مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 3221 - 2010 / 12 / 20 - 21:49
المحور:
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
في الحقيقة لن أحاول هنا أن أدافع عن اليسار العربي , بل عن ضحية أكثر أهمية بكثير , تصوب عليها البنادق اليوم بحمية أكثر مما تصوب إلى اليسار العربي نفسه و لذلك تنتهي الأمور للأسف بإعادة الاعتبار علنا أو ضمنا لأسوأ ما في ذلك اليسار العربي تاريخا و حاضرا , هذا الأسوأ هو ازدراء الجماهير بالتحديد و الوصاية عليها , و تلك الضحية هي الجماهير و بالتحديد تلك الجماهير التي كان يفترض باليسار العربي أن يمثلها أو على الأقل أن يعبر عن صوتها طوال العقود الماضية . يقول الشيوعي الإنساني الأمريكي الأفريقي سي . ل . ر . جيمس في تحليله للعلاقة بين الستالينية و القضية الزنجية , أن موقف الستالينية الحقيقي من الجماهير هو التلاعب , و أن أساس هذا الموقف هو ازدراء الجماهير , لكن في نفس الوقت , كان على الستالينية , كي تنصب نفسها وصيا على هذه الجماهير , أن تعلن نفسها كحامي لمصالح هذه الجماهير , مصالحها "الحقيقية" بعيدة المدى و الآنية في نفس الوقت ( 1 ) . يفترض ناقدو اليسار العربي أن هذا اليسار كان يحمل مشروعا تحرريا جديا بالفعل ( 2 ) , أو تصورا عن هذا المشروع على الأقل , و هم يعتبرون أن العديد من المفاهيم أو الأفكار أو التصورات التي قام عليها هذا المشروع , و بالتالي أي مشروع تحرري بالضرورة , هي التي كانت وراء تهافت مشروع اليسار العربي و انتهائه بدعم صريح مخجل لحالات شمولية من القمع و النهب المنفلتين في كثير من الأحيان . الحقيقة هي أن هذه النهاية إن صح القول قد نتجت عن وعي اليسار نفسه و عن أسلوب تفكيره و بالتالي جوهر مشروعه التاريخي و وريثه الراهن أيضا و ليس عن صفته التحررية المزعومة , مشروعه الذي كان يعبر عن رؤية شمولية للواقع و لموضوعة التغيير , و خاصة العلاقة مع الجماهير . كان اليسار العربي قد بدأ بالتشكل بعد أن كان اليسار العالمي في مراكزه ( الاتحاد السوفيتي و بالتتابع في كل مكان تقريبا مع تقدم الكومنترن الظافر ) قد أصبح تحت هيمنة القراءة الشمولية للماركسية , عدا عن ذلك , كانت ظروف صعود اليسار امتدادا , أو انعكاسا في أضعف الأحوال , لظروف النهضة التي اعتبر فيها مثقفون "متنورون" إلى جانب سياسيين , من منابت و أصول اجتماعية تقليدية أو برجوازية صغيرة في وقت لاحق , أنهم "ممثلون" "طبيعيون" عن مجتمعاتهم المتخلفة و مارسوا بالتالي عملية وضع مشاريع فوقية نخبوية تحمل حسب زعمهم هدف و هاجس النهضة , نهضة "المجتمعات" بالطبع الأمر الذي يفترض أن يعني أساسا نهضة "الشعوب" أو "الجماهير" , كان يجب "تحضير" مجتمعاتنا و لا سيما "الإنسان" في مجتمعاتنا هذه من فوق , و في مرحلة لاحقة حتى "تثويرها" , بالقوة إن لزم الأمر , بقوة الأمر و القمع , في النهاية لن يجري أي تحضير أو تحديث أو تنوير أو تثوير جدي أو عميق أبعد من القشور الشكلانية و السطحية , سيجري فقط بناء ديكتاتوريات نخبوية فوقية تحمل مظهرا "متحضرا" أو "متنورا" أو "ثوريا" خارجيا , أما شعبيا , على مستوى الشارع فستحدث ردة " مستحقة معادية للحداثة" السلطوية و النخبوية على حد سواء كنتيجة طبيعية لتهافت مشاريع "التنوير" و "التحضير" و "التثوير" من أعلى , الأمر الذي يثبت من جديد صحة الموضوعة القائلة بأنه يمكن إخضاع الجماهير و إكراهها لبعض الوقت , لكن لا يمكن استغباؤها طوال الوقت . لقد كان هناك بالطبع تصورات لمشروع تحرري حمله بعض المثقفين و عدد أقل من السياسيين , بضعة أفراد , سواء من الطبقات الفقيرة أو المتوسطة و حتى الكبيرة أحيانا , لكنها كانت ذات وضعية هامشية و استخدمت في كثير من الأحيان كجزء من الدعاية للمشروع السياسي الفعلي لقيادات اليسار العالمي و العربي , بينما كان المشروع اليساري الأساسي الذي جسدته قيادات الأحزاب اليسارية العربية ( القومية و الماركسية على حد سواء ) و منذ وقت مبكر جدا مشروعا تسلطيا , أو حتى شموليا . من الصحيح أن صعود اليسار العربي في مراحل معينة ارتبط بحراك استثنائي في الشارع تجاوز حدود تسلط النخب الاجتماعية , و في وقت لاحق المثقفة , على هذا الشارع و وصايتها , لكن اليسار العربي لم يسع في معظم الأحيان وراء حراك كهذا , و فضل , بمعظم فصائله , المساومات الفوقية مع القوى السائدة أو , في حالة اليسار الأكثر راديكالية , أي الذي كان يسعى وراء تغيير جذري بالفعل , أشكال "النضال" الفوقية ( كالعمل في الجيش مثلا ) على العمل المباشر في الشارع . و عندما ظهرت المقاومة الفلسطينية على سيبل المثال كتتويج لحراك جماهيري غير مسبوق في حجمه و استقلاليته في نفس الوقت , ليس فقط عن الأنظمة و التيارات الفكرية و السياسية المعادية أو ما كانت تسمى بالرجعية , بل حتى عن تلك اليسارية و القومية السائدة , بل و على النقيض منها أو على الأقل انطلاقا من موقف نقدي تجاه تجربتها , و في نفس الوقت كتعبير عن حالة غضب جماهيرية على الأوضاع السائدة التي كشفتها و عرتها هزيمة يونيو حزيران و فعل و مبادرة جماهيريتين أقرب إلى حالة الخلق منها إلى حالة تكرار أنماط مقاومة سابقة ( أو تطويرها الخلاق في أضعف الأحوال ) , عمل الجميع ( من كل الجهات , من الغرب الرأسمالي إلى الاتحاد السوفيتي , من دول الخليج إلى دول الصمود و التصدي ) على بقرطتها و أدلجتها و رشوتها باتجاه إلغاء استقلالها كحركة للجماهير الفلسطينية تتمتع بعطف شديد من الجماهير العربية و إخضاعها للوصاية من مراجع إيديولوجية و اقتصادية و سياسية معينة , و أخيرا فصم عرى العلاقة بينها و بين الجماهير العربية أولا ثم الفلسطينية ثانيا .
إن هذا النقد النيوليبرالي للمشروع اليساري التقليدي ( صفة النيوليبرالية مستحقة كما أزعم ليس فقط فكريا بل و سياسيا أيضا مع ملاحظة أنه يمكن أيضا تسميته بنقد ما بعد يساري لأنه جاء من صفوف اليساريين السابقين غالبا ) لا يرى مأزق المشروع اليساري التقليدي في فوقيته و نخبويته و بالتالي ازدراءه بالجماهير , و لا في اعتماده على بيروقراطية الدولة كرأس حربة لتنفيذ هذا المشروع بالاعتماد أساسا على قوتها و وظيفتها القمعية "الشرعية" فوق المجتمع أو بالوصاية المطلقة عليه بل في تهافت قيم العدالة و المساواة نفسها أي تلك التي ميعها و زورها اليسار الرسمي و لفقها لصالح ستالينية متعطشة للهيمنة خاصة على الفقراء و المضطهدين أو مشاريع رأسمالية دولة بيروقراطية محلية . هنا بكل بساطة يعيد النيوليبراليون إنتاج كل هذا لكن تحت شعارات إيديولوجية مختلفة أو معادية . و ليس غريبا لذلك أن نجد أن الليبراليين العرب , و هم نتاج من نتاجات هذا اليسار إلى حد كبير , لا يسعون أيضا وراء حراك جماهيري على مستوى الشارع . إن مفهومهم عن المجتمع المدني لا يعني بأي حال من الأحوال إطلاق حراك جدي في المجتمع , و لا مفاهيمهم الأخرى عن الديمقراطية التمثيلية أو المواطنة و غيرها , إنها مثل مفاهيم و أطروحات اليسار الذي جاؤوا منه أطروحات فوقية نخبوية معادية للجماهير بمعناها الواقعي أو الفعلي , كل هذا هو جزء من عملية إنتاج "حقيقة""تمثيلهم" للجماهير و بالتالي إلغاء هذه الجماهير و استلاب صوتها و مصيرها , نسخة جديدة لما قامت به الستالينية اليسارية و القومية في الواقع ذات يوم تجاه نفس الجماهير , أعني آباءها و أجدادها . إن الدولة المدنية الحديثة في الخطاب النيوليبرالي هي النسخة الأخيرة من "ديكتاتورية البروليتاريا" النخبوية الفوقية , إنها تطوير لها و ليست نقيضها , أما ما تسمى بمنظمات المجتمع المدني فهي تطوير "عصري" أو نيوليبرالي للطليعة اللينينية السابقة , و هي مثل تلك الطليعة ليست مسؤولة أمام من تدعي تمثيلهم , هي فقط مسؤولة أمام نفسها , و هي تفرض عليهم تعريفها لهم و تعريفها لنفسها كممثل "وحيد و شرعي" و كحامل لفكرة الديمقراطية التي تعني هيمنتها هي كما كانت الاشتراكية تعني هيمنة الحزب الطليعي على الجماهير , و هي كما يقول ديفيد هارفي في كتابه عن النيوليبرالية ( التي صدرت ترجمته العربية عن العبيكان , 200 ) نتاج للسياسات النيوليبرالية إلى حد ما و نتيجة لتكيف النخبة مع سياسات الطغم المالية و الاجتماعية السائدة , إنها لا تبرر فقط انسحاب دولة الرفاه من واجباتها الاجتماعية و إلغائها لمنظومات الأمان الاجتماعي السابقة لصالح تعزيز أرباح و حرية رأس المال في النهب فقط , بل و تدعو و تحاول تكييف الطبقات المهمشة و المعدومة و التي تزداد فقرا مع تلك السياسات بمحاولة ملئ الفراغات التي تركها ذلك الانسحاب و إلغاء منظومات حماية المعدومين و المهمشين لصالح الحفاظ على الوضع القائم و تلطيف مساوئه أو نتائجه الكارثية على الناس . و مع سيادة الإحساس بالتفوق على الجماهير و احتقارها و الارتياب بها في نفس الوقت , و بضرورة دمقرطتها و لو بالقوة ( إن لم يكن بالقوة أساسا ) فإننا أمام نخبة لديها نموذج – مثال مسبق جاهز , متكامل و تفصيلي و مدرسي في تفاصيله و وضوحه و سهولة استهلاكه و بالتالي عرضه و ترويجه , بقدر ما هو مجرد و مغترب عن واقع الجماهير الفعلي , لتلك "الديمقراطية" المطلوبة – و هو النموذج الرأسمالي الغربي , و مفعمة بالعزم على فرضه من أعلى . هذه هي الوصفة المطلوبة لبناء ديكتاتوريات جديدة ( أو إعادة بناء الديكتاتوريات القديمة ) , الشعارات تلعب هنا دورا مخادعا فقط بل و حتى ديماغوجيا , فالشعارات تتغير لكنها لا تشترط تغيير المضمون أو النظرة الفوقية أو الموقف من الجماهير . إن النيوليبراليين هم بلاشفة أيضا بهذا المعنى , بل هم ربما أكثر سوءا , أي ستالينيون جدد .
لذلك لا يستحق تاريخ اليسار العربي الدفاع عنه بحماسة , بل انتقاده بحماسة , فهذا هو الدفاع الأمثل عن الجماهير العربية نفسها ... تماما كما أن أفضل دفاع عن حرية الشعوب و المجتمعات , التي تعني أساسا حرية الطبقات الأكثر تهميشا سواء اقتصاديا و اجتماعيا و بالتالي سياسيا و فكريا , هو انتقاد واقع الخطاب النخبوي الجديد , النيوليبرالي …..
باختصار , عند الحديث عن يسار عربي , و الأهم عن مشروع تحرري يخص الجماهير العربية , ليست القضية في الدفاع عن صحة ما كتبه قادة أو سياسيون أو منظرون "يساريون" بعينهم , عربا كانوا أو غير ذلك , فما كتبه هؤلاء قد يصيب و قد يخطأ , القضية في الدفاع عن شرعية المشروع التحرري ذاته , عن ضرورته , و عن جوهره الضروري و الوحيد , و هو تحرر البشر الواقعي , و عن الحقيقة المغيبة , القديمة التي تعود إلى أيام الأممية الأولى , و هي أن تحرر البشر لن يكون إلا نتاج نضالهم هم بالذات .....
مازن كم الماز
( 1 ) C.L.R.James 1949 , Stalinism and Negro History , from
//www.marxists.org/archive/james-clr/index.htm
( 2 ) عندما سئل الشيوعي المجالسي باول ماتيك عام 1938 فيم إذا كانت ثورة أكتوبر قد حققت أهدافها البروليتارية أجاب : "إنني أرفض فرضية السؤال الأول أنه كانت للثورة البلشفية أهدافا بروليتارية . الطبيعة البروليتارية للثورة الروسية هي ظاهرية فقط . من الصحيح أن العمال الثوريين كانوا يتطلعون بحماسة لشكل مفهوم بصورة غامضة من الاشتراكية , لكن في كل ثورة برجوازية يشارك فيها العمال , كانت الأهداف البروليتارية واضحة ( أيضا )" .
نقلا عن http://www.marxists.org/archive/mattick-paul/index.htm
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟