا كل ما هو موجود من أجهزة داخل الغرفة . يمد يده إلى الستارة ليرى ضوء الشمس الغائبة منذ أسبوعين لتسحر الغابة المقابلة التي تقسم الشوارع الممتدة إلى قسمين . هناك في كل زاوية حركة من شخصين ، رجل وامرأة ، شاب وشابة ، فتى وفتاة . جميعهم يحتضنون الحب في الشارع كما في البيت .. أحياناً يأتيه صمت مفزع من الشارع . لا يسمع صوت أقدام الأطفال الخارجين من المدرسة يركضون منفلتين نحو بيوتهم . لا يسمع صوت حركة السيارات . لم يعد قادرا على إحصاء أرصفة تائهة أو مزدحمة في كورنيش العشار أو الأعظمية أو في غوطة دمشق الشام . لم يعد يسمع صوت سكرتير الخلية الحزبية يسامره أو يجامله أو يأمره . لم يقرأ شيئا من تصريحات متكررة يطلقها عزيز محمد أو أبو داود أو الدكتور علي إبراهيم أو أبو أروى ، فأعصابه ملفوفة كلها بهذا الكرسي . أعتاد جسده النحيل أن يهدأ عليه . يد ماريـّا تسحبه أحيانا إلى عالم مبتعد عن الكرسي العاجز وعن باب البيت الخارجي . يروق له تناول كأس واين أحمر مع ماريـّا . ترفع الكأس :
- نخب صحتك يا يوسف .
يشعر بيد خفية تسحبه إلى منتصف الغرفة :
- صحتك يا ماريـّا . أحبك ماريـّا .
ينتظر صوتا قويا ثاقبا :
- تعال يا يوسف إلى فراش مشترك .
انه صوت منتظر لكن لا.. لن يسمعه يوما .. يعرف ذلك . يعرف أن مرضه نار عظيمة لا تشعل فيه روح الحياة بل روح الموت.. لن يموت في ساحة قتال ولا في مظاهرة ولا برصاصة البوليس السري لكن موته سيأتيه إلى فراشه المنفرد .
بينه و فراش مشترك مع ماريـّا مسافة طويلة لا يستطيع أن يمشيها . لا يستطيع بعد اليوم أن يسير مسافة متر واحد بل ولا نصف متر ولا بضع سنتمترات فالشلل كلي الصنعة يتقن مسيرته خفية في كل خلية من خلايا بدنه يعلمه أن لا نفع في الحياة من دون إطاعة وصايا ماريـّا وأوامرها أما جسدها الفتّان فلا سلام له معه . كل المسافات مزدحمة مهما قصرت . القرار الوحيد في الأحلام واليقظة هو قرار التدثر بقيود الكرسي أو الانتحار . لا شيء يستطيع أن يثقب أذنيه بالأوامر غير صوت ماريـّا :
- خذ هذا القرص . هاك الماء .
إنها أوامر قيادية صارمة :
- هذا موعد الغداء .. تناوله .
تصدر أمرها من داخل المطبخ .
- هذا موعد النوم وذاك موعد الاستيقاظ .
لا يوجد موعد لممارسة الحب رغم أن الحب يحس ثقله في صدره . يريد أن يصرخ بصوت يوقظ كل الناس النائمين في هذه الساعة :
- أحبك يا ماريـّا ..
من يدري ربما تغضب . لكن بإمكانه أن يصرخ :
- أيها الناس شاركوني فرحي بحياة ما قبل الموت .
كل شيء في البيت وفي جسده يتدحرج نحو مزيد من درجات العجز قبل استقبال الموت ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .



#جاسم_المطير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسامير صغيرة 675
- ماريّا و يوسف العراقي
- وعي المكان (المكانلوجيا ) عن ثقافة الداخل وثقافة الخارج
- مسامير صغيرة 674
- مسامير صغيرة 673
- مسامير صغيرة 672
- مسامير
- ضرورة البحث عن بحيرات تسقي روابي مؤتمر تموز ..
- مسامير صغيرة 670
- مسامير صغيرة 669
- حكومة أياد علاوي ربطت المثقف العراقي على كرسي القهر أيضاً .. ...
- مسامير صغيرة 668
- مسامير صغيرة 667
- مسامير
- برقية رشوة من أوراسكوم إلى أياد علاوي
- مسامير صغيرة 665
- مسامير صغيرة 664
- مسامير صغيرة 663
- مَنْ يتأرجح على حافة البئر يقع فيها ..!!
- عذراً .. يا لبؤس الديمقراطيين العراقيين ..!


المزيد.....




- روحي فتوح: منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطي ...
- طرد السفير ووزير الثقافة الإيطالي من معرض تونس الدولي للكتاب ...
- الفيلم اليمني -المرهقون- يفوز بالجائزة الخاصة لمهرجان مالمو ...
- الغاوون,قصيدة عامية مصرية بعنوان (بُكى البنفسج) الشاعرة روض ...
- الغاوون,قصيدة عارفة للشاعر:علاء شعبان الخطيب تغنيها الفنانة( ...
- شغال مجاني.. رابط موقع ايجي بست EgyBest الأصلي 2024 لتحميل و ...
- في وداعها الأخير
- ماريو فارغاس يوسا وفردوسهُ الإيروسيُّ المفقود
- عوالم -جامع الفنا- في -إحدى عشرة حكاية من مراكش- للمغربي أني ...
- شعراء أرادوا أن يغيروا العالم


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جاسم المطير - ماريا ويوسف العراقي ...رواية