رائد الدبس
الحوار المتمدن-العدد: 3181 - 2010 / 11 / 10 - 22:08
المحور:
القضية الفلسطينية
يصعب الحديث عن ياسر عرفات، هذا الرجل-الظاهرة، والقائد التاريخي الفذ والفريد. فالكتابة عنه في حد ذاتها تشكل تحدياً كبيراً. وأظن أن كثيراً من الباحثين سيعكفون على دراسة وتوثيق حياة وكفاح هذا الرجل- الظاهرة ، دراسة علمية منهجية، أو على الأقل فإن هذه المقالة تطمح لدعوة الباحثين الفلسطينيين والعرب، إلى فعل ذلك، وأن تسجل بعض الملاحظات الرئيسية، لعل هذه المناسبة، تشكل فرصة للتفكير والتأمل وإعادة النظر، وأن تكون مناسبة للوفاء لذكرى ولنهج هذا البطل الفلسطيني الذي تحول من قائد فرد إلى فكرة وظاهرة ومدرسة وطنية، يمكن إطلاق صفة العرفاتية على كل منها.
الوفاء والتفكير يقتضيان منا، إعادة قراءة الظاهرة العرفاتية الفذة والفريدة في تميزها، قراءة تستخلص الدروس والعبر من المفهوم الوطني الحيوي الواسع المتعدد الأبعاد الذي أرساه ياسر عرفات عبر مسيرته الطويلة في قيادة الكفاح الوطني التحرري الفلسطيني.
أول ما تحيلنا إليه دراسة الظاهرة العرفاتية، هو القدرة الفائقة لهذا القائد الفذ، على جعل التنوع والاختلاف بالرأي والاجتهاد السياسي والفكري في الساحة الفلسطينية، ميزةً جامعة ومانعة للشرذمة والانقسام. وقدرة على تجديد حيوية النظام السياسي الفلسطيني وانفتاحه على آفاق التطور. لم يكن ياسر عرفات بحاجة للكثير من الدراسات السياسية والنظرية كي يتقن هذا المنهج، بل كان يتقنه بموهبة سياسية نادرة اقترنت بالريادة في ممارسة الكفاح اليومي الشجاع والمثابر والذكي . ربما يكون من بين أسباب تلك القدرة القيادية الفريدة، أن شخصية ياسر عرفات لم تكن ذات بعد واحد، بل متعددة الأبعاد. فهو المتدين تديّناً حقيقياً، والمحب لكل الأديان السماوية، وهو العلماني في السياسة أيضاً. هو الثائر الحالم ورجل السياسة الواقعي في آن معاً. هو الأبوي الحنون والمتسامح تجاه أبناء شعبه، ورجل الحزم الشديد والمواقف الصلبة العنيدة تجاه الأعداء. كل هذه الأبعاد وغيرها، اجتمعت في شخصية هذا الرجل - الظاهرة.
المسألة الثانية هي أن ياسر عرفات ليس مجرد قائد أو زعيم فرد ، تحلى بشخصية كاريزمية متعددة الأبعاد، جمعت على نحو فريد، ما بين الذكاء والموهبة والشجاعة والمبادرة والمثابرة على العمل. إنه كل ذلك نعم، لكنه كرّس للفسطينيين عبر أكثر من أربعة عقود، مدرسة سلوكية سياسية لافتة في قدرتها على الحفاظ على ثوابت القضية الفلسطينية وإبقائها حية وحيوية، غير متجمدة في جليد الأيديولوجيات الجامدة، وغير محترقة بنار الأصوليات والأفكار السلفية. وعليه، فإن الوفاء للعرفاتية اليوم، يقتضي منّا النظر إليها والتعامل معها وفق هذا المنظار .
المسألة الثالثة هي أن ياسر عرفات كرّس نفسه وحياته وكفاحه لأجل القضية الفلسطينية وليس لأجل فصيل بعينه. ومع أنه أسس حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، التي أطلقت العمل الفدائي الفلسطيني وانتزعت زمام المبادرة التاريخية، إلا أن ياسر عرفات لم يكن في يوم من الأيام مجرد فتحاوي نمطي منغلق على ذاته أو على قيادة فصيله، ولو كان كذلك للحظة واحدة، لما كان هو ياسر عرفات، ولما استطاعت حركة فتح أن تقود الكفاح الوطني الفلسطيني. كان ياسر عرفات يفكر ويتصرف وفقاً لمقتضيات وطبيعة التنوع والتعددية السياسية والفكرية والدينية للمجتمع الفلسطيني. وكان عقله وقلبه وسلوكه منفتحاً على كل ألوان الطيف السياسي والفكري والاجتماعي، غير مكترث بشيء سوى المصلحة الوطنية العليا الجامعة للجميع. كان يكره الانغلاق والتقوقع والظلامية التي لا تنتج سوى العزلة السياسية والفرقة والتشرذم والتقهقر أمام الأعداء. ولذا، فلا بد أن نتوقف أمام بعض الاتجاهات والممارسات الضارة بسيرة ومسيرة هذا القائد والرمز الوطني الفلسطيني، والضارة بالقضية الفلسطينية إجمالاً.
أولاً: توجه يحاول أن يطمسه ويلغيه من ذاكرة الفلسطينيين، وهو ما تحاول فعله ميليشيات الانقلاب الحمساوي في قطاع غزة، بغباء وضيق أفق منقطع النظير. وليس أدل على ذلك سوى قرار داخليتهم منع الاحتفال الجماهيري بذكرى رحيله السادسة، بينما تجري جولة من جولات الحوار في دمشق تحت عنوان المصالحة. وهذا مؤشر آخر على عدم صدق نيّة حماس ، بالتوجه نحو تحقيق المصالحة.
ثانياً : محاولة بعض النّخَب المحدودة والمتقوقعة، النظر إلى العرفاتية باعتبارها شأناً فتحاوياً أو شأناً شعبياً فولكلورياً في أحسن الأحوال. وينتج عن ذلك محاولة التقليل من شأن هذه الظاهرة وتحميلها كل أو معظم أوزار السلبيات والفشل والعجز، وهم جزء لا يتجزء منه. ومع أن العرفاتية ليست مُنزّهة عن النقد الموضوعي البنّاء، وبدلاً من الانخراط في العمل الايجابي الساعي للبحث عن الحلول وفتح الآفاق، ترى البعض ينأى بنفسه ويتعفف عن قول كلمة حق في مواجهة الظلامية الدخيلة على مجتمعنا وعلى كفاحنا الوطني. البعض منهم يفعل ذلك مدفوعاً بدوافع كيدية صغيرة وانتهازية، والبعض الآخر يتعفف خوفاً أو خجلاً، كي لا يُقال عنه أنه قريب من نهج السلطة التي أسسها ياسر عرفات، هذه السلطة التي لا تزال تسير على نهجه وتحاول أن ترسي دعائم ومؤسسات الدولة، دون أن تفرط بثوابت المشروع الوطني. ويجري تغليف ذلك بمقولة طُهرانية زائفة، وهي أن المثقف يجب أن يبقى بعيداً عن السلطة.. ناسين أو متناسين أن هذه السلطة، ما هي إلا مشروع كيان وطني يسير على الطريق الصعب الذي يهدف لبناء الدولة، وأن هذه السلطة بماهيتها الحالية، ما هي إلا نتاج ميزان القوى الدولي والإقليمي القائم والذي لا ينظر إلى فلسطين وشعبها وسلطتها بعين الدعم المرغوب والمأمول، بل بعين المصالح المائلة إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي.
ثالثاً: محاولة البعض، التعامل مع ياسر عرفات بصورة نمطية شبه احتكارية، والاتكاء على إرثه النضالي المجيد الحافل بالبطولة والتضحية وتراكم الخبرة السياسية الماهرة، باعتباره رصيداً كافياً ومعيناً على الاستمرار، دون الحاجة لعمل كفاحي إبداعي مثابر . وفي هذا التوجه ظلم فادح للفكرة وللإرث العرفاتي من ناحية، وقصور في الرؤيا وكسل سياسي خطير.
رابعاً: وبدوافع متعددة،إما ساذجة سياسيّاً في بعض الأحيان، أو غير نزيهة في معظم الأحيان، فإن هنالك من يقول، بأن القضية الفلسطينية قد انتهت أو على وشك الانتهاء، بعد غياب ياسر عرفات. وفي هذا القول إساءة بالغة للقضية التي كرّس ياسر عرفات حياته لأجلها. ثم إنه قول يسيء للشعب الفلسطيني ومؤسساته وقيادته الوطنية الشرعية، التي تواصل النضال والعمل والبناء المثابر، والصمود على النهج الذي اختطّه ياسر عرفات .
أخيراً، لا بد من التذكير بما كتبه الشاعر الراحل محمود درويش في رثاء الرئيس الشهيد : " وينهض فكرةً حية تحرض على عبادة الوطن والحرية..
هنا، تواصل العرفاتية فعلها. وهنا، لا يكون عرفات فرداً، بل تعبيراً عن روح شعب حيّ.
في كل واحد منا ذكرى شخصية منه، وعناق وقبلة. وفي كل واحد منا وعيُ هويةٍ لا تعاني من قلق التعريف: لن نكون فلسطينيين إلاّ إذا كنا عرباً. ولن نكون عرباً إلا إذا كنا فلسطينيين. فهذه الهوية مستعصية على المراجعة والتفاوض، سواء قام الشرق الأوسط الجديد أو لم يقم. ولن نكون ما نريد أن نكون إلاّ إذا عرفنا كيف ننهي عملية الخروج من تاريخنا ومن التاريخ الإنساني، وكيف نعود إليهما، بكل ما أوتينا من طاقات وتجارب ومواهب.
وتلك كانت محاولة ياسر عرفات الدؤوب: الانتقال من الدور الذي تحتلّه ضحية التاريخ إلى المشاركة في صناعة التاريخ. فله المجد والخلود" .
#رائد_الدبس (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟